قالت ذلك وقد تغيرت هيئتها من شدة ما اعتراها من الاهتياج والانفعال، فلم يزدد عامر إلا استغرابا ودهشة، وظل برهة صامتا متحيرا ثم قال: إذا كنت ترين الموت هينا عليك في سبيل عبد الرحمن، فلماذا تريدين أن أبقى؟ إنني إنما أعيش لأجلكما، فارفقي بي ودعيني أسر معك، فإما أن نموت جميعا، وإما نجونا جميعا. أم تراك تحسبينني جبانا؟
فلما سمعت قوله أمسكت نفسها وتجلدت ثم قالت: حاش لي يا عماه أن أظن بك الجبن، ولكن لا فائدة من ذهابك، ثم قطعت حديثها كأنها كانت تهم بأن تقول شيئا ثم أمسكت عنه.
فابتدرها قائلا: كيف لا يكون في ذهابي فائدة؟ وما فائدة بقائي هنا؟!
قالت: أعرني سمعك يا عماه، وتبصر في قولي، إنك إذا ذهبت معي كنا جميعا في خطر الأسر أو القتل، فإذا لم أفز أنا بقتل يزيد وحكم علي بالموت يحكم عليك أنت أيضا بمثله، فمن يسعى بعد ذلك في إنقاذ عبد الرحمن؟ وأما إذا كنت طليقا وقدر علي الموت، فإنك تستطيع حينئذ أن تسعى لإنقاذ عبد الرحمن، وإني لأرجو إذا تمكنت من ذلك أن تقرئه تحيتي، وتنبئه بأن سلمى آثرت الموت في سبيل حبه على البقاء بعده، وأن عظامها تتهلل في أعماق القبر لتمكنها من إنقاذ حياته. قالت ذلك وخنقتها العبرات، وجلست وقد خارت قواها ووقع الخنجر من يدها، ثم انتبهت لنفسها فاسترجعت رشدها والتقطت الخنجر من الأرض وقربته من فمها فقبلته وهي تقول بصوت مختنق: إن فيك آمالي وعليك متكلي، فإما أن تغمد في أحشاء يزيد أو في أحشائي، ويا حبذا إذا كان في ذلك نجاة مالك فؤادي، ثم أغمدت الخنجر وأرجعته إلى جيبها، وجلست وقد تكسرت أهدابها من فرط البكاء وعيناها تتقدان شجاعة وثباتا.
الفصل السابع
في مجلس الخليفة
تضاعف إعجاب عامر بشجاعة سلمى وبشهامتها بعد ما سمعه منها، ولكن بقي في حيرة ولم يدر كيف يجيبها، وأعمل فكره فلم ير مندوحة عن الإذعان لإرادتها، ولما تصور ما يهددها من الخطر تحقق أنها ملقية بنفسها إلى التهلكة، وأنها مع ذلك لا تستطيع إنقاذ عبد الرحمن، فقال لها: وما قولك إذا حكم القضاء بقتلك وقتل عبد الرحمن، هل تكون هناك فائدة من بقائي؟
قالت: أوصيك إذا حكم القضاء بذلك أن تقضي بقية حياتك فوق قبر أبي تبكيه عني وعن عبد الرحمن، وإذا ملكت رشدك فاذهب إلى الإمام الحسين سيد شباب المسلمين وجاهد في سبيل نصرة الحق، لعل الله أن يأتيه بالفرج بعدنا.
فسكت عامر إذ لم يجد ما يقوله، ثم عاد بعد قليل فقال: لقد سددت علي السبيل بحجتك، وإني فاعل ما تأمرين، والله حسبي ونعم الوكيل.
قالت: ولكن احذر يا عماه أن تبقى في هذا الدير؛ لأنهم إذا عرفوا من أنا لا آمن أن يبعث يزيد إليك بجند يقبضون عليك على حين غفلة.
Bog aan la aqoon