وكان عامر يتكلم وسلمى وعبد الرحمن شاخصان إليه بأبصارهما، وقلباهما يكادان يشتعلان، فلما بلغ هذا الحد لم تتمالك سلمى نفسها وقالت: ويل لقساة القلوب قتلة الأبرياء! ألأنه لم يلعن الإمام عليا قتلوه؟! إن الله منتقم من القوم الظالمين.
فوقف عبد الرحمن واستل خنجرا أبرق فرنده في ضوء القمر، وقال وهو ينظر إلى القبر: أيها الراقد بلا حراك، يا عماه، يا حجر بن عدي، إني لا أخاطب ترابا ولكنني أخاطب روحا طاهرة لا أظنها تفارق هذا المكان، اعلم رحمك الله أني سأنتقم لك قريبا بحد هذا الخنجر إن شاء الله.
واستولى عليهم السكوت تحت تلك الشجرة هنيهة لم يكن يسمع فيها إلا طنين البعوض وخرير الماء، وكان كل من هؤلاء الثلاثة يفكر في شيء واحد مرجعه الانتقام، ثم هبت سلمى من مكانها بغتة وجثت على قبر أبيها وتناولت حفنة من ترابه بيدها وقالت وهي تنظر إلى السماء من خلال الأغصان: أنت تعلم أيها الواحد القهار أن أبي هذا قد مات مظلوما، وأنت وحدك نصير المظلومين . إنه قتل في سبيل نصرة بيت نبيك
صلى الله عليه وسلم . إنه قتل في سبيل نصرة الإمام علي، وصي النبي وصهره وابن عمه.
ولم تتم سلمى كلامها حتى سمعوا صوتا عميقا كأنه خارج من أعماق القبر، أو كأن هاتفا من عالم الأرواح يقول بصوت ضعيف وقع همسا في أذن كل منهم على حدة: «وبشر الذين ظلموا بعذاب أليم»، فلما سمعوا الصوت اقشعرت أبدانهم، ووقفت شعور رءوسهم، وتولتهم الدهشة، وظلوا صامتين هنيهة وكل منهم يحسب نفسه قد انفرد بسماع الآية، وتطلع بعضهم إلى بعض والبغتة ظاهرة على وجوههم، ثم ازدادت دهشتهم حين تبينوا أنهم سمعوا الآية جميعا على السواء، وخيل إليهم أن روح حجر تنطق من عالم الغيب، أو أن روحا من الأرواح العلوية تخاطبهم بما تنطوي عليه إرادة الخلاق العظيم، فخشعوا واستولت عليهم الرهبة وكلهم ساكنون لا يبدون حراكا، وتصوروا المكان مسكونا بعد أن كانوا يحسبونه مهجورا.
وكانت سلمى لا تزال قابضة على التراب بيدها، وعبد الرحمن واقف والخنجر مشرع في يده، وبدأ عامر بالكلام فاستعاذ بالله وقرأ الفاتحة، ولم يكد يتم تلاوتها حتى ابتدره عبد الرحمن وهو يغمد خنجره وقال وصوته مختنق من عظم الدهشة: أرأيت يا عماه كيف أن الله معنا؟ وهل بعد ذلك الهاتف من شك في نجاح المهمة التي ندبت نفسي لأجلها؟! فسكتت سلمى وقد اقتنعت في سرها بأن عزم عبد الرحمن إلهام من الله، ولكنها لم تحرضه على تنفيذ عزمه خوفا عليه من الخطر، وتركت الأمر يجري مجراه الطبيعي.
نهض عامر وهو ينفض التراب الذي لصق بثيابه ويقول: سر يا بني واتكل على الله وثق به، وقد سمعت قوله تعالى:
وبشر الذين كفروا بعذاب أليم .
1
ونفضت سلمى يدها أيضا وتوجهوا جميعا إلى الدير والقمر في كبد السماء، والسكوت ساعتئذ أرهب مما عهدوه وهم قادمون؛ لشدة ما آثر في نفوسهم من حديث عامر وهتاف الهاتف، وأصبحوا إذا وقعت أقدامهم على العشب أو التراب أثناء مشيهم سمعوا لوقوعها دويا، وإذا دبت دابة أو نقت ضفدع وقع ذلك في آذانهم وقعا شديدا، فمشوا معظم الطريق وكأن على رءوسهم الطير، وعامر يفكر في دخول الدير ومن يفتح لهم بابه بعد أن انتصف الليل، وخاف أن يوجب غيابهم شبهة فغير الطريق التي جاءوا منها، حتى إذا أشرفوا على مدخل البستان شاهدوا شبحا قادما نحوه من الجانب الآخر، فظنوه لأول وهلة ضيفا طارقا وعجبوا لقدومه في أواسط الليل، وفيما هم يتفرسون فيه قالت سلمى: هذا هو الشيخ الناسك بعينه. ألا ترون الجلد على ظهره، ورأسه لشدة بياضه كأنه قطعة من ثلج؟
Bog aan la aqoon