Fiqh of Contemporary Transactions
فقه المعاملات المعاصرة
Noocyada
فقه المعاملات المعاصرة - المقدمة
الأصناف الربوبية نوعان: ما كانت العلة فيه الثمنية كالذهب والفضة، وما كانت العلة فيه الطعم كالبر والشعير والتمر والملح، فإذا اتفقت العلة والجنس كالذهب بالذهب اشترط التساوي والتقابض، وإذا اتفقت العلة واختلف الجنس كالذهب والفضة اشترط التقابض ولم يشترط التساوي، وإذا اختلفت العلة والجنس كالذهب والتمر فلا يشترط التقابض ولا التساوي.
1 / 1
تحريم الربا
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
قال النبي ﷺ: (إن الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه).
البورصة أكثر المعاملات، وسأقعد قاعدة في أبواب الربا تبين حكم كل معاملة.
إن نظام الاقتصاد الإسلامي نظام وسط، الله جل في علاه هو الذي شرعه، فإنه لا يحجر واسعًا على المكسب ففي الحديث أن الصحابة قالوا للنبي ﷺ: (يا رسول الله! سعر لنا.
قال: إن الله هو المسعر، وإني أرجو الله أن ألقاه ولا أحد يطالبني بمظلمة يوم القيامة)، والربا قد أثقل كاهل المدين، وفي ديننا أن من اقترض لا يزيد على القرض، وهذا من سماحة ديننا، ومن عظمة الاقتصاد الإسلامي أنه حرم الربا.
إن الله جل في علاه خلق الخلق لينشر بينهم الوئام والفضل والمحبة والإخوة والتعاون فقال: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة:٢]، وقال النبي ﷺ: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، وشبك بين أصابعه) وبين أن هذا هو حال المؤمنين بعضهم مع بعض، فهم إخوة في الله، كل منهم يوافق أخاه ويقف مع أخيه، كما قال النبي ﷺ: (لأن أمشي مع أخي في حاجته خير لي من أن أعتكف في مسجدي هذا شهرًا كاملًا).
فالتعاون على البر والتقوى يقطع الربا، ويحل التآلف والوئام والمحبة مكان الحقد والحسد، وما أكثر التقاتل والمشاكل بسبب هذه المسألة الشائكة وهي مسألة الربا؛ ولذلك حرمها الله في الكتاب وفي السنة، وأجمعت الأمة على تحريم الربا، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٨]، وقد بين الله جل في علاه أنه إن كان مقصودك أيها المرابي أن تزيد في مالك فلن يزداد بل سيقل قال الله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ﴾ [البقرة:٢٧٦]، وتدبروا الآية المرعبة التي ترعب كل من يرابي، قال الله تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ [البقرة:٢٧٩]، في الدنيا بالضيق وعدم البركة والمرض، والمال كله ينفض عنه ولا يمكن أن يبقيه، وفي الآخرة قال ابن عباس: عندما يبعثهم الله جل في علاه يقال لهم: خذوا أسلحتكم لتحاربوا الله ورسوله! فإذا حارب أحد الله فالغلبة ستكون لمن؟ نعوذ بالله من الخذلان! وفي الصحيحين عن أبي هريرة ﵁ وأرضاه قال: قال رسول الله ﷺ: (اجتنبوا السبع الموبقات -وذكر منها- وأكل الربا).
وفي حديث صححه الشيخ الألباني قال النبي ﷺ فيه: (الربا سبعون بابًا أو حوبًا أيسره مثل أن ينكح المرء أمه)، وهذا الحديث ضعفه كثير من العلماء، وفي رواية أخرى: (درهم ربا يأكله المرء أشد من ست وثلاثين زنية)، وفي رواية قال: (أيسرها مثل أن يقع المرء على أمه).
وفي صحيح مسلم عن جابر ﵁: (لعن رسول الله ﷺ آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه ثم قال: هم سواء)، يعني: هم على درجة واحدة في الإثم؛ المنتفع والظالم والمظلوم والكاتب والشاهد.
1 / 2
الأصناف الربوية وهل يلحق غيرها بها؟
الأصناف الربوية ستة ذكرها النبي ﷺ وهي: الذهب، والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح، وقد اختلف العلماء اختلافًا عريضًا جدًا هل يلحق بهذه الستة الأصناف غيرها أم لا؟ فقال ابن عقيل من الحنابلة: لا علة فيها، فالستة لا يقاس عليها، وهذا قول ابن حزم، وهو قول ضعيف جدًا، أما الجماهير فقالوا: فيها علة، واختلفوا في تحديد العلة.
فهذه الستة الأصناف يحلق بها ما اشترك معها في العلة.
1 / 3
اشتراط التقابض والمساواة في الأصناف الربوية
الأصناف الربوية الستة لها حالات ثلاث: الحال الأولى: أن يتحدا في الجنس والعلة.
الحال الثانية: أن يتحدا في العلة ويختلفا في الجنس.
الحال الثالثة: أن يفترقا في الجنس وفي العلة.
والشروط التي اشترطها النبي ﷺ في التعامل مع الأصناف الربوية: أن تباع برًا ببر، وملحًا بملح، وهكذا، مع التقابض.
فمن أراد أن يبيع ملحًا بملح أو تمرًا بتمر أو ذهبًا بذهب أو فضةً بفضة، فهذه المعاملة حتى تصح وتكون موافقة لأصول الشرع لا بد فيها من شرطين: الشرط الأول: التقابض في المجلس.
الشرط الثاني: المساواة، جرامًا بجرام، درهمًا بدرهم، درهمين بدرهمين، تمرًا بتمر، كيلو بكيلو، ذهب بذهب جرامًا بجرام، فضة جرام بجرام فضة، ودليل ذلك قول النبي ﷺ: (الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء سواء بسواء)، كما في حديث عمر وجابر قال: (مثلًا بمثل)، ولذلك عمر بن الخطاب ﵁ وأرضاه شد النكير على طلحة عندما أراد أن يصرف الرجل دينارًا بدراهم وقال: انتظر حتى يأتينا فلان، فقال له: لا، بل الآن؛ لأن النبي ﷺ قال: (يدًا بيد)، ولهذا لا يجوز أن تخرج المرأة من عند الصائغ إذا بدلت الذهب بالذهب إلا وقد قبضت البديل وقبض هو الأصل، وكانا متساويان بالجرام، ولا يلتفت إلى كون أحدهما مصوغًا أو أجمل أو أتقن، فلا بد من المساواة؛ لحديث بلال عندما جاء بتمر جنيب إلى النبي ﷺ فقال: (أكل تمر خيبر هكذا؟! قال: لا يا رسول الله! إنا نشتري الصاع بصاع من الجمع، فقال النبي ﷺ: أوه! عين الربا، لا تفعل، بع الجمع بدراهم، ثم اشتر بالدراهم تمرًا جنيبا)، فالجودة والرداءة علة غير مؤثرة في الحكم، فالتأثير في الحكم هو المساواة.
مسألة: جاءت امرأة معها أسورة وزنها خمسة جرامات، فأرادت أن تبدلها عند الصائغ، فأعطته الجرامات، فقال: هذا ذهب قديم جدًا، وعندي أسورة من أمتن ما تكون صنعة، وهي أربعة جرامات ونصف، والنصف الفارق يكون من أجل الصنعة، فبدلت وذهبت، فسألت: هل معاملتي صحيحة أم لا؟ قنقول: هذا ربا، ولا بد ليصح هذا العقد عن شرطين: الشرط الأول: التقابض، وقد وجد، فالمرأة أعطت الصائغ ذهبها وهو أعطاها الذهب الجديد.
الشرط الثاني: المساواة، وقد اختل هذا الشرط، فهذه المعاملة لم يتوافر فيها الشرطان، فلا بد من المساواة ولا بد من التقابض في المجلس حتى يصح هذا العقد.
الحالة الثانية: أن يتفقا في العلة ويفترقا في الجنس، فلا بد أن يتوافر في هذه المعاملة شرط واحد وهو: التقابض في المجلس دون المساواة، مثل بيع عشرة كيلوات تمر بكيلو ملح، أو خمسة جرامات ذهب بنصف كيلو جرام فضة، فهذا يجوز، والدليل على ذلك قول النبي ﷺ: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان ويدًا بيد).
إذًا: إذا اختلفت الأجناس والأصناف فلا بد أن يتوافر شرط التقابض في المجلس، فمثلًا: رجل قال: عندي عشرة جنيهات وأريد بدلها دولارًا، فقال له: أبدلها لك بنصف دولار، فقال: خذ بيدك وأعطني نصف الدولار، فهذه المعاملة صحيحة؛ لأنهما تقابضا في المجلس.
والمقصود من التقابض في المجلس: أنه لا ينصرف أحدهما من المجلس إلا وقد أنهى هذه المعاملة.
مسألة: رجل تاجر قال: ضع لي أربعين ألف دولار في البنك، وكم سعرها بالجنيهات؟ قال: مائة ألف، قال: غدًا سآتيك بها، فوضع الرجل له الأربعين ألفًا وانتظر في الغد المائة ألف، فهذا ربا؛ لأنه لم يحصل التقابض في المجلس.
مسألة: رجل اشترى لزوجته قلادة بخمسة آلاف، فأعطى الصائغ أربعة آلاف وقال: سأعطيك الألف الباقي غدًا، فهذا ربا؛ لأنه لم يحصل التقابض الكامل.
الحالة الثالثة: أن يختلفا في الجنس وفي العلة، فهذه بع كيفما شئت، ولا يشترط التساوي ولا التقابض، مثل: أن تبيع كيلوًا من الملح بدراهم أو بذهب، فلك أن تأخذ الملح وبعد أسبوع تعطيه الدراهم أو الذهب، أو تشتري تمرًا بفضة، فتعطي الفضة أولًا ثم تأخذ التمر بعد ذلك، فهذا كله جائز، فهذه الحالة الثالثة لا يشترط فيها شروط عند الجمهور خلافًا للمالكية.
وقول النبي ﷺ: (إذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدًا بيد)، هذا العموم خصص بحديثين: الحديث الأول: أن النبي ﷺ مات وقد رهن درعه عند يهودي في صاع شعير، فاشترى الطعام وأخر المال، فاختلفت الأصناف في العلة وفي الجنس ولم يشترط التقابض ولا التساوي.
الحديث الثاني: حديث أن النبي ﷺ دخل المدينة وكانوا يسلفون في التمر السنة والسنتين فقال النبي ﷺ: (من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، وابن عباس يقول: كانوا يعطون المال أولًا ثم يأخذون التمر.
ففيه دلالة على أنهم عجلوا الصنف وأخروا الصنف الآخر نسيئة، وأقر النبي ﷺ هذه المعاملة.
إذًا: الراجح الصحيح أنه إذا اختلف الأصناف في الجنس وفي العلة فإننا نقول: بيعوا كيف شئتم نسيئة، أو غير نسيئة، سواء حصل تقابض أو لا، حصلت مساواة أو لا، ولا حرج عليكم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
1 / 4
فقه المعاملات المعاصرة - مسائل تتعلق بالربا
الربا من أكبر الكبائر التي حرمها الإسلام، والذي يتعامل به فإنه يحارب الله ﷾.
والأدلة كثيرة من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على حرمة التعامل بالربا في كل زمان ومكان، وفي كل عصر ومصر، فإذا كان المسلم في دار الكفر فإنه يحرم عليه التعامل مع الكفار بالربا؛ لأن الإسلام حرم ذلك، والمسلم مأمور باتباع الشرع.
2 / 1
تحريم المعاملات الربوية
2 / 2
أدلة حرمة الربا من النظر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: مسألة من مسائل فقه المعاملات المعاصرة وهي من الأهمية بمكان وهي: التعامل بالربا، والربا محرم بالأثر وبالنظر.
والأدلة من النظر على ثلاثة أوجه: الوجه الأول: عموم الظلم؛ لأن بالربا يحدث الظلم، وأصول الشريعة جاءت لتقصم ظهر الظلم، قال النبي ﷺ عن ربه: (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا)، وبالربا يفشو الظلم بين الناس، وهذا محرم نظرًا وشرعًا.
الوجه الثاني: نشر البغضاء والعداوة بين الناس، والأصول والقواعد العامة في شريعتنا الغراء تعمل على نشر الحب والألفة والمودة بين الناس، والنبي ﷺ يقول: (لا يبع أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطب أحدكم على خطبة أخيه)، وذلك حسمًا للعداوة البغضاء، ولا بد من نشر الود بالتآلف والتآخي والتهادي؛ لقوله ﷺ: (تهادوا تحابوا)، هذا إذا قلنا بصحة الحديث.
والمقصود من الشرع نشر الألفة والمحبة بين المسلمين، قال الله تعالى: ﴿لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ [الأنفال:٦٣]، فكل شيء يفسد بالتآلف بين الإخوان فلا بد من بتره وحسمه.
الوجه الثالث: أنه يؤدي إلى الطبقية التي تنشر القتل والحقد والحسد والبغضاء، وكل ما قلنا عنه من أنه غير مقصود بالشرع، فالطبقية تنشر العداوة بين الناس.
2 / 3
الأدلة من الكتاب والسنة على حرمة الربا
أما من الأثر فكثيرة، فقد قال الله تعالى ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ﴾ [البقرة:٢٧٥]، وقال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:٢٧٨] فقد أناط الإيمان بترك الربا، ومفهوم المخالفة إن لم يتركوا الربا فليسوا بمؤمنين إيمانًا كاملًا، أي: نزلوا من درجة ودائرة الإيمان إلى درجة الإسلام.
ويقول النبي ﷺ (لعن الله آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه)، وقال في الصحيحين: (اجتنبوا السبع الموبقات -وذكر منها- وأكل الربا) وهناك حديث صححه الشيخ الألباني (الربا سبعون حوبًا، أيسرها أن ينكح الرجل أمه)، أي: يقع على أمه، وفي رواية صححها أيضًا الشيخ: (ودرهم من الربا أشد من ست وثلاثين زنية) نعوذ بالله من غضب الله! فنفزع إلى الله ولا نأكل فتات الربا، ونعوذ بالله من الخذلان! أما الذين يتجرءون على الربا ويقولون: إنه ليس بربا، أو يلبسون ويدلسون على الناس حتى يأكلوا الربا، فويلهم ثم ويلهم ثم ويلهم عندما يقفون عند الله جل في علاه.
2 / 4
حكم تعامل المسلم مع البنوك الربوية في دار الكفر
إذا سافر رجل إلى أمريكا أو انجلترا أو فرنسا أو أوروبا أو أي دولة من دول الغرب، وهذا الرجل يعمل ومعه مال، ويريد أن يستثمر هذا المال، فهل يصح أن يضعه في البنوك الربوية هناك على أنهم أهل كفر ويستفيد بالفائدة منهم؟ وهل يصح أن يتاجر بالربا هناك مع أهل الكفر أم لا يصح؟ هذه المسألة ليست مجمعًا عليها في الجواز أو المنع، بل هي مسألة خلافية، فالخلاف فيها بين الجماهير من أهل العلم وبين الأحناف، أما الأحناف فقالوا: إذا دخل مسلم دار الكفر أو دار الحرب فيجوز له أن يتعامل مع الكفار بالربا، أي: يجوز أن يتعامل مع البنوك بالربا ويأخذ فوائد، واستدلوا على ذلك بأدلة من الأثر ومن النظر.
أما استدلالهم بالأثر فقد رووا عن رسول الله ﷺ حديثًا عن مكحول عن النبي ﷺ أنه قال (لا ربا بين مسلم وحربي في دار الكفر) أو قال (لا ربا بين المسلم وبين الحربي في دار الكفر)، واستدلوا أيضًا بقول النبي ﷺ في حجة الوداع عندما قام بعدما خطب الناس وقال: (أيها الناس! إن ربا الجاهلية تحت قدمي موضوع، وأول ما أضع ربا العباس) ووجه الدلالة: أنهم قالوا: العباس كان قد أسلم بعد بدر، وحال كونه مسلمًا في مكة كان يتعامل بالربا، والنبي ﷺ تسامح له هذا التعامل في مكة لأنها دار كفر، ولم يعاتبه على ذلك، ولم ينكر عليه كسبه الربا مع أهل مكة.
أما استدلالهم من النظر فقالوا: الأصل في أموال الكفار الحل؛ لحديث ابن عمر أن النبي ﷺ قال (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا -وفي رواية حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله فإذا فعلوا ذلك هذا هو الشاهد- عصموا مني دماءهم وأموالهم وحسابهم على الله) ووجه الدلالة من هذا الحديث هو مفهوم المخالفة، أيْ: فإن لم يفعلوا ذلك لا عصمة للمال ولا للدم، فإن قالوا: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فقد عصموا مني دمائهم وأموالهم، فهذه دلالة واضحة جدًا على أن الأصل في أموال الكفار أن يكون حلالًا، إلا بقيد آخر وهو الإيمان، أو المعاهدة والأمان، والدليل على المعاهدة والأمان أنها تعصم المال والدم، قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [التوبة:٢٩] فقالوا: إذا كان الأصل في مال الكفار الحل، فإنه يجوز للمسلم إذا ذهب إلى دار الكفر أن يتحيل عليهم ويأخذ العرض الربوي ولو كان فاسدًا.
قال الشوكاني: وإن دخل المسلم دار الكفر بأمان أو بغير أمان، فله أن يأخذ هذا المال بعقد فاسد أو بعقد صحيح؛ لأن الأصل الحل.
أما الأحناف فقيدوا ذلك بأن يكون دخل بأمان، أي: دخل بالتأشيرة، ومعنى أنه دخل بأمان منهم أنهم أمنوه على نفسه وهو أمنهم على أنفسهم.
أما الجمهور فقالوا: لا يجوز بحال من الأحوال التعامل مع أهل الكفر في دار الحرب بالربا، وأدلتهم عامة في الأثر وفي النظر، أما أدلتهم من الأثر فقالوا: لعموم تحريم الربا، قال الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾ [البقرة:٢٧٨] أي: إن كنتم من المؤمنين فذروا ما بقي من الربا، ولم يذكر هنا مفهوم المخالفة وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم إن صحت هذه القاعدة، فقول الله تعالى «وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا» [البقرة:٢٧٨] أي: سواء مع أهل الكفر أو مع أهل الإسلام.
وأيضًا عموم قول النبي ﷺ: (لعن الله آكل الربا) وسواء من أهل الكفر أو من أهل الإسلام.
فهذه الأدلة التي تثبت حرمة الربا بالعموم يدخل فيها الحربي وغير الحربي.
ومن الأدلة التي استدلوا بها قولهم: الربا أصالة حرام على أهل الكفر، فكيف يستحله المسلم؟ وهذا الدليل من النظر والأثر، قال الله تعالى مبينا الانتقاد اللاذع على أهل الكفر من اليهود، قال فيهم ﴿وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ﴾ [النساء:١٦١] أي: أن أهل الكفر في دار الحرب قد نهوا عن الربا فكيف نتعامل معهم بالربا؟ والربا حرام عليهم أصالة فكيف يستحله المسلم؟ فمن باب أولى ألا يتقحم المسلم النار على بصيرة.
ومن النظر أيضًا قالوا: إن ما كان حرامًا على المسلم في مكان فهو حرام عليه في كل مكان، فلا يصح أن يقال: إن الخنزير حرام عليه في مصر حلال عليه في الخليج، أو يقال: يحرم عليه الخمر في الخليج ويحل عليه مثلًا في المغرب، فما حرمه الله ليس معلقًا دون بلد، إلا أن تكون صفة من الصفات فننظر فيها، والحكم يدور مع صفاته.
إذًا نقول: الحرام حرام في كل الأحوال، سواء في أرض الإسلام أو في أرض الكفر، فلما حرم الله الربا نقول: التحريم على إطلاقه في أرض الإسلام وفي أرض الكفر.
أيضًا: من أدلتهم من النظر: قياس العكس، فلو دخل الكافر إلى بلد الإسلام بتأشيرة وبأمان من ولي الأمر، وجب على كل الرعية أن يحققوا هذا الأمان، ولا يجوز لهذا الكافر أن يتعامل مع المسلمين بالربا، ولا يصح ذلك بالإجماع، أما لو دخل المسلم دار الكفر فقد حرم عليه التعامل معهم بالربا بموجب الأمان، وإن كان الأصل فيه الإباحة، فقد قال النبي ﷺ (أدِّ الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك)، فإذا دخلت بأمان فلابد أن تؤمنهم على أموالهم وعلى أنفسهم، وهذا من باب الديانة.
2 / 5
الراجح من الأقوال في حكم تعامل المسلم بالربا في دار الكفر
والراجح من القولين: هو قول الجمهور: أنه لا يجوز للمسلم بحال من الأحوال أن يتعامل مع أهل الكفر بالربا في ديارهم، للأدلة الظاهرة الصريحة الصحيحة التي أثبتت حرمة الربا على العموم، فهي لا تفرق بين أرض وأرض ولا بين شخص وآخر.
2 / 6
الرد على الأحناف القائلين بجواز الربا في دار الكفر
أما الرد على ما استدل به الأحناف فيكون بالآتي: أولًا: الحديث الذي استدلوا به وهو حديث مكحول حديث ضعيف؛ لأنه مرسل بالاتفاق بين جماهير المحدثين، وإن كان هناك خلاف في ضعفه، لكن نقول: إن المرسل ضعيف، والقاعدة عند العلماء: أن الأحكام فرع على التصحيح، فإن صح الحديث أخذنا به، وإلا فلا.
ثانيًا: لو قلنا بصحة هذا الحديث (لا ربا بين مسلم وبين حربي في دار الحرب) فإنه مصادم للآيات المحكمات التي عممت وأطلقت وأكدت حرمة الربا، وأيضًا عموم قول النبي ﷺ المحكم الذي لا احتمال فيه: (لعن الله آكل الربا)، فهذه المصادمة تجعلنا نرجح الأدلة التي تحرم الربا؛ لأن القوة غير متوازنة، لكنَّ هذا الحديث ضعيف أصالة فلا يقف أمام هذه الجبال.
أيضًا: لو قلنا: إن هذا الحديث صحيح يستدل به، لكن يعتريه ما يعتريه من الاحتمالات، فالاحتمال الأول أن (لا) ناهية، أي: لا تتعاملوا بالربا مع الحربي في دار الحرب، وإياكم أن يدخل في صدوركم أنه يحل لكم أن تتعاملوا معه في داره، فـ (لا) هنا ناهية وليست نافية، فيحرم عليكم التعامل بالربا.
والاحتمال الثاني: إن (لا) تكون نافية، أي: لا حكم للربا في دار الحرب بين المسلم وبين الكافر، فيصح له أن يتعامل معه، لكن لما كان للحديث احتمالات قلنا بالقاعدة القوية الصارمة التي تبتر هذه الأدلة: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال، وتبقى عندنا الأدلة سالمة من كل معارضة صحيحة صريحة تثبت لنا حرمة التعامل مع الكافر في دار الحرب بالربا.
وأمَّا الدليل الثاني الذي استدلوا به وهو: أن العباس كان يتعامل بالربا، وأن النبي ﷺ قال: (وأول ربا أضعه في الجاهلية ربا العباس)، فيحتمل أن العباس لم يكن يعلم بحرمة الربا، ولم يكن يعلم بنزول الآيات المحرمة له، ولم يراجعه النبي ﷺ في ذلك، فلما كان لم يعلم، لم ينكر عليه النبي ﷺ، فلا يؤخذ من إقرار النبي بما سبق أنه رضي بذلك.
ويرد عليهم أيضًا: أن العباس لو تعامل بذلك، والنبي ﷺ أقره، وكان هذا بمحفل مع الصحابة، فهل يوجد صحابي واحد من صحابة رسول الله ﷺ تعامل بذلك مع كثرة أسفاره، ومع إعوازه وحاجته للمال؟ فلما أجمع الصحابة على حرمة التعامل بهذه الطريقة علمنا أنهم فهموا من النبي ﷺ أن الربا يحرم على الإطلاق، سواء في دار الإسلام أو في دار الكفر.
أما الدليل الثالث الذي استدلوا به وهو: أن الأصل في أموالهم الحل، فنقول: نعم الأصل في أموالهم الحل بشرط وقيد وليس على الإطلاق، فأموالهم ونساؤهم حلال لنا في الحرب بيننا وبينهم، لما عتوا عن أمر الله جل في علاه، وتربعوا على عرش الشيطان، وذلوا للشيطان دون الرحمن جل في علاه، لذلك جعلهم الله أذلاء لأهل الإسلام، فإذا أصبحت الحرب ضروسا بين أهل الإسلام وبينهم فنقول: كل مال أخذوه فهو غنيمة، وكذلك نساؤهم فهن غنائم لأهل الإسلام.
ويرد عليهم بقول النبي ﷺ (أدِّ الأمانة - وهذا عام - لمن ائتمنك ولا تخن من خانك) فإن خاننا أهل الكفر وقتلونا وشردونا وسرقوا أموالنا وهتكوا أعراضنا، فلا نقابلهم بالمثل؛ لأننا مأمورون بشرائع وأحكام، فلا بد أن يأتمر المسلم بأمر ربه، فيؤدي الأمانة لمن ائتمنه، فإذا دخل بتأشيرة الأمان، فأمنوه على نفسه وماله وعرضه، وجب عليه أن يقابلهم بالحسن ويؤمنهم على أموالهم وأنفسهم وأعراضهم، ولا يجوز له أن يتحيل على أموالهم فيأخذها بهذه الطريقة.
ومن ارتقى مرتقىً صعبًا كـ الشوكاني قال: يجوز له أن يسرق البنوك، ولكن هذا كلام فاشل باطل مخالف لجماهير أهل العلم ومخالف للأثر وللنظر.
هذا آخر ما يمكن أن يقال في هذه المسألة، ونسأل الله جل في علاه أن يغفر لنا ولكم.
2 / 7
فقه المعاملات المعاصرة - بيع العنب لمن يعتصره خمرًا
أحل الله البيع بكل صوره وأنواعه، وهذا أصل يبنى عليه، ولا يحرم إلا ما أتى الدليل الصحيح الصريح الدال على الحرمة، وقد تكون بعض المسائل مما يشتبه بها، لكن الوسائل تأخذ حكم المقاصد، فبيع العنب لمن يتخذه خمرًا لا يجوز لما يفضي إليه من ضرر، أما بيع لبن الأمهات فيصح بضوابط لما فيه من نفع للأطفال.
3 / 1
الأصل في البيوع الحل إلا ما استثني
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
المسألة الأولى: بيع العنب لمن يتخذه خمرًا، هذه المسألة صعبة جدًا؛ لأن فيها ما يوافق الشرع وفيها ما يخالف الشرع، فظاهرها يوافق الشرع وباطنها يخالف الشرع.
وصورتها: أن رجلًا عنده عنب ويريد بيعه، وهو يحتاج إلى هذا المال، فهل يصح له بيعه لرجل يعلم أنه يشتريه ليجعله خمرًا؟ لما كان الظاهر يخالف الباطن اختلفت أقوال أهل العلم، فمنهم من أخذ بالظاهر، وقال: هو حلال؛ لأنه بيع توفرت فيه الشروط والأركان: البيع عن تراض، السلعة والثمن موجودان، أيضًا: الأصل العام في كل المعاملات الحل، والدليل: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٥]، ومن السنة حديث: (فإذا اختلفت الأصناف فبيعوا كيف شئتم)، والسياق يقيده بقوله: (الذهب بالذهب)، فإذا اختلفت هذه الأصناف الربوية فبيعوا كيف شئتم منه، ولكن: (يدًا بيد)، وكذلك: نهي النبي ﷺ عن بيوع معينة مما هو خلاف الأصل، مثلما سئل النبي ﷺ: ما يلبس المحرم؟ فقال: لا يلبس كذا ولا يلبس كذا ولا يلبس كذا، فهذه دلالة وإشارة من النبي ﷺ على أن هذه الملبوسات المنهي عنها خلاف الأصل، والأصل هو الحل في كل شيء إلا هذه الأشياء؛ فإن النبي ﷺ عندما حدد بعض البيوعات المحرمة كان في ذلك دلالة على أن الأصل في كل البيوع أو المعاملات الحل.
3 / 2
أقوال العلماء في بيع العنب لمن يعتصره خمرًا
لما كان لهذه المسألة ظاهر وباطن اختلف العلماء فيها على أقوال ثلاثة: القول الأول: قول الثوري: الحل مطلقًا، واستدل على ذلك بالأثر وبالنظر، أما بالأثر فقد قال الله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ [البقرة:٢٧٥]، وهذا بيع وليس بربا، والعنب طاهر منتفع به.
والأصل العام في كل معاملة بينها النبي ﷺ الحل طالما السلعة تساوي ثمنًا، فيقبض السلعة المشتري والثمن يقبضه البائع عن تراض، فيصح بذلك البيع، فإذا توافرت الأركان والشروط صح البيع.
القول الثاني: المنع مطلقًا، وهو قول الحنابلة وجمهور أهل العلم، فلا يجوز بيع العنب لمن يعتصره خمرًا بحال من الأحوال، وأدلة هذا القول كثيرة، منها: حديث صريح في النهي عن بيع العنب لمن يعتصره خمرًا، وهذا الحديث فيه كلام، والأدلة العامة تدل على أن النبي ﷺ في التأصيلات العامة حرم كل وسيلة توصل إلى محرم.
وأدلة هذا القول نوعان: الأدلة العامة من الأثر، والأدلة الخاصة من النظر، أما الأدلة العامة من الأثر: فقول النبي ﷺ: (لعن في الخمر عشرة)، وهو سيصل بالعنب إلى الخمر، فملعون من شربها، وملعون من أعطاها وأخذها وباعها وحملها ويسر على أخذها، وهذا اللعن يدل على الحرمة، والله جل في علاه بين أن مفاسدها أعظم من منافعها: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [البقرة:٢١٩] وقالوا: هذا دليل عام.
والدليل الثاني: قال الله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [المائدة:٢]، وبيع العنب لمن يعتصره خمرًا تعاون على الإثم والعدوان، فلا يصح هذا البيع لهذه الأدلة العامة.
والدليل الخاص هو دليل نظري، قالوا: الوسائل لها أحكام المقاصد، وإذا كنتم اتفقتم معنا على أن بيع الخمر حرام فهذا مقصد محرم، والوسيلة إليه لا بد أن تحرم؛ لأن كل وسيلة توصل إلى محرم لا بد أن نحرمها، فالوسائل لها أحكام المقاصد، وإن كان في الأصل أنها على الحل.
هذا كلام الحنابلة.
القول الثالث: قول الشافعية وهو التفصيل، قالوا: لا نقول بالحرمة ولا بالحل، فإذا علم البائع أن المشتري سيعتصره خمرًا فهو حرام، والأصل في البيع أنه على التراضي.
أما أدلتهم في الحرمة فهي أدلة السابقين، وأما أدلتهم على الكراهة، فقالوا: ظاهر البيع الحل، وهو لا يعتقد اعتقادًا جازمًا أن الذي سيشتري منه العنب سيعتصره خمرًا، ولذلك قلنا: يمكن أن يكون وسيلة لأن يعتصره خمرًا، فلما شك ولم يجزم قلنا بالكراهة ولم نقل بالتحريم.
والراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو قول الحنابلة، وهو قول أشار إليه النووي، وهو حرمة بيع العنب لمن يعتصره خمرًا، فإذا قلت بالحرمة فإن هذه الحرمة تتعدى إلى كل ألوان البيوعات التي يصل بها المشتري أو البائع إلى ما كان محرمًا تجنبًا للشر، كاستئجار امرأة لتغني -وفي الأعراس كثيرًا ما يأتون بالفرق لتغني- فهذا الاستئجار لا يصح، وكلها معاملات وفرع من الأصل، والإيجار من البيوع.
أيضًا: بيع الأسلحة في الفتنة لا يجوز؛ لأنها من باب الوسائل ولها أحكام المقاصد.
أيضًا الوسيط في معاملة ربوية وإن كان ظاهرها الحل والشافعي يقول بصحتها، لكن الجماهير وشيخ الإسلام يرى الحرمة في ذلك، كأن تأتي برجل لا يعرف شيئًا في التجارة، وليس له ثمة بيع ولا شراء، وتقول له: اشتر لي هذه الثلاجة وأنا أشتريها منك بالتقسيط، يشتريها لك بألف نقدًا وتشتريها أنت منه تقسيطًا بألف ومائة أو ألف ومائتين، فهذه الراجح والصحيح فيها أنها حرام وأنها من الربا، وهي كما قال فيها ابن عباس ﵁ وأرضاه: ذهب بذهب بينهما حريرة، فهذا الراجح والصحيح أن الوسائل لها أحكام المقاصد.
إذًا: الشافعية قالوا: إن اعتقد أن المشتري سيعتصرها خمرًا فيحرم عليه البيع، وإن شك فعلى الكراهة، أما الحنابلة فقد قالوا بالتحريم على الإطلاق شك أو لم يشك.
مثال ذلك: الملابس التي ترتديها المرأة إلى الركبة هل يجوز أن يبيعها المرء للنساء؟ المسألة فيها تفصيل: إن شك أو غلب على ظنه أن المرأة سوف تشتري هذا الزي لتتبرج به أمام الرجال فهذا البيع حرام، والحرمة ليست لذات البيع، لكن للمقصد، لكن لو جاءت امرأة منتقبة محترمة تحفظ دينها وتشتري هذا الزي، وأنها ستلبسه لزوجها، فيحل البيع هنا.
3 / 3
حكم بيع لبن الأمهات
من فضل الله على الطفل أن أمه عندما تلده فإن الله يجري في عروقها هذا اللبن، وهذا اللبن هو الذي يغذي الطفل، وبإجماع الأطباء أن أفيد شيء للطفل هو لبن الأم.
وقد اختلف العلماء في إرضاع المرأة لولدها هل هو على الوجوب أم على الاستحباب؟ بمعنى: هل للأم أن تعطي المولود لأبيه وتقول له: أرضعه كيفما شئت، ولا يجب عليها أن ترضع الولد؟ بعض العلماء قال بذلك.
والمسألة في المطلقة إذا طلقت هل يجب عليها الإرضاع أم لا ويجب على الأب استئجار من ترضع المولود إذا أبت أمه أن ترضعه، أو أن ترضعه بأجر؛ لأن الله جل وعلا قال: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ﴾ [الطلاق:٦]، لا بد أن يؤتيها الأجرة على ذلك، أو تسقط نفقة الإرضاع؛ فإن أبت فلك أن تستأجر ﴿وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ [الطلاق:٦]، أي: تستأجر امرأة، وهو استئجار الظئر لإرضاع الصغير، إذًا: الرضاعة لا تجب عند الطلاق.
أما إذا أراد الرجل الرضاع لابنه، فهل يصح للمرأة التي تأخذ الأجرة على إرضاع الابن أن تبيع لبنها، وهذا اللبن يجمد ويحفظ، أو أن نجمع النساء ونأخذ منهن قدرًا معينًا ثم نحفظه ونبيعه للأطفال، مثل اللقيط الذي تتركه الزانية ولا ترعاه، فهل يصح بيع هذا اللبن أم لا؟
3 / 4
القول بعدم جواز بيع لبن الأمهات وأدلته
اختلف العلماء في ذلك على قولين، فبعضهم قال: لا يجوز بيع لبن الأمهات، وأدلتهم في ذلك نظرية: الدليل الأول: شرف الآدمي، فلا يجوز بيع لبن المرأة، بل وأعظم من ذلك أن الآدمي لا يملك بدنه ولا نفسه ولا روحه فهي ملك لله جل في علاه، فنفسك التي بين كتفيك عارية لا تتحكم فيها، وهذا الراجح من أقوال أهل العلم؛ فإنه لا يجوز أن تعطي كليتيك أو أن تبيعها أو أن تبيع الدم، وهم يحتجون بأن المرأة أو الآدمية لا تملك ذلك فتبيعه.
الدليل الثاني: أن لبن الأمهات جاز في الإرضاع من باب الضرورات، ولولا أن الطفل سوف يموت إن لم يرضع من أمه لقلنا: لا يجوز لك أن ترضعيه؛ ولذا قالوا: إرضاع الطفل من باب الضرورات، وعندهم قاعدة: الضرورات تقدر بقدرها.
فقالوا: فقط للإرضاع لا للبيع ولا للشراء ولا للتجارة.
الدليل الثالث: أن هذا لم يكن معروفًا في عصر الصحابة، وما علم بينهم أن المرأة ذهبت لتبيع لبنها، فيشترى اللبن، فتأخذ هذا المال لتنفق به على نفسها أو أولادها، فلما لم يعرف قالوا: لا يجوز بيع لبن المرأة.
3 / 5
القول بجواز بيع لبن الأمهات وأدلته
القول الثاني: وهو قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة، قالوا بجواز بيع لبن المرأة، واستدلوا على ذلك بأدلة: الدليل الأول: الأصل؛ لأن الأصل في البيع والشراء الحل، ولا يحرم شيء إلا إذا أتى الدليل الناطق الصريح الصحيح في ذلك.
الدليل الثاني: أنه لبن طاهر ينتفع به فلا كراهة في بيعه.
الدليل الثالث: إذا جاز لك الأجرة من أجل الإرضاع، والإجارة فرع عن البيع، فإذا أخذت المرأة الأجرة لأنها ترضع طفلًا صغيرًا، فيجوز لها أن تبيع هذا اللبن أيضًا.
الدليل الرابع: وهو دليل قياس، حيث قاسوا ذلك على لبن الشاة، فأنت لو اشتريت شاة أو بقرة حلوبًا تأخذ منها اللبن وتحفظه وتبيعه جاز لك ذلك، فقاسوا لبن المرأة على لبن الشاة، لكن ما وجه هذا القياس عند فقهاء المالكية والشافعية والحنابلة؟ يقولون: يجوز للمرأة أن تعصر ثديها وتبيع هذا اللبن قياسًا على لبن الشاة، وهو لا يحرم بيعه حتى ولو كان يحتاجه رضيع الشاة.
والراجح الصحيح: أنه يجوز بيع لبن المرأة، ففي بلاد الغرب والبلاد الأجنبية هم في حاجة إلى شيء اسمه مصانع اللبن، وهذه المصانع يستأجرون فيها النساء لتعصر المرأة ثديها ويشترون اللبن منها للبيع؛ لأن أولاد الزنا واللقطاء عندهم كثير.
3 / 6
شروط بيع لبن الأمهات
إذا قلنا بجواز البيع لا بد لنا من أن ننظر في هذه المسألة إلى أمرين: الأمر الأول: ألا يضر اللبن الطفل، فإذا أضره لم يجز بيعه؛ لقوله تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة:١٩٥].
الشرط الثاني: انتشار التحليل، وهو خمس رضعات مشبعات، ولها حالتان.
قبل ذلك نذكر الرد على الأحناف.
كأنهم قاسوا على الأعضاء، والأعضاء لا يجوز لها أن تتبرع بها، ثم قالوا: لا تباع؛ لأنها شريفة، ولا يجوز بيع جزء منها.
نقول: نعم، هذا شريف، والإنسان شريف، لكن الشرف لا يمنع من البيع.
والقياس على الأعضاء قياس مع الفارق، مع أننا نوافقكم على أن التبرع بالأعضاء لا يجوز، لكن اللبن متولد مثله مثل الدم، ولذلك يجوز لك التبرع بالدم، وهذا باتفاق العلماء، ولكن لا يجوز بيعه، فإن النبي ﷺ نهى عن ثمن الدم، وهناك قياس مع الفارق لا يدل على الحرمة، هذا هو الرد على قول الأحناف.
وإذا قلنا بجواز البيع هل تنتشر المحرمية أم لا؟ نقول لنا حالتان: الحالة الأولى: أن نعرف من أخذنا منها اللبن، وهل رضع الطفل أكثر من خمس رضعات مشبعات؟ حينها نقول: هذه أمه من الرضاعة وتنتشر المحرمية بينهما.
إذًا: هذا الرضيع يدخل في كنف الأم، وهذه الأم لها أصل وفروع وحواشي، فأصبح منهم؛ لأن المحرمية تنتشر، وهو يحرم على أختها وبنتها، أما أبوه وأخوه وأخته فلا علاقة لهم بالمحرمية.
الحالة الثانية: إذا علم أن أكثر من امرأة أخذ منها اللبن، فمن تكون أمه؟ أيتهن لا يتزوج بابنتها ويكون محرمًا لها؟ ماذا نفعل في هذه حالة وجود أكثر من أم له؟ إذا علم الأمر فهو كما في الحالة الأولى، وإذا اختلط الأمر علينا ولا نعرف هل هذه المرأة هي التي أرضعت أم هذه فهن أكثر من واحدة، فلما أصبح الأمر عندنا شبه مجهول أصبح يساوي المعلوم، فالمجهول هنا الذي لا نضبطه ينزل منزلة المعلوم، ونقول: لا تنتشر المحرمية، ولا أم له، ويتزوج بنت هذه أو بنت هذه فيجوز له ذلك.
هذه هي المسألة الأخيرة في هذا الباب في الكلام على المعاملات المعاصرة، وهي بيع لبن الأمهات، وهذه المسألة منتشرة جدًا في الغرب، ولذلك لزم التنبيه عليها.
3 / 7
فقه المعاملات المعاصرة - مسألة ضع وتعجل
اختلف السلف والخلف في جواز مسألة (ضع وتعجل) على قولين: مبيح ومانع، واستدل كل فريق بما يعضد قوله من الأثر والنظر، والراجح هو جوازها لما فيها من إرفاق بالدائن والمدين، وإصلاح بين المسلمين، كما دلت على ذلك الأدلة.
4 / 1
صورة مسألة ضع وتعجل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢].
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١].
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠ - ٧١].
كثير من التجار والباعة يعملون بمسألة مهمة، وهي مفيدة جدًا لهم، وهذا بحث مشترك بين الحديث والفقه، وهي مسألة الحطيطة أو ضع وتعجل، وهي أيضًا من المعاملات المعاصرة، وقد اختلف فيها كثير من العلماء، وسنبينها تيسيرًا على الناس.
مسألة الحطيطة، أو الإبراء، أو ضع وتعجل صورتها كالتالي: رجل له دين عشرة آلاف على رجل إلى أجل معلوم، فضاقت السبل بهذا الدائن وأراد ماله، فذهب للمدين وقال له: احتجت المال، فقال: الأجل لم يحل، فقال: عجل لي المال وأطرح عنك بعضه، فبدلًا من عشرة آلاف سآخذ منك ثمانية آلاف، فهل تصح هذه الصورة أم لا؟ فهذا رجل أراد ماله، ووقت السداد لم يحن، فقال له المدين: لم يحن الأجل بعد، فقال المقرض: أعطني المال وسأسقط عنك بعض المال الذي عليك.
هذه صورة مسألة ضع وتعجل.
أو: رجل يبيع بالتقسيط، فباع سيارة بمائة ألف بالتقسيط منجمة، فلما احتاج بائع السيارة المال ذهب للمشتري فقال له: إني أحتاج المال الذي عندك.
هي بالتقسيط بمائة ألف، وسوف آخذ منك ثمانين ألفًا دون تقسيط، وسأسقط عنك العشرين.
فهل تصح هذه الصورة أم لا؟
4 / 2