ولبثا على حالهما لا يشعران بفوات الوقت حتى تيقظا فجأة على طرق الباب، ووصلت إلى مسمعيهما أصوات الأولاد وهم يدخلون واحدا واحدا، يتقدمهم ضجيجهم وجلبتهم، وقد دبت الحياة في البيت وتحول في ثانية إلى سوق، وعلا صياح من هنا وصراخ من هناك، وسمعت أصوات تنادي، وأخرى تسب وتلعن، وثالثة تنشد بعض الأناشيد المدرسية، ورابعة تسأل عن ماما وبابا. ثم طرق الباب مرة أخرى بعنف، ودخل شخص ما، وساد صمت عجيب. ترى من القادم؟ لقد دق قلب الرجل بعنف واعتدل في جلسته، وعيناه تتساءلان، ونظر إلى الباب كأنه يتوقع سقوط صاعقة .. ورأى حسينا يدخل مسرعا، وسمعه يقول باضطراب: بابا .. يقولون إن عمتي توفيت!
فقام الرجل كالمجنون وحدج ابنه بنظرة هائلة، فقال الابن: حضرت الممرضة الآن حاملة هذا الخبر .. وها هي ذي واقفة تسأل عنك .. تفضلي إلى هنا يا سيدتي. •••
في ساعة متأخرة من ليل ذاك اليوم - يوم أول أبريل - جلس علي أفندي إلى جانب زوجه وكانت لا تزال في ثوب الحداد، وقد آوى الأبناء إلى الفراش وخيم السكون على البيت.
كانت المرأة صامتة، ولكن كان وجهها راضيا مطمئنا، وبالها مستريحا، وقد ولى عنها الذعر الذي لازمها أياما خالتها دهرا طويلا.
وكان علي أفندي يشعر شعور إنسان خطا قدما بغير وعي، وإذا به يرى صاعقة تنقض على المكان الذي كان يشغل .. قد كان السجن والرفت والدمار منه قاب قوسين أو أدنى، وها هو ذا يطمئن إلى مجلسه بين أسرته آمنا بمنجاة من كل دمار، يستقبل من الغد حياة رغدة مترفة، فكم بالحياة من معجزات!
وعلى رغم كل هذا لم يكن سعيدا تمام السعادة، ولم يصف ذهنه كل الصفاء واستمر في تأملات عميقة. لقد عاش طول عمره حياة راكدة راتبة، أما الساعات القلائل - القلائل! - الأخيرة فقد ابتلي فيها بما لم يبتل به في عمره الطويل المديد؛ إذ أثارت نفسه وعقله وجعلت من بحيرة نفسه الآسنة محيطا مضطربا عاصفا.
لقد خلصه الله من العذاب، ولكن هل يستحق الخلاص وهو الآثم الشرير الذي هم أن يقارف السرقة والقتل؟ ثم عمته المرحومة؟ إنه يدرك حالتها الآن بغير العقل الذي كان يصورها له ويعطف عليها بعد أن أمسى عطفه وقسوته لديها سيئين، فقد عاشت بائسة حزينة تجتر الهموم والآلام، وكانت حياتها فرضا ثقيلا عليها وعلى الآخرين. نعم! كانت قاسية شديدة فوق كل احتمال، ومع هذا فكيف كان يمكن أن تكون غير ما كانت؟ ومن يخلو من جانب بل من جوانب كريهة؟ أليس هو في أعماقه قاتلا سارقا مدلسا؟ وما هو إلا صورة تتكاثر وتتعدد فتكون عالم الناس .. ومع هذا فلا يجوز أن ينسى أن هذا الشر غالبا ما ينكشف عن ضعف وجهل وبؤس، كما انكشف شذوذ عمته عن ترمل وثكل، وكما ينكشف تخبطه وسوء نواياه عن محبة فائقة لأبنائه الأبرياء، وقد أذن الله فعالج الشر والبؤس برحمته، والرحمة أسمى حلم في الوجود، ولكنه لا يستطيع أن ينسى أيضا أنها سبقت هنا بكذبة ابنته وبموت عمته، فكيف يكون الموت والكذب من ممهدات الرحمة؟
حقا إنه مهما ادعى التأمل فسيبقى أمامه ما يعجز عقله ويربكه. وإذا كان أمر الدنيا على هذا النحو فلن يمنع الدمع الذي تبعثه مآسيها إلى العين الابتسام من اعتلاء الشفتين، ولقد ضاق صدره وأرقه السهاد فهتف من أعماقه: من لي بزوزو الآن؟ .. فإن ابتسامتها العذبة ونظرتها الطاهرة ويدها الصغيرة لحقيقة بأن تصرف عني أفكار هذا الليل وتسكب في قلبي الطمأنينة والسلام.
ثمن زوجة
جلس ينظر إلى صورته في المرآة الكبيرة، ويتابع بعينيه يد الحلاق وهي تقص شعره بخفة ومهارة، وكانت تبدو عليه آي الهدوء والغبطة كما ينبغي لشاب مثله في أسبوعه الثالث من شهر العسل.
Bog aan la aqoon