Ku cusbooneysiinta Dhaqanka Carabta
في تحديث الثقافة العربية
Noocyada
لكنني أتحدث هنا عن الحياة «الثقافية» وطرائق تحديثها؛ فلا المنظور السياسي بشاغلي، ولا المنظور الاجتماعي من وجهة نظر سياسية، وإنما هو المنظور الثقافي الذي قرأت منه هذا البيت من الشعر، فكان المعنى هو أنه لو تركت جماعة المثقفين غير مهتدية بمبدأ ضمني يكمن في نتاجهم؛ لجاءت التركيبة الثقافية في جملتها أقرب إلى كومة من الخيوط، لم تنسج على نول لتكون قماشة متصلة تصلح أن يقد منها ثوب يرتديه من يرتديه؛ فالمبدأ الضمني هنا هو بمنزلة «السراة» أو القمة التي يتجه إليها الصاعدون، وفكرة «المبدأ» في هذه الحالة، تترادف مع فكرة «الهدف»، فالشرط بأن يكمن في نفوس الذين ينتجون ثقافة «مبدأ» واحد، رغم تعدد المجالات التي منها تتكون حياة ثقافية كاملة؛ هو نفسه الشرط بأن يكون أمامنا «الهدف»، نعمل على تحقيقه، أو بعبارة أخرى، أن نلتزم في سيرنا «خطة» ولو على سبيل التقريب، لا تضيق الخناق على أصحاب المواهب، وإذا لم يكن مبدأ، أو هدف، أو خطة، فماذا يبقى إلا أن تتقاطع الخطوط، وتختلط السبل، ويصبح أمرنا «فوضى» لا نستطيع معها أن نصف حياتنا الثقافية بصفة تبين اتجاهها، فمثل هذا الوصف لا يتحقق لشيء - أي شيء - إلا إذا كان على شيء من «النظام» بالمعنى الذي أسلفنا شرحه لهذه الكلمة، فمع «النظام» يسهل التقنين، ويسهل الوصف في كلمات قلائل محددة المعنى واضحة الدلالة.
وإنني لأبعد رجل عن أن يجعل في الحياة الثقافية سلطة تملي، وجمهورا يتلقى ما يملى عليه، فليس الذي يدور بخاطري، هو أن تجيء الخطة الثقافية هابطة علينا من وزارة الثقافة أو غيرها من أنظمة الحكم؛ فما هذه الهيئات الحاكمة إلا وسائل لتيسير السبل أمام المواهب المبدعة، ولكن الذي أعنيه هو أن الحياة إذا استقامت سوية لأبنائها، وجدت هؤلاء الأبناء وقد تحركت ضمائرهم متجهة نحو أمل معين تتمناه لشعبها، ولولا هذه الحاسة الفطرية؛ لما وجدنا الشعوب تتميز فعلا بأنماط معينة من الذوق والرؤية ورسم الأهداف، ومن هنا جاءت صور التعبير بشتى أدوات الثقافة: الأنغام، والألوان، والكلمات، وغيرها من وسائل متميزة بطابع خاص في كل جماعة من الناس، فيكون لها موسيقاها وأغانيها، وتصويرها، وشعرها، وأدبها، وهكذا. على أن تلك الخصوصية الثقافية للشعوب، وإن حافظت على جوهرها الأصيل، فهي لا تتنافى مع التأثر بما يحيط بها من ثقافات الشعوب الأخرى، والتأثير فيها.
والآن فلنضيق مجال القول، وبدل أن نتحدث عن «الحياة الثقافية» وعن «الشعوب» بمعان مطلقة، نحصر انتباهنا في مجال واحد يعد مجالا من مجالات الإبداع الثقافي. ولأبدأ بالفكر الفلسفي في الوطن العربي المعاصر، كيف يجيء؟ وكيف يكون إذا قسم لنا أن يكون لنا شيء من فكر خاص يحمل هذا الطابع الفلسفي في منهجه وفي هدفه؟ فهذا الضرب من الفكر إن هو - بكل اختصار - إلا تعقب المفاهيم ذات الأهمية الخاصة في حياة الناس في عصر معين، وبالطبع تختلف هذه المفاهيم المحورية من عصر إلى عصر، فليس ما يسود عصرا قريب عهد بدين جديد آمنوا به، هو نفسه ما يسود عصرا آخر قريب عهد بعلم جديد تفتحت به قرائح العلماء، وذلك التباين بين العصور لا يتنافى مع أن تكون هنالك معان كبرى شغلت الإنسان منذ كان إنسانا، وستظل تشغله ما بقي إنسانا، كفكرة الخلق، وفكرة المصير بعد الموت، فماذا يصنع صاحب فكر يميل بطبعه نحو نهج التفكير الفلسفي، سوى أن يلتقط ما يلفت نظره من المفاهيم الشائعة بين جمهور الناس، فيحللها ويؤصلها، وإنه وهو في طريقه نحو التحليل والتأصيل؛ ليصب الضوء شيئا فشيئا على ما تعنيه الفكرة التي يتناولها بالتشريح. ولا بد لنا من القول هنا، بأن الجمهور وحده إذ يتداول فيما بين أفراده مفهوما من تلك المفاهيم المحورية في عصره، مستحيل على قدراته العامة أن تدرك المعنى الواضح لذلك المفهوم. على أن مثل هذا التشريح للمعاني بغية توضيحها لا يجيء مع كبار الفلاسفة مجزأ، وإنما هو يستهدف آخر الأمر إقامة بناء فكري كامل وشامل، يصور جسم الحياة كما هي قائمة، ويبين في الوقت نفسه ماذا على الناس أن يصنعوه بتلك الحياة لتكمل بعد نقص.
ومن هو على طريق التفكير الفلسفي - بهذا المعنى الذي قدمناه - من أبناء الوطن العربي، تضطره المفاهيم التي تلح عليه بأن يلتزم بتشريحها وتوضيحها، فهي في حياتنا العربية كثيرة جدا، خطيرة جدا، شديدة الغموض في أذهان الناس، ومع ذلك الغموض تراهم يتقاتلون من أجلها في حرارة وكأنهم حقا يعلمون على أي شيء هم يتقاتلون! وفي الصدارة يأتي مفهوم «العروبة» والصعوبة الشديدة في رسم الخط الواضح بين «العروبة» و«الإسلامية»؛ إذ هو من الغموض بحيث تجد من لا يستسيغ منك أن تقول أمامه إننا ننتمي إلى «عروبة»؛ فيعترضك بقوله إنما الانتماء يكون للأمة الإسلامية في طولها وعرضها. ولو أن الخلط بين هذين المفهومين مقتصر على الجانب النظري والجدلي فقط، لهان علينا الأمر، وقلنا إنها شقشقة لسان لا تغني عن الحق شيئا، ولكنه خلط يضرب في صميم حياتنا السياسية والعملية ، حتى لقد جاز لبلدان «عربية» أن تحارب في صفوف بلدان «إسلامية وغير عربية» بلدانا عربية أخرى، وليس شأني هنا هو السياسة، فلست من رجالها، ولكن شأني هو وضوح المفاهيم المحورية في حياتنا أو غموضها.
وهنا ألقي بسؤال على القارئ، وسوف يرى أن الإجابة ستكون في أيدينا مفتاحا لمشكلة من أعقد مشكلاتنا الثقافية المعاصرة، وذلك السؤال هو: إذا حدث أن ظهر بيننا صاحب منهج فلسفي في تحليل المعاني، وأن ذلك الرجل قد حلا له أن يصب منهجه ذاك على مفهومي «العروبة» و«الإسلامية» فهل يحسن به أو يقبح به أن يستعين بما قد يكون بعض فلاسفة العرب قالوه في طرائق تحليل الأفكار؟ إذا جاء جوابك بأن ذلك الأخذ الثقافي بين الشعوب هو أمر لا ضير فيه، بل إنه لخير كل الخير، يضيف إلى إحدى الثقافات، دون أن يمس جوهرها الأصيل، أقول: إذا جاء جوابك على هذا النحو؛ إذن فكأنك أشرت علينا بوجوب الأخذ والعطاء بين مختلف الثقافات، وتكون قد ألقيت درسا على قوم يرفعون علينا عصيهم إرهابا؛ حتى ننكمش في حدود جدراننا، لا نفتح فيها نافذة ولا بابا.
وكنت أود أن أسوق بعد مثل الفكر الفلسفي، مثلا ثانيا من الفن، وثالثا من الأدب؛ لأوضح كيف أن بعض عناصر «المبدأ» الضمني، الذي نريد له أن يكون ماثلا أمام صناع الثقافة في أمتنا، يجب أن يكون ضرورة الأخذ والعطاء بين الثقافات، غربيها وشرقيها على السواء، دون أن نخشى في سبيل ذلك طغيانا على هويتنا الوطنية والقومية معا.
وأما أهم عنصر مما نريد له أن يكون «المبدأ» الهادي في إبداعنا الثقافي، على اختلاف مبادئه؛ فهو أن نتصور بوضوح ناصع، مقومات المواطن الذي نسعى إلى بنائه بمبدعاتنا، ماذا عساها أن تكون؟ إن الوالد الذي يتولى ولده بتربية منسقة تنتهي به إلى غاية منشودة، إنما يؤدي ما يؤديه، والصورة المثلى قائمة نصب عينيه، وإلا لما عرف ماذا يكون صوابا وماذا يكون خطا في تنشئته لولده، وكذلك الحال بالنسبة إلى بناة الصرح الثقافي في بلادنا؛ فلن تتيسر لهم هداية السير على جادة الطريق، إلا إذا تمثل في وجدانهم صورة لما يريدون تحقيقه بما يبدعونه قطرة قطرة، معزوفة معزوفة، قصيدة قصيدة، رواية رواية، مقالة مقالة.
ولست أرى صورة نهتدي بها في إنتاجنا الثقافي خيرا من مواطن فيه كل مقوماته الوطنية والقومية الأساسية، بحيث يكون مصريا لا شائبة في مصريته، عربيا لا ريبة في عروبته، ثم إنسانا يعيش مع سائر الناس في أرجاء الدنيا، يحمل معهم هموم العصر للمشاركة في حلها، كما يحمل معهم عبء التقدم، بمشاركة فعالة تحس بها الدنيا؛ ليصيح زهوا بملء فيه: ها أنا ذا، وهكذا كان أبي.
ناقد الفكر وناقد الأدب
الأدب شأنه معروف في حياتنا الثقافية، حتى إن اختلفنا في تصور ما هو متوقع منه أن يؤديه، وأما ناقد الفكر فلا أظن أن أمره معلوم لأحد، وهو إن كان معلوما لقلة من المثقفين؛ فأرجح أن يكون ذلك العلم عند من يعلمونه مشوبا بضباب الغموض، إلى حد يكاد يجعله علما كالجهل، لا ينفع أحدا، وهنا قد يعجب قارئ لهذه التفرقة بين فكر وأدب، ولا سيما ونحن لا ندخل «العلوم» فيما نسميه «فكرا»، كما يعجب لهذا الذي نزعمه عن غياب ناقد الفكر من حياتنا، أو هو موقف يشبه الغياب، فكيف يستقيم هذا الظن والأقلام كما نراها تصطرع محمومة في كل مناسبة تسمح لحرب الكلمات بين رجلين؟! أمور في حاجة إلى توضيح.
Bog aan la aqoon