فمد المدير إليه يده، وهو يقول كالمحدث نفسه: «86 سنة.. أما لو كان حيا؟ ولكن كيف يمكن؟ كيف يمكن»؟ •••
مضى شهران على هذا الحديث لم يسمع فى خلالهما كلمة من سعيد، ولم يكف هو أثناءهما عن البحث والتقصى - عبثا - فأقصر يائسا وصرف نفسه أسفا عن عبد القادر التميمى. وكان جميل بك - أو إذا شئت اسمه كاملا، جميل بك أحمد القناوى - رجلا مخلصا عطوفا رقيق القلب، وقد شق عليه جدا أن يحدث فى القرن العشرين أن يختفى أديب مشهور وأن تنقطع أخباره نحوا من أربعين سنة، فتنساه الدنيا التى يسرها ويملؤها حبورا وجذلا، ولا تعود تعرف عنه حتى أبسط ما ينبغى أن يعرف: «أهو حى أم تراه ميت»؟ وكان جميل بك يرى أن هذه فاجعة إنسانية لأنه لم يشك فى أن اختفاء هذا الأديب وانقطاع أخباره سببهما يأس عميق آخذ بالكاتب، وهو مع ذلك الذى يرفه بكتابته عن الناس وينعش نفوسهم ويهذبها بفكاهته ويفيض على حياتهم البشر والسرور كما تفعل الشمس، ولم يسعه الا أن يعجب لاختفاء رجل مشهور فى عالم لا يكاد يختفى فيه شىء فى هذا العصر، ورجح عنده لهذا أن الرجل لابد أن يكون قد لقى حتفه فى أول مراحل هجرته - إذا صح أن تسمى هجرة - ولا يبعد أن يكون قد تنكر واتقى ألا يحمل معه ما يدل على حقيقته. وأخلق به حينئذ أن يكون قد دفن حيثما اتفق بالاسم الجديد الذى تنكر به، وهز جميل بك كتفيه ومط شفتيه ، ثم زفر زفرة طويلة وقال: «إيه لا حول ولا قوة الا بالله» وشرع يشعل سيجارة وإذا بالتليفون يدق إلى جانبه، فتناول السماعة متثاقلا وقال: «نعم» ولكن ما عتم أن أعتدل فى جلسته، وصاح: «أيه ماذا تقول»؟
ولكن الذى خاطبه اكتفى بما قال، فوضع جميل بك السماعة، وقام يتمشى بسرعة ويشعل سيجارة ويضعها فى الطبق وينساها ويروح يشعل غيرها حتى اجتمع فى الطبق أربع سجاير بعضها أقصر من بعض وهو ذاهل عنها جميعا. وأنه ليهم بإشعال الخامسة، وإذا بالخادم - فقد كان فى بيته - ينبئه أن «سعيد أفندى الميدانى» قد حضر، فيقول له بلهفة: «أدخله.. أدخله» ويسبقه هو إلى الباب.
ويدخل سعيد أفندى ويده فى يد جميل بك، وهو يقول: «نعم وجدته.. فى غرفة فى ربع قديم فى أعتق أحياء هذه المدينة.. أو هو من أعتقها..».
فيقول جميل بك: «وكيف وجدته»؟
فيقول سعيد أفندى: «أوه.. هذه حكاية طويلة. وليس المهم كيف وجدته، بل المهم أنى وجدته. ويمكننى أن أقول لك إنى استعنت بابنه، وقد كان اعتقاده أنه مات لا محالة، ولكنى زعزعت له هذا الاعتقاد بعنف بل بقسوة.. هل تعلم أن ابنه أحيل على المعاش منذ سنتين، وإن له حفيدة تزوجت وولدت بنتا».
فيقول جميل بك: «ليس عجيبا أن يعتقد ابنه أن أباه مات وشبع موتا، ولكن كيف وجدته؟».
فيقول سعيد مرة أخرى: «لقد قلت لك أن هذه الحكاية طويلة».
فيقول جميل بك: «إنما أعنى كيف حاله».
فيقول سعيد: «حاله.. وماذا تنتظر أن يكون حال رجل قارب التسعين وأقعدته شيخوخته العالية عن العمل.. فقر وضعف وعمش ... حال لا يعلم بها إلا الله». - ولكن كيف يعيش؟ - كان يستعين به طابعو الكتب القديمة لضبطها وهم يجهلون شخصيته لأنه يسمى نفسه عبد القادر ناجى.. أليس اسما غريبا؟ إن اختياره له يشى بثقته بالله وبحسن المآل على كل حال.. لقد أدهشنى منه أنه لايزال يبتسم للدنيا ويؤمن بحسن حظه فى الحياة على الرغم مما هو فيه من الفاقه الشديدة.. ولكن من يدرى؟ لعله قد خرف فهو لا يقدر سوء ما هو فيه. فسأله جميل بك: «ألا يعرف أن ابنه موجود»؟
Bog aan la aqoon