وقد أنشأ الحكم مجمعا في قصر مروان وقلده غيره من أمراء الأندلس فأنشئوا مجامع لهم، وأنشأ أحمد بن سعيد النصري مجمعا في طليطلة فكان يجتمع عنده أربعون عالما من طليطلة والبلاد المجاورة ثلاثة أشهر في السنة؛ أي في شهر تشرين الثاني وكانون الأول وكانون الثاني يعقدون اجتماعاتهم في ردهة فرشت أحسن فرش، فيبدءون عملهم بتلاوة آيات من الكتاب العزيز، ثم يتذاكرون في تفسير ما قرءوا، ويأخذ بهم الاستطراد إلى البحث في فنون شتى من العلم والحكمة.
وكان أمير المسلمين علي بن تاشفين لا يقطع أمرا في جميع مملكته دون مشاورة الفقهاء
5
فكان إذا ولى أحدا من قضاته كان فيما يعهد إليه أن لا يقطع أمرا ولا يبت حكومة في صغير من الأمور ولا كبير إلا بمحضر أربعة من الفقهاء، فبلغ الفقهاء في أيامه مبلغا عظيما لم يبلغوا مثله في الصدر الأول من فتح الأندلس، وأمير المسلمين هذا هو الذي اجتمع له ولأبيه من أعيان الكتاب وفرسان البلاغة ما لم يتفق اجتماعه في عصر من الأعصار، فانقطع إليهما من الجزيرة من أهل كل علم فحوله حتى اشتبهت حضرتهما حضرة بني العباس في صدر دولتهم، وكانت أيام بني المظفر بمغرب الأندلس أعيادا ومواسم، وكانوا ملجأ لأهل الآداب خلدت فيهم ولهم قصائد أشادت مآثرهم، وأبقت على غابر الدهر حميد ذكرهم.
كان أهل دانية أقرأ أهل الأندلس؛ لأن مجاهدا العامري كان يستجلب القراء، ويفضل عليهم، وينفق الأموال فكانوا يقصدونه ويقيمون عنده فكثروا في بلاده. قلنا: وإذا كان عرض للأندلس في بعض أدوارها ما فرق جامعتها السياسية فاستفاد من ذلك أعداؤها فقد كان لتفريقهم إلى ممالك صغرى داعيا إلى التنافس أحيانا حتى صار لكل إقليم مزية ليست لغيره، واختص كل ملك بشيء فاتخذ أسباب النجاح فيه، واستدعى أهل الأخصاء من رجاله.
ومن لطيف تدبيرهم في الإنفاق على الجند دون تحميل الأمة أعباءه وهو تحت السلاح ما عمله ابن جهود رئيس قرطبة من جعل أهل الأسواق جندا، وجعل أرزاقهم رءوس أموال تكون بأيديهم محصاة عليهم يأخذون ربحها فقط، ورءوس الأموال باقية محفوظة يؤخذون بها، ويراعون في الوقت بعد الوقت كيف حفظهم لها، وفرق السلاح عليهم، وأمرهم بتفريقه في الدكاكين وفي البيوت، حتى إذا هم أمر في ليل أو نهار كان سلاح كل واحد معه.
ومن أجمل أعمالهم في إقامة قسطاس العدل: أن هشام بن عبد الرحمن الداخل كان يبعث إلى البكور قوما عدولا يسألون الناس عن سير العمال، ثم ينصرفون إليه بما عندهم، واعترض له يوما متظلم من أحد عماله فبدر إلى الشاكي، وقال له: احلف على كل ما ظلمك فيه فإن كان ضربك فاضربه أو هتك لك سترا فاهتك ستره أو أخذ لك مالا فخذ من ماله مثله إلا أن يكون أصاب منك حدا من حدود الله، فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه.
ولقد بنى الخليفة عبد الله بن محمد الساباط بين القصر والجامع بمدينة قرطبة، وكان يقف فيه قبل صلاة الجمعة وبعدها فيرى الناس، ويشرف على اجتهادهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول المتظلم، ولا يخفى عليه شيء من أمور الناس، وكان يقعد أيضا على الأبواب في أيام معلومة فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب على باب حديد قد صنع مشربا مستطيلا؛ لذلك فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقته بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه، وفتح بابا في قصره سماه باب العدل، وكان يعقد فيه للناس يوما معلوما في الجمعة؛ ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين المظلوم سترا. فكانت سيرة عمالهم مع الرعايا أن يتحفظوا من كل أمر يوجب الشكوى منهم، وينقبضون عن التحامل على من دونهم.
وهكذا فإنه لا يكاد يخطر ببالك شيء من أدوات الحضارة ومقومات العمران وأساليب العلم والمعرفة إلا قام به أو ببعضه ملوك الأندلس وأهلها حتى التماثيل فإنها كانت في قصور العظماء والصور تزين بها غرفهم وردهاتهم؛ لذلك أبقوا على أكثر ما كان في البلاد قبل الفتح من التماثيل للاعتبار بها خصوصا بعد أن انغمسوا في الحضارة، قال أبو عامر البرياني في الصنم الذي بشاطبة:
بقية من بقايا الروم معجبة
Bog aan la aqoon