لا تستلزم المجاز لجواز أن يختص الاستعمال بالمعنى الموضوع له و هذا ظاهر وأما عكسه ففيه قولان والظاهر أن النزاع هنا في الألفاظ اللغوية وأن المراد بالحقيقة والمجاز ما يتناول المفرد و المركب على ما يرشد إليه حجتهم حجة القول بالاستلزام أنه لو لم يستلزم لعرى الوضع عن الفائدة إذ فائدته الاستعمال في تراكيب الكلام واللازم باطل قطعا وأجيب تارة بمنع الملازمة لان صحة التجوز فيه فائدة تترتب عليه وأخرى بمنع بطلان اللازم إذ لا يجب أن يترتب على الشئ ما قصد به ويمكن المناقشة في الأول بأن فائدة الوضع للمعنى المجازي أكثر لاستغنائه عن مئونة القرينة و الخروج عن ظاهر الاستعمال فالعدول عنه إخلال بالحكمة وفي الثاني بأنه يتم إذا ثبت أن الواضع ليس هو الله تعالى وأن الوضع ليس بإلهامه لان قصد ما لا يترتب على الشئ راجع إلى الجهل بحاله و الوجهان كما ترى ويمكن أن يستند في منع الملازمة إلى جواز وقوع الاستعمال في المعنى الموضوع له بعد الاستعمال في غيره إذ لا يلزم مقارنة الاستعمال للوضع حجة النافي للاستلزام وجهان الأول أنه لو استلزمها لكان لنحو قامت الحرب على ساق وشابت لمة الليل من المركبات حقيقة والتالي منتف قطعا وأورد عليه أولا بالنقض بأنه مشترك الورود فإن المجاز يستلزم الوضع لمعنى بالضرورة فإذا لم يكن هناك معنى ليستعمل فيه لم يكن معنى ليوضع له وثانيا بالحل بأن الوضع والاستعمال لا يستدعيان تحقق المعنى في الواقع لتحققهما بالنسبة إلى الممتنعات فإن قولنا الواحد ضعف الاثنين وأن النقيضين يجوز أن يرتفعا إلى غير ذلك موضوع للاسناد وإلا لما صدق على المخبر به أنه مخبر كاذب مع أن المعنى لا تحقق له إلا في الفرض وإن أريد بالتحقق ما يتناول ذلك منعنا انتفاءه في المقام و الجواب أن ورود هذين الايرادين مبني على أن يكون الوجه في انتفاء التالي عدم تحقق المعنى وليس كذلك إذ ليس المأخوذ فيه إلا انتفاء الحقيقة وذلك لا يقتضي إلا انتفاء الاستعمال فمرجعه إلى دعوى القطع بأن هذين المركبين أو هذين التركيبين لم يستعملا في غير المعنى المجازي فاندفع المحذوران ولا يمكن النقض بإحداث الاستعمال في معناهما الحقيقي لان المقصود يتم بالاستعمالات السابقة مع أن الكلام لا يختص بهما بل يجري في نظائرهما مما لا حصر له وأجاب العضدي عن الدليل المذكور بأن المركبات لا وضع لها وإنما الوضع لمفرداتها والتجوز من توابع الوضع فلا مجاز إلا في المفردات فالمجاز في الفرض المذكور أما في المسند أو المسند إليه ولا ريب في ثبوت الحقيقة فيهما أما الاسناد فليس له إلا جهة واحدة في الكل لا يخطر بالبال غيرها عند الاستعمال فلا يتطرق التجوز إليه ورد بأن البيان المذكور إنما يتجه في مثل شابت لمة الليل فإن التحقيق فيه أن اللمة مجاز عن سواد الليل والشئب مجاز عن حدوث البياض فيه وأما نحو قامت الحرب على ساق ونظائره فلا يتجه فيه ذلك إذ لا تجوز في شئ من مفرداته بل في المركب حيث شبه حال الحرب بحال من يقوم ولا يقعد فيكون استعارة تمثيلية على حد قولهم للمتردد أراك تقدم رجلا و تأخر أخرى هذا وتحقيق المقام أن المستدل إن أراد بمقالته أن الهيئة في قامت الحرب على ساق مثلا موضوعة للاسناد إلى الفاعل الحقيقي ولم تستعمل فيه واستعملت في الاسناد إلى الفاعل المجازي فتكون مجازا لغويا بلا حقيقة اتجه عليه أن يقال لا نسلم أن الهيئة موضوعة للاسناد إلى الفاعل الحقيقي وإلا لزم أن لا يكون لها في الاخبار الكاذبة معنى بل للاسناد إلى مطلق الفاعل ولو كانت فاعليته ادعائية إذ لا يعقل من الاسناد إلا معنى واحد وهو جار في جميع الموارد نعم إذا أسند الفعل حينئذ إلى غير من هو له كما في أنبت الربيع كان هناك مجاز بحسب العقل حيث جعل غير الفاعل فاعلا و أعطي حكمه حتى صح إسناد الفعل إليه على الحقيقة وظاهر أن النزاع هنا في المجاز اللغوي لا غير وإن أراد أن الهيئة الموضوعة للاسناد قد استعملت في المقام في غير الاسناد كما لو استعملت الهيئة في أنبت الربيع البقل وأريد بها النسبة الظرفية أي في الربيع فللخصم أن يمنع صحة اعتباره في المقام لكن قد سبق أن التحقيق جواز ذلك في مثل الفرض المذكور فيفسد ما ادعاه المجيب من عدم تطرق التجوز إلى الاسناد لكنه لا يجدي المستند أيضا لجواز سبق استعماله في المعنى الاخر عليه وإن أراد أن المجموع المركب من تلك المفردات موضوع لإفادة المركب من معانيها ولم يستعمل فيه و استعمل في مشابهه على طريق التمثيل وذلك بأن شبه ثبات الحرب واستقرارها بصورة موهومة وهي قيامها على ساق فعبر عن المعنى الأول بالمركب الموضوع للمعنى الثاني استقام كلامه بناء على ما عليه جماعة من أن المركبات موضوعة بإزاء معانيها التركيبية كما أن المفردات موضوعة بإزاء معانيها الافرادية إلا أن الخصم لم يساعد على ذلك و قد مر تحقيق الكلام فيه وأما التجوز في المسند فيمكن باستعمال القيام المقيد بقولنا على ساق في معنى الاشتداد فيكون من باب المجاز في المركب ولا يشكل بلزوم توسط أجنبي بين أجزاء المركب لأنه يتسامح به في المجاز المركب حيث يقصد المحافظة على التركيب الأصلي أو بأن يراد بالقيام الثبات أو ما يقرب منه وبالساق الجانب ويكون المجموع كناية من اشتدادها أو يراد بالساق الشدة كما فسر بها قوله تعالى يوم يكشف عن ساق فيكون من باب المجاز في المفرد وأما التجوز في المسند إليه فلا يتم إلا بتنزيل الحرب منزلة إنسان ذي ساق فيستعمل فيه مجازا أو يطلق على الحرب من باب إطلاق الكلي على المفرد فيكون من باب الاستعارة بالكناية على مذهب السكاكي وقد مر تحقيق الكلام فيه وقس على ذلك الكلام في نظائره الثاني أن لفظ الرحمن موضوع في الأصل الرقيق القلب ولم يستعمل فيه واستعمل فيه تعالى مجازا فيتحقق المجاز بدون الحقيقة وقد يقرر بوجه آخر وهو أن لفظ الرحمن موضوع لذي الرحمة مطلقا ولم يستعمل فيه تعالى من حيث الخصوصية مجازا فيثبت المقصود والأول أظهر وكذلك الافعال المنسلخة عن الزمان فإنها كانت في الأصل موضوعة للزمان كما هو قضية كونها أفعالا ولم تستعمل إلا مجردة عن الزمان مجازا وأورد عليه من وجهين الأول أنهم أطلقوا رحمان اليمامة على مسيلمة الكذاب حتى قال فيه بعضهم وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا فانقدح قولكم إنه لم يستعمل في معناه الحقيقي الثاني أنا لا نسلم أن الألفاظ المذكورة لم تستعمل في معانيها الأصلية في
Bogga 30