وتوقف لحظة، لا يدري ما ينبغي أن يفعل، فلاحت منه التفاتة إلى مائدة صغيرة رصت عليها زجاجات الدواء، فتنهد، وقال بغير وعي: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!
ولم تكن المرة الأولى التي تسمعه فيها الممرضة يقول هذا القول؛ فارتاعت لتكراره، ورددت قوله مرتعبة: لو يتأخر عنها الدواء دقيقة!
فنظر إليها بسرعة مرتجفا، والتقت عيناهما لحظة؛ فلمع بينهما ما يشبه البرق، ثم خرج مهرولا وهو ينتفض من هول ما خطر على باله، وهبط السلم مسرعا كأنما يفر فرارا. •••
وجاء اليوم الأول من أبريل، والأيام تسير في دائرتها المفرغة غير عابئة بما تحمل للناس من مسرات وأهوال، لا اختلاف في هذا بين يوم التطير أو يوم التفاؤل، ولم يكن هذا اليوم جديدا في العام ولا جديدا في حياة علي أفندي، ولكن خيل إليه هذا الصباح أنه يستقبله لأول مرة في حياته، بل عجب؛ كيف أمكن أن يوجد كبقية الأيام؟ وكيف أمكن أن يأخذ مكانه الطبيعي بين أيام السنة؟ وهو يحمل له نذير الخراب ولأسرته الشقاء والفناء!
أواه! إن موعده مع التجار أصيل هذا اليوم، ولدى هذا الأصيل يتقرر مصيره. وإنه ليعلم علم اليقين أي طريق هو موليها بعد حين قليل .. بعد ساعات سريعة الجريان.
ومع هذا فها هو ذا يجلس إلى مكتبه يرتشف القهوة، ويقلب الأوراق، ويشترك في الحديث مع هذا وذاك، وكل من حوله منصرف إلى عمله، والتلاميذ في الفناء يضجون ويلعبون، والحجرة هي هي، والمدرسة هي هي، والدنيا هي هي، كأن شيئا لن يحدث وكأن دمارا مروعا لا يوشك أن ينزل بحياة أسرة كبيرة؛ فيذروها ذر الرياح!
والمضحك بعد هذا أن يقال: إن الإنسان حيوان عاقل، وهل يستطيع إنسان أن يرد بنور عقله قضاء يعجز الحيوان عن رده لانعدام عقله؟ ها هو ذا لا يستطيع أن يصرف عن نفسه دمارا يعلم به قبل وقوعه، وكم غير هذا الدمار - مما يجهل - قريب لا يستطيع حياله تصريفا. حقا إن الحياة مأساة مؤلمة مضحكة، ما الذي ينبغي أن يفعل؟ .. إنه يطرح على نفسه هذا السؤال للمرة المائة والألف، ولا يملك إلا تكراره وترديده كالمخبول .. وقد سمع فجأة صوتا يقول: حان الميعاد.
فارتجف جسمه وانخلع قلبه في صدره .. الميعاد .. إنه لا يفكر إلا في ميعاد واحد، ولكن الصوت استطرد مرة أخرى ضاحكا: الساعة تدور في الحادية عشرة، فهيا إلى الوزارة لإحضار المرتبات.
حقا إن اليوم يوم المرتبات، ينتظره آلاف غيره بفارغ الصبر؛ فكيف ينسى هذا؟ وخرج متثاقلا مهموما يولي وجهه شطر الوزارة، وعلى حين فجأة، وبغير تمهيد واع اصطدم فكره الشارد المتوزع في محيط الشقاء بفكرة وامضة، فتنبهت حواسه، وشع من عينيه بريق خاطف، وأحاط به الرعب الذي مسه حين التقت عيناه بعيني الممرضة في بيت عمته بالأمس القريب. لاحت له هذه الفكرة في لحظة سريعة جنونية، رآها كمن يفتح عينين ناعستين في الظلام فتلمحان على غير توقع شبح شيطان ناري، يهدد ثانية ثم يختفي تاركا خلفه الصرع والجنون. وقد جن بغير شك، واستولت عليه الفكرة بقوة مارد مستبد. أي رعب، أي شر، أي مصيبة، أي اتجاه، أي فكرة نيرة، أي خلاص، أي دمار، أي هول، إنها تحمل جميع هذه المتناقضات إلى نفسه المضطربة المريضة، وإن من اليأس ما يعجز عن قلقلة ذرة من الرمال، ومنه ما يزحزح الجبال، وقد جرى منطقه المحموم في طريق ذي عوج: إذا سرق كان جزاؤه المحتوم الرفت والسجن، ولكن إذا لم يسرق لم ينج لا من الرفت ولا من السجن .. إلا أن النتيجة مع السرقة تختلف، فهو بها يستطيع أن يكسب التجار وينقذ تجارته فيضمن لأسرته - وأسرته هي قطب تفكيره - حياة رغدة سعيدة، بل إنه ينوي ما هو شر من هذا وأعظم رعبا، إنه ينوي أن يراود الممرضة - بسلطان المال - على ...! حقا إن هذا فظيع مخيف .. ولكن تأخير الدواء لحظة كفيل بالقضاء على تلك المرأة الشريرة، التي تقع من حياته موقع الزائدة الدودية الملتهبة .. حقا إنها جريمة نكراء ولكنها مضمونة العاقبة وعادلة من الوجهة الإنسانية .. ونفاذها يضمن لأسرته أرغد العيش وأطيبه. وهب أن الممرضة أبت عليه تحقيق غرضه فلن يضيره إباؤها شيئا، وتبقى بعد هذا تجارته، وهذا شيء مؤكد. نعم، إن السجن لا مفر منه، ولكنها سنوات سوف يقضيها - مع الاطمئنان على أسرته - صابرا ويخرج بعدها كي يتمتع بعيشة هانئة ثرية في مكان سحيق .. كل هذا واضح بين ولا بد من تنفيذه بدقائقه، وليكن بعده ما يكون.
واستلم المال واستقل «تاكسي» وقال للسائق بصوت حاول ما استطاع أن يجعله هادئا: إلى شارع محمد علي. نعم إلى البيت لا إلى المدرسة؛ حيث يجد متسعا للتفكير والتدبير. كم هو مرتعب خائف، إن أسنانه تصطك، وأطرافه تنتفض، وأجفان عينيه تتصلب، وريقه يجف، وأنفاسه تبطئ وتثقل كأن يدا جبارة تخنقه.
Bog aan la aqoon