Fiqh al-Seerah by Al-Ghazali
فقه السيرة للغزالي
Daabacaha
دار القلم
Lambarka Daabacaadda
الأولى
Sanadka Daabacaadda
١٤٢٧ هـ
Goobta Daabacaadda
دمشق
Noocyada
المقدّمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هناك عظماء كثيرون يقرأ الناس قصص حياتهم ليتملّوا من عناصر النبوغ فيها، وليتابعوا بإعجاب مسالكها في الحياة، ومواقفها بإزاء ما يعرض لها من مشكلات وصعاب، وقد تكون هذه القراءة المجرّدة هي الرباط الفذّ بين أولئك العظماء ومن يتعرّف عليهم، وربما تطوّرت فأصبحت دراسة عميقة أو صلة إنسانية وثيقة.
وأبادر إلى القول: بأني لم أكتب عن صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وفي نفسي هذا المعنى المحدود.
فأنا رجل مسلم عن علم، أعرف لماذا امنت بالله رب العالمين، ولماذا صدقت بنبوة محمد ﷺ، ولماذا اتبعت الكتاب الذي جاء به، بل لماذا أدعو الاخرين إلى الإيمان بما سكنت إليه نفسي من هذا كله.
وقد سبق لي أن نشرت في السيرة فصولا منوعة، وهل ابتعدت عنها في شيء مما كتبته؟ إنّ الرسائل التي عالجت فيها بحوث العقيدة والخلق والمعاملة والحكم؛ اعتمدت على سيرة النبي الكريم ﷺ في كيانها وسياقها، ولذلك يصحّ أن أقول:
إن هذا الكتاب ليس صلة محدثة برسول الإسلام ﷺ، ولا جملة من الدلائل على صدقه، ولا لمحات تكشّفت للمؤلف عن عبقريته وسناء دعوته..
فإنّ ذلك قد استفاض به الكلام في مواضع أخرى؛ ولكني توفّرت على إخراج هذا الكتاب وأمامي غاية معينة أرجو أن أكون بلغتها.
إن المسلمين الان يعرفون عن السيرة قشورا خفيفة، لا تحرّك القلوب، ولا تستثير الهمم، وهم يعظّمون النبي ﷺ وصحابته عن تقليد موروث ومعرفة قليلة،
1 / 5
ويكتفون من هذا التعظيم بإجلال اللسان، أو بما قلّت مؤنته من عمل.
ومعرفة السيرة على هذا النحو التافه تساوي الجهل بها.
إنه من الظلم للحقيقة الكبيرة أن تتحول إلى أسطورة خارقة، ومن الظلم لفترة نابضة بالحياة والقوة أن تعرض في أكفان الموتى.
إن حياة محمد ﷺ ليست- بالنسبة للمسلم- مسلاة شخص فارغ، أو دراسة ناقد محايد، كلا كلا؛ إنها مصدر الأسوة الحسنة التي يقتفيها، ومنبع الشريعة العظيمة التي يدين بها، فأيّ حيف في عرض هذه السيرة، وأي خلط في سرد أحداثها إساءة بالغة إلى حقيقة الإيمان نفسه.
وقد بذلت وسعي في إعطاء القارئ صورة صادقة عن سيرة رسول الله ﷺ، واجتهدت في إبراز الحكم والتفاسير لما يقع من حوادث، ثم تركت للحقائق المجلوّة أن تدع اثارها في النفوس دون افتعال أو احتيال.
وقد استفدت من السير التي كتبها القدامى والمحدثون استفادة حسنة.
إن المؤرّخين المحدثين يميلون إلى التعليل والموازنة، وربط الحوادث المختلفة في سياق متماسك، وذاك أحسن ما في طريقتهم.
والمؤرّخون القدامى يعتمدون على حشد الاثار، وتمحيص الأسانيد، وتسجيل ما دقّ وجلّ من الوقائع والشؤون؛ وفي هذه المحفوظات الكثيرة نفائس ذات خطر لو أحسن الاستشهاد بها وإيرادها في مواضعها.
ولعلّي هنا مزجت بين الطريقتين على نحو جديد، يجمع بين ما في كلتيهما من خير، فجعلت من تفاصيل السيرة موضوعا متماسكا يشدّ أجزاءه روح واحد، ثم وزعت النصوص والمرويات الاخرى بحيث تتسق مع واحدة الموضوع، وتعين على إتقان صورته وإكمال حقيقته.
وقصدت من وراء ذلك أن تكون السيرة شيئا ينمّي الإيمان، ويزكّي الخلق، ويلهب الكفاح، ويغري باعتناق الحقّ والوفاء له، ويضم ثروة طائلة من الأمثلة الرائعة لهذا كله.
إنني أكتب في السيرة كما يكتب جنديّ عن قائده، أو تابع عن سيده، أو تلميذ عن أستاذه، ولست- كما قلت- مؤرّخا محايدا مبتوت الصلة بمن يكتب عنه.
1 / 6
ثم إنني أكتب وأمام عينيّ مناظر قاتمة من تأخّر المسلمين العاطفيّ والفكريّ؛ فلا عجب إذا قصصت وقائع السيرة بأسلوب يومئ من قرب أو من بعد إلى حاضرنا المؤسف، كلما أوردت قصة جعلتها تحمل في طياتها شحنة من صدق العاطفة، وسلامة الفكر، وجلال العمل، كي أعالج هذا التأخر المثير.
ومحمد ﷺ ليس قصة تتلى في ميلاده كما يفعل الناس الان، ولا التنويه به يكون في الصلوات المخترعة التي قد تضمّ إلى ألفاظ الأذان، ولا إكنان حبّه يكون بتأليف مدائح له أو صياغة نعوت مستغربة يتلوها العاشقون، ويتأوّهون أو لا يتأوهون!.
فرباط المسلم برسوله الكريم ﷺ أقوى وأعمق من هذه الروابط الملفقة المكذوبة على الدين، وما جنح المسلمون إلى هذه التعابير- في الإبانة عن تعلقهم بنبيّهم- إلا يوم أن تركوا اللباب المليء وأعياهم حمله، فاكتفوا بالمظاهر والأشكال؛ ولما كانت هذه المظاهر والأشكال محدودة في الإسلام، فقد افتنّوا في اختلاق صور أخرى، ولا عليهم؛ فهي لن تكلفهم جهدا ينكصون عنه، إن الجهد الذي يتطلّب العزمات هو الاستمساك باللباب المهجور، والعودة إلى جوهر الدين ذاته، فبدلا من الاستماع إلى قصة المولد يتلوها صوت رخيم، ينهض المرء إلى تقويم نفسه، وإصلاح شأنه، حتى يكون قريبا من سنن محمد ﷺ في معاشه ومعاده، وحربه وسلمه، وعلمه وعمله، وعاداته وعباداته....
إنّ المسلم الذي لا يعيش الرسول ﷺ في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره لا يغني عنه أبدا أن يحرك لسانه بألف صلاة في اليوم والليلة.
وأريد هنا أن أنبّه إلى ضرورة الفصل بين الجد والهزل في حياتنا، ولا بأس أن نجعل للهو واللعب وقتا لا يعدوه، وللجد والإنتاج وقتا لا يقصر عنه.
فإذا أراد أحد أن يغنّي أو يستمع إلى غناء فليفعل، أما تحويل الإسلام نفسه إلى غناء؛ فيصبح القران ألحانا عذبة، وتصبح السيرة قصائد وتواشيح، فهذا ما لا مساغ له، وما لا يقبله إلا الصغار الغافلون. وقد تمّ هذا التحوّل على حساب الإسلام، فانسحب الدين من ميدان السلوك والتوجيه إلى ميدان اللهو واللعب، وحقّ فيمن فعلوا ذلك قول الله ﷿: الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا [الأنعام: ٧٠] .
1 / 7
وتحوّل القران إلى تلاوة منغومة فحسب، يستمع إليها عشّاق الطّرب، هو الذي جعل اليهود والنصارى يذيعونه في الافاق، وهم واثقون أنه لن يحيي موتى.
وتحوّل السيرة إلى قصص وقصائد غزل، وصلوات مبهمة؛ جعل الاستماع إليها كذلك ضربا من الخلل النفسي، أو الشذوذ الناشئ- في نظري- من اضطراب الغرائز، وفساد المجتمع.
وخير من هذا كله أن يستمع طلاب الغناء إلى اللهو المجرد، والألحان الطروب، فإذا ابتغوا العمل الجادّ المهيب طلبوه من مصادره المصفّاة: قرانا يأمر وينهى ليفعل أمره ويترك نهيه، وسنّة تفصّل وتوضح ليسار في هديها وينتفع من حكمتها، وسيرة تنفح روادها بالأدب الزكيّ والقواعد الحصيفة، والسياسة الراشدة.
وذلك هو الإسلام.
بدأت أكتب هذه الصحائف وأنا في المدينة المنورة، في الجوار الطيّب الذي سعدت به حينا، وأعانني على إتمام دراسات جيدة في السنّة المطهرة والسيرة العطرة.
ولله المنّة على ما أولى من نعمه، ولعلّه- جلّ شأنه- يجعلني ممن يحبونه ويحبون رسوله، ولما كنت لا أحسن القول والعمل إلا في نطاق الصراحة، فلا بدّ أن أشير إلى أن البون بعيد بين المسلمين ورسولهم ﷺ، مهما أكنّوا له من حبّ، وأدمنوا من صلوات. لقد رأيتهم يزورون الروضة مشوقين متلهّفين، ويعودون إلى موطنهم ليجدوا من يغبطهم على حظّهم، ويودّ لو ظفر بما نالوا.
أمّا أنّ محبة رسول الله ﷺ واجبة؛ فهذا ما لا يماري فيه مؤمن، وما يغيض حبه إلا من قلب منافق جحود.
ولكن أن تكون هذه العاطفة مظهر الولاء له، فهذا ما يحتاج إلى تهذيب وبيان.
إن يثرب من ناحية العمران العام أقل منها يوم كانت موطنا للأوس والخزرج في الجاهلية الأولى، وما يزرع اليوم من أرضها عشر ما كان يزرعه العرب قديما، وجمهور السكان من رواسب المواسم المزدحمة بالحجيج
1 / 8
والزوار، وهم يؤثرون الجوار العاطل على العودة للعمل في بلادهم، ويسمّون ذلك هجرة! فهل ذلك إسلام أو حبّ لرسول الله ﷺ؟!.
أذكر أنه قابلني نفر من أهل المغرب يزعمون أنهم قدموا إلى المدينة فرارا بدينهم من الفتن، فأفهمتهم أنهم فارّون من الزحف، لأن إخوانهم يقاتلون الفرنسيين الغزاة، وهم مجرمون بتركهم المجاهدين يحملون واحدهم عبء هذا الكفاح «١» .
إنّ هذا الحب لرسول الله ﷺ غير مفهوم، وهذه الهجرة لمدينته غير متقبلة، وصلة نبي الله بعباد الله أشدّ وأحكم من أن تأخذ هذه السبل الشاردة الملتوية.
إنّ أعداء الإسلام تمكّنوا- في غفلة أهله- أن يصدعوا بناءه، ويجعلوه أنقاضا؛ فكيف يترك تراث محمد ﷺ نهبا للعوادي؟! وكيف يمهّد للجاهلية الأولى أن تعود؟! وكيف يقع هذا التبدل الخطير في سكون؟! بل في مظهر من الحب لرسول الله ﷺ؟!.
فليفقه المسلمون سيرة رسولهم العظيم.
وهيهات أن يتم ذلك إلا بالفقه في الرسالة نفسها، والإدراك الحقّ لحياة صاحبها، والالتزام الدقيق لما جاء به.
ألا ما أرخص الحبّ إذا كان كلاما، وما أغلاه عند ما يكون قدوة وذماما!.
إنني أعتذر عن تقصيري في إيفاء هذا الموضوع حقّه؛ فشأن رسول الله ﷺ كبير، والإبانة عن سيرته تحتاج إلى نفس أرقّ، وذكاء أنفذ. وحسبي أن ذاك جهدي.
اللهم صلّ على محمد، وعلى ال محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى ال إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى ال محمد، كما باركت على إبراهيم، وعلى ال إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.
محمّد الغزالي
_________
(١) صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب وفرنسة تحتلّ أقطار المغرب الثلاثة وغيرها من ديار الإسلام. قلت: صدرت الطبعة الأولى لهذا الكتاب في السبعينيات من القرن الرابع عشر الهجري، الموافق للخمسينيات من القرن العشرين الميلادي. (ن) .
1 / 9
حول أحاديث هذا الكتاب
سرّني أن تخرج هذه الطبعة الجديدة بعد أن راجعها الأستاذ المحدّث العلّامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وقد أثبتّ فيها كل التعليقات التي ارتاها على ما نقلت في هذه السيرة من اثار نبوية.
وأرجو أن أكون معينا على إبراز الحقيقة العلمية، وضبط الوقائع التاريخية، بإثبات هذا النقد، وشكره لمن تطوّع به.
إنّ افة المؤرّخين للسيرة الشريفة ولغيرها من أحداث الناس، وأطوار الزمان؛ قلة التثبّت، وضعف التمحيص.
وقد وقع كثير من الأقدمين والمحدثين في هذا الخطأ، على تفاوت بينهم في دقة المأخذ، واحدّة الانتباه.
وعند ما شرعت أكتب سيرة لسيدي رسول الله ﷺ؛ اجتهدت أن ألزم المنهج السويّ، وأن أعتمد على المصادر المحترمة.
وأظنني بلغت في هذا المجال مبلغا حسنا، واستجمعت من الأخبار ما تطمئنّ إليه نفس العالم البصير.
لكن القارئ سيرى في تعقيبات الشيخ ناصر الدين ما يبعث ريبته في هذا الظن.
وهنا أراني مكلفا بشرح المنهج الذي سرت عليه:
قد يختلف علماء السنّة في تصحيح حديث أو تضعيفه، وقد يرى الشيخ ناصر- بعد تمحيصه للأسانيد- أنّ الحديث ضعيف، وللرجل من رسوخ قدمه في السنّة ما يعطيه هذا الحق، أو قد يكون الحديث ضعيفا عند جمهرة المحدّثين، لكني أنا قد أنظر لمتن الحديث فأجد معناه متفقا كل الاتفاق مع اية من كتاب الله، أو أثر من سنّة صحيحة، فلا أرى حرجا من روايته، ولا أخشى ضيرا من كتابته؛ إذ هو لم يأت بجديد في ميدان الأحكام والفضائل، ولم يزد أن يكون شرحا لما تقرّر من قبل في الأصول المتيقّنة.
1 / 11
خذ مثلا أول حديث حكم الأستاذ بتضعيفه: «أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبّوني بحبّ الله» .
قد يرى الأستاذ المحدّث أن تحسين الترمذي وتصحيح الحاكم لا تعويل عليهما في قبول هذا الحديث، وله ذلك.
بيد أني لم أجد في المطالبة بحب الله ورسوله ﷺ ما يحملني على التوقّف فيه، ولذلك أثبتّه وأنا مطمئنّ.
وفي الوقت الذي فسحت فيه مكانا لهذا الأثر- على ما به- صددت عن إثبات رواية البخاري ومسلم مثلا للطريقة التي تمّت بها غزوة بني المصطلق.
فإن رواية الصحيحين تشعر بأن رسول الله ﷺ باغت القوم وهم غارّون «١» ما عرضت عليهم دعوة الإسلام، ولا بدا من جانبهم نكوص، ولا عرف من أحوالهم ما يقلق!.
وقتال يبدؤه المسلمون على هذا النحو مستنكر في منطق الإسلام، مستبعد في سيرة رسوله ﷺ.
ومن ثمّ رفضت الاقتناع بأن الحرب قامت وانتهت على هذا النحو.
وسكنت نفسي إلى السياق الذي رواه ابن جرير.. فهو على ضعفه- الذي كشفه الأستاذ الشيخ ناصر- يتفق مع قواعد الإسلام المتيقّنة، أنه لا عدوان إلا على الظالمين.
أما الغارّون الوادعون فإنّ اجتياحهم لا مساغ له.
وحديث الصحيحين في هذا لا موضع له إلا أن يكون وصفا لمرحلة ثانية من القتال، بأن يكون أخذ القوم عن غرّة جاء بعد ما وقعت الخصومة بينهم وبين المسلمين، وأمسى كلا الفريقين يبيّت للاخر، ويستعدّ للنيل منه.
فانتهز المسلمون فرصة من عدوهم- والحرب خدعة- وأمكنهم الغلب عليهم وهم غارّون.
وفي هذه الحالة لا بدّ من التمهيد لرواية البخاري ومسلم، بكلام يشبه ما نقله ابن جرير ووهّنه فيه الشيخ ناصر.
_________
(١) أخذهم على غرة.
1 / 12
ولست بدعا في تلك الخطة التي اخترتها؛ فإن أغلب العلماء جرى على مثلها في مواجهة المرويات الضعيفة والصحيحة على سواء.
وقرّروا أن الحديث الضعيف يعمل به ما دام ملتئما مع الأصول العامة، والقواعد الجامعة.
وهذه الأصول والقواعد مستفادة- بداهة- من الكتاب والسنّة.
وعلى ضوء هذا النظر المنصف حكيت استشارة رسول الله ﵊ للحباب في موقعة بدر- وإن وهّن المحدثون سندها- لأنها تدور في نطاق الفضائل التي أمر بها الله ورسوله، وليس في سوقها ما يحذر قط.
ذاك بالنسبة إلى الأحاديث الضعاف.
أما الصّحاح فإن في تفاوت دلالتها مجالا رحبا للترجيح والرد، كما يعلم الأستاذ المحدّث.
وما من إمام فقيه إلا وردّ بعض ما صحّ، إيثارا لما ظهر أنه أصحّ.
ومعاذ الله أن نشغب على السنّة، فهي الأصل الثاني للإسلام يقينا.
بيد أنني إذا تتبّعت السنن، فعرفت- أنها في جملتها- تتفق مع القران الكريم؛ في أنه لا حرب إلا بعد دعوة وإعذار، وتعريف مشرق، لا تبقى معه شائبة غموض، فكيف أقبل ما يوهم غير هذا؟!.
الله جلّ شأنه يأمر نبيّه في قرانه الكريم: قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (١٠٩) [الأنبياء] .
بعد هذا الإعلام الذي يستوي في الإحاطة به الداعون والمدعوّون، وبعد أن سار النبيّ ﵊ في مغازيه، وسار الخلفاء في معاركهم على هذا النحو من توضيح للدعوة، وإتاحة الفرصة للناس كي يقبلوا أو يرفضوا.
بعد هذا لا أرى أن يلزمني أحد بقبول ما رواه الشيخان عن عبد الله بن عون، قال: كتبت إلى نافع ﵀ أسأله عن الدعاء قبل القتال، فكتب إليّ:
إنما كان ذلك في أول الإسلام! وقد أغار ﵊ على بني المصطلق وهم غارّون، فقتل مقاتلتهم، وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية.
قال: حدّثني به عبد الله بن عمر، وكان في ذلك الجيش.
1 / 13
وكما تجاوزت هذا الحديث، تجاوزت عن مثله أن الرسول ﷺ خطب أصحابه، وأعلمهم بالفتن وأصحابها إلى قيام الساعة.
فقد صحّ من كتاب الله وسنّة رسوله أنه- ﵊ لا يعلم الغيوب على هذا النحو المفصّل الشامل العجيب.
اثرت هذا المنهج في كتابة السيرة، فقبلت الأثر الذي يستقيم متنه مع ما صحّ من قواعد وأحكام، وإن وهى سنده.
وأعرضت عن أحاديث أخرى توصف بالصحة؛ لأنّها- في فهمي لدين الله، وسياسة الدعوة- لم تنسجم مع السياق العام.
ولا أرى مكانا لبسط وجهة نظري في أمور كثيرة خالفت فيها الأستاذ المحدّث.
ولكنّي أرى المكان متسعا لتسجيل تعقيباته كلّها على ما أوردت من نصوص، فإني عظيم الحفاوة بهذا الاستبحار العلمي، وهو يمثل وجهة نظر محترمة في تمحيص القضايا الدينية.
وأعتقد أن من حق القارئ عليّ أن يعرف رأي أحد المحققين المتشدّدين في المرويات التي أحصيتها هنا، سواء خالفته أم وافقته.
وشكر الله له جهده في المحافظة على تراث النبوّة، وهدانا جميعا سواء السبيل.
1 / 14
١
رسالة وإمام (مدخل إلى السيرة النبوية)
1 / 15
الوثنيّة تسود الحضارة القديمة
إنّ تاريخ الحياة مؤسف!!.
منذ هبط ادم وبنوه في الأرض، ثم بعد أن شبّ بهم الزمن، واطّرد العمران، وتشعّبت الحضارات، وأدبرت أجيال، وأقبلت على أنقاضها أخرى، منذ ذلك الحين السحيق والناس أخلاط متنافرون، لا تستقيم بهم السّبل يوما إلا شردت أياما، ولا يشيمون «١» بوارق الحق حينا إلا أطبقت عليهم ظلمات الباطل أحيانا.
ولو تقصّينا تاريخ البشر- على ضوء الإيمان بالله والاستعداد للقائه- لوجدنا العالم أشبه بمخمور تربو فترات سكره على فترات صحوه، أو بمحموم غاب عنه في سورة الألم- رشده؛ فهو يهذي ولا يدري.
وقد كان في تجارب الناس مع أنفسهم ودنياهم مزدجر؛ يزع عن الشر، ويردّ إلى الخير، بيد أن الهوى الغالب لا تجدي معه معرفة.
كم سلخت الدنيا من عمرها قبل أن يظهر محمد ﷺ؟!.
لقد مرّت عليها قرون طوال أفادت فيها علما كثيرا، ووعت تجارب خطيرة، ونمت اداب وفنون، وشاعت فلسفات وأفكار.
ومع ذلك فقد غلب الطيش، واستحكم الزّيغ، وسقطت أمم شتى دون المكانة المنشودة لها.
فماذا كان مصير الحضارات في مصر واليونان، وفي الهند والصين، وفي فارس وروما؟ لا أقصد مصيرها من ناحية السياسة والحكم، بل من ناحية العاطفة والعقل.
إن الوثنية الوضيعة اغتالتها؛ وفرضت عليها السقوط في هذه الوهدة «٢»
_________
(١) يشيمون: يرون. (ن) .
(٢) الوهدة: الهوة في الأرض. (ن) .
1 / 17
الزرية، فأمسى الإنسان الذي استخلفه الله ليكون ملكا في السموات والأرض، أمسى عبدا مسخرا لأدنى شيء في السموات والأرض.
وماذا بعد أن تقدّس العجول والأبقار، وتعبد الأخشاب والأحجار، وتطبق شعوب بأسرها على هذه الخرافة؟!.
إن الوثنية هوان يأتي من داخل النفس لا من خارج الحياة، فكما يفرض المحزون كابته على ما حوله، وكما يتخيل المرعوب الأجسام القائمة أشباحا جاثمة؛ كذلك يفرض المرء الممسوخ صغار نفسه وغباء عقله على البيئة التي يحيا فيها، فيؤلّه من جمادها وحيوانها ما يشاء.
ويوم ينفسح القلب الضيّق، ويشرق الفكر الخامد، وتثوب إلى الإنسان معانيه الرفيعة، فإن هذه الانعكاسات الوثنية تنزاح من تلقاء نفسها.
ومن ثمّ كان العمل الأول للدين داخل الإنسان نفسه، فلو ذبحت العجول المقدّسة، ونكّست الأصنام المرموقة، وبقيت النفس على ظلامها القديم، ما أجدى ذلك شيئا في حرب الوثنية! فيبحث العبّاد المفجوعون عن الهة أخرى غير ما فقدوا، يوفضون إليها من جديد! وما أكثر الوثنيين في الدنيا وإن لم يلتفّوا حول نصب، وما أسرع الناس إلى تجاهل الوجود الحق، وربّه الأعلى، والجري وراء وهم جديد!!.
والخرافة لا تأخذ مجراها في الحياة وهي تعلن عن باطلها، أو تكشف عن هرائها؛ كلّا، إنها تداري مجونها بثوب الجد، وتستعير من الحق لبوسه المقبول، وقد تأخذ بعض مقدماته وبعض نتائجه، ثم تتزين بعد ذلك للمخدوعين.
وكذلك فعلت الوثنية، لقد أغارت على الدين الصحيح، وحقائقه الناصعة، لا كما يغير النحل على أزهار الربيع، بل كما تغير الديدان وأسراب الجراد على الحدائق الغنّاء، فتحيلها قاعا بلقعا.
وهي إذا أفسدت ما تركت، لم تصلح ما أخذت، ولئن كان ما أخذته خيرا قبل أن تتصل به، لقد أصبح شرّا بعد ما تحوّل في جوفها إلى سموم.
وهذا هو السرّ في أنّ الوثنية التي لا تعرف الله تزعم أنها بأصنامها تتقرّب إليه وتبغي مرضاته.
1 / 18
جزء من الحق، في أجزاء من الباطل، في سياق يصرف الناس اخر الأمر عن الله، ويبعدهم عن ساحته.
وأعظم نكبة أصابت الأديان إثر عدوان الوثنيات عليها، ما أصاب شريعة عيسى ابن مريم ﵇ من تبدّل مروّع، ردّ نهارها ليلا، وسلامها ويلا، وجعل الواحدة شركة، وانتكس بالإنسان، فعلق همته بالقرابين، وفكره بالألغاز المعمّاة.
إن خرافة الثالوث والفداء تجددت حياتها بعد ما أفلحت الوثنية مرتين: الأولى في إقحامها إقحاما على النصرانية الجديدة، وبذلك انتصرت الوثنية مرتين: الأولى في تدعيم نفسها، والاخرى في تضليل غيرها.
فلما جاء القرن السادس لميلاد عيسى ﵇؛ كانت منارات الهدى قد انطفأت في مشارق الأرض ومغاربها؛ وكان الشيطان يذرع الأقطار الفيح، فيرى ما غرس من أشواك قد نما وامتد.
فالمجوسية في فارس طليعة عنيدة للشرك الفاشي في الهند والصين، وبلاد العرب وسائر المجاهل.
والنصرانية التي تناوئ هذه الجبهة قبست أبرز ماثرها من خرافات الهنود والمصريين القدامى، فهي تجعل لله صاحبة وولدا؛ وتغري أتباعها في (رومة) ومصر والقسطنطينية بلون من الإشراك أرقى مما ألف عبّاد النيران وعبّاد الأوثان، شرك مشوب بتوحيد يحارب شركا محضا.
ولكن ما قيمة هذه النقائض التي جمعت النصرانية بين شتاتها؟:
قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠) [يونس] .
ويظهر أنّ اصرة الشرك بين المجوسية والديانات السماوية المشوّهة هي التي جعلت هذه الأحزاب إلبا على المسلمين يوم بدؤوا يقيمون جماعتهم على عبادة الواحد الحق، وقد نبّأ الله هذه الأمة بأن الأذى سوف ينصبّ عليها من عبدة الأصنام، ومن أهل الكتاب في ان، ووصاها أن تتذرع بالصبر أمام هذا التحامل.
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ
1 / 19
قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) [ال عمران] .
والظلام الذي ران على الأفئدة والعقول في غيبة أنوار التوحيد، طوى في سواده أيضا تقاليد الجماعة وأنظمة الحكم، فكانت الأرض مذأبة يسودها الفتك والاغتيال، ويفقد فيها الضّعاف نعمة الأمان والسكينة.
وأيّ خير يرجى في أحضان وثنية كفرت بالعقل، ونسيت الله، ولانت في أيدي الدجّالين؟!.
لا غرابة إذا رفع الله عنها يده كما جاء في الحديث: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم، عربهم وعجمهم؛ إلا بقايا من أهل الكتاب ...» «١» .
وهذه البقايا هي التي ظلّت مستعصية على الشرك برغم طوفان الكفر الذي طمّ البقاع والتلاع.
لقد عمّت الدنيا قبل بعثة محمد صلى الله عليه وعلى اله وسلم حيرة وبؤس، ناءت بهما الكواهل:
أتيت والنّاس فوضى لا تمرّ بهم ... إلّا على صنم قد هام في صنم
فعاهل الرّوم يطغى في رعيّته ... وعاهل الفرس من كبر أصمّ عمي «٢»
حتّى تأذّن الله ليحسمنّ هذه الاثار، وليسوقنّ هدايته الكبرى إلى الأنام، فأرسل إلى الأمة محمدا ﵊.
_________
(١) من حديث طويل رواه مسلم في صحيحه.
(٢) الأبيات لشوقي من قصيدته المشهورة (نهج البردة) . (ن) .
1 / 20
طبيعة الرّسالة الخاتمة
وتمتاز بعثة محمد ﷺ بأنها عامة ودائمة.
والله ﷿ كان يستطيع أن يبعث في كلّ قرية نذيرا، ولكلّ عصر مرشدا، وإذا كانت القرى لا تستغني عن النّذر، والأعصار لا تستغني عن المرشدين، فلم استعيض عن ذلك كله برجل فذ؟.
الحقّ أن هذا الاكتفاء أشبه بالإيجاز الذي يحصّل المعنى الكثير في اللفظ اليسير؛ وبعثة محمد ﵊ كانت عوضا كاملا عن إرسال جيش من النبيين يتوزّع على الأعصار والأمصار، بل إنها سدّت مسدّ إرسال ملك كريم إلى كل إنسان تدبّ على الأرض قدماه، ما بقيت على الأرض حياة، وما تطلعت عين إلى الهدى والنجاة، ولكن كيف ذلك؟!.
في المزالق المتلفة قد يقول لك ناصح أمين: أغمض عينيك واتبعني، أو لا تسلني عن شيء يستثيرك، وربما تكون السلامة في طاعته؛ فأنت تمشي وراءه حتى تبلغ مأمنك، إنه في هذه الحال رائدك المعين، الذي يفكر لك، وينظر لك، ويأخذ بيدك؛ فإن هلك هلكت معه.
أمّا لو جاءك من أول الأمر رجل رشيد فرسم خطّ السير، وحذّرك مواطن الخطر، وشرح لك في إفاضة ما يطوي لك المراحل ويهوّن المتاعب، وسار معك قليلا ليدرّبك على العمل بما علمت؛ فأنت في هذه الحال رائد نفسك، تستطيع الاستغناء بتفكيرك وبصرك عن غيرك.
إن الوضع الأوّل أليق بالأطفال والسّذّج، وأما الوضع الأخير فهو المفروض عند معاملة الرجال وأولي الرأي من الناس.
والله ﷿ عند ما بعث محمدا ﵊ لهداية العالم، ضمّن رسالته الأصول التي تفتّق للألباب منافذ المعرفة بما كان ويكون.
والقران الذي أنزله على قلبه هو كتاب من ربّ العالمين إلى كلّ حيّ، ليوجهه إلى الخير ويلهمه الرشد.
1 / 21
لم يكن محمد ﵊ إماما لقبيل من الناس صلحوا بصلاحه، فلما انتهى ذهبوا معه في خبر كان، بل كان قوة من قوى الخير، لها في عالم المعاني ما لاكتشاف البخار والكهرباء في عالم المادة. وإن بعثته لتمثّل مرحلة من مراحل التطور في الوجود الإنساني، كان البشر قبلها في وصاية رعاتهم أشبه بطفل محجور عليه، ثم شبّ الطفل عن الطوق، ورشّح لاحتمال الأعباء واحده، وجاء الخطاب الإلهي إليه- عن طريق محمد ﷺ يشرح له كيف يعيش في الأرض، وكيف يعود إلى السماء. فإذا بقي محمد ﷺ أو ذهب فلن ينقص ذلك من جوهر رسالته. إن رسالته تفتيح الأعين والاذان، وتجلية البصائر والأذهان، وذلك مودع في تراثه الضخم من كتاب وسنّة.
إنه لم يبعث ليجمع حول اسمه أناسا قلّوا أو كثروا؛ إنما بعث صلة بين الخلق والحق الذي يصحّ به وجودهم، والنور الذي يبصرون به غايتهم.
فمن عرف في حياته الحق، وكان له نور يمشي به في الناس فقد عرف محمدا ﷺ، واستظلّ بلوائه، وإن لم ير شبحه أو يعش معه:
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطًا مُسْتَقِيمًا (١٧٥) [النساء] .
فإذا رأيت بعض الناس يتناسى دروس الأستاذ، ويتشبّث بثيابه وهو حيّ، أو يتعلق برفاته وهو ميت، فاعلم أنه طفل غرير، ليس أهلا لأن يخاطب بتعاليم الرسالة بله أن يستقيم على نهجها.
في مسجد النبي ﷺ بالمدينة رأيت حشدا من الناس يتلمّس جوار الرّوضة الشريفة، ويودّ أن يقضي العمر بجانبها.
ولو خرج النبيّ ﷺ حيّا على هؤلاء؛ لأنكر مراهم وكره جوارهم.
إن رثاثة هيئتهم، وقلّة فقههم، وفراغ أيديهم، وضياع أوقاتهم، وطول غفلتهم، تجعل علاقتهم بنبيّ الإسلام أوهى من خيط العنكبوت.
قلت لهم: ما تفيدون من جوار النبي ﷺ؟ وما يفيد هو نفسه منكم؟
إنّ الذين يفقهون رسالته ويحيونها من وراء الرمال والبحار، أعرف بحقيقة
1 / 22
محمد ﷺ منكم. إنّ القرابة الروحية والعقلية هي الرباط الوحيد بين محمد ﵊ ومن يمتّون إليه.
فأنّى للأرواح المريضة والعقول الكليلة أن تتصل بمن جاء ليودع في الأرواح والعقول عافية الدين والدنيا؟!.
أهذا الجوار اية حبّ ووسيلة مغفرة؟!.
إنك لن تحبّ لله إلا إذا عرفت أولا الله الذي تحبّ من أجله!! فالترتيب الطبيعيّ أن تعرف قبل كل شيء: من ربّك؟ وما دينك؟ فإذا عرفت ذلك- بعقل نظيف- وزنت- بقلب شاكر- جميل من بلّغك عن الله، وتحمّل العنت من أجلك، وذلك معنى الأثر: «أحبّوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبّوني بحبّ الله..» «١»، ومعنى الاية:
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) [ال عمران] .
ثم إن نبيّ الإسلام لم ينصّب نفسه (بابا) يهب المغفرة للبشر، ويمنح البركات، إنه لم يفعل ذلك يوما ما، لأنه لم يشتغل بالدجل قط.
إنه يقول لك: تعال معي؛ أو اذهب مع غيرك من الناس، لنقف جميعا في ساحة ربّ العالمين نناجيه: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (٧) [الفاتحة] .
_________
(١) هذا حديث ضعيف الإسناد، أخرجه الترمذي: ٤/ ٣٤٣- ٣٤٤، بشرح التحفة؛ والحاكم: ٣/ ١٥٠؛ وأبو نعيم في حلية الأولياء: ٣/ ٢١١؛ والخطيب في تاريخه: ٤/ ١٦٠، من طريق هشام بن يوسف، عن عبد الله بن سليمان النوفلي، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه، عن ابن عباس مرفوعا به، وقال الترمذي: «حديث حسن غريب، إنما نعرفه من هذا الوجه»، وقال الحاكم: «صحيح الإسناد» ووافقه الذهبي. وهذا من تساهلهم جميعا لا سيما الذهبي، فقد أورد النوفلي هذا في (ميزان الاعتدال في نقد الرجال)، وقال فيه: «فيه جهالة. ما حدث عنه سوى هشام بن يوسف» ثم ساق له هذا الحديث، فأنّى له الصحة؟! وقد تفرّد به هذا المجهول، ولم يوثقه أحد، ولذا قال فيه الحافظ ابن حجر في (التقريب): إنه (مقبول)، يعني: عند المتابعة، فأنّى المتابع له؟! ولذلك فقد أصاب ابن الجوزي حين قال: «هو غير صحيح» كما نقله المناوي في (فيض القدير)، وتعقبه بما لا طائل تحته!. نقول: ومع نقد الأستاذ لهذا الحديث فنحن نقبله؛ لأنّ معناه يوافق الاية، ولأنه في الفضائل.
1 / 23
فإذا رضي عنك هذا النبيّ- دعا الله لك، وإذا رضيت أنت عنه، ووقر في نفسك جلال عمله وكبير فضله؛ فادع الله كذلك له! فإنك تشارك بذلك الملائكة الذين يعرفون قدره ويستزيدون أجره: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (٥٦) [الأحزاب] .
وليس عمل محمد ﵊ أن يجرّك بحبل إلى الجنة، وإنما عمله أن يقذف في ضميرك البصر الذي ترى به الحق، ووسيلته إلى ذلك كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ميسّر للذكر، محفوظ من الزيغ، وذاك سرّ الخلود في رسالته.
فلننظر كيف عالج الرسول ﵊ البيئة التي ظهر فيها على ضوء هذه الطبيعة المفروضة في رسالته، ولننظر قبل ذلك إلى أحوال هذه البيئة نفسها.
1 / 24
العرب حين البعثة
كان أهل مكة ضعاف التفكير، أقوياء الشهوات.
إذ لا صلة بين نضج الفكر ونضح الغريزة، ولا بين تخلّف الجماعات من الناحية العقلية، وتخلّفها من ناحية الأهواء والمطامع.
إن عرام الشهوات الذي نسمع عنه في (باريس) و(هوليود) لا يزيد كثيرا عمّا وعته القرون الخالية من مفاسد الإنسان على ظهر الأرض.
وتقدّم الحضارة لا أثر له من هذه الناحية إلا في زيادة وسائل الإغراء فحسب.
أمّا الشهوات نفسها فهي هي من قبل الطوفان ومن بعده: الأثرة، والجشع، والرياء، والتهارش، والحقد، وغير ذلك من ذميم الخصال، ملأت الدنيا من قديم، وإن تغيرت الأزياء التي تظهر بها على مر العصور.
وإنّ الإنسان ليرى في القرية التافهة، وفي القبيلة الساذجة من التنافس على المال والظهور ما يراه في أرقى البيئات، وكثيرا من الناس تفوتهم أنصبة رائعة من العلم والفضل، ولكن لا تفوتهم أنصبة كبيرة جدا من الاحتيال والتطلّع والدّسّ، وقد تستغرب إذ ترى الشخص لا يحسن فهم مسألة قريبة من أنفه؛ ومع ذلك فهو يفهم جيدا ألا يكون فلان أفضل منه!!.
من عهد نوح ﵇ والحياة تجمع أمثلة شتى لهذا الغباء وهذا العناد؛ فعند ما دعي قوم نوح ﵇ إلى الإيمان بالله واحده، كانت إجابتهم لنوح ﵇ لا تهتم بموضوع الدعوة قدر اهتمامها بشخص الداعي، وما سيحرزه من فضل بهذه الرسالة!:
فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ... [المؤمنون: ٢٤] .
ما أكثر منافذ الهوى إلى الأعمال والأحكام، وما أعقد مخلّفات الهوى في الأخلاق والأفكار، والسير والسياسات!!.
1 / 25
وقد كانت (مكة) على عهد البعثة تموج بحركة عاصفة من الشهوات والماثم، وكان الرجال الذين يحيون فيها أمثلة قوية لنضج الأهواء، وشلل الأفكار، أو نمائها في ظلّ الهوى الجامح ولخدمته واحده.
كفر بالله واليوم الاخر، إقبال على نعيم الدنيا، وإغراق في التشبّع منه، رغبة عميقة في السيادة والعلو ونفاذ الكلمة، عصبيات طائشة تسالم وتحارب من أجل ذلك، تقاليد متوارثة توجه نشاط الفرد المادي والأدبي داخل هذا النطاق المحدود.
من الخطأ أن تحسب (مكة) يومئذ قرية منقطعة عن العمران في صحراء موحشة، لا تحس من الدنيا إلا الضرورات التي تمسك عليها الرمق، كلّا، إنها شبعت حتى بطرت، وتنازعت الكبرياء حتى تطاحنت عليها، وكثر فيها من تغلغل الإلحاد في أغوار نفسه حتى عزّ إخراجه منه؛ فهم بين عم عن الصواب، أو جاحد له، وفي هذا المجتمع الذي لم ينل حظا يذكر من الحضارة العقلية بلغ غرور الفرد مداه، ووجد من يسابق فرعون في عتوّه وطغواه.
قال عمرو بن هشام «١» - معلّلا كفره برسالة محمد ﷺ: زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف، حتّى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه! والله لا نؤمن به، ولا نتّبعه أبدا إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه!!.
زعموا أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله ﷺ: لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك! لأني أكبر منك سنا وأكثر منك مالا!.
وهذه السفاهات العاتية، لم تنفرد مكة بها، فما كان كفر عبد الله بن أبي في المدينة إلا لمثل هذه الأسباب.
ذهب رسول الله ﷺ بعد الهجرة- يعود سعد بن عبادة في مرض أصابه قبل وقعة بدر، فركب حمارا وأردف وراءه أسامة بن زيد، وسارا حتى مرّا بمجلس فيه عبد الله بن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفي المسلمين عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدّابّة خمّر ابن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبّروا علينا، فسلم رسول الله ﵊، ثم وقف ونزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القران..
_________
(١) هو أبو جهل.
1 / 26