وممن نصح للحسين ألا يخرج من مكة عبد الله بن عباس، ابن عم أبيه، وكان قد أدرك غرض ابن الزبير فنصح للحسين مرارا بأن يبقى، فلم يطعه، فجاء في مساء اليوم الذي كلمه فيه ابن الزبير فقال له: «يا ابن عم، إني أتصبر ولا أصبر، أني أتخوف عليك من الذهاب إلى أهل العراق، فلو أنهم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوهم، ثم دعوك، فسر إليهم، وإن كانوا قد دعوك وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعماله تحيي بلادهم، فإنما دعوك إلى الحرب، فاكتب لهم فلينفوا عاملهم ثم اقدم عليهم. أما إذا أبيت إلا أن تخرج من مكة، فسر إلى اليمن؛ فإن بها حصونا وشعابا، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك شيعة، وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتبث دعاتك حتى يقوى شأنك وتنظر ما يكون.»
فقال الحسين: «يا ابن عم، إني والله لأعلم أنك ناصح مشفق، ولكنني أزمعت المسير إلى الكوفة.»
فقال ابن عباس: «فإن كنت سائرا فلا تسر بنسائك وصبيانك؛ فإني لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه.» ثم قال: «لقد أقررت عين ابن الزبير بخروجك، والله الذي لا إله هو لو أعلم أني إذا أخذت بشعرك وناصيتك حتى يجتمع علينا الناس وأنت تطيعني وتقيم لفعلت.» ثم خرج. •••
خرج الحسين من مكة ومعه نساؤه وأولاده وأبناء عمه، وما زال ينتقل من مكان إلى آخر والناس ينضمون إليه، حتى أتى مكانا اسمه «الثعلبية»، كان قرية ثم خرب، وهناك جاءه الخبر بمقتل مسلم بن عقيل، وبما حل بشيعته، وحذروه المسير إلى الكوفة، فكاد يرجع عن طلبها لولا أن قام بنو عقيل إخوة مسلم فحرضوه على المسير وقالوا: والله لا نبرح حتى ندرك ثأرنا أو نذوق ما ذاق مسلم.
فتحمس الحسين وقال: «صدقتم، لا خير في العيش مع هؤلاء.»
وما زال سائرا حتى دنا من ضواحي الكوفة والناس يأتونه في الطريق ويحذرونه ، فأصر على المسير، ولكنه أطلق الحرية للذين معه فقال لهم: «قد خذلتنا شيعتنا، فمن أحب أن ينصرف فلينصرف ليس عليه منا ذمام.»
فتفرقوا عنه يمينا وشمالا، حتى بقي في أصحابه الذين جاءوا معه من مكة وفي جملتهم عبد الرحمن وعامر، وكانا من جملة من حرضوه على المسير للانتقام، وكان عبد الرحمن لا يستصعب شيئا في ذلك السبيل بعد ما كان يعتقده من مقتل سلمى.
أما سلمى فإنها كانت قد صممت على النهوض لملاقاة الحسين لكي تطلعه على جلية الخبر وهي تحسبه لا يعلمه، وباتت ليلتها تحت تلك الشجرة على أن تصبح في الغد وتسير، ولما أصبحت ودعت الشيخ وخرجت، ولم تمش قليلا حتى رأت الغبار يتصاعد من جهة الكوفة ثم ظهرت من تحته الخيل، فعلمت أن ابن زياد أرسل جنده لملاقاة الحسين، فتظاهرت بالاستسقاء من بعضهم وسألت عنهم، فعلمت أن قائدهم عمر بن سعد وأن عددهم يبلغ بضعة آلاف، فنزل هذا الجند في القادسية ونظم الخيول بين القادسية إلى ضفان، ومن القادسية إلى القطقطانة وإلى جبل لعلع، فخفق قلب سلمى خوفا على الحسين ورجاله، ولكنها ظلت سائرة وقلبها طائر أمامها التماسا لملاقاة عبد الرحمن. حتى بلغت جبلا اسمه ذو جشم، فوقفت لتطل منه على الطريق، وإذا بغبار يتعالى عن نحو ثلاثين فارسا وأربعين راجلا ما عدا النساء والأطفال، فعلمت أن القادمين هم الحسين ورجاله، ولكنها استقلت عددهم واستغربت مجيئهم بهذه القلة بعد أن رأت جند الكوفة وكثرتهم، ثم تبادر إلى ذهنها أنها ترى طليعة الجيش وأن البقية آتية، فوقفت جانبا وقلبها يخفق وعيناها شائعتان تتفرسان في وجوههم لعلها ترى عامرا أو عبد الرحمن، فلم تر أحدا، فترجح عندها أن الذين تراهم ليسوا كل الجند، فسألت عبدا كان منفردا عن الركب، فعلمت أنهم الحسين ورجاله جميعا. فاستغربت ذلك وانقبضت لما علمته من كثرة جند الأمويين في القادسية، واشتغل خاطرها على عبد الرحمن وعامر، ثم رأت جماعة أسرعوا فنصبوا فسطاطا كبيرا في سفح الجبل، وبعد قليل أقبل فارس حسن اللباس والقيافة جليل القدر يحيط به الرجالة وعليه جبة من خز وعلى رأسه عمامة، وقد اختضب بالوسمة (وهي ورق النيل أو نبات يخضب بورقه) وهو في نحو السابعة والخمسين من عمره ولا يزال الجمال ظاهرا في وجهه مع ما فيه من آثار الانقباض، فعلمت أنه الحسين، فاشتغلت لحظة بالتطلع إليه فإذا هو قد ترجل ودخل الفسطاط وهو صامت كأنه يفكر في أمر ذي بال، وأشار إلى رجاله أن يرشفوا الخيل ترشيفا، وسلمى بالباب في جملة الواقفين وعيناها تتنقل في الناس، ثم تحولت إلى سائر المعسكر وتفحصت الرجال ببصرها فلم تجد عامرا ولا عبد الرحمن فاضطرب قلبها وارتابت في كلام الناسك، ثم عادت إلى الخيمة لعلها تجد أحدهما فيها، فرأت فارسا قادما من جهة الصحراء وعليه لباس الأمراء، ففتح له الناس طريقا حتى أقبل على الخيمة وترجل ودخل على الحسين، فلم تعرفه سلمى ولكنها سمعت بعض الناس يتحدثون عنه ويتذمرون من قدومه، ثم علمت أنه الحر بن يزيد التميمي قدم من القادسية في ألف فارس لرد الحسين عن الكوفة، فالتفتت سلمى إلى الناحية الثانية من الجبل فرأت الخيل قد ملأت السهل.
ثم دخل الحر على الحسين وقال له: ما الذي جاء بك إلى هنا؟
فقال الحسين: «إني ما جئتكم حتى جاءتني كتبكم بأن أقدم إليكم.»
Bog aan la aqoon