هذا ما علمت من أمرها أثناء تجولنا، فلما عدنا إلى المنزل ودعتها بكل احترام، وذهبت إلى غرفتي حزينا لما استوضحت من أطوارها وذهولها وأشفقت عليها وعلى نفسي؛ لأني كنت لم أزل أحبها. ولقد تعزيت نوعا لأنها لم تأنف من مرافقتي مرارا. حتى وفي المرة الأخيرة كاد يقضى علي من شدة الفرح إذ رأيتها تبسم لقدومي، وحينئذ تجرأت أن أقدم لها ظرفا قد رقمت عليه اسمها الجميل، ووضعت فيه كتابا أصف فيه حالتي وهيامي، فتناولته مني وجعلت تنظر إليه باندهاش وحيرة كأنه لم يقع نظرها على مثله قبلا، ثم أرجعته لي وانثنت مسرعة إلى غرفتها، وقد أوضحت لي حركاتها جليا أنها لا تفقه القراءة، فلبثت حائرا في أمرها قائلا في نفسي: هل يمكن لمثلها أن يحرم من وسائط التعليم وهيئتها تدل على المكانة والشرف؟
وفيما كنت أفتكر في أمر الفتاة كانت تيريزا مطلة من النافذة ترقب حركاتنا وسكناتنا، وعيناها تقدح شررا كأنها غير راضية عن هذا الاجتماع؛ ومن ثم عادت لاستصحاب بولينا كعادتها متحملة الآلام باذلة جهدها بإبعادي عنها.
ويوما ما مرت تيريزا بقرب غرفتي، فاغتنمت هذه الفرصة ودعوتها، فدخلت إلى حجرتي، وقدمت لها كرسيا، فجلست وهي تنظر إلى ما حولها كأنها ترغب فهم معنى هذه الدعوة، فبادرتها بالسؤال عن رجلها، فأجابت بصوت أجش أنها أحسن حالا. فقدمت لها كأسا من الخمر تجرعته بدون تردد، ثم قلت لها: كيف صحة الآنسة بولينا فإني لم أرها اليوم؟ أجابت وقد خنقها الغيظ وأرجف صوتها التهديد والوعيد: إنها على أحسن حال. - ربما لم يخف عليك بأنها هي السبب الذي استدعيتك لأجله. - نعم لقد علمت كل شيء.
قالت ذلك ونظرت إلي نظرة تشف عن استعدادها لإشهار حرب ضدي. - إذن فأنت تعلمين ما لا أقدر على كتمانه بعد ... إني أحب الآنسة بولينا. فأجابت بخشونة وثبات: إنها ليست أهلا لأن تحب. - ليست أهلا للمحبة! كيف لا وهي شابة أديبة وجميلة، فإني أحبها وأريد أن تكون شريكة حياتي.
فقالت: إنها ليست أهلا للزواج. - تيريزا أخبريني ما المانع؟ فأنا شاب شريف ومثر وذو حب طاهر ولا أيأس من رضاها؛ فإن الأمل بذلك عظيم لما أراه من نظراتها إلي المقرونة بالحنو، فأستحلفك بكل ما هو عزيز لديك ومقدس أن توضحي المقال وتزيلي عني العناء بلفظة قدر لي بها السعادة أو الشقاء. - إنها ليست أهلا للمحبة والزواج. - تيريزا لقد عيل صبري فلم هذا العناد، ناشدتك الله أن تخبريني فقط من وأين هي عائلتها أو أنسباؤها فأتقدم إليهم بطلب يدها. - قلت ولم أزل أقول ما لا أقدر أن أفوه بسواه، إنها ليست أهلا للمحبة والزواج.
وعند ذلك لم يعد بوسعي الصبر، فاتقدت عيناي بنار الغيظ والغضب، وكدت أن أبطش بها وأريها نتيجة إصرارها لو لم يخطر لي ما هو أقدر على كبح جماح النفوس من كل شيء ولا أعظم من سطوته على القلوب. وبالحال نفحتها صكا ماليا بقيمة ألف فرنك ، فبرقت له أسرتها وانجذب بصرها لتلك الورقة، فظننت أني فزت بالوطر، ولكنها ما عتمت بعد أن صمتت برهة أن نهضت من مكانها مكررة قولها: إنها ليست أهلا للمحبة والزواج. ثم أرادت أن تخرج.
فأوقفتها وضاعفت لها المبلغ، فلبثت جامدة لا تبدي حراكا، ثم تمتمت: ألفي فرنك! ألفي فرنك! ثمن كلمة ولكن لا، لا أبيعها فهي أثمن من ذلك، وهمت بالخروج ثانية، فضاعفت المبلغ أيضا حتى بلغت قيمته أربعة آلاف فرنك. وقد أخذني العجب والاندهاش عندما لحظت بأنها لم تكتف بعد، فوعدتها بأن سأدفع لها أيضا قدرهم في يوم تكون بولينا عروسي، ففغرت فاها وشخصت بأبصارها وظلت برهة كالبلهاء، ثم قالت: سأجيبك في وقت آخر ... بعد استشارة الطبيب. - من هو هذا الطبيب، ألا أقدر أن أراه؟ - هل أتيت على لفظة طبيب! فهذا سهو مني، ولكن سأكاتب وليها بهذا الشأن وأبذل جهدي في مساعدتك. - لا تتأخري، واذكري الوعد. - سأباشر ذلك حالا. - والآن اصدقيني القول يا تيريزا، هل تفكر بي بولينا في خلواتها، ألم تذكر اسمي؟ - من يعلم، ولكني أقول للمرة الأخيرة، إنها ليست أهلا للمحبة والزواج.
فقلت في نفسي ساخرا بها: يا لك من بلهاء لا تعرفين المي من اللي، تقولين إنها ليست أهلا للمحبة والزواج مع أنه إذا وجد من الفتيات من هي أكثر أهلية للزواج فلا تكون غير بولينتي الجميلة. ولكن لا بد لثبات رأي هذه الشمطاء في بولينا من أسباب محاطة بالأسرار الخفية. ثم تذكرت تلك المصادفة في دير الكاثوليك، وكيف كانت تصلي بحرارة، ففكرت أنها ربما تكون كثيرة التدين وتقصد اجتذاب بولينا إلى الدير لنذر العفة. هذا ما رجحته في ذهني على بقية الأفكار، ولكن ساء فألها فإني استرضيتها بالدرهم الوضاح، ولم يعد علي سوى استعطاف بولينا والاجتماع بها غالب الأوقات فأكتشف منها على ما يهمني معرفته من أحوالها. وعندما داخلني هذا الفكر شعرت بالراحة والسرور بما توفر لدي من وسائل الفوز والنجاح، وبت ليلتي مرتاحا أحلم بالسعادة التي كنت بانتظارها.
ولما كان الصباح ذهبت إلى السوق لقضاء بعض الأشغال، فصرفت بضع ساعات، وعند رجوعي لم يكن اهتمامي سوى مقابلة بولينا، فاتجهت نحو غرفتها بقلب خافق، وعند دخولي رأيت ما لم أكن أنتظره، وما الموت إلا دونه هولا وحزنا، رأيت ما سحق قلبي وأوقف سريان دمي، وجعلني كالمعتوه الفاقد الرشد، رأيت غرفة من قصرت عليها آمالي ومن أسرت فؤادي خالية خاوية لا عين فيها لبولينا ولا أثر. فانطلقت مسرعا نحو صاحبة النزل لأستطلع منها واقعة الحال، وكنت أقدم رجلا وأؤخر أخرى خوفا من أن جوابها يحجب عن عيني الشعاع الأخير من أمل لقياها، ولكني وجدت أن لا مهرب من الاستعداد لاحتمال الصاعقة التي ربما تنقض علي من جوابها السلبي، فقويت عزمي واستعنت بالصبر الجميل ولو ذهبت روحي، قائلا:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني
Bog aan la aqoon