[22 - سورة الحج]
[22.1-24]
{بسم الله الرحمن الرحيم يأيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شىء عظيم} {يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكرى وما هم بسكرى ولكن عذاب الله شديد} {ومن الناس من يجدل فى الله بغير علم ويتبع كل شيطن مريد} {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} {يأيها الناس إن كنتم فى ريب من البعث فإنا خلقنكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر فى الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج} {ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحى الموتى وأنه على كل شىء قدير} {وأن الساعة ءاتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من فى القبور} {ومن الناس من يجدل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتب منير} {ثانى عطفه ليضل عن سبيل الله له فى الدنيا خزى ونذيقه يوم القيمة عذاب الحريق} {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلم للعبيد} {ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والءاخرة ذلك هو الخسران المبين} {يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلل البعيد} {يدعوا لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير} {إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جنت تجرى من تحتها الأنهر إن الله يفعل ما يريد} {من كان يظن أن لن ينصره الله فى الدنيا والءاخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ} {وكذلك أنزلنه ءايت بينت وأن الله يهدى من يريد} {إن الذين ءامنوا والذين هادوا والصبين والنصرى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيمة إن الله على كل شىء شهيد} {ألم تر أن الله يسجد له من فى السموت ومن فى الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} {هذان خصمان اختصموا فى ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار يصب من فوق رءوسهم الحميم} {يصهر به ما فى بطونهم والجلود} {ولهم مقمع من حديد} {كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وذوقوا عذاب الحريق} {إن الله يدخل الذين ءامنوا وعملوا الصلحت جنت تجرى من تحتها الأنهر يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير} {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صرط الحميد}
هذه السورة مشتركة بين مكية ومدنية كما يبدو من دلالة آياتها . وعلى الأخص آيات الإذن بالقتال. وآيات العقاب بالمثل. فهي مدنية قطعا. فالمسلمون لم يؤذن لهم في القتال والقصاص إلا بعد الهجرة. وبعد قيام الدولة الإسلامية في المدينة. أما قبل ذلك فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بايعه أهل يثرب، وعرضوا عليه أن يميلوا على أهل منى من الكفار فيقتلوهم " إني لم أومر بهذا " حتى إذا صارت المدينة دار إسلام شرع الله القتال لرد أذى المشركين عن المسلمين والدفاع عن حرية العقيدة، وحرية العبادة للمؤمنين. والذي يغلب على السورة هو موضوعات السور المكية. وجو السور المكية. فموضوعات التوحيد والتخويف من الساعة، وإثبات البعث، وإنكار الشرك. ومشاهد القيامة، وآيات الله المبثوثة في صفحات الكون.. بارزة في السورة وإلى جوارها الموضوعات المدنية من الإذن بالقتال، وحماية الشعائر، والوعد بنصر الله لمن يقع عليه البغي وهو يرد العدوان، والأمر بالجهاد في سبيل الله. والظلال الواضحة في جو السورة كلها هي ظلال القوة والشدة والعنف والرهبة. والتحذير والترهيب واستجاشة مشاعر التقوى والوجل والاستسلام. تبدو هذه الظلال في المشاهد والأمثال.. فمشهد البعث مزلزل عنيف رهيب: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد }.. وكذلك مشهد العذاب: { فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود، ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها، وذوقوا عذاب الحريق }.. ومثل الذي يشرك بالله: ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق وحركة من ييأس من نصر الله: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ }.. ومشهد القرى المدمرة بظلمها: فكأين من قرية أهلكناها وهي ظالمة، فهي خاوية على عروشها، وبئر معطلة وقصر مشيد تجتمع هذه المشاهد العنيفة المرهوبة إلى قوة الأوامر والتكاليف، وتبرير الدفع بالقوة، وتأكيد الوعد بالنصر والتمكين. إلى عرض الحديث عن قوة الله وضعف الشركاء المزعومين.. ففي الأولى: أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا، وإن الله على نصرهم لقدير، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا. ولينصرن الله من ينصره. إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، ونهوا عن المنكر. ولله عاقبة الأمور وفي الثانية: يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له. إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له، وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه. ضعف الطالب والمطلوب. ما قدروا الله حق قدره إن الله لقوي عزيز ووراء هذا وذلك، الدعوة إلى التقوى والوجل واستجاشة مشاعر الرهبة والاستسلام تبدأ بها السورة، وتتناثر في ثناياها: { يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم }.. ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب فإلهكم إله واحد فله أسلموا وبشر المخبتين. الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ذلك إلى استعراض مشاهد الكون، ومشاهد القيامة، ومصارع الغابرين. والأمثلة والعبر والصور والتأملات لاستجاشة مشاعر الإيمان والتقوى والإخبات والاستسلام.. وهذا هو الظل الشائع في جو السورة كلها، والذي يطبعها ويميزها. ويجري سياق السورة في أربعة أشواط: يبدأ الشوط الأول بالنداء العام. نداء الناس جميعا إلى تقوى الله، وتخويفهم من زلزلة الساعة، ووصف الهول المصاحب لها، وهو هول عنيف مرهوب. ويعقب في ظل هذا الهول باستنكار الجدل في الله بغير علم، واتباع كل شيطان محتوم على من يتبعه الضلال. ثم يعرض دلائل البعث من أطوار الحياة في جنين الإنسان، وحياة النبات؛ مسجلا تلك القربى بين أبناء الحياة، ويربط بين تلك الأطوار المطردة الثابتة وبين أن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير ، وان الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.. وكلها سنن مطردة وحقائق ثابتة متصلة بناموس الوجود.. ثم يعود إلى استنكار الجدل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير بعد هذه الدلائل المستقرة في صلب الكون وفي نظام الوجود. وإلى استنكار بناء العقيدة على حساب الربح والخسارة، والانحراف عن الاتجاه إلى الله عند وقوع الضراء، والالتجاء إلى غير حماه؛ واليأس من نصرة الله وعقباه.. وينتهي هذا الشوط بتقرير أن الهدى والضلال بيد الله، وأنه سيحكم بين أصحاب العقائد المختلفة يوم الحساب.. وهنا يعرض ذلك المشهد العنيف من مشاهد العذاب للكافرين، وإلى جواره مشهد النعيم للمؤمنين. ويتصل الشوط الثاني بنهاية الشوط الأول بالحديث عن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام. ويستنكر هذا الصد عن المسجد الحرام الذي جعله الله للناس جميعا. يستوي في ذلك المقيمون به والطارئون عليه.. وبهذه المناسبة يذكر طرفا من قصة بناء البيت، وتكليف إبراهيم عليه السلام أن يقيمه على التوحيد، وأن يطهره من رجس الشرك. ويستطرد إلى بعض شعائر الحج وما وراءها من استجاشة مشاعر التقوى في القلوب، وهي الهدف المقصود. وينتهي هذا الشوط بالإذن للمؤمنين بالقتال لحماية الشعائر والعبادات من العدوان الذي يقع على المؤمنين ولا جريرة لهم إلا أن يقولوا: ربنا الله! والشوط الثالث يتضمن عرض نماذج من تكذيب المكذبين من قبل، ومن مصارع المكذبين ومشاهد القرى المدمرة على الظالمين. وذلك لبيان سنة الله في الدعوات، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من صد وإعراض، وتطمين المسلمين، بالعاقبة التي لا بد أن تكون. كذلك يتضمن عرض طرف من كيد الشيطان للرسل والنبيين في دعوتهم، وتثبيت الله لدعوته، وإحكامه لآياته، حتى يستيقن بها المؤمنون، ويفتن بها الضعاف والمستكبرون!. أما الشوط الأخير فيتضمن وعد الله بنصرة من يقع عليه البغي وهو يدفع عنه العدوان ويتبع هذا الوعد بعرض دلائل القدرة في صفحات الكون، وإلى جوارها يعرض صورة زرية لضعف الآلهة التي يركن إليها المشركون.. وينتهي الشوط وتنتهي السورة معه بنداء الذين آمنوا ليعبدوا ربهم، ويجاهدوا في الله حق جهاده، ويعتصموا بالله وحده، وهم ينهضون بتكاليف عقيدتهم العريقة منذ أيام إبراهيم الخليل.. وهكذا تتساوق موضوعات السورة وتتعاقب في مثل هذا التناسق.. والآن نبدأ الشوط الأول بالتفصيل: { يا أيها الناس اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة شيء عظيم. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها؛ وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد }.. مطلع عنيف رعيب، ومشهد ترتجف لهوله القلوب. يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا: { يا أيها الناس } يدعوهم إلى الخوف من الله: { اتقوا ربكم } ويخوفهم ذلك اليوم العصيب: { إن زلزلة الساعة شيء عظيم }. وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير، فيقال: إنه زلزلة. وإن الزلزلة { شيء عظيم } ، من غير تحديد ولا تعريف. ثم يأخذ في التفصيل. فإذا هو أشد رهبة من التهويل.. إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي. وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها.. وبالناس سكارى وما هم بسكارى، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنحة.. مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة، بينما الخيال يتملاه. والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه. وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولكن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية: في المرضعات الذاهلات عما أرضعن وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي والحوامل الملقيات حملهن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى: { ولكن عذاب الله شديد }.. إنه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب.. في ظل هذا الهول المروع يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله، ولا يستشعر تقواه: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم، ويتبع كل شيطان مريد، كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير }. . والجدال في الله، سواء في وجوده تعالى، أو في وحدانيته، أو في قدرته، أو في علمه، أو في صفة ما من صفاته.. الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعا، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه.. ذلك الجدال يبدو عجيبا من ذي عقل وقلب، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح. وياليته كان جدالا عن علم ومعرفة ويقين. ولكنه جدال { بغير علم } جدال التطاول المجرد من الدليل. جدال الضلال الناشئ من اتباع الشيطان. فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى: { ويتبع كل شيطان مريد } عات مخالف للحق متبجح { كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير }.. فهو حتم مقدور أن يضل تابعه عن الهدى والصواب، وأن يقوده إلى عذاب السعير.. ويتهكم التعبير فيسمي قيادته أتباعه إلى عذاب السعير هداية! { ويهديه إلى عذاب السعير }.. فيالها من هداية هي الضلال المهلك المبيد! أم إن الناس في ريب من البعث؟ وفي شك من زلزلة الساعة؟ إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة، ولينظروا في أنفسهم، وفي الأرض من حولهم، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور؛ ولكنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين: { يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى؛ ثم نخرجكم طفلا؛ ثم لتبلغوا أشدكم؛ ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا. وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج }.. إن البعث إعادة لحياة كانت، فهو في تقدير البشر أيسر من إنشاء الحياة. وإن لم يكن بالقياس إلى قدرة الله شيء أيسر ولا شيء أصعب. فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الإرادة: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ولكن القرآن يأخذ البشر بمقاييسهم، ومنطقهم، وإدراكهم، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم، وهو يقع لهم كل لحظة ، ويمر بهم في كل برهة؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة، والقلب المفتوح، والحس المدرك. ولكنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه. فما هؤلاء الناس؟ ما هم؟ من أين جاءوا؟ وكيف كانوا؟ وفي أي الأطوار مروا؟ { فإنا خلقناكم من تراب }. . والإنسان ابن هذه الأرض. ومن ترابها نشأ، ومن ترابها تكون، ومن ترابها عاش. وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمة الأرض. اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه؛ وبه افتراق عن عناصر ذلك التراب. ولكنه أصلا من التراب عنصرا وهيكلا وغذاء. وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب. ولكن أين التراب وأين الإنسان؟ أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب، الفاعل المستجيب، المؤثر المتأثر، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب.. إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب! { ثم من نطفة. ثم من علقة. ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا... }. والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية، مسافة هائلة، تضمر في طياتها السر الأعظم. سر الحياة. السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئا يذكر، بعد ملايين الملايين من السنين، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين. والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه، مهما طمح الإنسان، وتعلق بأهداب المحال! ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة، وتحول العلقة إلى مضغة، وتحول المضغة إلى إنسان! فما تلك النطفة؟ إنها ماء الرجل. والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية. وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم. وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي.. في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل: صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر، وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصحة.. كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية: من ميول ونزعات، وطباع واتجاهات، وانحرافات واستعدادات.. فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة؟ وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان؟! ومن العلقة إلى المضغة، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلا. ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرا لها التمام. { لنبين لكم }.. فهنا محطة بين المضغة والطفل، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة: { لنبين لكم }. لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة. وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن. ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين: { ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع. { ثم نخرجكم طفلا }.. ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير! إنها في الزمان تعادل في العادة تسعة أشهر. ولكنها أبعد من ذلك جدا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل. النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب، ذو الأعضاء والجوارح، والسمات والملامح، والصفات والاستعدادات، والميول والنزعات.. إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات.. ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام، في خفية عن الأنظار! { ثم لتبلغوا أشدكم }.. فتستوفوا نموكم العضلي، ونموكم العقلي، ونموكم النفسي.. وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان! ولكنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل، وهي ماء مهين! { ومنكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئا }.. فأما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي. وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال. فبعد العلم، وبعد الرشد، وبعد الوعي، وبعد الاكتمال.. إذا هو يرتد طفلا. طفلا في عواطفه وانفعالاته. طفلا في وعيه ومعلوماته. طفلا في تقديره وتدبيره. طفلا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه. طفلا في حافظته فلا تمسك شيئا، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئا. طفلا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها: { لكي لا يعلم من بعد علم شيئا } ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول، وجادل في الله وصفاته بالباطل! ثم تستطرد الآية إلى عرض مشاهد الخلق والإحياء في الأرض والنبات، بعد عرض مشاهد الخلق والإحياء في الإنسان. { وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج }. والهمود درجة بين الحياة والموت. وهكذا تكون الأرض قبل الماء، وهو العنصر الأصيل في الحياة والأحياء. فإذا نزل عليها الماء { اهتزت وربت } وهي حركة عجيبة سجلها القرآن قبل أن تسجلها الملاحظة العلمية بمئات الأعوام، فالتربة الجافة حين ينزل عليها الماء تتحرك حركة اهتزاز وهي تتشرب الماء وتنتفخ فتربو ثم تتفتح بالحياة عن النبات { من كل زوج بهيج }. وهل أبهج من الحياة وهي تتفتح بعد الكمون، وتنتفض بعد الهمود؟ وهكذا يتحدث القرآن عن القرابة بين أبناء الحياة جميعا، فيسلكهم في آية واحدة من آياته. وإنها للفتة عجيبة إلى هذه القرابة الوثيقة. وإنها لدليل على وحدة عنصر الحياة، وعلى وحدة الإرادة الدافعة لها هنا وهناك. في الأرض والنبات والحيوان والإنسان. { ذلك بأن الله هو الحق، وأنه يحيي الموتى، وأنه على كل شيء قدير وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور }.. ذلك.. أي إنشاء الإنسان من التراب وتطور الجنين في مراحل تكونه، وتطور الطفل في مراحل حياته، وانبعاث الحياة من الأرض بعد الهمود. ذلك متعلق بأن الله هو الخالق. فهو من السنن المطردة التي تنشأ من أن خالقها هو الحق الذي لا تختل سننه ولا تتخلف. وأن اتجاه الحياة هذا الاتجاه في هذه الأطوار ليدل على الإرادة التي تدفعها وتنسق خطاها وترتب مراحلها. فهناك ارتباط وثيق بين أن الله هو الحق، وبين هذا الاطراد والثبات والاتجاه الذي لا يحيد. { وأنه يحيي الموتى } فإحياء الموتى هو إعادة للحياة. والذي أنشأ الحياة الأولى هو الذي ينشئها للمرة الآخرة { وأن الله يبعث من في القبور } ليلاقوا ما يستحقونه من جزاء. فهذا البعث تقتضيه حكمه الخلق والتدبير. وإن هذه الأطوار التي يمر بها الجنين، يمر بها الطفل بعد أن يرى النور لتشير إلى أن الإرادة المدبرة لهذه الأطوار ستدفع بالإنسان إلى حيث يبلغ كماله الممكن في دار الكمال. إذ أن الإنسان لا يبلغ كماله في حياة الأرض، فهو يقف ثم يتراجع { لكي لا يعلم من بعد علم شيئا } فلا بد من دار أخرى يتم فيها تمام الإنسان. فدلالة هذه الأطوار على البعث دلالة مزدوجة.. فهي تدل على البعث من ناحية أن القادر على الإنشاء قادر على الإعادة، وهي تدل على البعث لأن الإرادة المدبرة تكمل تطوير الإنسان في الدار الآخرة.. وهكذا تلتقي نواميس الخلق والإعادة، ونواميس الحياة والبعث، ونواميس الحساب والجزاء وتشهد كلها بوجود الخالق المدبر القادر الذي ليس في وجوده جدال.. ومع هذه الدلائل المتضافرة فهناك من يجادل في الله: { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله. له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق. ذلك بما قدمت يداك، وأن الله ليس بظلام للعبيد }. . والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريبا مستنكرا. فكيف إذا كان جدالا بغير علم. لا يستند إلى دليل، ولا يقوم على معرفة، ولا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل، ويوضح الحق، ويهدي إلى اليقين. والتعبير يرسم صورة لهذا الصنف من الناس. صورة فيها الكبر المتعجرف: { ثاني عطفه } مائلا مزورا بجنبه. فهو لا يستند إلى حق فيعوض عن هذا بالعجرفة والكبر. { ليضل عن سبيل الله } فلا يكتفي بأن يضل، إنما يحمل غيره على الضلال. هذا الكبر الضال المضل لا بد أن يقمع، ولا بد أن يحطم: { له في الدنيا خزي } فالخزي هو المقابل للكبر. والله لا يدع المتكبرين المتعجرفين الضالين المضلين حتى يحطم تلك الكبرياء الزائفة وينكسها ولو بعد حين. إنما يمهلهم أحيانا ليكون الخزي أعظم، والتحقير أوقع. أما عذاب الآخرة فهو أشد وأوجع: { ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق }. وفي لحظة ينقلب ذلك الوعيد المنظور إلى واقع مشهود، بلفتة صغيرة في السياق، من الحكاية إلى الخطاب: { ذلك بما قدمت يداك، وأن الله ليس بظلام للعبيد }.. وكأنما هو اللحظة يلقى التقريع والتبكيت، مع العذاب والحريق. ويمضي السياق إلى نموذج آخر من الناس إن كان يواجه الدعوة يومذاك فهو نموذج مكرور في كل جيل ذلك الذي يزن العقيدة بميزان الربح والخسارة؛ ويظنها صفقة في سوق التجارة: { ومن الناس من يعبد الله على حرف، فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة. ذلك هو الخسران المبين. يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه. ذلك هو الضلال البعيد. يدعو لمن ضره أقرب من نفعه لبئس المولى ولبئس العشير }.. إن العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة وتتجاذبه الأحداث والدوافع فيتشبث هو بالصخرة التي لا تتزعزع؛ وتتهاوى من حوله الأسناد فيستند هو إلى القاعدة التي لا تحول ولا تزول. هذه قيمة العقيدة في حياة المؤمن. ومن ثم يجب أن يستوي عليها، متمكنا منها، واثقا بها، لا يتلجلج فيها، ولا ينتظر عليها جزاء، فهي في ذاتها جزاء. ذلك أنها الحمى الذي يلجأ إليه، والسند الذي يستند عليه. أجل هي في ذاتها جزاء على تفتح القلب للنور، وطلبه للهدى. ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي إليها، ويطمئن بها. هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله، تتجاذبهم الرياح، وتتقاذفهم الزوابع، ويستبد بهم القلق. بينما هو بعقيدته مطمئن القلب، ثابت القدم، هادئ البال، موصول بالله، مطمئن بهذا الاتصال. أما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سورة التجارة: { فإن أصابه خير اطمأن به } وقال: إن الإيمان خير. فها هو ذا يجلب النفع، ويدر الضرع، وينمي الزرع، ويربح التجارة، ويكفل الرواج { وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه خسر الدنيا والآخرة }.. خسر الدنيا بالبلاء الذي أصابه فلم يصبر عليه، ولم يتماسك له، ولم يرجع إلى الله فيه. وخسر الآخرة بانقلابه على وجهه، وانكفائه عن عقيدته، وانتكاسه عن الهدى الذي كان ميسرا له. والتعبير القرآني يصوره في عبادته لله { على حرف } غير متمكن من العقيدة، ولا مثبت في العبادة. يصوره في حركة جسدية متأرجحة قابلة للسقوط عند الدفعة الأولى. ومن ثم ينقلب على وجهه عند مس الفتنة، ووقفته المتأرجحة تمهد من قبل لهذا الانقلاب! إن حساب الربح والخسارة يصلح للتجارة، ولكنه لا يصلح للعقيدة. فالعقيدة حق يعتنق لذاته، بانفعال القلب المتلقي للنور والهدى الذي لا يملك إلا أن ينفعل بما يتلقى. والعقيدة تحمل جزاءها في ذاتها، بما فيها من طمأنينة وراحة ورضى، فهي لا تطلب جزاءها خارجا عن ذاتها. والمؤمن يعبد ربه شكرا له على هدايته إليه، وعلى اطمئنانه للقرب منه والأنس به. فإن كان هنالك جزاء فهو فضل من الله ومنة. استحقاقا على الإيمان أو العبادة! والمؤمن لا يجرب إلهه. فهو قابل ابتداء لكل ما يقدره له، مستسلم ابتداء لكل ما يجربه عليه راض ابتداء بكل ما يناله من السراء والضراء. وليست هي صفقة في السوق بين بائع وشار، إنما هي إسلام المخلوق للخالق، صاحب الأمر فيه، ومصدر وجوده من الأساس. والذي ينقلب على وجهه عند مس الفتنة يخسر الخسارة التي لا شبهة فيها ولا ريب: { ذلك هو الخسران المبين }.. يخسر الطمأنينة والثقة والهدوء والرضى. إلى جوار خسارة المال أو الولد، أو الصحة، أو أعراض الحياة الأخرى التي يفتن الله بها عباده، ويبتلي بها ثقتهم فيه، وصبرهم على بلائه، وإخلاصهم أنفسهم له، واستعدادهم لقبول قضائه وقدره.. ويخسر الآخرة وما فيها من نعيم وقربى ورضوان. فيا له من خسران! وإلى أين يتجه هذا الذي يعبد الله على حرف؟ إلى أين يتجه بعيدا عن الله؟ { إنه يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد }.. يدعو صنما أو وثنا على طريقة الجاهلية الأولى. ويدعو شخصا أو جهة أو مصلحة على طريقة الجاهليات المتناثرة في كل زمان ومكان، كلما انحرف الناس عن الاتجاه إلى الله وحده، والسير على صراطه ونهجه.. فما هذا كله؟ إنه الضلال عن المتجه الوحيد الذي يجدي فيه الدعاء. { ذلك هو الضلال البعيد } المغرق في البعد عن الهدى والاهتداء.. { يدعو لمن ضره أقرب من نفعه } من وثن أو شيطان، أو سند من بني الإنسان.. وهذا كله لا يملك ضرا ولا نفعا؛ وهو أقرب لأن ينشأ عنه الضر. وضره أقرب من نفعه. ضره في عالم الضمير بتوزيع القلب، وإثقاله بالوهم وإثقاله بالذل. وضره في عالم الواقع وكفى بما يعقبه في الآخرة من ضلال وخسران { لبئس المولى } ذلك الضعيف لا سلطان له في ضر أو نفع { ولبئس العشير } ذلك الذي ينشأ عنه الخسران. يستوي في ذلك المولى والعشير من الأصنام والأوثان، والمولى والعشير من بني الإنسان، ممن يتخذهم بعض الناس آلهة أو اشباه آلهة في كل زمان ومكان! والله يدخر للمؤمنين به ما هو خير من عرض الحياة الدنيا كله، حتى لو خسروا ذلك العرض كله في الفتنة والابتلاء: { إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار. إن الله يفعل ما يريد }.. فمن مسه الضر في فتنة من الفتن، وفي ابتلاء من الابتلاءات، فليثبت ولا يتزعزع، وليستبق ثقته برحمة الله وعونه، وقدرته على كشف الضراء، وعلى العوض والجزاء. فأما من يفقد ثقته في نصر الله في الدنيا والآخرة؛ ويقنط من عون الله له في المحنة حين تشتد المحنة. فدونه فليفعل بنفسه ما يشاء؛ وليذهب بنفسه كل مذهب، فما شيء من ذلك بمبدل ما به من البلاء: { من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمدد بسبب إلى السماء، ثم ليقطع، فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ }! وهو مشهد متحرك لغيظ النفس، وللحركات المصاحبة لذلك الغيظ، يجسم هذه الحالة التي يبلغ فيها الضيق بالنفس أقصاه، عندما ينزل بها الضر وهي على غير اتصال بالله. والذي ييأس في الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة، وكل نسمة رخية، وكل رجاء في الفرج، ويستبد به الضيق، ويثقل على صدره الكرب، فيزيد هذا كله من وقع الكرب والبلاء. فمن كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بحبل إلى السماء يتعلق به أو يختنق. ثم ليقطع الحبل فيسقط أو ليقطع النفس فيختنق.. ثم لينظر هل ينقذه تدبيره ذاك مما يغيظه! ألا إنه لا سبيل إلى احتمال البلاء إلا بالرجاء في نصر الله. ولا سبيل إلى الفرج إلا بالتوجه إلى الله. ولا سبيل إلى الاستعلاء على الضر، والكفاح للخلاص إلا بالاستعانة بالله. وكل حركة يائسة لا ثمرة لها ولا نتيجة إلا زيادة الكرب، ومضاعفة الشعور به، والعجز عن دفعه بغير عون الله.. فليستبق المكروب تلك النافذة المضيئة التي تنسم عليه من روح الله.. بمثل هذا البيان لحالات الهدى والضلال، ولنماذج الهدى والضلال، أنزل الله هذا القرآن ليهتدي به من يفتح له قلبه، فيقسم الله له الهداية: { وكذلك أنزلناه آيات بينات، وأن الله يهدي من يريد }.. وإرادة الله قد قررت سبق الهدى والضلال. فمن طلب الهدى تحققت إرادة الله بهدايته، وفق سنته، وكذلك من طلب الضلال. إنما يفرد هنا حالة الهدى بالذكر، بمناسبة ما في الآيات من بيان يقتضي الهدى في القلب المستقيم. فأما الفرق المختلفة في الاعتقاد فأمرها إلى الله يوم القيامة، وهو العليم بكل ما في عقائدها من حق أو باطل، ومن هدى أو ضلال: { إن الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا.. إن الله يفصل بينهم يوم القيامة، إن الله على كل شيء شهيد }.. وقد سبق تعريف هذه الفرق. وهي تذكر هنا بمناسبة أن الله يهدي من يريد، وهو أعلم بالمهتدين والضالين، وعليه حساب الجميع، والأمر إليه في النهاية، وهو على كل شيء شهيد. وإذا كان الناس بتفكيرهم ونزعاتهم وميولهم، فإن الكون كله فيما عداهم يتجه بفطرته إلى خالقه، يخضع لناموسه، ويسجد لوجهه: { ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم، والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب. ومن يهن الله فما له من مكرم. إن الله يفعل ما يشاء }.. ويتدبر القلب هذا النص، فإذا حشد من الخلائق مما يدرك الإنسان ومما لا يدرك. وإذا حشد من الأفلاك والأجرام. مما يعلم الإنسان ومما لا يعلم. وإذا حشد من الجبال والشجر والدواب في هذه الأرض التي يعيش عليها الإنسان.. إذا بتلك الحشود كلها في موكب خاشع تسجد كلها لله، وتتجه إليه وحده دون سواه. تتجه إليه وحده في وحدة واتساق. إلا ذلك الإنسان فهو وحده الذي يتفرق: { وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب } فيبدو هذا الإنسان عجيبا في ذلك الموكب المتناسق. وهنا يقرر أن من يحق عليه العذاب فقد حق عليه الهوان: { ومن يهن الله فما له من مكرم }.. فلا كرامة إلا بإكرام الله، ولا عزة إلا بعزة الله. وقد ذل وهان من دان لغير الديان. ثم مشهد من مشاهد القيامة يتجلى فيه الإكرام والهوان، في صورة واقع يشهد كأنه معروض للعيان: { هذان خصمان اختصموا في ربهم. فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نار، يصب من فوق رؤوسهم الحميم، يصهر به ما في بطونهم والجلود؛ ولهم مقامع من حديد، كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها. وذوقوا عذاب الحريق. إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار، يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير }. إنه مشهد عنيف صاخب، حافل بالحركة، مطول بالتخييل الذي يبعثه في النفس نسق التعبير، فلا يكاد الخيال ينتهي من تتبعه في تجدده.. هذه ثياب من النار تقطع وتفصل! وهذا حميم ساخن يصب من فوق الرؤوس، يصهر به ما في البطون والجلود عند صبه على الرؤوس! وهذه سياط من حديد أحمته النار. . وهذا هو العذاب يشتد، ويتجاوز الطاقة، فيهب { الذين كفروا } من الوهج والحميم والضرب الأليم يهمون بالخروج من هذا { الغم } وها هم أولاء يردون بعنف، ويسمعون التأنيب: { وذوقوا عذاب الحريق }.. ويظل الخيال يكرر هذه المشاهد من أولى حلقاتها إلى أخراها، حتى يصل إلى حلقة محاولة الخروج والرد العنيف، ليبدأ في العرض من جديد! ولا يبارح الخيال هذا المشهد العنيف المتجدد إلا أن يلتفت إلى الجانب الآخر، الذي يستطرد السياق إلى عرضه. فأصل الموضوع أن هناك خصمين اختصموا في ربهم. فأما الذين كفروا به فقد كنا نشهد مصيرهم المفجع منذ لحظة! وأما الذين آمنوا فهم هنالك في الجنات تجري من تحتها الأنهار. وملابسهم لم تقطع من النار، إنما فصلت من الحرير. ولهم فوقها حلى من الذهب واللؤلؤ. وقد هداهم الله إلى الطيب من القول، وهداهم إلى صراط الحميد. فلا مشقة حتى في القول أو في الطريق.. والهداية إلى الطيب من القول، والهداية إلى صراط الحميد نعمة تذكر في مشهد النعيم. نعمة الطمأنينة واليسر والتوفيق. وتلك عاقبة الخصام في الله. فهذا فريق وذلك فريق.. فليتدبر تلك العاقبة من لا تكفيه الآيات البينات، ومن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير..
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-22]
{بسم الله الرحمن الرحيم قد أفلح المؤمنون} {الذين هم فى صلاتهم خشعون} {والذين هم عن اللغو معرضون} {والذين هم للزكوة فعلون} {والذين هم لفروجهم حفظون} {إلا على أزوجهم أو ما ملكت أيمنهم فإنهم غير ملومين} {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} {والذين هم لأمنتهم وعهدهم رعون} {والذين هم على صلوتهم يحافظون} {أولئك هم الورثون} {الذين يرثون الفردوس هم فيها خلدون} {ولقد خلقنا الإنسن من سللة من طين} {ثم جعلنه نطفة فى قرار مكين} {ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظما فكسونا العظم لحما ثم أنشأنه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخلقين} {ثم إنكم بعد ذلك لميتون} {ثم إنكم يوم القيمة تبعثون} {ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غفلين} {وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكنه فى الأرض وإنا على ذهاب به لقدرون} {فأنشأنا لكم به جنت من نخيل وأعنب لكم فيها فوكه كثيرة ومنها تأكلون} {وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للءاكلين} {وإن لكم فى الأنعم لعبرة نسقيكم مما فى بطونها ولكم فيها منفع كثيرة ومنها تأكلون} {وعليها وعلى الفلك تحملون}
هذه سورة " المؤمنون ".. اسمها يدل عليها. ويحدد موضوعها.. فهي تبدأ بصفة المؤمنين، ثم يستطرد السياق فيها إلى دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق. ثم إلى حقيقة الإيمان كما عرضها رسل الله صلوات الله عليهم من لدن نوح عليه السلام إلى محمد خاتم الرسل والنبيين؛ وشبهات المكذبين حول هذه الحقيقة واعتراضاتهم عليها، ووقوفهم في وجهها، حتى يستنصر الرسل بربهم، فيهلك المكذبين، وينجي المؤمنين.. ثم يستطرد إلى اختلاف الناس بعد الرسل في تلك الحقيقة الواحدة التي لا تتعدد.. ومن هنا يتحدث عن موقف المشركين من الرسول صلى الله عليه وسلم ويستنكر هذا الموقف الذي ليس له مبرر.. وتنتهي السورة بمشهد من مشاهد القيامة يلقون فيه عاقبة التكذيب، ويؤنبون على ذلك الموقف المريب، يختم بتعقيب يقرر التوحيد المطلق والتوجه إلى الله بطلب الرحمة والغفران.. فهي سورة " المؤمنون " أو هي سورة الإيمان، بكل قضاياه ودلائله وصفاته. وهو موضوع السورة ومحورها الأصيل. ويمضي سياق السورة في أربعة أشواط: يبدأ الشوط الأول بتقرير الفلاح للمؤمنين: { قد أفلح المؤمنون }.. ويبين صفات المؤمنين هؤلاء الذين كتب لهم الفلاح.. ويثني بدلائل الإيمان في الأنفس والآفاق ، فيعرض أطوار الحياة الإنسانية منذ نشأتها الأولى إلى نهايتها في الحياة الدنيا متوسعا في عرض أطوار الجنين، مجملا في عرض المراحل الأخرى.. ثم يتابع خط الحياة البشرية إلى البعث يوم القيامة.. وبعد ذلك ينتقل من الحياة الإنسانية إلى الدلائل الكونية: في خلق السماء، وفي إنزال الماء، وفي إنبات الزرع والثمار. ثم إلى الأنعام المسخرة للإنسان؛ والفلك التي يحمل عليها وعلى الحيوان. فأما الشوط الثاني فينتقل من دلائل الإيمان في الأنفس والآفاق إلى حقيقة الإيمان. حقيقته الواحدة التي توافق عليها الرسل دون استثناء: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قالها نوح عليه السلام وقالها كل من جاء بعده من الرسل، حتى انتهت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكان اعتراض المكذبين دائما: ما هذا إلا بشر مثلكم ولو شاء الله لأنزل ملائكة وكان اعتراضهم كذلك: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابا وعظاما أنكم مخرجون؟ وكانت العاقبة دائما أن يلجأ الرسل إلى ربهم يطلبون نصره، وأن يستجيب الله لرسله، فيهلك المكذبين.. وينتهي الشوط بنداء للرسل جميعا: يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا، إني بما تعملون عليم. وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون والشوط الثالث يتحدث عن تفرق الناس بعد الرسل وتنازعهم حول تلك الحقيقة الواحدة. التي جاءوا بها: فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا، كل حزب بما لديهم فرحون وعن غفلتهم عن ابتلاء الله لهم بالنعمة، واغترارهم بما هم فيه من متاع. بينما المؤمنون مشفقون من خشية ربهم، يعبدونه ولا يشركون به، وهم مع ذلك دائمو الخوف والحذر وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وهنا يرسم مشهدا لأولئك الغافلين المغرورين يوم يأخذهم العذاب فإذا هم يجأرون؛ فيأخذهم التوبيخ والتأنيب: قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون، مستكبرين به سامرا تهجرون ويستنكر السياق موقفهم العجيب من رسولهم الأمين، وهم يعرفونه ولا ينكرونه؛ وقد جاءهم بالحق لا يسألهم عليه أجرا. فماذا ينكرون منه ومن الحق الذي جاءهم به؟ وهم يسلمون بملكية الله لمن في السماوات والأرض، وربوبيته للسماوات والأرض، وسيطرته على كل شيء في السماوات والأرض. وبعد هذا التسليم هم ينكرون البعث، ويزعمون لله ولدا سبحانه! ويشركون به آلهة أخرى فتعالى عما يشركون والشوط الأخير يدعهم وشركهم وزعمهم؛ ويتوجه بالخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفع السيئة بالتي هي أحسن، وأن يستعيذ بالله من الشياطين، فلا يغضب ولا يضيق صدره بما يقولون.. وإلى جوار هذا مشهد من مشاهد القيامة يصور ما ينتظرهم هناك من عذاب ومهانة وتأنيب.. وتختم السورة بتنزيه الله سبحانه: فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم وبنفي الفلاح عن الكافرين في مقابل تقرير الفلاح في أول السورة للمؤمنين: ومن يدع مع الله إلها آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه، إنه لا يفلح الكافرون وبالتوجه إلى الله طلبا للرحمة والغفران: وقل رب اغفر وارحم وأنت خير الراحمين جو السورة كلها هو جو البيان والتقرير، وجو الجدل الهادئ، والمنطق الوجداني، واللمسات الموحية للفكر والضمير. والظل الذي يغلب عليها هو الظل الذي يلقيه موضوعها.. الإيمان.. ففي مطلعها مشهد الخشوع في الصلاة: { الذين هم في صلاتهم خاشعون }. وفي صفات المؤمنين في وسطها: والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون وفي اللمسات الوجدانية: وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرون وكلها مظللة بذلك الظل الإيماني اللطيف. { قد أفلح المؤمنون، الذين هم في صلاتهم خاشعون، والذين هم عن اللغو معرضون، والذين هم للزكاة فاعلون، والذين هم لفروجهم حافظون. إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون. والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون، والذين هم على صلواتهم يحافظون.. أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون }. إنه الوعد الصادق، بل القرار الأكيد بفلاح المؤمنين. وعد الله لا يخلف الله وعده؛ وقرار الله لا يملك أحد رده. الفلاح في الدنيا والفلاح في الآخرة. فلاح الفرد المؤمن وفلاح الجماعة المؤمنة. الفلاح الذي يحسه المؤمن بقلبه ويجد مصداقه في واقع حياته؛ والذي يشمل ما يعرفه الناس من معاني الفلاح، وما لا يعرفونه مما يدخره الله لعباده المؤمنين. فمن هم المؤمنون الذين كتب الله لهم هذه الوثيقة، ووعدهم هذا الوعد، وأعلن عن فلاحهم هذا الإعلان؟ من هم المؤمنون المكتوب لهم الخير والنصر والسعادة والتوفيق والمتاع الطيب في الأرض؟ والمكتوب لهم الفوز والنجاة، والثواب والرضوان في الآخرة؟ ثم ما شاء الله غير هذا وذلك في الدارين مما لا يعلمه إلا الله؟ من هم المؤمنون. الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون؟ إنهم هؤلاء الذين يفصل السياق صفاتهم بعد آية الافتتاح: { الذين هم في صلاتهم خاشعون } { والذين هم عن اللغو معرضون } { والذين هم للزكاة فاعلون } { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.. الخ. } { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون. } { والذين هم على صلواتهم يحافظون }. فما قيمة هذه الصفات؟ قيمتها أنها ترسم شخصية المسلم في أفقها الأعلى. أفق محمد صلى الله عليه وسلم رسول الله، وخير خلق الله، الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، والذي شهد له في كتابه بعظمة خلقه: وإنك لعلى خلق عظيم فلقد سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: كان خلقه القرآن. ثم قرأت. { قد أفلح المؤمنون } حتى { والذين هم على صلواتهم يحافظون }. وقالت. هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومرة أخرى.. ما قيمة هذه الصفات في ذاتها؟ ما قيمتها في حياة الفرد، وفي حياة الجماعة، وفي حياة النوع الإنساني؟ { الذين هم في صلاتهم خاشعون }.. تستشعر قلوبهم رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات. ويغشى أرواحهم جلال الله في حضرته، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل، ولا تشتغل بسواه وهم مستغرقون في الشعور به مشغولون بنجواه. ويتوارى عن حسهم في تلك الحضرة القدسية كل ما حولهم وكل ما بهم، فلا يشهدون إلا الله، ولا يحسون إلا إياه، ولا يتذوقون إلا معناه. ويتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة ؛ فما يضمون جوانحهم على شيء من هذا مع جلال الله.. عندئذ تتصل الذرة التائهة بمصدرها، وتجد الروح الحائرة طريقها، ويعرف القلب الموحش مثواه. وعندئذ تتضاءل القيم والأشياء والأشخاص إلا ما يتصل منها بالله. { والذين هم عن اللغو معرضون }.. لغو القول، ولغو الفعل، ولغو الاهتمام والشعور. إن للقلب المؤمن ما يشغله عن اللغو واللهو والهذر.. له ما يشغله من ذكر الله، وتصور جلاله وتدبر آياته في الأنفس والآفاق. وكل مشهد من مشاهد الكون يستغرق اللب، ويشغل الفكر، ويحرك الوجدان.. وله ما يشغله من تكاليف العقيدة: تكاليفها في تطهير القلب، وتزكية النفس وتنقية الضمير. وتكاليفها في السلوك، ومحاولة الثبات على المرتقى العالي الذي يتطلبه الإيمان. وتكاليفها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصيانة حياة الجماعة من الفساد والانحراف. وتكاليفها في الجهاد لحمايتها ونصرتها وعزتها، والسهر عليها من كيد الأعداء.. وهي تكاليف لا تنتهي، ولا يغفل عنها المؤمن، ولا يعفي نفسه منها، وهي مفروضة عليه فرض عين أو فرض كفاية. وفيها الكفاية لاستغراق الجهد البشري والعمر البشري. والطاقة البشرية محدودة. وهي إما أن تنفق في هذا الذي يصلح الحياة وينميها ويرقيها؛ وإما أن تنفق في الهذر واللغو اللهو. والمؤمن مدفوع بحكم عقيدته إلى إنفاقها في البناء والتعمير والإصلاح. ولا ينفي هذا أن يروح المؤمن عن نفسه في الحين بعد الحين. ولكن هذا شيء آخر غير الهذر واللغو والفراغ.. { والذين هم للزكاة فاعلون }.. بعد إقبالهم على الله، وانصرافهم عن اللغو في الحياة.. والزكاة طهارة للقلب والمال: طهارة للقلب من الشح، واستعلاء على حب الذات، وانتصار على وسوسة الشيطان بالفقر، وثقة بما عند الله من العوض والجزاء. وطهارة للمال تجعل ما بقي منه بعدها طيبا حلالا، لا يتعلق به حق إلا في حالات الضرورة ولا تحول حوله شبهة. وهي صيانة للجماعة من الخلل الذي ينشئه العوز في جانب والترف في جانب، فهي تأمين اجتماعي للأفراد جميعا، وهي ضمان اجتماعي للعاجزين، وهي وقاية للجماعة كلها من التفكيك والانحلال. { والذين هم لفروجهم حافظون }. وهذه طهارة الروح والبيت والجماعة. ووقاية النفس والأسرة والمجتمع. بحفظ الفروج من دنس المباشرة في غير حلال، وحفظ القلوب من التطلع إلى غير حلال؛ وحفظ الجماعة من انطلاق الشهوات فيها بغير حساب، ومن فساد البيوت فيها والأنساب. والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة معرضة للخلل والفساد. لأنه لا أمن فيها للبيت، ولا حرمة فيها للأسرة. والبيت هو الوحدة الأولى في بناء الجماعة، إذ هو المحضن الذي تنشأ فيه الطفولة وتدرج؛ ولا بد له من الأمن والاستقرار والطهارة، ليصلح محضنا ومدرجا، وليعيش فيه الوالدان مطمئنا كلاهما للآخر، وهما يرعيان ذلك المحضن. ومن فيه من فراخ! والجماعة التي تنطلق فيها الشهوات بغير حساب جماعة قذرة هابطة في سلم البشرية، فالمقياس الذي لا يخطئ للإرتقاء البشري هو تحكم الإرادة الإنسانية وغلبتها. وتنظيم الدوافع الفطرية في صورة مثمرة نظيفة، لا يخجل الأطفال معها من الطريقة التي جاءوا بها إلى هذا العالم، لأنها طريقة نظيفة معروفة، يعرف فيها كل طفل أباه. لا كالحيوان الهابط الذي تلقى الأنثى فيه الذكر للقاح، وبدافع اللقاح، ثم لا يعرف الفصيل كيف جاء ولا من أين جاء!. والقرآن هنا يحدد المواضع النظيفة التي يحل للرجل ان يودعها بذور الحياة: { إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين }. . ومسألة الأزواج لا تثير شبهة ولا تستدعي جدلا. فهي النظام المشروع المعروف. أما مسألة ملك اليمين فقد تستدعي شيئا من البيان. ولقد فصلت القول في مسألة الرق في الجزء الثاني من الظلال، وبينت هناك أن الإسلام قد جاء والرق نظام عالمي. واسترقاق أسرى الحرب نظام دولي. فما كان يمكن والإسلام مشتبك في حروب مع أعدائه الواقفين بالقوة المادية في طريقه أن يلغي هذا النظام من جانب واحد، فيصبح أسارى المسلمين رقيقا عند اعدائه، بينما هو يحرر أسارى الأعداء.. فجفف الإسلام كل منابع الرق عدا أسرى الحرب إلى أن يتاح للبشرية وضع نظام دولي للتعامل بالمثل في مسألة الأسرى. ومن هنا كان يجيء إلى المعسكر الإسلامي أسيرات، تقضي قاعدة التعامل بالمثل باسترقاقهن ومن مقضيات هذا الاسترقاق ألا يرتفعن إلى مستوى الزوجات بالنكاح. فأباح الإسلام حينئذ الاستماع بهن بالتسري لمن يملكهن خاصة إلا أن يتحررن لسبب من الأسباب الكثيرة التي جعلها الإسلام سبلا لتحرير الرقيق. ولعل هذا الاستمتاع ملحوظ فيه تلبية الحاجة الفطرية للأسيرات أنفسهن، كي لا يشبعنها عن طريق الفوضى القذرة في المخالطة الجنسية كما يقع في زماننا هذا مع أسيرات الحرب بعد معاهدات تحريم الرقيق هذه الفوضى التي لا يحبها الإسلام! وذلك حتى يأذن الله فيرتفعن إلى مرتبة الحرية. والأمة تصل إلى مرتبة الحرية بوسائل كثيرة.. إذا ولدت لسيدها ثم مات عنها. وإذا أعتقها هو تطوعا أو في كفارة. وإذا طلبت أن تكاتبه على مبلغ من المال فافتدت به رقبتها. وإذا ضربها على وجهها فكفارتها عتقها.. الخ وعلى أية حال فقد كان الإسترقاق في الحرب ضرورة وقتية، هي ضرورة المعاملة بالمثل في عالم كله يسترق الأسرى، ولم يكن جزءا من النظام الاجتماعي في الإسلام. { فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون }.. وراء الزوجات وملك اليمين، ولا زيادة بطريقة من الطرق. فمن ابتغى وراء ذلك فقد عدا الدائرة المباحة، ووقع في الحرمات، واعتدى على الأعراض التي لم يستحلها بنكاح ولا بجهاد. وهنا تفسد النفس لشعورها بأنها ترعى في كلأ غير مباح، ويفسد البيت لأنه لا ضمان له ولا اطمئنان؛ وتفسد الجماعة لأن ذئابها تنطلق فتنهش من هنا ومن هناك: وهذا كله هو الذي يتوقاه الإسلام. { والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون } راعون لأماناتهم وعهدهم أفرادا؛ وراعون لأماناتهم وعهدهم جماعة.. والأمانات كثيرة في عنق الفرد وفي عنق الجماعة؛ وفي أولها أمانة الفطرة؛ وقد فطرها الله مستقيمة متناسقة مع ناموس الوجود الذي هي منه وإليه شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته، بحكم إحساسها الداخلي بوحدة الناموس الذي يحكمها ويحكم الوجود، ووحدة الإرادة المختارة لهذا الناموس المدبرة لهذا الوجود. . والمؤمنون يرعون تلك الأمانة الكبرى فلا يدعون فطرتهم تنحرف عن استقامتها، فتظل قائمة بأمانتها شاهدة بوجود الخالق ووحدانيته. ثم تأتي سائر الأمانات تبعا لتلك الأمانة الكبرى. والعهد الأول هو عهد الفطرة كذلك. وهو العهد الذي قطعه الله على فطرة البشر بالإيمان بوجوده وبتوحيده. وعلى هذا العهد الأول تقوم جميع العهود والمواثيق. فكل عهد يقطعه المؤمن يجعل الله شهيدا عليه فيه، ويرجع في الوفاء به إلى تقوى الله وخشيته. والجماعة المسلمة مسؤولة عن أماناتها العامة، مسؤولة عن عهدها مع الله تعالى، وما يترتب على هذا العهد من تبعات. والنص يجمل التعبير ويدعه يشمل كل أمانة وكل عهد. ويصف المؤمنين بأنهم لأماناتهم وعهدهم راعون. فهي صفة دائمة لهم في كل حين. وما تستقيم حياة الجماعة إلا أن تؤدى فيها الأمانات؛ وترعى فيها العهود؛ ويطمئن كل من فيها إلى هذه القاعدة الأساسية للحياة المشتركة، الضرورية لتوفير الثقة والأمن والاطمئنان. { والذين هم على صلواتهم يحافظون }.. فلا يفوتونها كسلا، ولا يضيعونها إهمالا؛ ولا يقصرون في إقامتها كما ينبغي أن تقام؛ إنما يؤدونها في أوقاتها كاملة الفرائض والسنن، مستوفية الأركان والآداب، حية يستغرق فيها القلب، وينفعل بها الوجدان. والصلاة صلة ما بين القلب والرب، فالذي لا يحافظ عليها لا ينتظر أن يحافظ على صلة ما بينه وبين الناس محافظة حقيقية مبعثها صدق الضمير.. ولقد بدأت صفات المؤمنين بالصلاة وختمت بالصلاة للدلالة على عظيم مكانتها في بناء الإيمان، بوصفها أكمل صورة من صور العبادة والتوجه إلى الله. تلك الخصائص تحدد شخصية المؤمنين المكتوب لهم الفلاح. وهي خصائص ذات أثر حاسم في تحديد خصائص الجماعة المؤمنة ونوع الحياة التي تحياها. الحياة الفاضلة اللائقة بالإنسان الذي كرمه الله؛ وأراد له التدرج في مدارج الكمال. ولم يرد له أن يحيا حياة الحيوان، يستمتع فيها ويأكل كما تأكل الأنعام. ولما كانت الحياة في هذه الأرض لا تحقق الكمال المقدر لبني الإنسان، فقد شاء الله أن يصل المؤمنون الذين ساروا في الطريق، إلى الغاية المقدرة لهم، هنالك في الفردوس، دار الخلود بلا فناء، والأمن بلا خوف، والإستقرار بلا زوال: { أولئك هم الوارثون، الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون }.. وتلك غاية الفلاح الذي كتبه الله للمؤمنين. وليس بعدها من غاية تمتد إليها عين أو خيال.. ومن صفات المؤمنين ينتقل إلى دلائل الإيمان في حياة الإنسان ذاته، وفي أطوار وجوده ونموه، مبتدئا بأصل النشأة الإنسانية، منتهيا إلى البعث في الآخرة مع الربط بين الحياتين في السياق: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ثم جعلناه نطفة في قرار مكين. ثم خلقنا النطفة علقة، فخلقنا العلقة مضغة، فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما. ثم أنشأناه خلقا آخر. فتبارك الله أحسن الخالقين. ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون }.. وفي أطوار هذه النشأة، وتتابعها بهذا النظام، وبهذا الاطراد، ما يشهد بوجود المنشئ أولا، وما يشهد بالقصد والتدبير في تلك النشأة وفي اتجاهها أخيرا. فما يمكن أن يكون الأمر مصادفة عابرة، ولا خبط عشواء بدون قصد ولا تدبير؛ ثم تسير هذه السيرة التي لا تنحرف، ولا تخطئ، ولا تتخلف؛ ولا تسير في طريق آخر من شتى الطرق التي يمكن عقلا وتصورا أن تسير فيها. إنما تسير النشأة الإنسانية في هذا الطريق دون سواه من شتى الطرق الممكنة بناء على قصد وتدبير من الإرادة الخالقة المدبرة في هذا الوجود. كما أن في عرض تلك الأطوار بهذا التتابع المطرد، ما يشير إلى أن الإيمان بالخالق المدبر، والسير على نهج المؤمنين الذي بينه في المقطع السابق.. هو وحده الطريق إلى بلوغ الكمال المقدر لتلك النشأة؛ في الحياتين: الدنيا والآخرة. وهذا هو المحور الذي يجمع بين المقطعين في سياق السورة. { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين }.. وهذا النص يشير إلى أطوار النشأة الإنسانية ولا يحددها. فيفيد أن الإنسان مر بأطوار مسلسلة، من الطين إلى الإنسان. فالطين هو المصدر الأول، أو الطور الأول. والإنسان هو الطور الأخير.. وهي حقيقة نعرفها من القرآن، ولا نطلب لها مصداقا من النظريات العلمية التي تبحث عن نشأة الإنسان، أو نشأة الأحياء. إن القرآن يقرر هذه الحقيقة ليتخذها مجالا للتدبر في صنع الله، ولتأمل النقلة البعيدة بين الطين وهذا الإنسان المتسلسل في نشأته من ذلك الطين. ولا يتعرض لتفصيل هذا التسلسل لأنه لا يعنيه في أهدافه الكبيرة. أما النظريات العلمية فتحاول إثبات سلم معين للنشوء والإرتقاء، لوصل حلقات السلسلة بين الطين والإنسان. وهي تخطئ وتصيب في هذه المحاولة التي سكت القرآن عن تفصيلها وليس لنا أن نخلط بين الحقيقة الثابتة التي يقررها القرآن.. حقيقة التسلسل.. وبين المحاولات العلمية في البحث عن حلقات هذا التسلسل وهي المحاولات التي تخطئ وتصيب، وتثبت اليوم وتنقض غدا، كلما تقدمت وسائل البحث وطرائقه في يد الإنسان. والقرآن يعبر أحيانا عن تلك الحقيقة باختصار فيقول: {... بدأ خلق الإنسان من طين }.. دون إشارة إلى الأطوار التي مر بها. والمرجع في هذا النص الأكثر تفصيلا، وهو الذي يشير إلى أنه { من سلالة من طين } فالنص الآخر يختصر هذه الأطوار لمناسبة خاصة في السياق هناك. أما كيف تسلسل الإنسان من الطين فمسكوت عنه كما قلنا لأنه غير داخل في الاهداف القرآنية. وقد تكون حلقاته على النحو الذي تقول به النظريات العلمية وقد لا تكون؛ وتكون الأطوار قد تمت بطريق آخر لم يعرف بعد، وبسبب عوامل وعلل أخرى لم يكشف عنها الإنسان. . ولكن مفرق الطريق بين نظرة القرآن إلى الإنسان ونظرة تلك النظريات أن القرآن يكرم هذا الإنسان؛ ويقرر أن فيه نفخة من روح الله هي التي جعلت من سلالة الطين إنسانا، ومنحته تلك الخصائص التي بها صار إنسانا وافترق بها عن الحيوان. وهنا تفترق نظرة الإسلام افتراقا كليا عن نظرة الماديين. والله أصدق القائلين. ذلك أصل نشأة الجنس الإنساني.. من سلالة من طين.. فأما نشأة الفرد الإنساني بعد ذلك، فتمضي في طريق آخر معروف: { ثم جعلناه نطفة في قرار مكين }.. لقد نشأ الجنس الإنساني من سلالة من طين. فأما تكرار أفراده بعد ذلك وتكاثرهم فقد جرت سنة الله أن يكون عن طريق نقطة مائية تخرج من صلب رجل، فتستقر في رحم امرأة. نقطة مائية واحدة. لا بل خلية واحدة من عشرات الألوف من الخلايا الكامنة في تلك النقطة. تستقر: { في قرار مكين }.. ثابتة في الرحم الغائرة بين عظام الحوض، المحمية بها من التأثر باهتزازات الجسم، ومن كثير مما يصيب الظهر والبطن من لكمات وكدمات، ورجات وتأثرات! والتعبير القرآني يجعل النطفة طورا من اطوار النشأة الإنسانية، تاليا في وجوده لوجود الإنسان.. وهي حقيقة. ولكنها حقيقة عجيبة تدعو إلى التأمل، فهذا الإنسان الضخم يختصر ويلخص بكل عناصره وبكل خصائصه في تلك النطفة، كما يعاد من جديد في الجنين وكي يتجدد وجوده عن طريق ذلك التلخيص العجيب. ومن النطفة إلى العلقة. حينما تمتزج خلية الذكر ببويضة الأنثى، وتعلق هذه بجدار الرحم نقطة صغيرة في أول الأمر، تتغدى بدم الأم.. ومن العلقة إلى المضغة، حينما تكبر تلك النقطة العالقة، وتتحول إلى قطعة من دم غليظ مختلط.. وتمضي هذه الخليقة في ذلك الخط الثابت الذي لا ينحرف ولا يتحول، ولا تتوانى حركته المنظمة الرتيبة. وبتلك القوة الكامنة في الخلية المستمدة من الناموس الماضي في طريقه بين التدبير والتقدير.. حتى تجيء مرحلة العظام.. { فخلقنا المضغة عظاما } فمرحلة كسوة العظام باللحم: { فكسونا العظام لحما }.. وهنا يقف الإنسان مدهوشا أمام ما كشف عنه القرآن من حقيقة في تكوين الجنين لم تعرف على وجه الدقة إلا أخيرا بعد تقدم علم الأجنة التشريحي. ذلك أن خلايل العظام غير خلايا اللحم. وقد ثبت أن خلايا العظام هي التي تتكون أولا في الجنين. ولا تشاهد خلية واحدة من خلايا اللحم إلا بعد ظهور العظام، وتمام الهيكل العظمي للجنين. وهي الحقيقة التي يسجلها النص القرآني: { فخلقنا المضغة عظاما، فكسونا العظام لحما }.. فسبحان العليم الخبير! { ثم أنشأناه خلقا آخر }.. هذا هو الإنسان ذو الخصائص المتميزة. فجنين الإنسان يشبه جنين الحيوان في أطواره الجسدية. ولكن جنين الإنسان ينشأ خلقا آخر، ويتحول إلى تلك الخليقة المتميزة، المستعدة للارتقاء. ويبقى جنين الحيوان في مرتبة الحيوان، مجردا من خصائص الارتقاء والكمال، التي يمتاز بها جنين الإنسان. إن الجنين الإنساني مزود بخصائص معينة هي التي تسلك به طريقه الإنساني فيما بعد. وهو ينشأ { خلقا آخر } في آخر أطواره الجنينية؛ بينما يقف الجنين الحيواني عند التطور الحيواني لأنه غير مزود بتلك الخصائص. ومن ثم فإنه لا يمكن أن يتجاوز الحيوان مرتبته الحيوانية، فيتطور إلى مرتبة الإنسان تطورا آليا كما تقول النظريات المادية فهما نوعان مختلفان. اختلفا بتلك النفخة الإلهية التي بها صارت سلالة الطين إنسانا. واختلفا بعد ذلك بتلك الخصائص المعينة الناشئة من تلك النفخة والتي ينشأ بها الجنين الإنساني { خلقا آخر }. إنما الإنسان والحيوان يتشابهان في التكوين الحيواني؛ ثم يبقى الحيوان حيوانا في مكانه لا يتعداه. ويتحول الإنسان خلقا آخر قابلا لما هو مهيأ له من الكمال. بواسطة خصائص مميزة، وهبها له الله عن تدبير مقصود لا عن طريق تطور آلي من نوع الحيوان إلى نوع الإنسان. { فتبارك الله أحسن الخالقين }.. وليس هناك من يخلق سوى الله. فأحسن هنا ليست للتفضيل، إنما هي للحسن المطلق في خلق الله. { فتبارك الله أحسن الخالقين }.. الذي أودع فطرة الإنسان تلك القدرة على السير في هذه الأطوار، وفق السنة التي لا تتبدل ولا تنحرف ولا تتخلف، حتى تبلغ بالإنسان ما هو مقدر له من مراتب الكمال الإنساني، على أدق ما يكون النظام! وإن الناس ليقفون دهشين أمام ما يسمونه " معجزات العلم " حين يصنع الإنسان جهازا يتبع طريقا خاصا في تحركه، دون تدخل مباشر من الإنسان.. فأين هذا من سير الجنين في مراحله تلك وأطواره وتحولاته، وبين كل مرحلة ومرحلة فوارق هائلة في طبيعتها، وتحولات كاملة في ماهيتها؟ غير أن البشر يمرون على هذه الخوارق مغمضي العيون، مغلقي القلوب، لأن طول الألفة أنساهم أمرها الخارق العجيب.. وإن مجرد التفكر في أن الإنسان هذا الكائن المعقد كله ملخص وكامن بجميع خصائصه وسماته وشياته في تلك النقطة الصغيرة التي لا تراها العين المجردة؛ وإن تلك الخصائص والسمات والشيات كلها تنمو وتتفتح وتتحرك في مراحل التطور الجنينية حتى تبرز واضحة عندما ينشأ خلقا آخر. فإذا هي ناطقة بارزة في الطفل مرة آخرى. وإذا كل طفل يحمل وراثاته الخاصة فوق الوراثات البشرية العامة. هذه الوراثات وتلك التي كانت كامنة في تلك النقطة الصغيرة.. إن مجرد التفكر في هذه الحقيقة التي تتكرر كل لحظة لكاف وحده أن يفتح مغاليق القلوب على ذلك التدبير العجيب الغريب.. ثم يتابع السياق خطاه لاستكمال مراحل الرحلة، وأطوار النشأة. فالحياة الإنسانية التي نشأت من الأرض لا تنتهي في الأرض، لأن عنصرا غير أرضي قد امتزج بها، وتدخل في خط سيرها؛ ولأن تلك النفخة العلوية قد جعلت لها غاية غير غاية الجسد الحيواني، ونهاية غير نهاية اللحم والدم القريبة؛ وجعلت كمالها الحقيقي لا يتم في هذه الأرض، ولا في هذه الحياة الدنيا؛ إنما يتم هنالك في مرحلة جديدة وفي الحياة الأخرى: { ثم إنكم بعد ذلك لميتون. ثم إنكم يوم القيامة تبعثون }.. فهو الموت نهاية الحياة الأرضية، وبرزخ ما بين الدنيا والآخرة. وهو إذن طور من أطوار النشأة الإنسانية وليس نهاية الأطوار. ثم هو البعث المؤذن بالطور الأخير من أطوار تلك النشأة. وبعده تبدأ الحياة الكاملة، المبرأة من النقائص الأرضية، ومن ضرورات اللحم والدم، ومن الخوف والقلق، ومن التحول والتطور لأنها نهاية الكمال المقدر لهذا الإنسان. ذلك لمن يسلك طريق الكمال. الطريق الذي رسمه المقطع الأول في السورة. طريق المؤمنين فأما من ارتكس في مرحلة الحياة إلى درك الحيوان. فهو صائر في الحياة الأخرى إلى غاية الارتكاس. حيث تهدر آدميته، ويستحيل حصبا من حصب جهنم، وقودا للنار، التي وقودها الناس والحجارة. والناس من هذا الصنف هو والحجارة سواء! ومن دلائل الإيمان في الأنفس ينتقل إلى دلائل الإيمان في الآفاق. مما يشهده الناس ويعرفونه، ثم يمرون عليه غافلين: { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق، وما كنا عن الخلق غافلين. وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض؛ وإنا على ذهاب به لقادرون. فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة، ومنها تأكلون. وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين. وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون }.. إن السياق يمضي في استعراض هذه الدلائل، وهو يربط بينها جميعا. يربط بينها بوصفها من دلائل القدرة؛ ويربط بينها كذلك بوصفها من دلائل التدبير؛ فهي متناسقة في تكوينها، متناسقة في وظائفها، متناسقة في اتجاهها. كلها محكومة بناموس واحد؛ وكلها تتعاون في وظائفها؛ وكلها محسوب فيها لهذا الإنسان الذي كرمه الله حساب. ومن ثم يربط بين هذه المشاهد الكونية وبين أطوار النشأة الإنسانية في سياق السورة. { ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق وما كنا عن الخلق غافلين }.. والطرائق هي الطبقات بعضها فوق بعض. أو وراء بعض. وقد يكون المقصود هنا سبع مدارات فلكية. أو سبع مجموعات نجمية كالمجموعة الشمسية. أو سبع كتل سديمية. والسدم كما يقول الفلكيون هي التي تكون منها المجموعات النجمية.. وعلى أية حال فهي سبع خلائق فلكية فوق البشر أي إن متسواها أعلى من مستوى الأرض في هذا الفضاء خلقها الله بتدبير وحكمة، وحفظها بناموس ملحوظ: { وما كنا عن الخلق غافلين }. . { وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض؛ وإنا على ذهاب به لقادرون }.. وهنا تتصل تلك الطرائق السبع بالارض. فالماء نازل من السماء؛ وله علاقة بتلك الأفلاك. فتكوين الكون على نظامه هذا، هو الذي يسمح بنزول الماء من السماء، ويسمح كذلك بإسكانه في الأرض. ونظرية أن المياه الجوفية ناشئة من المياة السطحية الآتية من المطر؛ وأنها تتسرب إلى باطن الأرض فتحفظ هناك.. نظرية حديثة. فقد كان المظنون إلى وقت قريب أنه لا علاقة بين المياه الجوفية والمياة السطحية. ولكن ها هو ذا القرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة قبل ألف وثلاث مائة عام. { وأنزلنا من السماء ماء بقدر }.. بحكمة وتدبير، لا أكثر فيغرق ويفسد؛ ولا أقل فيكون الجدب والمحل؛ ولا في غير أوانه فيذهب بددا بلا فائدة.. { فأسكناه في الأرض }.. وما أشبهه وهو مستنكن في الأرض بماء النطفة وهو مستقر في الرحم. { في قرار مكين }.. كلاهما مستقر هنالك بتدبير الله لتنشأ عنه الحياة.. وهذا من تنسيق المشاهد على طريقة القرآن في التصوير.. { وإنا على ذهاب به لقادرون }.. فيغور في طبقات الأرض البعيدة بكسر أو شق في الطبقات الصخرية التي استقر عليها فحفظته. أو بغير هذا من الأسباب . فالذي أمسكه بقدرته قادر على تبديده وإضاعته. إنما هو فضل الله على الناس ونعمته. ومن الماء تنشأ الحياة: { فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب، لكم فيها فواكه كثيرة ومنها تأكلون }.. والنخيل والأعناب نموذجان من الحياة التي تنشأ بالماء في عالم النبات كما ينشأ الناس من ماء النطفة في عالم الإنسان نموذجان قريبان لتصور المخاطبين إذ ذاك بالقرآن، يشيران إلى نظائرهما الكثيرة التي تحيا بالماء. ويخصص من الأنواع الأخرى شجرة الزيتون: { وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين }.. وهي من أكثر الشجر فائدة بزيتها وطعامها وخشبها. وأقرب منابتها من بلاد العرب طور سيناء. عند الوادي المقدس المذكور في القرآن. لهذا ذكر هذا المنبت على وجه خاص. وهي تنبت هناك من الماء الذي أسكن في الأرض وعليه تعيش. ويعرج من عالم النبات إلى عالم الحيوان: { وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونها، ولكم فيها منافع كثيرة، ومنها تأكلون وعليها وعلى الفلك تحملون }.. فهذه المخلوقات المسخرة للإنسان بقدرة الله وتدبيره، وتوزيعه للوظائف والخصائص في هذا الكون الكبير.. فيها عبرة لمن ينظر إليها بالقلب المفتوح والحس البصير؛ ويتدبر ما ورائها من حكمة ومن تقدير؛ ويرى أن اللبن السائغ اللطيف الذي يشربه الناس منها خارج من بطونها؛ فهو مستخلص من الغذاء الذي تهضمه وتمثله؛ فتحوله غدد اللبن إلى هذا السائل السائغ اللطيف. { ولكم فيها منافع كثيرة }.. يجملها أولا، ثم يخصص منها منفعتين: { ومنها تأكلون. وعليها وعلى الفلك تحملون }.. وقد أحل للإنسان أكل الأنعام، وهي الإبل والبقر والضأن والمعز ولم يحل له تعذيبها ولا التمثيل بها، لأن الأكل يحقق فائدة ضرورية في نظام الحياة. فأما التعذيب والتمثيل فهما من قسوة القلب، وفساد الفطرة. وليس وراءهما فائدة للاحياء. ويربط السياق بين حمل الإنسان على الأنعام وحمله على الفلك. بوصفهما مسخرين بنظام الله الكوني، الذي ينظم وظائف الخلائق جميعا، كما ينسق بين وجودها جميعا. فهذا التكوين الخاص للماء، والتكوين الخاص للسفن، والتكوين الخاص لطبيعة الهواء فوق الماء والسفن.. هو الذي يسمح للفلك أن تطفو فوق سطح الماء. ولو اختل تركيب واحد من الثلاثة أو اختلف أدنى اختلاف ما أمكن أن تتم الملاحة التي عرفتها البشرية قديما، وما تزال تعتمد عليها جل الاعتماد. وكل هذا من دلائل الإيمان الكونية، لمن يتدبرها تدبر الفهم والإدراك. وكلها ذات صلة بالمقطع الأول في السورة والمقطع الثاني، متناسقة معهما في السياق..
[24 - سورة النور]
[24.35-45]
Bog aan la aqoon