كل عجيب في عينه بعجيب
لعل عدلي قد جاوز الستين، وأحلف بدوري أن مصر لو كانت عاشت عيشا طبيعيا خاليا من الأحداث والعظائم، ما كان له في الدنيا أثر، ولا جرى له على لسان جمهرة المصريين ذكر ولا خبر، فلقد نجم عدلي باشا في مناصب الحكومة كما نجم غيره من الناس موظفا صغيرا في وزارة الداخلية، وما برح يتقلب في فنون الأعمال العامة حتى أصبح وكيل مديرية، فمديرا، فمحافظا للعاصمة، فمديرا لديوان الأوقاف ، فمتقاعدا في داره، فوكيلا للجمعية التشريعية، فوزيرا للمعارف، لا يمتاز في شيء من ذلك إلا بالنبل والكبر على الصغائر، والترفع عن سفساف الأمور، وكل ما كان له فيما عالجه من الأعمال من صحة الرأي، وصدق التدبير، وحسن التنظيم، فما كان ليذكر له شيء منها إلا بألسن من شارفوه ومن عملوا معه. أما عظمة عدلي وأما شهرته الخالدة على الزمان، فهو مدين بهما للجلى وللأحداث العظام، فلولا جسيمات الأمور؛ لكان عدلي رجلا مدرجا في عداد سائر الرجال.
ولقد كان وزيرا للمعارف في وزارة رشدي باشا في سنة 1918، وتهادنت الدول المحتربة الهدنة العامة، وشمرت لعقد الصلح، وتوقع المتطيرون أن تكون مصر من حصة إنجلترا في سلب تركيا المقهورة، فنهض رشدي ومعه صاحبه عدلي وناجيا الإنجليز بأنهما يريدان أن يشخصا إلى إنجلترا؛ ليراجعاها في حقوق مصر التي ضحت بما ضحت من الرجال والأموال في نصرة قضية الحلفاء. وتثاقل الإنجليز عنهما وتعللوا باشتغال ساستهم عن لقائهما بالاستعداد لمؤتمر الصلح، وخاف رشدي وعدلي أن تفلتهما الفرصة، وكرها الصبر على الهضيمة، فنفخا في الحركة الوطنية من روحهما القوى، وراحا يؤازران الوفد المصري ويشدان عضده من جهة، ويشرعان الإضراب للموظفين، ويستحمسان الجمهرة من جهة أخرى، حتى كان من أمر النهضة المصرية في سنة 1919 ما كان. وتلك أولى عزائم عدلي التي يحصيها له الجمهور.
وهبط ملنر مصر والوفد قائم في باريس، ودارت اللجنة هاهنا وهاهنا لعل أحدا يعاطيها أو يقاولها، فاستمسك الناس كلهم عنها، ولم يواتها منهم أحد، فعاذت في النهاية بالثلاثة الأعلام: رشدي وعدلي وثروت، فصارحوها بأنها إن أرادت الجد، فلا تفاوض في شأن مصر غير الوفد، فلتمض إلى باريس فهناك الحديث، أما في مصر فلن تجد مهما طال بها المقام، ثلاث قطط تحدثها في شأن البلاد!
وانكفأت لجنة ملنر إلى لندن، واستشرفت حقا لمفاوضة الوفد، إذ الوفد لا يتحول إلى لندن دون أن يستبين موضع خطوه، ويريد، وبين يديه رجاء أمة، أن يعرف فيم مذهبه وأين يقع حديثه، وكيف تكون غاية أمره. فدارت الأنظار كل مدار ، فلم تقع لهذا المهم إلا على عدلي، فدعاه الوفد فلبى الدعاء وشخص إلى باريس فلندن، فمهد الطريق، ووطأ أكناف السياسة هناك، وكان خير معوان للوفد على أداء مهمه الخطير.
وألف الوزارة في صدر سنة 1921، وشخص إلى لندن في وفد رسمي، وفاوض كرزن وأدلى إليه بحقوق مصر وأمانيها كلها، وأبى أن ينزل على ما أراد الإنجليز أن ينزلوا مصر عليه، فقطع المفاوضة، وعاد من فوره مرفوع الرأس، موفور الكرامة. وما كادت تستقر قدمه، حتى استقال من منصب الوزارة استقالته الكريمة النبيلة.
واليوم وقد تحرجت الأمور، وتصدت القوة بكل ما عندها لتنال مصر، فلا يلتفت زعيمها الأكبر إلا إلى صديقه عدلي. وكذلك كان شأن عدلي دائما تلتفت مصر إليه كلما نزلت بها الأحداث الجسام.
وبعد، فلقد تحسب عدلي رجلا عظاميا تلقى المجد عن آبائه العظام الفاتحين. والواقع أن عدلي يكن رجل عصامي بأجمع معاني الكلمة، وقد لا يعدله في عصاميته هذه رجل آخر في البلاد.
فأنت تعرف أنه ابن نعمة، نشأ في الحسب، وتقلبت أعطافه في الترف، وأغناه الله عن طلب العلم وكدح الذهن ومطاولة حوادث الدهر، ولداته
2
Bog aan la aqoon