Fiqh of Disagreement and Its Impact on Eliminating Terrorism
فقه الخلاف وأثره في القضاء على الإرهاب
Daabacaha
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
Noocyada
فقه الخلاف وأثره في القضاء على الإرهاب إعداد
د. يوسف بن عبد الله الشبيلي
الأستاذ المساعد بقسم الفقه المقارن
بالمعهد العالي للقضاء
بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن الله بعث نبيه محمدًا ﷺ بالشريعة الغراء، والملة السمحاء، والحنيفية البيضاء، ومن سمات هذه الشريعة أنها شريعة خاتمة لكل الشرائع، وعامة لكل الناس، وشاملة لكل نواحي الحياة، فما تركت شيئًا مما يحتاج إليه الناس إلا وبينت لنا وجه الحق فيه، ودلتنا على خير ما يصلح لنا ديننا ودنيانا، وحذرتنا من كل ما تعود عاقبته وبالًا علينا، يقول تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾ (الأنعام:٣٨) .
1 / 1
وإن من أهم القضايا التي عالجها الإسلام قضية الإرهاب، تلك القضية التي أضحت البشرية تعاني منها أشد المعاناة، وذاقت بسببها الويلات، فلم تعد تمارس على مستوى الأفراد فحسب، بل على مستوى الدول والجماعات والمنظمات، وكان المسلمون هم الضحية الأولى لهذه الظاهرة، حيث تنتهك حقوقهم، وتسلب أموالهم، وتزهق أرواحهم، في ظل ما يسمى ب " مكافحة الإرهاب ".
وقد حذر الإسلام أتباعه من الانزلاق في هذه المزلة الخطيرة، ووضع السياجات الحصينة التي تحميهم من الوقوع فيها، فجاءت النصوص الشرعية بالتحذير من الغلو في الدين، والانحراف في فهم نصوص الشرع الحكيم.
1 / 2
ولعل من أهم أسباب الانحراف في هذا الباب عند المسلمين الجهل بفقه الخلاف وآدابه، حيث يحل العنف في مسائل اجتهادية محل الحوار، وتظهر المنابذة في أمور تقتضي الصفح والوئام، وربما أدى الأمر في بعض الحالات إلى تكفير المخالف واستباحة دمه في مسألة غاية ما فيها أن القائل بها إما مجتهد مخطئ له أجر واحد، أو مجتهد على حقٍ فله أجران، ولذا أحببت أن أقدم هذه الدراسة المتواضعة بذكر ما يسمح به المقام من قواعد الخلاف المستنبطة من نصوص الشريعة، وأقوال أهل العلم، وقد اقتصرت على إحدى عشرة قاعدة لأن المقام لا يتسع لأكثر من ذلك، على أن أستوفي الحديث عن بقية القواعد في بحث أطول إن شاء الله تعالى.
ويجدر التنبيه إلى أن المقصود بالإرهاب في هذا البحث الإفساد الذي يقصد منه انتهاك حقوق المعصومين، في دمائهم أو أعراضهم أو أموالهم أو غير ذلك مما كفلته الشريعة لهم، أما ما كان دفاعًا مشروعًا ضد معتدٍ ظالم، فلا يعد ذلك إرهابًا، بل هو الكفاح المشروع الذي أقرته كل الشرائع السماوية والأنظمة الوضعية.
أسأل الله ﵎ أن يلهمنا الرشد والصواب وأن يوفقنا للخير والسداد.
1 / 3
تمهيد في معنى الخلاف الخلاف في اللغة والاختلاف والمخالفة بمعنًى واحد، (١) قال في المصباح المنير: " خالفته مخالفة وخلافًا وتخالف القوم واختلفوا إذا ذهب كل واحدٍ إلى خلاف ما ذهب إليه الآخر، وهو ضد الاتفاق ". (٢)
ولا يختلف المعنى الشرعي للخلاف عن المعنى اللغوي، إلا أنه مقصور على الاختلاف في المسائل الشرعية، فالعلاقة بين المعنيين هي علاقة عموم وخصوص مطلق، ذلك أن علماء الشريعة يطلقون الخلاف على المسائل الشرعية التي لم يجمع عليها، فالخلاف ضد الإجماع. (٣)
ونعني بالخلاف هنا ما هو أشمل من الخلاف في المسائل الفقهية الاجتهادية، فيدخل في ذلك المخالفة في المسائل الاعتقادية، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ﴾ (آل عمران: ١٠٥)، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله.
_________
(١) القاموس المحيط ص ١٠٤٥.
(٢) المصباح المنير ص٦٩.
(٣) ينظر: أصول الفقه الإسلامي، لوهبه الزحيلي ٤٩٢، مفردات ألفاظ القرآن ص٢٩٤.
1 / 4
القاعدة الأولى الاختلاف منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم النوع الأول: الاختلاف المذموم
ويكون في حالات:
الحال الأولى: الاختلاف في مسائل العقيدة المتفق عليها عند أهل السنة والجماعة:
فهذا اختلاف مذموم لأن العقيدة ثابتة بنصوص قطعية في الكتاب والسنة وقد أجمع عليها الصحابة فلا يصح أن يكون فيها اختلاف بين المسلمين.
الحال الثانية: الاختلاف في الأدلة القطعية:
والمقصود بها المسائل التي تكون قطعية الثبوت وقطعية الدلالة، مثل وجوب الصلاة والصيام والزكاة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني، ووجوب الحجاب وتحريم الخمر، ونحو ذلك.
فالاختلاف في هذه المسائل غير سائغ لأنه لو قبل الخلاف فيها لما بقي شيء من مسائل الدين إلا وأصبح قابلًا للأخذ والرد.
الحال الثالثة: الاختلاف الناشئ عن تعصبٍ أو هوى لا عن حجةٍ وبرهان:
فقد ذم الله تعالى الذين يجادلون في آياته بغير حجة ولا برهان، فقال سبحانه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ﴾ (غافر: ٥٦) .
وقوله:"سلطان " أي حجة وبرهان.
1 / 5
الحال الرابعة: مخالفة ما أجمعت عليه الأمة:
ففي هذه الحالات الأربع يكون الاختلاف مذمومًا، وهو ما يطلق عليه الشارع الافتراق، كما في حديث الافتراق المشهور الذي رواه عوف بن مالك ﵁ وغيره من الصحابة قال: قال ﷺ: «افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وسبعون في النار، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة فواحدة في الجنة وإحدى وسبعون فرقة في النار. والذي نفسي بيده لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل من هم يا رسول الله، قال الجماعة»، (١) وفي رواية قال: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، وفي رواية قال: «هم السواد الأعظم» .
_________
(١) رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والدارمي عن أكثر من خمسة عشر صحابيًا بأسانيد بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف، ولذا عده بعضهم من الأحاديث المتواترة.
1 / 6
والمتأمل في هذا الحديث يلحظ الفارق بين فقه الصحابة وفقه من بعدهم، فالصحابة رضوان الله عليهم كانت عنايتهم بمعرفة الفرقة الناجية وصفاتها للتشبه بها، ولهذا سألوا النبي عن صفة تلك الفرقة، وكان السائل عمر بن الخطاب كما جاء مصرحًا به في رواية جابر، أما من بعدهم فقد شغلوا بالفرق الهالكة، والعلم بالفرق المنحرفة أمر مطلوب شرعًا، ولذلك كان حذيفة ﵁ يقول: كان الناس يسألون رسول الله ﷺ عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه.
ويقول الشاعر:
عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ... ومن لا يعرف الخير من الشر يقع فيه.
إلا أن الواجب على المسلم أن يعرف من طرق أهل الضلال الأصول التي ينطلقون منها والمناهج التي يسلكونها ومعرفة أسباب زيغها وانحرافها والرد عليها وبيان فسادها أما التعمق في أقاويلها وتفصيلاتها والفروق الدقيقة بينها فلم يُكلفنا الله به.
وهنا نأتي إلى مسألة هامة تتعلق بهذا الحديث، قد اتخذها بعض الضالين متكئًا للتكفير، وإخراج جميع المخالفين عن الملة، وهي:
هل هذه الفرق المذكورة في الحديث كافرة أو لا؟ .
للإجابة عن هذا السؤال لا بد من بيان عدة أمور:
1 / 7
أولًا: المراد بقوله ﵊: «وستفترق هذه الأمة» هنا أمة الإجابة (١) لا أمة الدعوة، (٢) ففرق اليهود والنصارى لا تدخل في عد هذه الفرق.
ثانيًا: قوله ﵊: «كلها في النار إلا واحدة»، هذه الجملة دليل على أن هذه الفرق ضالة مجانبة للحق ومستحقة للوعيد بالنار وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
ثالثًا: الحديث لا دلالة فيه على التكفير أو أن هذه الفرق مخلدة في النار لأن الوعيد بالنار لا يقتضي الخلود فيها، فالكلام في البدع كالكلام في الكبائر وقد توعد النبي ﷺ بالنار على كثير من الذنوب التي لا يختلف أهل الحق على عدم التكفير بمجردها كالقتل وإباق العبد من مواليه المسلم والرغبة عن الآباء.
ومما يؤيد ذلك: أنه ﵊ جعل هذه الفرق من الأمة حيث قال: «ستفترق أُمتي على ثلاث وسبعين فرقة» فجعل الاثنتين وسبعين فرقة من أمة محمد ﵊، وهذا يعني أنهم مسلمون في الجملة، والأصل أن المسلم باقٍ على إسلامه فلا يخرج منه إلا بيقين.
_________
(١) أمة الإجابة: كل من انتسب إلى الإسلام وإن كان مرتكبًا للبدعة (وإن كانت مكفرة) .
(٢) أمة الدعوة:كل من كُلف باتباع النبي ﷺ من الثقلين سواء آمن به أولم يؤمن به، فكل من كان موجودًا من بعثة النبي ﷺ فهو مكلف باتباعه.
1 / 8
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: " وكذلك سائر الاثنتين وسبعين فرقة من كان منهم منافقًا فهو كافر في الباطن، ومن لم يكن منافقًا بل كان مؤمنًا بالله ورسوله في الباطن لم يكن كافرًا في الباطن وإن أخطأ في التأويل كائنًا ما كان خطؤه. وقد يكون في بعضهم شعبة من شُعب النفاق ولا يكون فيه النفاق الذي يكون صاحبه في الدرك الأسفل من النار. ومن قال: إن الاثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يُكفر كفرًا ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم، بل إجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة فليس منهم من كفر كل واحد من الاثنتين وسبعين فرقة وإنما يكفر بعضهم بعضا ببعض المقالات ". (١)
_________
(١) مجموع الفتاوى ٧ / ٢١٨.
1 / 9
النوع الثاني من الاختلاف: الاختلاف المحمود
وهو الاختلاف في المسائل الظنية، مثل الاختلاف في وقوع طلاق الثلاث واحدة، والقنوت في صلاة الفجر، ورفع اليدين في الصلاة، وما يجب تغطيته من المرأة، ونحو ذلك.
فمثل هذه المسائل يسوغ فيها الخلاف إذا لم يكن عن تعصب وهوى وإنما عن اجتهاد وتحرٍ لقوله ﵊: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجرٌ واحد» (١)، وقد أقر النبي ﷺ الصحابة رضوان الله عليهم على اختلافهم في الاجتهاد في صلاة العصر في غزوة بني قريظة. (٢)
_________
(١) متفق عليه من حديث عمرو بن العاص ﵁.
(٢) متفق عليه من حديث ابن عمر ﵄.
1 / 10
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀:"ما تنازعوا فيه مما أقروا عليه وساغ لهم العمل به من اجتهاد العلماء والمشايخ والأمراء والملوك كاجتهاد الصحابة في قطع اللينة وتركها: واجتهادهم في صلاة العصر لما بعثهم النبي ﷺ إلى بني قريظة وأمرهم أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة فصلى قوم في الطريق في الوقت وقالوا: إنما أراد التعجل لا تفويت الصلاة. وأخرها قوم إلى أن وصلوا وصلوها بعد الوقت تمسكا بظاهر لفظ العموم فلم يعنف النبي ﷺ واحدة من الطائفتين. . . وقد اتفق الصحابة في مسائل تنازعوا فيها ; على إقرار كل فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم كمسائل في العبادات والمناكح والمواريث والعطاء والسياسة وغير ذلك وحكم عمر أول عام في الفريضة الحمارية بعدم التشريك وفي العام الثاني بالتشريك في واقعة مثل الأولى ولما سئل عن ذلك قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما نقضي. وهم الأئمة الذين ثبت بالنصوص أنهم لا يجتمعون على باطل ولا ضلالة ودل الكتاب والسنة على وجوب متابعتهم. وتنازعوا في مسائل علمية اعتقادية كسماع الميت صوت الحي وتعذيب الميت ببكاء أهله ورؤية محمد ﷺ
1 / 11
ربه قبل الموت مع بقاء الجماعة والألفة. . . ومذهب أهل السنة والجماعة أنه لا إثم على من اجتهد وإن أخطأ". (١)
_________
(١) مجموع الفتاوى ١٩ / ١٢٢.
1 / 12
القاعدة الثانية الافتراق سنة كونية ودفعه فريضة شرعية فمما كتبه الله - تعالى - على الأمة الإسلامية أنها ستفترق وتختلف كما اختلفت الأمم من قبلها، وهذا الافتراق هو حكم كوني يقول تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾، ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ (هود: ١١٨- ١١٩)
وقد اختلف المفسرون إلى أي شيء يعود اسم الإشارة في قوله: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، فمنهم من قال: إنه يعود إلى الاختلاف أي: خلقهم ليختلفوا وذهب إلى هذا الحسن البصري، وذهب بعض المفسرين ومنهم عطاء إلى أن اسم الإشارة يعود إلى الرحمة أي خلقهم ليرحمهم، وبعضهم قال: اسم الإشارة يعود إلى الاثنين معًا، أي خلقهم ليختلفوا وليرحم من سلك الصراط المستقيم وممن ذهب إلى هذا القول ابن جرير الطبري وابن كثير والشيخ عبد الرحمن بن سعدي ﵀.
1 / 13
يقول ابن سعدي:" يُخبر الله - تعالى - أنه لو شاء لجعل الناس أُمة واحدة على الدين الإسلامي فإن مشيئته غير قاصرة ولا يمتنع عليه شيء ولكنه اقتضت حكمته ألا يزالوا مختلفين مخالفين للصراط المستقيم متّبعين للسبل الموصلة إلى النار كلٌّ يرى الحق فيما قاله والضلالة في قول غيره، وقوله سبحانه: ﴿إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ﴾، فهداهم إلى العلم بالحق والعمل به والاتفاق عليه، فهؤلاء سبقت لهم سابقة السعادة وتداركتهم العناية الربانية والتوفيق الإلهي، وأما من عداهم فهم مخذولون موْكولون إلى أنفسهم، وقوله سبحانه: ﴿وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾، قال: أي اقتضت حكمته أنه خلقهم ليكون منهم السعداء والأشقياء والمتفقون والمختلفون والفريق الذي هدى الله والفريق الذي حقت عليهم الضلالة ليتبين للعباد عدله وحكمته وليظهر ما كمن من الطباع البشرية من الخير والشر ولتقوم سوق الجهاد والعبادات التي لا تتم ولا تستقيم إلا بالامتحان والابتلاء " (١) .
_________
(١) تفسير ابن سعدي ٢ / ١٢٥.
1 / 14
وبعضهم يتكئ على هذه السنة الكونية لرد أي محاولة لجمع الكلمة وتوحيد صف المسلمين، بحجة أن الاختلاف سنة كونية لا يمكن ردها، وهذا من الخطأ في فهم النصوص فإنه لا تعارض بين حكم الله الكوني وحكمه الشرعي، فهو قد قدر الاختلاف بحكمه الكوني، وذمه ونهى عنه بحكمه الشرعي، يقول تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ (آل عمران: ١٠٥) .
1 / 15
القاعدة الثالثة الحق يقبل من أي جهة جاء الحق يقبل لكونه موافقًا للدليل، فلا أثر للمتكلم به في قبوله أو رفضه؛ ولهذا كان أهل السنة يقبلون ما عند جميع الطوائف من الحق، ويردون ما عندها من الباطل، بغض النظر عن الموالي منها أو المعادي.
قال تعالى: ﴿فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (البقرة ٢١٣) .
وفي دعاء النبي ﷺ: ". . . «اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم» . (١)
قال ابن القيم ﵀: فمن هداه الله - سبحانه - إلى الأخذ بالحق حيث كان ومع من كان، ولو كان مع من يبغضه ويعاديه، ورد الباطل مع من كان ولو كان مع من يحبه ويواليه، فهو ممن هدى الله لما اختُلف فيه من الحق.
وقال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة ٨)، ومن العدل فيهم قبول ما عندهم من الحق.
_________
(١) رواه مسلم من حديث عائشة ﵂.
1 / 16
وهكذا أدبنا القرآن الكريم حين ساق كلام بلقيس- وقت كفرها - ثم وافقها عليه؛ قال تعالى-حكاية عنها-: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً﴾ قال الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النمل ٣٤) .
ولما دلّ الشيطان أبا هريرة ﵁ إلى آية الكرسي لتكون له حرزًا من الشيطان، وذلك مقابل فكه من الأسر، قال له النبي ﷺ: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب» . (١)
وقد قبل ﵊ الحق من بعض اليهود ففي سنن النسائي عن قتيلة - امرأة من جهينة - «أن يهوديا أتى النبي ﷺ فقال إنكم تنددون وإنكم تشركون تقولون: ما شاء الله وشئت، وتقولون: والكعبة فأمرهم النبي ﷺ إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا ورب الكعبة ويقولون ما شاء الله ثم شئت» .
_________
(١) رواه البخاري من حديث أبي هريرة ﵁.
1 / 17
بل يقبل الحق وإن جاء على لسان البهائم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال رسول الله ﷺ: «بينما رجل يسوق بقرة له قد حمل عليها التفتت إليه البقرة فقالت: إني لم أخلق لهذا ولكني إنما خلقت للحرث فقال الناس: سبحان الله تعجبا وفزعا أبقرة تكلم؟! فقال رسول الله ﷺ: فإني أومن به وأبو بكر وعمر» قال أبو هريرة قال رسول الله ﷺ: «بينا راع في غنمه عدا عليه الذئب فأخذ منها شاة فطلبه الراعي حتى استنقذها منه فالتفت إليه الذئب فقال له من لها يوم السبع يوم ليس لها راع غيري فقال الناس سبحان الله فقال رسول الله ﷺ فإني أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر» .
وكان معاذ بن جبل ﵁ يقول: اقبلوا الحق من كل من جاء به، وإن كان كافرًا-أو قال فاجرًا- واحذروا زيغة الحكيم، قالوا: كيف نعلم أن الكافر يقول كلمة الحق؟ قال: إن على الحق نورًا.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: " ولكنّ الحق يقبل من كل من تكلم به ". (١)
_________
(١) مجموع الفتاوى ٥ / ١٠١.
1 / 18
ولا شك أن رسوخ مثل هذه المعاني في أذهان المسلمين من أكبر الدوافع إلى الإذعان للحق والرضوخ له مهما كان قائله، ويجعل المسلم مستسلمًا للحق دومًا، قابلًا له، وهذا من شأنه أن يقضي على التعصب المقيت الذي يحمل صاحبه إلى المنابذة والإصرار على الباطل، لا لشيءٍ إلا لأن القائل بالحق ليس من جماعته أو حزبه أو لربما بلده، وهذا هو عين الإرهاب الفكري حيث يصبح المرء أحادي النظرة، نابذًا لآراء جميع مخالفيه، غير مستعدٍ لأن يتمعن في مقولتهم فضلًا عن أن يقبلها.
إن من شأن التربية القرآنية أن تزيل كل الحواجز التي تقف بين المسلم وقبول الحق، فإن قبول الحق متى بان خير من التمادي في الباطل، ولا غضاضة ولا منقصة عليه في ذلك، فإذا كان سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه قد قبل ذلك الحق من اليهودي، فكيف بآحاد المسلمين ممن يلوح له الحق على لسان من هو خير من ذلك اليهودي.
1 / 19
القاعدة الرابعة وجوب عرض أقوال الناس على الشرع ما يقوله سائر الناس من الكلام في المطالب الشرعية لا بد من عرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق الكتاب والسنة فهو حق يقبل، وإن خالفها فهو باطل يرد.
ولهذا كان الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم ينهون أتباعهم عن تقليدهم في كل شيء، يقول أبو حنيفة: إذا خالف الحديث قولي فاضرب بقولي عرض الحائط، ويقول مالك: كل يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر، يقصد النبي ﷺ، ويقول الشافعي: إذا صح الحديث فهو مذهبي، ويقول أحمد: لا تقلدني ولا تقلدن أبا حنيفة ولا مالكًا ولا الشافعي وخذ من حيث أخذوا. (١)
_________
(١) انظر رسالة: «القول المفيد في حكم التقليد» للشوكاني، أصول الفقه الإسلامي، ص ١١٣٠.
1 / 20