وكان سعيد - حلال المعضلات - قد أدرك وهو فى مكانه أن فى الأمر شيئا، فخف إلى جميل.. فلما عرف المسألة انحنى على الأستاذ، وهمس فى أذنه: «إن هؤلاء الناس خليقون أن يتوهموا أننا ضحكنا عليهم أو أننا مخدوعون، وأنك لست الأستاذ التميمى وأنما أنت رجل غيره ينتحل اسمه، فقم قل كلمة وإلا ...» ولم يتمها فقد نهض الأستاذ معبسا، ورفع رأسه كأنما يحاول أن يقيم ما قوسه الزمن، وكانت لحيته تضطرب، وشفته تختلج، وكفاه لا تثبتان على المائدة التى وقف معتمدا عليها، وظل هكذا نحو دقيقة كان من الواضح فى أثنائها أنه يعالج نفسه ليردها إلى السكون، ويحاول أن يضبط أعصابه ويفىء بها إلى الاتزان ثم فتح فمه، وقال بصوت خافت: «أيها السادة» وسكت شيئا وثبت حملاقه فكأنه تمثال نصب فى مكانه، ثم ابتسم فجأة وبدأ يتكلم بلا توقف. ولم يشكرهم كما رجا منه جميل بك، بل قال لهم فى صراحة سرت فريقا وساءت آخرين، إنه وجد بالتجربة الطويلة أن من العسير أن يهرب المرء فى هذه الدنيا من الناس - ومن الأدب والأدباء وعشاق الأدب على الخصوص - المخلصين والمتكلفين والذين يظلون يوحون إلى نفوسهم أنهم يحبون الأدب حتى يؤمنوا بذلك. كلا، لا سبيل إلى الهرب.. وطالب الفرار لابد له من الجرى الطويل والذهاب إلى أبعد مما كانت الحاجة تدعو إليه قبل نصف قرن. وهو يتكلم عن خبرة فيجب أن يصدقوه، بل إن وجوده الليلة بينهم دليل مادى على تعذر الهرب فى هذا الزمان الذى امتد به العمر إليه. وكيف يهرب الإنسان؟ إلى أى مكان يذهب وكل مكان فيه ناس؟ وقد صار الناس أكثر والاتصال بينهم أسرع وأسهل.. ومن أى مكان يهرب؟ إن الهرب الصحيح مستحيل.. وقد يستطيع المرء أن يعيش فى الصين، ولكنه لا يستطيع أن ينكر أو ينسى أن القاهرة والإسكندرية ودمشق والقدس موجودة. والهرب من الزمان أصعب. نعم، يتوهم المرء أنه يعيش لا فى الحاضر بل فى المستقبل وللمستقبل، ويروح يعزى نفسه عما هو كائن بما يزعم أنه سيكون، ويذهب يعمل ليقلب الدنيا ويجعلها كما ينبغى أن تكون، «إنى أؤكد لكم أنى أعرف هذا. فقد فعلته - أعنى توهمته - وعشت فى سكرة طويلة ونشوة مستمرة وحلم دائم بما سيكون».
وقال لهم إن هذا كله عبث فى عبث، وأكد لهم أنه لا مسوغ على الإطلاق لأن يفترض الإنسان أن للجنس الإنسانى مستقبلا.. هذا أولا. وثانيا أن ما نسعى له ونلح فى طلبه أو تمنيه، قد يكون مستحيل التحقيق. وهب أن تحقيقه ميسور، فقد يتبين أنه ليس مما يسيغه أو يرتاح اليه أو يرضى به الجنس الإنسانى. وسألهم هل هم يعتقدون أن الإنسان ينشد السعادة؟ ولو كانت السعادة الدائمة الخالدة التى لا تزول ولا تتغير ممكنة، ألا يستفظعها الإنسان ويفرق من تحقيقها؟ على أن التفكير فى المستقبل والسعى له لا يمنعان أن الحاضر موجود وأنه مؤثر بوجوده.. وهناك مهرب آخر إذ يتعلق المرء بالمثل العليا وصور الكمال، ولكن اللجوء إلى الخيال لا ينفى الحقائق المحيطة بالإنسان. وانتهى إلى أن المهرب الوحيد الصحيح لا يكون فى الحياة وهذا لا يعد مهربا، لأن المرء لا يشعر به ولا ينعم بإدراكه أنه استطاع الهرب.. ولو كان هذا مهربا حقيقيا للجأ إليه! وابتسم وقال إنه يرجو أن لا يلجئوه إلى هذا الذى ليس مهربا..
واستطرد بطريقة ما إلى كتبه وما يلقى التكريم من أجله، فقال إنه واثق أن أكثر الموجودين لم يسمعوا باسمه، ولم يكونوا يعلمون أن له كتبا، وأن الذين قرأوها فهموا منها غير ما أراده، وقد يكون هذا عيبه هو كما قد يكون عيبهم هم، ولكنه الواقع على كل حال. والمجتمع لا ينتظم أمره إلا بالمجاملة وهى شىء حسن فى ذاته، ولكنه هو فرغ من ذلك كله وأخرجته سنه من المجتمع وأعفته من ضروراته. وهو ليس من هذا الزمن، فيحسن أن يرتد ويتراجع إلى ما أخرجوه منه لأنه ليس إلا قطعة متخلفة من زمن سابق، ولا شك أنهم أدركوا غلطتهم حين خرجوا به إلى زمانهم.
وظل يهضب على هذا النحو الذى لم يكن منتظرا ولا كان فى حساب أحد. وطال الأمر فمل الناس وأحس هو الهمس.. فلم يترفق بالذين ضجروا كأنما أراد أن ينتقم لنفسه أو أن يبغضها إليهم فيتركوه بعد ذلك فى سلام. ولم يطق البعض المقام أو طوله، فتسلل خارجا وتبعه غيره وغيره حتى لم يبق إلا ما دون النصف.
ولكل شىء آخر.. عاد الأستاذ إلى غرفته لا إلى بيت ابنه واستلقى على فراشه بثيابه، فقد أضناه الكلام والوقوف أكثر من ساعة ونصف ساعة.
وفى الصباح جمع ثيابه وأشياءه، وانتقل إلى ربع آخر.
وجاء سعيد بصحف الصباح وفيها وصف الحفلة التى ظلت أياما تدعو لها وتروج، وفى صدر أكثرها خطبته التى عنى سعيد بتدوينها.
فلم يجد الأستاذ، وأعياه أن يعرف أين ذهب.. فأسرع إلى ابنه على بك يخبره ويسأله ما العمل، فقال على بك وهو يرسل الدخان فى الهواء: «أظن أن الواجب أن نحترم إرادته ونعفيه من الإثقال عليه».
فمضى عنه سعيد وهو يهز رأسه ويفكر فى على بك، أكثر مما يفكر فيمن عاد فاختفى.
الفصل التاسع
Bog aan la aqoon