وكل طلعة مشغول بأمور الخلق ، فهو على الأرجح حسود بالفطرة؛ لأن استطلاع أحوال الخلق لا يعنيه في خاصة شئونه وأعماله، فهو يعنيه إذن للتطلع إلى الحظوظ والأقسام، ومن كان مشغولا بشئونه وأعماله فقلما يتسع له مجال للحسد والضغينة؛ لأن الحسد شعور فضولي جوال يتردد في الطرقات، ولا يأوي إلى المنازل، وأصاب من قال: «قلما يشغل أحد بالاستطلاع والتحري إلا وهو منطوي الصدر على كراهية وبغضاء.»
وقد لوحظ أن المعرقين في الحسب ينظرون بعين الحسد إلى النابغين في إبان صعودهم؛ لأن المسافة بينهم تتغير وتقترب، وما زال من خداع البصر أن يحسب أنه يتأخر كلما رأى غيره يتقدم إليه.
والمشوهون والخصيان والشيوخ والأنغال حاسدون؛ لأن اليائس من إصلاح حاله يبذل ما في وسعه لإفساد حال سواه، إلا أن تحيق تلك العيوب بنفوس طبعت على البطولة والرفعة، فتجعل تلك العيوب سببا من أسباب فخارها والثناء عليها، كما اتفق لبعض الخصيان والعرج أن تسمو بهم الهمم إلى خوارق الأعمال، ومنهم الخصي نارسس والأعرجان اجيسلاس وتيمور.
ويشاهد الحسد في أولئك الرجال الذين يرتفعون بعد النكبات والمصائب؛ لأنهم يسيئون الظن بالدنيا، ويرون أضرار الناس عوضا لهم عما تجشموه ...
والحسد من لوازم أولئك الذين يطمحون إلى التفوق في كثير من الأمور، طيشا منهم أو ولعا بالفخار الكاذب؛ لأنهم لا يعدمون سببا للحسد كلما تفوق عليهم أحد في مطلب من المطالب الكثيرة، التي يطمحون إليها، وكذلك كان الإمبراطور أدريان في جلالة سلطانه يحسد الشعراء والمصورين والحذاق في الصناعات التي كان يشتهي أن يتفوق فيها.
كذلك يشاهد الحسد بين الأقارب والزملاء والناشئين معا في بيئة واحدة، فهم يحسدون أمثالهم كلما جاوزوهم وارتفعوا عليهم، إذا كان هذا الارتفاع غاضا من حظوظهم موجها الأبصار إلى قصورهم وتخلفهم كثير الورود على خواطرهم والتنبيه لخواطر غيرهم. وما زال الحسد ينمو بالقيل والقال والشهرة التي تشغل البال، وقد كان حسد قابيل لأخيه أخس وألأم حين قبلت ضحيته، ولم يكن هنالك من ينظر إليه.
ذلك جملة ما يقال فيمن يحسدون.
أما الذين هم مستهدفون للحسد على كثرة أو قلة ، فأولهم أصحاب المزايا الخطيرة ... وهم كلما ثبتوا في مزاياهم قل حسد الحاسدين إياهم؛ لأن مزاياهم تلوح يومئذ كأنها حق من حقوقهم، وصفة لاصقة بتكوينهم، وقل في الناس من يحسد صاحب الدين إذا ظفر بدينه، وإنما يوكل الحسد بالغنائم والمكافآت.
كذلك يوكل الحسد بالمقارنة، فلا حسد حيث لا مقارنة؛ ولهذا لا يحسد الملوك إلا الملوك.
وعلى هذا يلاحظ أن الذين لا خلاق لهم إنما يحسدون في أوائل ظهورهم، ثم يضعف الحسد لهم بعد ذلك، وهو خلاف ما يلاحظ في أمر الأكفاء وذوي الجدارة، فإنهم كلما دامت لهم حظوظهم تفاقم حسد الحاسدين إياهم، إذ يسهل إنكار فضلهم مع بقائه، كما كان بعد بزوغ الحظوظ الأخرى التي تغض من حقوقهم.
Bog aan la aqoon