وفي ذات يوم دخلت المخزن على حسب العادة لأسأل عن شيء، فلم أجدها فيه، وقد مر على ذلك اليوم نحو ثلاث سنوات دون أن أراها، إلا أنني منذ أسبوعين شاهدتها في مركبة في شارع شريف باشا، والمركبة تسير بها مسرعة، فأول ما وقع نظري عليها علمت سر المسألة، علمت من مجرد نظري إليها أنها نزلت وا أسفاه في هاوية جهنم، فإنني فتشت في وجهها على آثار الطهارة الملائكية والجمال العذري وظواهر عدم الاكتراث الصبيانية التي كانت مرسومة على جبينها فلم أجد منها شيئا فيه، ولما وقع نظرها علي صدفة واتفاقا صرفت عينيها عني وزاد انقباضها، فلا ريب عندي في أنها ذكرت حينئذ الرجل الذي كان يعاملها باحترام عظيم في تردده على مخزنها، وأن تذكرها هذا الاحترام قد آلم نفسها حينئذ، ولعل كلمة «أخجلها» في هذا المقام أصح من كلمة «آلمها» ...
فالراجح أن أحد الشبان اللئام أغوى هذه الفتاة وزين لها ترك عملها واتباعه ليعيشا سعيدين، وربما قال لها ليؤثر عليها: «مالك أيتها العزيزة وهذا العمل الشاق المضجر طول النهار لتكسبي مائة فرنك في الشهر، اتبعيني فأعطيك بلا تعب ولا ضجر ثلاثمائة وأربعمائة، ونعيش معا بهناء وسعة.» فصدقت الفتاة الساذجة وعود الغشاش وتركت العمل لتتبعه، ومن هنا بدأت آلامها ومصائبها وأهوالها، وبعد أن كانت موضع الاحترام والإكرام؛ لرزانتها ونشاطها وعملها، أصبحت موضع الشفقة ممن يعرفها والاحتقار ممن لا يعرفها.
فأي ذنب هنا للهيئة الاجتماعية، أليس الذنب كل الذنب للفتاة التي انخدعت وحادت عن الصراط المستقيم اغترارا بأقوال شاب لئيم؟
نعم أيتها الفتاة المسكينة إن الذنب ذنبك لا ذنب الذي غشك، فإنه متى أصاب الثعلب دجاجة وأكلها يكون اللوم بالأكثر على الدجاجة التي لم تقو على الفرار من الثعلب، وما كان أسهل فرارك من الثعلب، الوحش المفترس، لو بقيت متمسكة تمسك الغريق بخشبة في البحر، بذلك المبدأ الشريف، مبدأ العمل المقدس المشرف، المسلي الطارد الأفكار الرديئة، المقوي على احتمال الحياة والمعيشة فيها بشرف وعزة واستقلال.
هذه هي قصة الابنة التي أشرت إليها فيما تقدم، إلا أنني لما وصلت إلى هذا الموضع شعرت بأن الفتاة المذكورة آنفا يمكنها أن تعترض على ما أعترض به عليها اعتراضا خطيرا قد يصعب الجواب عليه، وإنما يصعب هذا الجواب أولا لارتباطه بأساس (المسألة الاجتماعية)، وثانيا لأنني أكتب هنا في مجلة نسائية؛ ولذلك ألقيت القلم من يدي، وأنا آسف لأنني لم أكمل هذا الموضوع، على أن أسفي لعدم إكماله خير من إكماله؛ إذ ما الفائدة من انزعاج أدمغة الحسان اللطيفات الظريفات بالافتراضات والفلسفات وغيرها من الترهات؟
انتهى كلام الكاتب.
ونحن نشتم من هذا الكلام أسلوب «فرح أفندي أنطون» صاحب الجامعة ونفسه، وأنت ترى أنه وصل إلى غرضه، وإن كان تظاهر بعدم إكمال الموضوع، وزيادة على ذلك أنه رمى طيرين بحجر، فأوقع ذنب الفتاة الساقطة على رأسها، ثم عاد باللوم على الهيئة الاجتماعية، وقال: «إن الجواب يصعب لارتباطه بالمسألة الاجتماعية.» والمسألة الاجتماعية التي أشار إليها فرح أفندي أنطون هي التي ذكرت في مقدمة البؤساء، وكان لها شأن عظيم لقلة ألفاظها وكثرة معانيها، وهي:
ما دامت في العالم جهنم يشعل نارها النظام والعادة، وما دامت الفاقة تجبر الرجل على ذل السؤال، وما دام الجوع يلزم المرأة لبيع عرضها؛ لتأكل بثمنه، بل ما دام الجهل والفقر في هذه الحياة، فكتاب مثل كتاب البؤساء لا يستغنى عنه.
أما شيخنا «تولستوي»، فقد أجاب بما يأتي، وهو الفصل الثاني من كتاب البعث الشهير، قال يصف حياة الفتاة السجينة «مسلوفا كاتوشا»:
وقصة تلك السجينة كانت مثل قصص كل البغيات، فإن أمها كانت امرأة غير متزوجة تخدم في إحدى الضياع، وكانت تلك المرأة تأتي في كل عام بطفل سفاحا، ولما كانت فقيرة في حاجة إلى كسرة خبز وشربة ماء، كانت تهمل أمر أطفالها ثمرات الزنا، فيموتون من الجوع والبرد والمرض، أما الطفلة السادسة فقد كان أبوها من أبناء السبيل، وحدث أن إحدى صاحبتي الضيعة التي كانت فيها المرأة أتت إلى معمل اللبن، فرأت المرأة نائمة في إصطبل الأبقار مع مولودة جديدة عليها علائم الصحة والجمال، فأخذتها عليها شفقة ورحمة وشاءت أن تتبناها، فأعطت لأمها قليلا من المال لتتغذى وتقوى على إرضاع الطفلة.
Bog aan la aqoon