وكان أول من تكلم منهم عبد الرحمن، فخاطب عامرا قائلا: ألم أقل لك إنك أخطأت بمجيئك في أثري إلى هذه الديار؟ ولو أتيت وحدك لكان خيرا، ولكنك اصطحبت سلمى فأوجبت إساءة الظن بنا، حتى سمعت من رئيس هذا الدير ما سمعته من التلميح والتعريض.
فقال عامر: قلت لك يا بني، إنني إنما جئت بدافع مما أخذته على عاتقي من أمر حراستك؛ فإنك بمنزلة ولدي، وقد مات أبوك وأوصاني بكفالتك، ورأيتك تورطت في عمل خطير لم يقدم عليه أحد قبلك، وأردت أن تأتيه منفردا في بلاد غريبة، فكيف لا أتبعك؟ وأما سلمى فإنها أشد قلقا مني عليك.
فقال: أتخطئني في عمل أنتقم به لآل الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأنجي به المسلمين؟
فقطعت سلمى عليه الكلام بصوت هادئ والرزانة بادية في وجهها وقالت: لا ريب في أن ما جئت لأجله أمر مقدس، وإذا أنت لم تقم به فأنا أتولاه، ولعلي أولى به منك؛ فإن الرجل الذي تريد قتله وإراحة الناس منه قد أساء إلي، وبيني وبينه ثأر عظيم، فإنك تعلم أن أباه قتل أبي شر قتلة. قتله وأنا لم أره ولا عرفت له صورة، قتل «حجرا الكندي» سيد قومه ووجيههم، وقد قتله لأنه أبى أن يطيعه ويلعن الإمام عليا ابن عم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والله لقد حق القتل على يزيد، إن لم يكن انتقاما للإمام علي فانتقاما لحجر بن عدي، وإن لم يكن لهذا أو ذاك فإنقاذا للعباد من سلطان شغل عن مصالح الخلافة بتربية الكلاب والقرود والفهود، ومجالسة النساء، والصيد والقنص، والشعر وضرب الطنابير والشراب، ناهيك بتهاونه في أمور الدين. فالإقدام على قتله فضيلة، ولكنه عمل خطير محفوف بالمخاطر؛ أنى لك أن توفق إلى ذلك وأنت فرد ويزيد خليفة، يحيط به الأعوان والأنصار في الليل والنهار؟! إني أخاف عليك مما أصاب ابن ملجم الذي تجرأ على قتل الإمام علي وسط المسجد ولم ينج من القتل، فهل تعرض نفسك لمثل ذلك الخطر؟
وكان عبد الرحمن جالسا وسلمى تتكلم، فلما بلغت هذا الحد وقف وجعل يخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، وعليه مظاهر الاهتمام، ثم قال: سامحك الله يا سلمى، إذا كنت وأنت فتاة تتطوعين لقتل هذا الرجل، وترين ذلك فريضة وفضيلة، فكيف ترضين لي أن أحجم عن ذلك، وإن ضحيت في سبيله بحياتي؟
فقطعت كلامه قائلة: لا تضح حياتك حماك الله من كل شر. هذا هو الأمر الذي دفعني إلى اللحاق بك مع عمي هذا. خرجت من الكوفة تريد قتل يزيد في دمشق الشام، ومن هو يزيد؟ أليس خليفة المسلمين الآن وفي يده الحل والعقد، وحوله الجند والأعوان؟! فخفنا أن تقع بين يديه أو يصيبك شر، فلحقنا بك لنكون بقربك نبذل لك العون، إذ لا صبر لنا على بعدك. أما يزيد فأنا لا أرى راحة إلا بقتله، وما كان أغنانا عن ارتكاب هذه الجريمة لو أن أباه ترك الخلافة بعده شورى للمسلمين، وإذن ما كان ليتولاها إلا حبيبنا وسيد شباب المسلمين الإمام الحسين؛ لأنه أحق الناس بها، ولكن معاوية أبى إلا أن يوصي بها لابنه هذا بالرغم من كل مسلم، فكيف نسكت على ذلك؟ وزد على هذا أن معاوية قتل أبا حجر شر قتلة، فإذا كنت أنت ناقما لقتل حجر لأنه عمك، فإنه أبي، وقد قتل ولم أره، ثم إنكم لم تنبئوني بمصيره إلا من عهد قريب، فقد ربيت في البادية صغيرة لا أعرف غير اللعب والمرح وأنا أحسب أبي حيا في الكوفة، والناس إذا ذكروه أطنبوا في مدح مروءته وشهامته، وكنت أتوقع إذا شببت أن آتي إليه فأراه وأفاخر به الناس، فما لبثت حتى علمت بقتله.
قالت ذلك وغصت بريقها وتوقفت عن الكلام هنيهة ثم قالت لعامر : وأنت يا عماه ألا تخبرني كيف كان قتل أبي؟ إنك قد وعدتني بذلك حين نصل إلى قبره، وها نحن وصلنا، فأين ما وعدتني به؟
Bog aan la aqoon