وقد بنى له أخيرا بيتا صغيرا «فيللا» بإزاء كلوب محمد علي، أقامها من طبقة واحدة، ويتساءل الناس لماذا لم يقمها من طبقتين، الأولى حوانيت ومخازن، والثانية للسكن؟ فأجاب أحد الظرفاء بأنه سيبني الدكاكين هذه المرة في الطبقة العليا حين يعم نظام الطيارات إن شاء الله!
وبعد فما أعرف أحد أمتن صبرا ولا أطول بالا من هؤلاء المساكين ورثة مظلوم، فقد انتظروا أدهارا والأعمار تتصرم، والأنفس تتخرم، والباشا - أحياه الله الحياة الطيبة - لا يزداد على الأيام إلا قوة، ولا يكسبه طول السن إلا شبابا وفتوة. ولو كنت مكانهم لقطتعه في أحد البنوك بحطيطة عشرة أو عشرين في المائة كما تقطع الكمبيالات، ويحيا مظلوم باشا بعد هذا كما يشاء!
طلعت حرب بك
لا أحسبك تستطيع أن تتصور «بنك مصر» دون أن تتصور معه طلعت حرب، ولا أحسبك تستطيع أن تتصور اسم طلعت حرب دون أن يتمثل لذهنك في الحال «بنك مصر».
وكذلك شاء القدر أن يقرن اسم هذا الرجل بأجل الأعمال.
ولو أن رجلا حدثك من عشر سنين بأن سيكون في مصر «بنك» يقوم على أموال مصرية، وتقوم عليه أيد مصرية، لرددت حديثه من فورك إلى التزيد في التمني والمبالغة في التخييل! ذلك أننا، ولا أكتمك أشد ما ألح علينا من العلل، إنما كنا نتكئ في كل مهمنا على محض التمني وعقد الآمال بما عسى أن يصنع الغير لنا! أما أن نضطلع بعبئنا ونعالج شأننا بأيدينا، فذلك ما لم تكن تطيقه أذهاننا! ولقد طالت علينا هذه الحال حتى دبت إلينا الظنون بأننا لا نصلح لمعالجة عمل قومي، لا من عجز عن العمل، ولكن من توهم العجز عن العمل، حتى توهنت نفوسنا، وانبرت عزائمنا، وانخذلت هممنا، وشاع فينا ضعف الثقة، والثقة وحدها متكأ كل ما ترى من عظيمات الأمور. وإذا كنا قد عالجنا كثيرا من المشروعات القومية ففشلنا فيها كلها، فذلك لأننا إنما كنا نقدر هذا الفشل بحكم ما ملك علينا أنفسنا من ضعف الثقة. وذلك شأننا كان في كل ما نتطلع إليه من مطالب الحياة.
وأذن الله تعالى لنا بالعافية وأحسسنا، بعد يأس، دبيبها في أنفسنا في سنة 1919، وهببنا أمة تطلب ما تطلب الأمم، وتهيئ كتفيها لتنهض بما تنهض به في سبيل مجدها الأمم.
الوطنية الصحيحة تعمل كثيرا ولا تعلن عن نفسها. «قاسم أمين».
ولست اليوم بسبيل ما قام به أبطال النهضة الوطنية جملة، ولكنني إنما أطوف بالحديث اليوم حول قطعة منه وهي النهضة المالية، وحول بطل من أولئك الأبطال وهو طلعت حرب. وهيهات أن أصف قدر هذا الرجل الفاتح بأبلغ ولا أصدق من أنه أقام لمصر «بنكا» عظيما يقوم على أموال كلها مصرية، وتقوم عليه أيد كلها مصرية، وما شاء الله كان!
وإذا كان طلعت قد أقدم على هذا كله بعد إذ تخاذل الناس، وأصبحنا ولا تظن نفس بنفس خيرا، فقدر أنت مبلغ ما تسلح به هذا الرجل من عزم وثقة حسبهما أن ملآ كل هذه النفوس عزما وثقة!
Bog aan la aqoon