وقلت لصاحبى وأنا أودعه: «على فكرة.. من قبيل الاحتياط للمستقبل ما هو الجواب الصحيح أمام اللجنة»؟
قال: «آه.. أنفق ما فى الجيب يأتك ما فى الغيب».
قلت: «أهو ذاك؟ أما ما فى الجيب فلست أحتاج فى أمر إنفاقه إلى التكلف.. وأما ما فى الغيب فهل تعرف متى يأتى»؟
فأشار لى بيده.. ومضى عنى وهو يضحك.
الفصل السابع
تفيدة
نشأت فى بيت لم أكن أجد فيه من يكلمنى، لا لقلة فى أهله ولا لبكم يعقد ألسنتهم.. بل لأن مشاغلهم كانت تصرفهم عنى. فهذه جدتى، لأبى، كانت لا تفارق السجادة - أو الفروة على الأصح - وفى يدها السبحة التى لا أذكر أن الخيط الذى ينظم حباتها انقطع، وشفتاها لا تكفان عن الحركة والتمتمة بما لا أعرف من الأدعية والصلوات على النبى. وما أكثر - وأطول - ما كنت أقعد أمامها محدقا فى هاتين الشفتين الدائبتين دؤوب الليل والنهار. وكانت ربما التفتت إلى فتتبسم وتدنينى منها وتمسح لى رأسى، ثم تبسط يديها بالدعاء إلى الله بصوت يبريه الضعف وتبحه الحسرة ويهدجه الألم والأسف لما صرنا إليه بعد وفاة أبى، ثم تربت على كتفى وتميل على وجهى الصغير بفمها الأدرد وتقبلنى، فتخرج شفتاها صوتا كهذا «مق».
وتلك أمى لا تزال مصروفة عنا بشئون البيت من طبخ وغسل وكنس ونفض، ومن حمام تسقيه وتطعمه، ودجاجات لا تنفك تجس حويصلاتها أو تصبعها لترى أفيها أم ليس فيها بيض أو تنتف ريشها. وكثيرا ما كنت أقف أنظر إليها وهى تتناول فراخ الحمام وتزقزقها، أى تمج فى مناقيرها الماء والحب.. ولا آخر لعمل السيدة في البيت. ولم يكن لنا في ذلك الوقت خادمة، وكانت أمى تنهض بالأعباء كلها اقتصادا فى النفقة.. فكانت هى تطبخ الطعام، وتكنس الغرف، وترتب الأثاث، وتخيط لنا الثياب، وتصنع كل شىء إلا أن تخرج لتشترى الأشياء التى نحتاج إليها لطعامنا. فقد كان رجل من أتباع أقاربنا الذين يقيمون فى أجنحة أخرى من هذا البيت الكبير، يقوم لنا بذلك. وكانت عمة أبى معنا، ولكنها كانت عجوزا ناهزت المائة.. وكانت تجلس وساقاها ممدودتان أمامها ورأسها مستند إلى وسادة، ولسانها لا يمل الدوران، وكان كلامها هذيانا فكنت أضحك منها أحيانا ثم أمل ذلك فأتركها لهذرها الذى لا ينقطع.
وكنت إذا شعرت بالشوق إلى مكالمة أحد، أنحدر إلى فناء البيت.. وكانت فيه غرف كثيرة، يقيم فيها أتباع الشيخ قريبنا ويحيون الليل بقراءة الأوراد. وكانت هناك أيضا ميضة ومصلى، فكنت إذا رأيت الشيخ مقبلا أندس بين المصلين وأروح أقف وأركع وأسجد كما أراهم يفعلون. ولكن هؤلاء كانوا يروننى صبيا صغيرا، فينظرون إلى ويبتسمون - لأن أفواههم مشغولة بالتمتمة - ولكن لا يكلموننى. غير أنه كان هناك فى أكبر غرفة فى الفناء، رجل ليس من الأتباع ولا هو يعنيه أمرهم أو يشاركهم فيما يصنعون. ولا أدرى إلى هذه الساعة كيف سكن هذه الغرفة.. فما كان يعطى الشيخ شيئا، وكان الشيخ يستنكف أن يؤجر بيته أو بعضه. وكان هذا الرجل يصنع أزرار الطرابيش، فكان يطيب لى أن أجلس إليه ألاحظه وأحادثه أو أستمع إلى حديثه وقصصه وكان يحادثنى كأنى رجل كبير لا طفل صغير، وكان يبرم خيوط الحرير المصبوغة ويفتلها ويعقد أطرافها ويجمع كل بضعة خيوط معا ثم يثنيها ويربطها ويصمغها ويدقها على قالب من القوالب التى تتخذ لكى الطرابيش. وكانت لهذه الخيوط رائحة لا أزال أذكرها، وإنى لأجدها الآن فى أنفى وأنا أكتب ذلك. وقد علمنى صناعته، فكان يدع لى الخيوط فأفتلها وأرتبها وأعقد أطرافها وأفعل مثل ما أراه يفعل بالمدق على القالب. ثم يعود إلى فينظر فيما صنعت ويصلح لى أخطائى، أو يثنى على حذقى. وكان يكل إلى ذلك كلما قام لإعداد طعامه أو خرج لشرائه. وفى وسعى أن أقول بلا مبالغة إنى قلما تعشيت إلا معه، فكنت أصعد فأجىء بطعامى وأضيفه إلى ما عنده، فنأكل معا. ولكنى لم أكن أصنع هذا إلا إذا كان عندنا طعام يليق أن يقدم إلى غريب.. أما إذا كان فولا أو عدسا أو ما هو من هذا القبيل، فقد كنت أخرج فأشترى زيتونات وشيئا من الجبن «والحلاوة الطحينية» وأعود بها إليه، فيؤنبنى على فعلتى وينهانى عن العود إلى ذلك، فأصارحه بأن طعامنا الليلة فول أو عدس ... وإنى لا أحبه. فكان يحدث أن يقول لى إنه يحب هذا الطعام، ويرجو منى أن أصعد وأجيئه بشىء منه، فأستغرب.. ولكنى أطيع. فلا عجب إذا كنت قد أحببته وألفته. ولم يكن أغرب من هذه الصداقة بين رجل جاوز الأربعين وطفل فى التاسعة من عمره. وقد ألفنى كما ألفته، وتعلق بى كما تعلقت به.. فكان ينادينى إذا أبطأت عليه، فأستبطئ النزول على الدرج وأركب الدرابزين لأن التزحلق عليه أسرع..
وكانت له بنت أخت تزوره من حين إلى حين.. رأيتها أول مرة فى ليلة شتوية كثيرة المطر شديدة البرد، وكنت ألعب فى الحارة.. فلما أخذ المطر ينهمر فجأة ذهبت أعدو إلى البيت. ولمحت، وأنا أجرى، ضوءا فى غرفة صديقى.. فاشتهيت أن أخبره أن السماء تمطر وأن الريح تعصف. ودخلت الغرفة ثم وقفت على العتبة، فما رأيت المصباح المألوف وإنما رأيت نارا موقدة، وكانت ألسنة اللهب عالية.. فرأيت، أول ما رأيت، كفا بدت لى كأنها - ولسان النار من ورائها - مرجان شفاف. وطالعنى محيا فتاة صغيرة على هذا الضوء المضطرب، فرأيت شعرا أسود يتوهج هنا وهاهنا، وضفيرتين فى طرفيهما خيوط من الصوف نسج عليها الشعر واستراحتا على جانبى الصدر، وأنفا فى عرنينه نتوء قليل، وفى مارنه لين، وفى أرنبته انثنا إلى فوق، وعينين ضيقتين مائلتين بعض الميل. وكانت الحدقتان تلمعان كأنما تطلان من شقين، وفى نظرتهما من وراء الأهداب الوطفاء معانى الرضى التام والسكون العميق والاغتباط الذى لا سبيل إلى العبارة عنه. وكانت هذه المعانى على الفم أيضا، وكانت الشفتان رقيقتين وفى العليا منهما نثلة بينة، وهنة دقيقة نابتة فى وسطها، وكانت عليها ابتسامة أبلغ فى العبارة عن السرور من الضحك المجلجل، وكان خط الشفتين موازيا لميل العينين، وقد خيل إلى وأنا أنظر إلى هذه الابتسامة المرتسمة على الشفتين المتلامستين كأنما هى معلقة على ما تغضن على جانبى الفم، وكانت صحيفة الوجه عريضة عند الوجنتين ولكنها تنتهى بذقن دقيق، وفى الديباجة حسن، وفى الخدين رى وأسالة وبضاضة. أما العنق فطويل مستدير، وأما الذراعان - وكانا معتمدين على الركبتين - فمستدقان.
Bog aan la aqoon