Roderick Random »، وكان السهم الذي شاطر به في تقدم القصة وتطورها، أنه لم يكتف بما اكتفى به زملاؤه، وهو أن يتعقب الدقائق ساعة بعد ساعة، بل أضاف إلى ذلك لونا من الواقعية، هو ما يفهمه سواد الناس من كلمة «واقعي»، وإن لم يكن ذلك فهما للكلمة صحيحا دقيقا؛ وذلك أنه يذكر الحقائق الغليظة التي يأباها الذوق المهذب المرهف، فكان ذلك معينا قويا للقصة على تصوير الدنيا، كما هي بغير حذف ولا تشذيب، فسواد الناس يؤمنون بأن «أنابيب المياه»، أكثر واقعية من قوس قزح بألوانه الزاهية، وهذه الناحية من الواقع هي ما صورها «سمولت».
لكن تقدم القصة أصابته نكسة مؤقتة؛ إذ عاود الناس حنين إلى القصة القديمة الخيالية المسرفة في خيالها، حتى بعد أن تكشفت لهم قيمة القصة الفنية الصحيحة. وليس في هذه النكسة ما يدعو إلى العجب؛ فالإنسان روحان في إهاب واحد، يحب ما يدنو من قلبه وفؤاده وما تألفه عيناه وأذناه، أي أنه يحب الواقعي الذي يعيش بين ظهرانيه، وهو في الوقت نفسه يحن إلى البعيد النائي الساحر بخياله، الذي هو أقرب إلى الأحلام منه إلى الحق والواقع، أي أنه يحن إلى فتنة الوهم والخيال الجامح. فهل تريد من فن أدبي ذائع بين سواد الناس - وهو فن القصة - أن يكتفي بإشباع جانب واحد من الإنسان دون جانبه الآخر؟ هل يمكن أن يقنع القصصي بمخاطبة الناحية الواقعية منها، ويهمل الناحية الخيالية إهمالا تاما؟ لقد كان للجانب الخيالي الغلبة على القصة قرونا طوالا، حيل فيها دون القصة الواقعية، فلما ظهرت القصة الواقعية، لم تعدم قصة الخيال رجالا يعودون إليها بأقلامهم، مفتونين بسحرها مأخوذين بأحلامها.
وترى هاتين النزعتين متمثلتين في القصة في القرن التاسع عشر، فقصة تميل إلى تصوير الواقع كما هو، وقصة تميل إلى الجو الخيالي الذي يسمو عن عالم الواقع ويبعد عنه، وثالثة تجمع اللونين معا ما استطاعت إلى جمعهما سبيلا. فهنالك في أول القرن «جين أوستن
Jane Austen » تخلص الولاء للقصة الفنية، محتفظة لها بعناصرها الرئيسية الأساسية، فتسجل شئون الحياة العادية كما كانت تجري في عصرها، وإلى جانبها «سكت» يحاول جهد طاقته، أن يجمع بين الإيهام الواقع وبين روعة الخيال وسحره، وكانت «القصة التاريخية» سبيله إلى غايته المنشودة، فقصته «قلب الأسد» تجري مجرى الخيال، الذي لا يرتبط بالواقع بصلة قوية، لكنها في الوقت نفسه تتخذ من الموضوع التاريخي الذي تعالجه ذريعة لإيهام القارئ أنه في جو من العالم الواقعي الصحيح، لكنه لم يوفق فيما أراد؛ لأن الواقعية التي نريدها للقصة الفنية الكاملة، ليست هي الواقعية التي يشهد بصدقها المؤرخون، وتقوم الوثائق دليلا على صحتها، لكنها الواقعية التي تلقي في روع القارئ أنها صحيحة. فسواء كانت حوادث القصة مأخوذة فعلا من الحياة الجارية أو لم تكن، فكل ما نشترطه للقصة أن توحي للقارئ بشتى الوسائل الفنية، أنه يخوض حياة واقعية كالتي تجري كل يوم. ومما هو جدير بالذكر في هذا الصدد - وهي ملاحظة قد يعجب لها القارئ - أن «سكت» أبرع فنا وأروع تصويرا وأدنى إلى أوضاع القصة الصحيحة، ومقتضياتها في أشخاصه الذين خلقهم بخياله خلقا من عدم، منه في أشخاصه الذين استمدهم من بطون التاريخ، وهذا وحده أقوى دليل على أن واقعية التصوير، هي كل ما يطلبه الفن الصحيح، ولا عبرة بعد ذلك أكان الموضوع من خلق الخيال أو من حوادث التاريخ. على أن القصة الفنية الصحيحة تختار بطلها رجلا عاديا، ممن أهملتهم صحائف التاريخ ووثائقه؛ إذ ليست القصة بحاجة إلى الرجوع إلى الماضي، لانتقاء أبطالها من بين أعلام التاريخ، وأولى لها أن تقصد إلى تصوير هؤلاء الناس الذين نعيش بينهم. أضف إلى ذلك أن معرفة الدقائق التي أحاطت بحياة البطل التاريخي متعذرة أو مستحيلة، وهذه الدقائق هي لحمة القصة وسداها، فكلما أمعنت القصة في الماضي لاختيار موضوعها، كانت أبعد عن مجالها لبعدها عن جو الحياة بتفصيلاته وظروفه، وبذلك تبعد عن «الواقعية» المطلوبة. فلا عجب أن رأينا «سكت» أنجح في قصصه - التي لم تعد أول القرن الثامن عشر في رجوعها إلى الماضي - منه في قصصه التي اختار موضوعاتها من الماضي السحيق؛ فهو في قصته «ويفرلي
Waverly » التي يختار لها عنوانا ثانويا «منذ ستين عاما»، كان موفقا في فنه؛ لأنه استطاع أن يستعيد جو الحياة التي يحكي عنها، إذ لم تكن قد طواها الماضي البعيد فطمسها، بل كانت لا تزال ذكراها عالقة في ذاكرات الأحياء، لا سيما إن ذكرنا أن «سكت» من رجال العشائر والقبائل الأسكتلندية، التي تحتفظ بحقائق ماضيها زمنا طويلا. ومهما يكن من أمر فلا سبيل إلى الشك في أن الحياة المعاصرة القائمة هي ميدان القصصي؛ وذلك هو السبب في أن القصة، أحب فنون الأدب إلى الناس وأمسها بقلوبهم؛ لأن القصصي إنما يخاطب معاصريه بما يفهمونه ويألفونه. ولسنا - بطبيعة الحال - نريد لقصص «سكت» التاريخية أن يلقى بها في اليم أو أن ينتقص من قدرها وقيمتها، بل إننا - على نقيض ذلك - نعترف لها بسحر الفن وفتنته، ولا نضعها إلا بين روائع الأدب الخالدة، على ألا نضعها بين القصص؛ لأنها ليست منها. إنها لا تقع عند التبويب والتقسيم مع طائفة القصص النثرية، التي تعالج أمورا قاصرة على النثر، ولا يستطيع أداءها غير النثر، ولكن رحاب الأدب لن تضيق بها صدرا، فهنالك مكانها بين القصة النثرية وبين القصة الشعرية؛ لأنها لا إلى هذه ولا إلى تلك، بل تقع بين بين، تأخذ من الأولى نثرها ومن الثانية لون خيالها. وما أكثر ما تشتهي النفس، أن تطير في عالم الخيال على جناح النثر، في قصة من قبيل ما جادت به قريحة «سكت». لسنا نريد أن نحرم هذه الروائع، فكلها مطلوب لمتعة النفس التي تنشد الجمال، لكننا لا نحب خلط الأوضاع واضطراب الأقسام، فالقصة قصة لها خصائصها وسماتها، وليست مؤلفات «سكت» مما يتصف بتلك الخصائص والسمات، أم تظن أنه ما دام «المزمار البلدي» يمتعنا أحيانا أكثر من موسيقى «موزار»، فالمزمار البلدي وموسيقى «موزار» شيء واحد؟
كانت الغاية التي وضعها «سكت» نصب عينيه، وتمنى أن يبلغها بقصصه، هي أن يؤلف على نحو ما عناصر الخيال وعناصر الواقع في صعيد واحد، لكنه لم يصب توفيقا فيما أراد، فخير قصصه هي التي يسود فيها الروح الواقعي، وأما قصصه التي يسودها جو الخيال، فهي أدنى إلى «الحكايات» القديمة منها إلى القصص في فنها الحديث، وإذا وزنتها بميزان «الحكاية» لا «القصة» ألفيتها رائعة بارعة، وسر روعتها وبراعتها هو استخدامها للنثر، على نحو بلغ من جودة الفن مبلغا عظيما استطاع أن يخلع على الحوادث الخيالية العجيبة رداء فيه شبه بالواقع، لكنها رغم هذه البراعة تترك في قارئها أثرا قويا بأن هذا الذي يقرؤه لا يتم له الكمال إلا إذا جرت به يراعة شاعر؛ لأنه يحس أن الكلام الذي يطالعه كأنما ينقصه الوزن والقافية!
وشهد القرن التاسع عشر قصصيا عظيما أعقب «سكت»، وواجه المشكلة القصصية التي واجهت سلفه - بل التي واجهت القصة طوال القرن التاسع عشر - وهي أن يشبع في قصصه الجانبين جميعا؛ جانب الواقع وجانب الخيال؛ وذلك هو «دكنز»، فليس من شك في أن «دكنز» يعالج بقصصه العالم الواقعي كما هو، فلا تفوته بيوت الفقراء واللصوص وصغار الدكاكين. قصصه مرآة للحياة كما تجري وكما تبصرها عيناه، لكنه إذا ما صور الشخصيات مال إلى المبالغة، فبعد عن الواقع وضرب في عالم الخيال بسهم. إنه لا يصور رجاله ونساءه كما يشاهدهم في الحياة الحقيقية في مجموعها، بل يصورهم في لحظات من حياتهم يختارها، ثم يمط تلك اللحظات ويمدها حتى يجعل منها حياة بأكملها. فهذه شخصية «مستر مكوبر» يمثلها لك تنتظر الفرج دائما، ولا ينقطع عنها الأمل في انفراج الضائقة التي تلم بها، وهذه شخصية «مارك تابلي»، لا تنفك باسمة عن قلب طيب وميل إلى فعل الخير، وهكذا، فشخصياته «خيالية» وظروف الحياة التي يقدمها «واقعية» - وهذا ما يقصده رجال النقد حين يقولون عن «دكنز» إنه يمثل شخصياته تمثيلا «كاريكاتوريا»، ولا يرسمهم رسما يطابق الحق والواقع. وقد كان «ثاكري»
Thackeray
أكثر إخلاصا للفن القصصي من زميله «دكنز»، فهو لا ينظر إلى الحياة والأشخاص بمنظار وردي، يلون له الأشياء والأحياء على غير طبائعهم، وهو في الوقت نفسه لا ينظر إلى العالم بمنظار أسود، يبدي له هؤلاء الناس أتعس وأخبث مما هم في حقيقة الأمر؛ فهو من ناحية لا يجد «بطولة» في الحياة البشرية العادية، ولا تقتضيه أن يدير قصته حول «بطل»؛ ولذلك ترى قصته «عبث الحياة الدنيا
Vanity Fair » خالية من البطل، لكنه من ناحية أخرى يصور لك في هذه القصة شخصية «بكي شارب»، فتاة واقعية حقيقية تتحرك في دنيا الحق والواقع، لا تزيد منه ولا تنقص، ومع كل هذا الميل الشديد الذي أبداه «ثاكري»، نحو تصوير الواقع كما هو، تراه ينحرف آنا بعد آن، في عالم من الخيال البعيد عن دنيا الواقع، على شرط ألا يقلل ذلك الانحراف الخيالي من واقعية قصته، فلا عجب إن قرأت «عبث الحياة الدنيا»، فوجدت مناظر مستمدة من الحكايات القديمة، عن طرائق القتال التي جرى بها في تلك الحكايات، عرف ثابت وتقليد لا يتغير، فلم تكن الحكاية القديمة لتعالج غير المعارك واحتشاد الجيوش للقتال، ورفرفة الأعلام في حومات الوغى ودوي المدافع، والغواني وقد جلسن على مسمع من ذلك الدوي يرقبن في قلق ما عسى أن تتمخض عنه الواقعة. وإلى هذه المادة بعينها كان يرجع كل كاتب يحن إلى حكاية الماضي، فهكذا فعل «بيرن» في قصته الشعرية «تشيلد هارلد»، وهكذا صنع «ثاكري» في قصته «عبث الحياة الدنيا»، حين أدخل فيها تلك المناظر حينا بعد حين، وبهذا مزج ثاكري عنصر الخيال القديم بعنصر الواقعية الحديث، لكنه - كما ذكرنا - لم يأذن قط لعنصر الخيال أن يطغى، بل إنه ما استخدم الخيال، إلا ليعينه على الروح الواقعي الذي أراد تصويره.
Bog aan la aqoon