وبعد حمد الله بحمد الحمد لا بسواه ، والصلاة التامة على من أسرى به إلى مستواه ، فاعلم أيها العاقل الأديب ، | الولي الحبيب ، أن الحكيم إذا نأت به الدار عن قسيمه ، وحالت صروف الدهر بينه وبين حميمه ، لا بد أن يعرفه بكل ما | اكتسبه في غيبته ، وما حصله من الأمتعة الحكمية في غيبته ، ليسر وليه بما أسداه إليه البر الرحيم من لطائفه ، ومنحه من | عوارفه ، وأودعه من حكمه ، وأسمعه من كلمه ، فكأن وليه ما غاب عنه ، بما عرف منه ، وإن كان الولي أبقاه الله قد أصاب | صفاء وده بعض كدر لعرض ، وظهر منه انقباض عند الوداع لإتمام غرض ، فقد غمض وليه عن ذلك جفن الانتقاد ، | وجعله من الولي أبقاه الله من كريم الإعتقاد ، إذ لا يهتم منك ، إلا من يسأل عنك ، فليهنأ الولي أبقاه الله فإن القلب سليم ، | والود كما يعلم بين الجوانح مقيم ، وقد علم الولي أبقاه الله ، أن الود فيه كان أليا ، لا غرضيا ولا نفسيا ، وثبت هذا عنده | قديما عني من غير علة ، ولا فاقة إليه ولا قلة ، ولا طلب لمثوبة ، ولا حذر من عقوبة ، وربما كان من الولي حفظه الله | | تعالى في الرحلة الأولى التي رحلت إليه سنة تسعين وخمسمائة عدم التفات فيها إلى جانبي ، ونفور عن الجري على | مقاصدي ومذاهبي ، لما لاحظ فيها رضي الله عنه من النقص وعذرته في ذلك فإنه أعطاه ذلك مني ظاهر الحال وشاهد | النص ، فإني سترت عنه وعن بنيه ما كنت عليه في نفسي ، بما أظهرته إليهم من سوء حالي وشره حسي ، وربما كنت ألوح | لهم أحيانا على طريق التنبيه ، فيأبى الله أن يلحظني واحد منهم بعين التنزيه ، ولقد قرعت أسماعهم يوما في بعض | المجالس ، والولي أبقاه الله في صدر ذلك المجلس جالس ، بأبيات أنشدتها ، وفي كتاب الإسراء لنا أودعتها : وهي : |
أنا القرآن والسبع المثاني
وروح الروح لا روح الأواني
فؤادي عند معلومي مقيم
يشاهده وعندكم لساني
فلا تنظر بطرفك نحو جسمي
وعد عن التنعم بالمغاني
وغص في بحر ذات الذات تبصر
عجائب ما تبدت للعيان
وأسرارا تراءت مبهمات
مسترة بأرواح المعاني
فوالله ما أنشدت من هذه القطعة بيتا ، إلا وكأني أسمعه ميتا ، وسبب ذلك حكمة أبغي رضاها ، وحاجة في نفس | يعقوب قضاها ، وما أحس بي من ذلك الجمع المكرم ، إلا أبو عبد الله بن المرابط كليمهم المبرز المقدم ، ولكن بعض | إحساس ، والغالب عليه في أمري الالتباس وأما الشيخ المسن المرحوم جراح فكنت قد تكاشفت معه على نية ، في | حضرة علية ، ولم أزل بعد مفارقتي حضرة الولي أبقاه الله له ذاكرا ، ولأحواله شاكرا ، وبمناقبه ناطقا ، ولآدابه عاشقا ، | وربما سطرت من ذلك في الكتب ما سارت به الركبان ، وشهر في بعض البلدان ، وقد وقف الولي عليه ، ورأى بعض ما | لديه ، فقد ثبت له الود مني قبل سبب يقتضيه ، وغرض عاجل أو آجل يثبته في النفس ويمضيه ، ثم كان الاجتماع بالولي | تولاه الله بعد ذلك بأعوام في محله الأسنى ، وكانت الإقامة معه تسعة أشهر دون أيام في العيش الأرغد الأهنى ، عيش روح | وشبح ، وقد جاد كل واحد منا بذاته على صفيه وسمح ، ولي رفيق وله رفيق ، وكلاهما صديق وصديق ، فرفيقه شيخ عاقل | محصل ضابط ، يعرف بأبي عبد الله بن المرابط ، ذو نفس أبية ، وأخلاق رضية ، وأعمال زكية ، وخلال مرضية ، يقطع | الليل تسبيحا وقرآنا ، ويذكر الله على أكثر أحيانه سرا وإعلانا ، بطل في ميدان المعاملات ، فهم لما يرد به صاحب المنازل | والمنازلات ، منصف في حاله ، مفرق بين حقه ومحاله . وأما رفيقي فضياء خالص ونور صرف ، حبشي اسمه عبد الله بدر | لا يلحقه خسف ، يعرف الحق لأهله فيؤديه ، ويوقفه عليهم ولا يعديه ، قد نال درجة التمييز ، وتخلص عند السبك | كالذهب الإبريز ، كلامه حق ، ووعده صدق ، فكنا الأربعة الأركان ، التي قام عليها شخص العالم والإنسان ، فافترقنا | ونحن على هذه الحال ، لانحراف قام ببعض هذه المحال ، فإني كنت نويت الحج والعمرة ، ثم أسرع إلى مجلسه الكريم | الكره ، فلما وصلت أم القرى ، بعد زيارتي الخليل الذي سن القرى ، وبعد صلاتي بالصخرة والأقصى ، وزيارة سيدي سيد | ولد آدم ديوان الإحاطة والإحصا ، أقام الله في خاطري أن أعرف الولي أبقاه الله بفنون من المعارف حصلتها في غيبتي ، | وأهدي إليه أكرمه الله من جواهر العلم التي اقتنيتها في غربتي ، فقيدت له هذه الرسالة اليتيمة ، التي أوجدها الحق | لاعراض الجهل تميمه ، ولكل صاحب صفي ، ومحقق صوفي ، ولحبيبنا الولي وأخينا الذكي ، وولدنا الرضي ، عبد الله | بدر الحبشي اليمني ، معتق أبي الغنائم ابن أبي الفتوح الحراني ، وسميتها رسالة الفتوحات المكية ، في معرفة الأسرار | المالكية والملكية ، إذ كان الأغلب فيما أودعت هذه الرسالة ما فتح الله به علي عند طوافي ببيته المكرم ، أو قعودي مراقبا | له بحرمة الشريف المعظم ، وجعلتها أبوابا شريفة ، وأودعتها المعاني اللطيفة ، فإن الإنسان لا تسهل عليه شدائد البداية ، | إلا إذا عرف شرف الغاية ، ولا سيما إن ذاق من ذلك عذوبة الجنى ، ووقع منه بموقع المنى ، فإذا حصر الباب البصر ، تردد | عليه عين بصيرة الحكيم فنظر فاستخرج اللآلئ والدرر ، ويعطيه الباب عند ذلك ما فيه من حكم روحانية ، ونكت ربانية ، | على قدر نفوذه وفهمه ، وقوة عزمه ووهمه ، واتساع نفسه من أجل غطسه في أعماق بحار علمه : |
Bogga 43