فن السيرة
فن السيرة
Daabacaha
دار الثقافة
Lambarka Daabacaadda
٢
Noocyada
مقدمة
كنت، وما أزال، أومن بأن الحديث في السيرة، والسيرة الذاتية، يتناول جانبًا من الأدب العربي عامرًا بالحياة، نابضًا بالقوة، وإن هذا اللون من الدراسة يصل أدبنا بتاريخ الحضارة العربية، وتيار الفكر العربية والنفسية العربية، لأنه صورة للتجربة الصادقة الحية التي أخذنا نتلمس مظاهرها المختلفة في أدبنا عامة، فنجدها واضحة في الفهم النفسي والاجتماعي عند الجاحظ وأبي حيان وابن خلدون، ونلقاها في رحلة ابن جبير وأحسن التقاسيم وصورة الأرض، ونستقريها في سخرية المازني والشدياق وثورة جبران والمعري، فإذا جئت اليوم أعرض سيرة صلاح الدين لابن شداد، أو سيرة ابن طولون للبلوي، أو الصراع الروحي في المنقذ من الضلال، أو الصلابة في نفسية ابن خلدون
1 / 1
أو الشجاعة المؤمنة بمصيرها في مذكرات أسامة، فإنما أحاول أن أنقذ إلى جانب من تلك التجربة الحية، وأضع مفهومًا أوسع لمهمة الأدب؛ ذلك لأن الأشخاص الذين يصلوننا بأنفسهم وتجاربهم هم الذين ينيرون أمامنا الماضي والمستقبل، أما أولئك الذين يذهبون بنا في شعاب من الصنعة " الرسمية " فإنهم يستنزفون جهودنا على غير طائل، وينقلون تفاهة الماضي الذي عاشوا فيه إلى حاضرنا الذي نرجوه لما هو أجدى.
فوراء هذه الفصول التي كتبتها رغبة ذاتية مخلصة في أن أعرض موضوعًا أحببته وعشت في تجارب أصحابه مدة من الزمن. ولشغفي بتلك التجارب، استكثرت من الأمثلة، وخاصة حين عرضت للسير الذاتية في الأدب العربي، وإنما أريد لأبقي تلك الأمثلة حية في النفوس، ولأقرب الشقة بين القارئ ومصادر يظنها صلبة عند المضغ، عسرة على الهضم. وقد بنيت هذه الدراسة على الاختيار فلم أثقل على القارئ بتصنيف معاجم السير وكتب الطبقات، فهذا على أنه خارج عن مفهوم السيرة الفنية، إنما مكانه كتب الفهارس العامة، والتعاليق الخاصة عن الشيوخ. واقتصرت على كتب وأمثلة يسهل الحصول عليها، لعلمي بإن المخطوط من السير، وهو قدر كبير، لا يتيسر لكل قارئ.
ومزجت بين العرض التاريخي والتحليل غير المستقصي لبعض النماذج، مقسمًا نظرتي في السير بين الأدب العربي والأدب الغربي
1 / 2
- والإنجليزي خاصة؟ لا طلبًا للمقارنة وإنما من أجل شمول النظرة وتنويع الأمثلة وتطعيم الدراسة.
على إن مثل هذه الدراسة المزدوجة خليق أيضًا أن يبعث على المقارنة الصحيحة فلا ضير في أن يستنتج القارئ تفوق الآداب الغربية على الأدب العربي في فن السير والتراجم الشخصية فذلك حافز على العمل، ولا بأس أن يجد إن خير سيرة كتبت في أدبنا الحديث إنما كتبها من كان مغموس النفس في أدب الغرب لا من كان ممسوحًا به في الظاهر؛ ولا ينقص من قدر السيرة لدينا إذا عرفنا أن خط التطور في السيرة بالغرب أوضح منه في الشرق. خضوعًا للتغير في القاعدة الاجتماعية؛ فبعد النهضة وبزوغ الروح الديمقراطية أخذ الكتاب؟ مثلًا؟ يكتبون سيرة العاديين من الناس ولا يكتفون بكتابة سير الملوك والقديسين. ولكن البيئة العربية لم تكن، فيما يبدو، بحاجة إلى هذا التطور، فإن مؤرخًا مثل ابن زولاق، يكتب سيرة سيبويه المصري، وهو أحد عقلاء المجانين، بنفس الاهتمام الذي يكتب به سيرة ابن طولون والأخشيد في دور مبكر من تاريخ السيرة.
وإني لأعلم أن الاتجاه في الحياة المعاصرة، أخذ يتشكل نحو الجماعة بخطى سريعة، وهذا قد يقلل من تقديس الأبطال، ويخمل دور الفرد في الحياة، ويغير مفهومات الناس عن قيمة ذلك الدور، ومن ثم تقل الرغبة في السير عامة، ولكننا نسيء إلى روح الجماعة إذا اعتقدنا أن التجربة الفردية لا قيمة لها، فقد
1 / 3
تزول عبادة الأبطال من النفوس، وقد يفقد الفرد معنى التفرد الأناني، ولكن شيئًا واحدًا لا يزول هو هذه التجارب الحية، وطريقة التعبير عنها؛ وكل ما سيحدث إن المفهومات الجماعية ستنعكس على تلك التجارب وتصبغها بلون جديد.
فإن استطاعت هذه الفصول أن تحبب إلى القراء العودة إلى كتب السير والتراجم الذاتية، والتوفر على قراءتها، فقد أدت مهمتها، وإن استطاعت أن تصل بينهم وبينها بسبب، ولو كان سببًا من المعرفة العابرة، فإنها أيضًا لم تذهب عبثًا ولم يكن الجهد فيها مضيعًا.
بيروت في أول حزيران (يونيو) ١٩٥٦ إحسان عباس
1 / 4
١ - تاريخ السير عند المسلمين
القدرة على الإحساس بالتاريخ، كسائر المزايا الإنسانية، موطن للتفاوت بين الأفراد، ومجال تتباين فيه الجماعات والأمم. وقد يقنعنا اشبنجلر (١) Spengle وهو يحاول أن يثبت هذه الميزة لأمة كالمصريين القدماء، وينفيها أو يقلل من أثرها في عالم الحضارة الكلاسيكية؟ اليونانية والرومانية؛ فالأمة التي تحرق جثث رجالها، ولا تعنى بتسجيل أعمالهم، وإذا مضى على وفاة أحد عظمائها ستون سنة لم تستطع أن تتحقق إن كان ذلك العظيم شخصية تاريخية أو خرافية، لهي أمة؟ فيما يراه اشبنجلر؟ ضعيفة الإحساس بالتاريخ؛ كذلك كانت الأمة
_________
(١) Spengler: The Decline of the West، vol، ١، pp. ١٣، ١٤.
1 / 7
اليونانية تتخذ تماثيلها من أبطال الأساطير، ولم يحاول أي عظيم فيها أن يكتب مذكرات تعين عينه الداخلية على تركيز شيء من وجوه التجربة، فلم يحدثنا سقراط نفسه عن حياته الذاتية بشيء ذي قيمة، وليس عند أفلاطون تطور واعٍ للأفكار والمبادئ، وكتبه ليست إلا نظرات متباينة من زوايا مختلفة. أما الجماعة التي تعيش في ماضيها ومستقبلها وتدور حياتها على التخليد والتأبيد، وتسجل سير رجالها على الجدران وفي أوراق البردي وتتخذ مادة تماثيلها من حجارة شديدة الصلابة كالبازلت والجرانيت، فإن إحساسها بالتاريخ عميق دقيق.
ويرد مؤرخ آخر (١) هذا الرأي وينكر الإحساس الدقيق بالتاريخ عند المصريين القدماء لأنهم كانوا يتصورون عالمهم ثابتًا لا يتغير، انبثق من يد الإله خلقًا سويًا كاملًا، فلم تعد الأحداث التاريخية فيه الاهتزازات سطحية في نظام مقرر مستقر؛ وكل شيء في الحضارة المصرية من تأليه للحيوانات والملوك، ومن أهرام وتحنيط، ومن أمثال وحكم، وأشكال من الشعر والفن؟ كل شيء من هذه المظاهر الحضارية يدل على أن الثابت كان في نظرهم هو الشيء الهام الحافل بالقيم، وإن ليس من قيمة للماضي والمستقبل إلا بمقدار تجسد الحاضر لهما.
غير أن هذا الخلاف بين العلماء في تمثيل الإحساس بالتاريخ
_________
(١) Frankfort، H.: the Birth of Civilization pp. ٢٩، ٢١.
1 / 8
عند أمة وأخرى، لن يطمس حقيقة هامة، وهي أن ذلك الحس التاريخي هو الأب المنجب للسير يوم كانت السير جزءًا من التاريخ، ويوم كانت حياة الفرد تمثل جانبًا هامًا من تصور الناس للتاريخ، وإيمانهم بإن الفرد هو الذي يكيف الأحداث ويرسم الخطط، ويقوم بالتفكير والتنفيذ، وتتضاءل إلى جانبه؟ أعني جانب الفرد العظيم؟ كل حقيقة أرضية أخرى.
ففي أحضان التاريخ؟ إذن؟ نشأت السيرة وترعرعت، واتخذت سمتًا واضحًا، وتأثرت بمفهومات الناس عنه على مر العصور، وتشكلت بحسب تلك المفهومات، فكانت تسجيلًا للأعمال والأحداث والحروب المتصلة بالملوك عند الصينيين والمصريين والآشوريين، وكانت تفسيرًا لبعض المبادئ السياسية عند فلوطارخس Plutarch في كتابه عن عظماء اليونان والرومان؛ وربما نجح فلوطارخس في السيرة نجاحًا أوفى لو أنه قلل الالتفات إلى تصوير حقبة كاملة وزاد من اهتمامه بحركات الأشخاص أنفسهم.
حتى إذا تغيرت النظرة إلى التاريخ وأصبحت له فلسفة خاصة، أخذ بعض الباحثين المحدثين يتساءل: أحقًا أن السيرة جزء من التاريخ؟ وقد أنكر الأستاذ كولنجوود (١) " Collingwood " اعتبار السيرة كذلك، لأنها تفقد القاعدة
_________
(١) The Idea of History، p. ٣٠٤.
1 / 9
الصحيحة التي يقوم التاريخ عليها، فحدود السيرة هي الأحداث البيولوجية الواقعة بين ولادة شخص وموته، من طفولة ونضج وأمراض وغيرها، فهي صورة للوجود الحيواني الجسماني، وقد يرتبط بها كثير من العواطف الإنسانية، ولكن هذا كله ليس تاريخًا. وإلى مثل هذا يذهب توينبي (١) Toynbee أيضًا فهو يخرج من دائرة التاريخ ما يتصل بالسير الذاتية كاعترافات القديس اوغسطين وروسو، أو حياة الملكة فكتوريا لستراتشي ويقول: إن هذه الكتب تشتبك بالتاريخ لأنها تدور حول أناس لهم قيمتهم في الحياة الاجتماعية، فللقديس اوغسطين مثلًا أثره العميق في الكنيسة المسيحية، ولأفكار روسو أثر في نقل العالم الحديث إلى عالم أحدث، وحيوات هؤلاء الناس هامة في نظر الآخرين، لما كان لهم من ميزة تاريخية وميزة فردية. فإذا علقنا التاريخ بالسيرة وقعنا في الخطأ من حيث الطريقة. ويثني توينبي على ما حققه ليتون ستراتشي في سيرة الملكة فكتوريا لأنه استطاع أن ينتزع تاريخها الفردي من حياة العصر الذي عاشت فيه.
على أنا إذا استبعدنا هذه النظرة الحديثة في فهم التاريخ، وجدنا أن السيرة كانت من ناحية عملية تاريخًا في نشأتها وغايتها، وإننا حين نريد أن نقيسها بمقياس جديد نستطيع أن نقول (٢):
_________
(١) A Study of History. Vol. I. pp.٤٤٧ - ٤٨.
(٢) Shotwell: The History of History، p. ٧.
1 / 10
كلما كانت السيرة تعرض للفرد في نطاق المجتمع، وتعرض أعماله متصلة بالأحداث العامة أو منعكسة منها أو متأثرة بها فإن السيرة؟ في هذا الوضع؟ تحقق غاية تاريخية؛ وكلما كانت السيرة تجتزئ بالفرد، وتفصله عن مجتمعه، وتجعله الحقيقة الوحيدة الكبرى، وتنظر إلى كل ما يصدر عنه نظرة مستقلة، فإن صلتها بالتاريخ تكون واهية ضعيفة.
وكثيرًا ما ابتعدت السيرة عن هذا الأصل التاريخي، وحين أصبحت غايتها تعليمية أو أخلاقية. وقد تمخضت الاتجاهات الدينية؟ والزهدية منها بوجه خاص؟ عن هذا الانحراف بالسيرة، فكتابة سيرة القديس انتوني، أو سير الآباء في صحراء مصر، أو سيرة القديسة كولمبا أو غيرها من القديسات والقديسين إنما كانت تمليها غايات أخلاقية خالصة. وقد كثر هذا اللون من السير في أدب أوربا المسيحية بالقرون الوسطى حتى غلب على ما عداه. على إن هنا موطنًا يحسن التنبه له وهو إن علم الأخبار؟ أو التاريخ نفسه؟ كان في القرون الوسطى يخدم غاية خلقية حتى عند مؤرخ شامل النظرة عميق الفلسفة كابن خلدون، فإن الغاية من التاريخ عنده هي الكشف عن القدوة الحسنة، وتجنب المزالق والاعتبار بأخطاء الماضي. وكذلك هي غاية التاريخ عند رجل يعكس الأثر الديني العميق مثل ابن حزم، فهو ينصح المتعلم بقراءة التاريخ، " ليقف على حمد
1 / 11
المتقين للفضائل فيرغب فيها ويسمع ذمهم للرذائل فيكرهها " (١)؛ وتلك هي الغاية التي يصادفها كل من يطالع " الإعلان بالتوبيخ " للسخاوي حيث جمع المؤلف مقدمات الكتب التاريخية التي يتحدث فيها المؤرخون عن حد التاريخ وغاياته وفوائده، ويكفي أن أنقل هنا قول ابن الجوزي في مقدمة شذور العقود: " إن التواريخ وذكر السير راحة للقلب وجلاء للهم وتنبيه للعقل فإنه ... إن شرحت سيرة حازم علمت حسن التدبير، وإن قصت قصة مفرط خوفت من إهمال الحزم " (٢) . وفي قول ابن الجوزي دلالة دقيقة وهي اعتقاده أن التاريخ ليس إلا مجموعة متنوعة من السير.
ولم تكن الغاية الخلقية معدومة في نشأة التاريخ والسير عند المسلمين؛ فإن القرآن الكريم؟ وهو الذي عمق الإحساس التاريخي عند العرب حين قص عليهم قصص الأمم الخالية، وحين وصلهم بالأمم وجعل تاريخ الخليقة مجالًا لنظرهم؟ إن القرآن حين فعل ذلك كله، كان يهدف إلى إثارة العبرة في نفوسهم؛ ولكن من المدهش حقًا إن هذه الغاية الخلقية كانت أضعف المظاهر حين بدأ المسلمون بكتابة السير، وقد بدأوها بكتابة سيرة الرسول، وكان هذا البدء يشير إلى درس أخلاقي عميق في حياتهم، لو شاءوا أن يتخذوا سيرة الرسول لتلك
_________
(١) رسائل ابن حزم: ٧١.
(٢) الإعلان: ٢١.
1 / 12
الغاية، ولكنهم لم يفعلوا بل كتبوا سيرته تحت مؤثرات أخرى، نفرد منها بالتمييز عاملين كبيرين: الأول أن سيرة الرسول جزء من السنة، فهي والحديث مصدران هامان من مصادر التشريع، ومنهما تستفاد الأحكام، ولذلك فلابد من جلائها في دقة بالغة، لكي تكون أعماله؟ إلى جانب أقواله؟ مشرعًا واضحًا لرجال الشريعة وأهل الإفتاء والقضاء. والثاني: إن المسلمين كانوا قد ورثوا نظرة الجاهلية إلى التاريخ، وهي نظرة قائمة على " الأيام " وطبيعة الحرب وشؤون القتال، ولذلك أهتم كتاب السير قبل كل شيء، بمغازي الرسول وتصوير ذلك الدور الحربي الذي أدى إلى انتصار المسلمين في النهاية، ولم يكن هذا محض تقليد لنظرة الجاهليين بل كان في مستلزمات الجماعة الإسلامية ما يؤيده ويدعو إليه ذلك لأن الفتوحات الإسلامية التي انبثقت عن انتصار الإسلام في الجزيرة، كانت في حاجة إلى سند من سنة الرسول في هذا المجال: كيف يعامل الأسرى والنساء والأطفال ويقسم الفيء، وهل يروى عن الرسول ما يوضح فنون الحصار، وهل تبيح الأعمال الحربية قطع الشجر وتخريب الزروع وقطع المؤن ليلجأ العدو إلى التسليم، وماذا فعل الرسول بالاقطاعات، وعلى أي شيء من الأحكام تحتوي كتبه التي كتبها لوفود العرب جماعات وأفرادًا؟؟ كان المظهر الأكبر للإسلام هو الجهاد، وإذن فلا غرابة إذا رأينا " السيرة " على يد موسى بن عقبة وابن شهاب
1 / 13
الزهري وغيرهما، ثم على يد ابن إسحاق وريث كتاب المغازي الولين تسجيلًا دقيقًا للمعارك الحربية وما دار فيها من فنون.
وبتأثير العاملين معًا، عدت السيرة جزءًا من الحديث تخضع لأحكام الإسناد خضوعًا دقيقًا، فهي على هذا ليست رواية منطلقة مسترسلة، ولكنها روايات متفرقة مقيدة؛ يجمعها موضوع واحد، ويعوق الإسناد رواتها عن التفسير والتحليل، لأن جهد كاتبيها منصرف إلى الصدق في الخبر؛ ولسنا بسبيل التحدث عن أثر الحديث في طريقة التأليف عند المسلمين أو في اتجاهاتهم ودراستهم، وإنما يستطيع الباحث أن يشير إلى أن الاعتماد على الإسناد ظل بالغ الأثر في تلك الكتب التي ألفت عن الرجال وهي كتب الطبقات والتراجم، التي يمكن أن تعد بحق أغزر نوع من المؤلفات عند المسلمين، وربما لم يتح لأمة أخرى أن تعنى بتأليف المعاجم عن الرجال كما عني المؤلفون المسلمون بها، وتنوعت تلك اكتب وتعددت على مدى العصور حتى أصبح حصرها عبثًا معجزًا. فهنالك معجمات تفرد أصحاب كل علم من نحو وأدب وشعر وفقه وحديث وتصوف وقراءة، وتفرد أهل كل مذهب من شافعية وحنفية ومالكية وحنابلة، ومعجمات محصورة في البلدان كتاريخ بغداد للخطيب وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ أصفهان لأبي نعيم وليست هذه التواريخ إلا تراجم للرجال المشهورين من علماء كل بلد. وهناك الكتب المتسلسلة التي يذيل بها التالي على عمل من تقدمه فيتيمة الدهر
1 / 14
ذيل على البارع، ودمية القصر ذيل اليتيمة، والخريدة ذيل على الدمية؛ وهناك سلسلة في علماء الأندلس تبدأ بجذوة المقتبس للحميدي وتتلوها بغية الملتمس للضبي ثم الصلة لابن بشكوال فالتكملة لابن الأبار وتكملة التكملة وهكذا. وهذه الظاهرة؟ أي اتصال العمل في حقل واحد؟ قل أن تجد لها مثيلًا إلا في بعض التاريخ الكنسي عند المسيحيين. ومن طرائف الأندلس في بعض التاريخ الكنسي عند المسيحيين. ومن طرائف الأندلس إن عائلة واحدة بني سعيد توارثت صنع كتاب واحد هو كتاب " المغرب " في ترجمة رجال الأندلس بعد أن وضع الحجاري أصوله الأولى.
وقد بدأ ابن سعد التقسين البلداني في الطبقات الكبير حين ترجم (١) للصحابة وكبار التابعين حسب الأمصار التي لحقوا بها أو عاشوا فيها؛ ونظرة واحدة إلى كتابة أو إلى تاريخ بغداد، وتاريخ أصفهان تدل على أن القوة الموجهة لهذه التراجم هي السنة عامة؟ أو علم الحديث خاصة.
هذه لمحة صغيرة جدًا عن انشغال المسلمين بكتب الطبقات والتراجم، وهي معاجم للسير، تطول وتقصر وربما تضاءل الخبر فيها إلى جانب الإسناد.
_________
(١) استعملت كلمة ترجمة في هذه الدراسة مرادفة لكلمة سيرة. وقد ألفت كتب مستقلة عنونت بهذه الكلمة في سير بعض الأشخاص وأخبارهم مثل " ترجمة البلقيني " " وترجمة السلفي " وكتب السيوطي ترجمة النووي والبلقيني في أربع ورقات وربما كانت الترجمة تشير هنا إلى السيرة الموجزة.
1 / 15
غير أن السير المستقلة؟ وهي الموضوع الذي يهمنا في هذا المقام؟ تخلصت في وقت مبكر من أثر الإسناد، وهذا هو ما فعله ابن إسحاق في السيرة، ولذلك حل عليه غضب مدرسة المدينة يومئذٍ وعلى رأسها مالك بن أنس، فقد وسع ابن إسحاق المجال للشعر المنحول وغير المنحول، واتهمه النقاد بإنه أفسد الشعر وقبل في نطاق السيرة روايات عن أهل الكتاب وكان يسميهم أهل العلم الأول (١) . وحاول أن يتخلص من الإسناد، وبالجملة كان ابن إسحاق صورة للمؤرخ الذي يستطيع أن يتحلل من طبيعة القصص الجاهلي والأيام، فجاءت السيرة لونًا جديدًا في التأليف، وأصبحت هي المصدر الأول عند المسلمين لفهم حياة الرسول وأعماله. ونستطيع أن ندرك قيمة ابن إسحاق في تاريخ السير عند المسلمين إذا نحن عرفنا أن ما كتب بعده لم يختلف كثيرًا في جوهره عما كتبه. وقد تعد سيرة ابن إسحاق، والسيرة التي بنى منها ابن سعد الجزأين الأولين من كتاب الطبقات، ومغازي الواقدي، والسيرة التي كتبها البلاذري في أول كتابه " انساب الأشراف "؟ أساسًا للمعلومات المقررة المقبولة عن حياة الرسول وأعماله، أما ما كتب بعد ذلك، فإنه كان في أكثره جمعًا لروايات مختلفة أو قبولًا لبعض الأساطير المتأخرة، وربما كان أيضًا شرحًا لبعض الألفاظ والمناسبات، أو نظمًا لأحداث السيرة أو تلخيصًا لها. فقد كان كتاب
_________
(١) ابن النديم: ٩٢.
1 / 16
السهيلي " الروض الأنف " شرحًا للسيرة، وكتاب " السيرة الحلبية " مجالًا للأساطير التي نشأت في الأيام المتأخرة، وكتاب سيرة ابن سيد الناس تركيزًا للمعلومات الهامة، وضبطًا للأعلام وأسماء الأماكن، وإمتاع الأسماع للمقريزي تلخيصًا لجميع " أحوال الرسول "، ولكنه تلخيص رجل عارف بحدود موضوعه وإن لم يسلم فيه من المآخذ. وقد أضفت الكتب المتأخرة نوعًا من التقديس على شخصية الرسول لا يلمح في المصادر الأولى، ويظهر الرسول في أكثر الروايات المبكرة كما صوره القرآن " قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولًا "، ثم انصرف الكاتبون في السيرة إلى تدوين دلائل النبوة وشمائل النبي، وبذلك أخذت العناصر التاريخية تتضاءل أمام الغايات الخلقية في كتابة السيرة، واتجه كتاب " الدلائل " من أمثال أبي نعيم والبيهقي، ومؤلفو أعلام النبوة كالسجستاني والماوردي إلى إثبات ما يمكن من المعجزات ونسبتها للنبي.
وتستطيع أن تقول إن هذا الاتجاه حدث تحت ضغط اتجاهات جديدة في العالم الإسلامي، وفي مقدمتها تلك النزعة الزهدية التي أدت إلى التصوف، فقد أصبح الرسول هو الزاهد الأعظم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل أصبح عند المتطرفين من الصوفية هو " الكلمة "؟ خلق أول كل شيء ومن أجله خلق كل شيء؟ وتمثل كل فريق شخصيته من خلال المعتقدات التي يدن بها، ولم تبق شخصية الرسول على وجه قريب مما
1 / 17
صورته السير الأولى، إلا عند المتمسكين بالحديث، فإنهم على شعورهم بعظمته، ظلوا ينظرون إليه من خلال ما صح من الأحاديث.
ويتبين لنا أن الزمن رفع الغاية الخلقية إلى موضع الصدارة، فأصبحت السير تكتب بدافع من النزعات الأخلاقية، وعلى مر العصور ستجد أن جانبًا من السير قد أصبح مجموعة من الحكم والأمثال والأعمال الفاضلة التي تصدر عن أحد الناس، وتقترن الفضيلة في هذه السير بالزهد، ولذلك فإن أوائل السير التي كتبت تناولت أمثال شخصية عمر بن عبد العزيز ومالك بن دينار؛ تأمل سيرة عمر بن عبد العزيز مثلًا، وهو رمز كبير للتقوى والزهد في العالم الإسلامي، تجد أن كثيرين قد توفروا على كتابتها في العصور المختلفة فأفردها بالتأليف بقي بن مخلد، والآجري وابن عبد الحكم وعبد الغني بن عبد الواحد المقدسي، وابن الجوزي والذهبي. وقد أصبح هذا النوع من السير مجموعة من " المناقب " (١) والأقوال، يتأدب بها المتأدبون، ويستغلها الواعظون في استمالة القلوب إلى الخير.
وكثير من هذه السير، حين فقد العنصر التاريخي بانتزاع الفرد من مجتمعه، وتصوير حياته " الجسيمة والروحية " من مولده إلى وفاته، لم يتشح بالعنصر الأدبي إلا قليلًا، وظل
_________
(١) الجواهر والدرر للسخاوي ص ٥١١ Mus. Historiography.
1 / 18
أخبارًا فردية محدودة أقرب إلى طبيعة الأخبار الخاصة التي يراد منها الفائدة العامة. وبين يدينا من أمثلة هذه السير، " سيرة الحسن البصري " لابن الجوزي، فهو كتاب خلاصته ما قاله الحسن من مواعظ ابتداء، وما أجاب به على ما وجه إليه من أقوال أو ملاحظ أو أسئلة. ولو نزعت اسم الحسن ووضعت في مكان اسمه ابن سبرين أو مالك بن دينار، أو أبا حازم الأعرج لصح ذلك لأن المقصود هو التأثير في الناس بهذه الأقوال دون نظر إلى شخصية الحسن، أو إلى مكانه من عصره. ولم تفقد هذه السيرة كل ميزة بفقدانها للوشيجة التاريخية والأدبية، فإن كثيرًا منها ظل يحقق الغاية الأدبية عن طريق التأثير الإيحائي، فكأنه كان بذلك أكثر تشبثًا بالقيمة الأدبية من سائر أدب الوعظ كالخطبة والقصيدة الحكمية، لأن مثل هذه الأنواع ظل جافيًا في شكله الأدبي المصطنع، تنقصه القدرة على الإيحاء.
وليس معنى هذا أن اللون التاريخي من السيرة قد انقطع، بل الفضل في بقائه للإحساس القوي بالتاريخ، ولتلك النزعة الدنيوية التي حالت بين المؤرخ وبين أن يصبح واعظًا. وظلت السيرة التاريخية تمثل أقوى نوع من السير عند المسلمين، أما السيرة ذات الطابع الأدبي، فقد بقيت مهملة لم تعالجها الأقلام، وإن المرء ليؤسفه أن يمضي عن كتاب كبار من ذوي الإحساس الدقيق بالشخصيات والأحداث والتجارب، فلا يجد لهم أثرًا واضحًا متميزًا في هذه الناحية. فقد مر الجاحظ عن هذا اللون
1 / 19
من الأدب دون أن يعالجه، ولم يقف أبو حيان التوحيدي عنده إلا قليلًا. وكلا الرجلين كان نافذ البصر في طبائع الناس وأحوال المجتمع، أما الجاحظ فانصرف إلى الحكايات التصويرية لنواحي الأخلاق والسلوك في جانبي الاستقامة والشذوذ، وأما أبو حيان فاكتفى " بالرسائل الصغيرة " في ترجمة الأشخاص، منتحيًا أسلوبًا فنيًا حيويًا عامرًا بالفتات الدقيقة، أسلوبًا ربما لم يرزق مثله أحد من قبله أو من بعده قوة وأصالة وجمالًا. وفضلًا عن هذا كله كان أبو حيان يتفرد بميزتين: الأولى ذلك الخيال اللازم لربط أجزاء السيرة في وحدة كاملة، وهو خيال يضع الكلمة اللازمة والحوار الضروري في كل موقف إذا قصر الواقع، ولا يهتم بالصيغة الأصلية للخبر إلا بمقدار. وهي مقدرة قصصية لا تستغني عنها السيرة حين يراد لها أن تكون أدبية. وأما الميزة الثانية فهي فهمه الدقيق لموقف كاتب السيرة في عدم تحيزه وفي ميله دائمًا إلى الإنصاف. وهذا أصل هام صوره أبو حيان بدقة حين سأله الوزير ابن سعدان أن يحدثه عن أخلاق الصاحب ابن عباد ومذهبه وعادته فقال أبو حيان وكانت آماله قد خابت عند الصاحب ورجع عليه ناقمًا مشيعًا لمساوئه: " إني رجل مظلوم من جهته وعاتب عليه في معاملتي وشديد الغيظ لحرماني وإن وصفته أربيت منتصفًا، وانتصفت منه مسرفًا فلو كنت معتدل الحال بين الرضى والغضب أو عاريًا منهما
1 / 20
جملة، كان الواصف أصدق والصدق به أخلق " (١) وهذا كلام حقيق أن يجعل أساسًا من الأسس الضرورية في كتابة السير.
غير أن أبا حيان كتب " مثالب الوزيرين "، وهو أقرب كتبه إلى السيرة الأدبية، لم يستطع أن يخنق صوت الحقد والغيظ في نفسه، وإذا كان قد حاول شيئًا من الإنصاف والاعتذار فقد أخفق في أن يمحو من الأذهان تحيزه السافر. وحين تحدث عن الصاحب في " الإمتاع "، رسم له صورة هي الغاية التي يطمح إليها كتاب السير، ومع أنها أعلق بباب الذم إلا أن سمة الإنصاف لائحة عليها. قال يصور جانبًا من شخصية الصاحب: (٢)
" قلت: إن الرجل كثير المحفوظ، حاضر الجواب، فصيح اللسان، قد نتف من كل أدب خفيف أشياء، وأخذ من كل فن أطرافًا. والغالب عليه كلام المتكلمين المعتزلة، وكتابته مهجنة بطرائفهم ومناظرته مشوبة بعبارة الكتاب، وهو شديد التعصب على أهل الحكمة والناظرين في أجزائها كالهندسة والطب والتنجيم والموسيقى والمنطق والعدد، وليس عنده بالجزء الإلهي خبر، ولا له فيه عين ولا أثر، وهو حسن القيام بالعروض والقوافي ويقول الشعر، وليس بذاك، وفي بديهته غزارة، وأما رويته فخوارة، وطالعه الجوزاء والشعرى قريبة منه، ويتشيع لمذهب أبي حنيفة ومقالة الزيدية، ولا يرجع إلى الرقة والرأفة
_________
(١) الإمتاع ١: ٥٣ - ٥٤.
(٢) الإمتاع ١: ٥٤ وما بعدها.
1 / 21
والرحمة، والناس كلهم محجمون عنه لجرأته وسلاطته واقتداره وبسطته. شديد العقاب، طفيف الثواب، طويل العتاب، بذيء اللسان، يعطي كثيرًا قليلًا (أعني يعطي الكثير القليل) مغلوب بحرارة الرأس، سريع الغضب، بعيد الفيئة قريب الطيرة، حسود حقود حديد. وحسده وقف على أهل الفضل، وحقده سار إلى أهل الكفاية، أما الكتاب والمتصرفون فيخافون سطوته، وأما المنتجعون فيخافون جفوته. وقد قتل خلقًا وأهلك ناسًا ونفى أمة، نخوة وتعنتًا وتجبرًا وزهوًا، وهو مع هذا يخدعه الصبي ويخلبه الغبي، لأن المدخل عليه واسع، والمأتى إليه سهل، وذلك بأن يقال: مولانا يتقدم بأن أعار شيئًا من كلامه، ورسائل منثوره ومنظومه. فما جبت الأرض إليه من فرغانة ومصر وتفليس. إلا لأستفيد من كلامه وأفصح به وأتعلم البلاغة منه. لكأنما رسائل مولانا سور قرآن، وفقره فيها آيات فرقان، واحتجابه من ابتدائها إلى انتهائها برهان فوق برهان، فسبحان من جمع العالم في واحد، وأبرز جميع قدرته في شخص. فيلين عند ذلك ويذوب ويلهى عن كل مهم له، وينسى كل فريضة عليه ويتقدم إلى الخازن بأن يخرج إليه رسائله مع الورق والورق، ويسهل له الإذن عليه والوصول إليه والتمكن من مجلسه، فهذا هذا.
ثم يعمل في أوقات كالعيد والفصل شعرًا ويدفعه إلى أبي عيسى المنجم ويقول: قد نحلتك هذه القصيدة، امدحني بها في
1 / 22