فقالت: ولكن صداعي شديد يا خالتي.
قالت: لا بأس عليك، خذي هذه التعويذة.
قالت ذلك ولم تنتظر جوابها، بل وقفت وربطت الخرزة بضفيرة من ضفائرها وهي تقول: وإذا لم يزل بعد فإنه يزول عما قريب بقدوم الخليفة، وأظنه سيسأل عنك متى عاد من الصلاة، ولا ريب عندي في أنك ستكونين عنده في المنزلة الأولى بين سائر نسائه.
فاقشعر بدنها وتحققت قرب الساعة العظمى وقالت في نفسها: لقد آن الأوان، فلا بد من الدهاء والحكمة، وإلا ذهب السعي سدى، وطلبت إلى الله أن يلهمها الصبر ويثبت جأشها.
وبينما سلمى تفكر في ذلك، إذ سمعت الضوضاء قد اشتدت وأخذت تقترب، ثم قالت لها العجوز: إن الخليفة قادم، ومن عادته إذا عاد من الصلاة أن يمر بهذه الدار قبل دخوله المجلس، ولا بد من مجيئه إليك؛ لأنه أوصاني بالعناية بك، ولحظت أنه ينتظر مجيئك بفارغ الصبر.
فاستعاذت سلمى في سرها بالله، ولبثت صامتة وقلبها يخفق، فحملت العجوز ذلك محمل الحياء، فقالت وهي تضحك: يا للعجب من البنات كيف يظهرن التمنع وقلوبهن تطفح سرورا عند سماع صوت الزوج، وما كل الأزواج مثل الخليفة يا مليحة؛ فإنه أمير المؤمنين القابض على رقاب المسلمين.
فظلت سلمى صامتة وهي تكظم ما في نفسها وتتجلد، وبعد هنيهة أقبل «فتح» الخصي وقال: إن الخليفة قادم يا خالة، وما لبثت أن سمعت وقع خطواته قرب حجرتها، فلم تعد تتمالك من الاضطراب، وأرسلت النقاب على وجهها، فابتدرتها العجوز ورفعت النقاب عنها وقالت: أتتحجبين عن أمير المؤمنين وهو زوجك؟! وما أتمت كلامها حتى دخل يزيد وعليه رداء أزرق، وعلى رأسه عمامة خضراء وبيده درة، وهي قدة من جلد ثخين تشبه الكرباج، فلما أطل على الغرفة استقبلته العجوز فقبلت يده، وأمسكت سلمى واستنهضتها لملاقاة الخليفة، فوقفت وتظاهرت بالحياء، فناداها يزيد قائلا: أهلا بعروسنا، ومد يده ورفع الغطاء عن وجهها وقلبه يكاد يطفح سرورا لحصوله عليها؛ لأنه لم يشاهد في حياته مثل ما في وجهها من الجمال والهيبة، وقد زاده ذلك التمنع رغبة فيها وشوقا إليها.
أما هي فتجلدت ونظرت إلى يزيد، كأنها تزن قواه فترى ما يكون من أمرها معه إذا همت بقتله، فرأت جسمه لا يدل على بطش شديد، وكان طويل القامة آدم اللون، جعد الشعر، أحور العينين، بوجهه آثار الجدري، وله لحية حسنة خفيفة، فلم يهمها منظره، ولكنها أحبت مطاولته، فبالغت في إظهار التوجع من الصداع ولم تجب، فالتفت يزيد إلى العجوز كأنه يستفهمها، فابتدرته قائلة: إن عروس مولانا تشكو من صداع أظنه يزول قريبا.
فقال: لا بأس عليها، وأرى أن تنتقلي بها إلى المقصورة في أعلى هذا القصر فتكون على مقربة من مجلسي، فإذا أردت أن أتفقدها في أثناء النهار سهل ذلك، أو فلتقم هناك كي تنام وترتاح حتى نلتقي في المساء. قال ذلك وتحول حتى خرج من دار النساء إلى مجلسه.
واغتبطت سلمى بهذا التأجيل، لعلها تتدبر حيلة تتمم بها ما تريده، وصعدت العجوز بسلمى على سلم من الرخام بجانب تلك الدار حتى أتت الطبقة العليا، ومشت في ممر وسلمى تتبعها حتى وصلت إلى غرفة مفروشة بأحسن الأثاث، وفيها الطنافس والوسائد والمقاعد، ولها نافذة تطل على الحديقة، فتحققت أن يزيد سيوافيها إلى هناك، وإذا همت بقتله فإنما تقتله في تلك الغرفة، فكيف تنجو بنفسها بعد ذلك، فأخذت تبحث وتفكر، فقالت للعجوز: لعل هذه الغرفة منفردة هنا؟ قالت: ليست منفردة ولكنها مقصورة خاصة بالخليفة يصعد إليها من باب خاص.
Bog aan la aqoon