Ku cusbooneysiinta Dhaqanka Carabta
في تحديث الثقافة العربية
Noocyada
ولقد تولت مؤسسات في الدولة أو في المجتمع العام أمر العناية بكل درجة من الدرجات الثلاث ومعها السنادة التي يتكئ عليها الصاعدون - سواء كنا على وعي بهذا التقسيم أو على غير وعي - فأما درجة المتفرقات من المعلومات والمعارف فهي مهمة وزارة الإعلام بأجهزتها المختلفة، إذن يكون أساس الحكم على عملها نجاحا أو إخفاقا هو: كم يعرف متوسط الفرد من أبناء الشعب عن جوانب حياته؟ وأما الدرجة الوسطى وفيها «علوم» تقنن المعارف المتفرقة، فشأنها موكول إلى وزارتي التعليم العام والتعليم العالي، بما يتبعهما من مدارس ومعاهد وجامعات، ويكون أساس الحكم عليها نجاحا أو إخفاقا، كم من «العلم» حصل الطالب، وكيف جاء ذلك التحصيل؟ وأما الدرجة الثالثة من درجات السلم وهي التي تتكون فيها للشعب وجهة نظره، ويضاف إليها جزء مما تؤديه السنادة التي هي متكأ السائرين، فأمر ذلك هو لوزارة الثقافة إذن يكون الحكم عليها بالنجاح أو بالفشل مؤسسا على ما أدته أو تؤديه في خلق «رؤية» قومية موحدة، في إطارها يعلم العالمون ويسلك السالكون.
وبعد الحكم على هذه الهيئات نجاحا وإخفاقا تضم معا في نسج واحد هو نسج الحياة الثقافية التي نعيش اليوم في ظلها ننظر إليها خلال البناء الهيكلي العام ذي الوقفات الثلاث بالنسبة للسماء والأرض والإنسان بينها؛ لنرى أي وقفة منها تسود حياتنا، فنكون بهذه الأحكام المؤسسة على منهج للنظر قد ألمحنا بالحقيقة كما هي واقعة؛ فإذا رأينا بها خللا أصلحناه.
فإذا سألتني: وما أحكامك في هذا كله؟ أوجزت لك الجواب كما يلي: وأبدأ بالهيكل الفرعي ذي الدرجات الثلاث وسنادتها، فأقول بأن الدرجة الأولى من أسفل التي قلت عنها أنها في رعاية وزارة الإعلام وهي الدرجة التي تعرض فيها على الناس معلومات متفرقة عن جوانب حياتنا؛ فظني هو أن حصيلة الفرد المتوسط منها منقوصة ومشوهة، وعلة النقص والتشويه فيها هي حرص المشرفين عليها أن يلتمسوا طريق السلامة والعافية فاجتنبوا كل ما عساه يسيء إلى هذا ويؤذي مشاعر ذاك، وأما الدرجة الوسطى وفيها «العلوم» النظامية بمدارسها ومعاهدها وجامعاتها فهي تخرج لنا - بصفة عامة - شبابا كأنهم جسدوا بأشخاصهم «المذكرات» التي حفظوها، فلا اكتمال ولا ابتكار ولا مغامرة ولا نقد ولا طموح، وأما الدرجة الثالثة من درجات السلم التي تقع في رعاية وزارة الثقافة والتي كنا نتوقع منها وحدة الرؤية ووحدة الهدف فلا أظن أننا في كل تاريخنا الماضي قد تمزقنا بين عدة رؤى وعدة أهداف كما تمزقنا اليوم. وإني لأشهد بأنه إذا كان في الهيكل جانب على شيء من السواء فهو في سنادة المبادئ والقيم (من الوجهة النظرية)، فهذه تجد نصيبا موفورا من التعبير عنها فيما يذاع وينشر من أدب وفن؛ فإذا نقلنا هذا كله مجتمعا إلى الهيكل البنائي العام وجدتنا أبعد ما يكون الناس عن الوقفة المتوازنة بين سماء وأرض بين دين ودنيا بين علم وعقيدة، وأقرب ما يكون الناس إلى تطرف أصم وأعمى.
لمسة الواقع
كان الوقت يوما من أيام الصيف، في سنة 1947، وكان المكان محطة فكتوريا بلندن، حيث كنت عند نقطة البدء من طريق عودتي إلى مصر، ولم تكن الطائرة يومئذ هي الوسيلة التي يلجأ إليها مسافر أول ما يلجأ، وإنما كان الطريق المعتاد لمن يسافر من لندن إلى القاهرة، هو أن يأخذ القطار إلى ميناء دوفر على الشاطئ الجنوبي من إنجلترا، ومن هناك يركب سفينة تعبر به بحر المانش (كما يسمى بالفرنسية) أو بالخليج الإنجليزي (كما يسمى بالإنجليزية) وكانت تلك السفينة تتجه إلى ميناء كاليه على الشاطئ الشمالي من فرنسا، ومن هناك يكون القطار - أو القطارات - إلى ميناء مرسيليا في الجنوب الفرنسي، وأخيرا يركب المسافر إلى مصر سفينة تعبر به البحر الأبيض المتوسط إلى ميناء الإسكندرية ... ففي ذلك اليوم حين كنت في محطة فكتوريا في ساعة مبكرة من الصباح، كانت تلك هي نقطة البدء من طريق السفر إلى أرض الوطن، وعندئذ جاءني يلهث موظف من مكتب البعثات المصرية. ومعه برقية وردت من مصر تقول: يطلب من فلان المرور بباريس في طريق عودته، لحضور المؤتمر الفلاني الذي تنظمه «اليونسكو». وفي مزيج من الدهشة والحيرة والفرحة، عاونني ذلك الموظف على إلغاء إجراءات سفري لأعود إلى مسكني في لندن، مستأذنا صاحبته في إقامتي يوما آخر، أعددت فيه نفسي إعدادا جديدا، لأرسل إحدى حقيبتي الاثنتين شحنا إلى القاهرة، ولأضع في الأخرى ما يلزمني من ثياب وغير ثياب في أيام إقامتي بباريس.
علمت عند أول وصولي إلى باريس أن الموضوع الأساسي في المؤتمر هو عن «الثقافة »: أهي ثقافة واحدة للإنسان أيا كان موطنه؟ أم هي ثقافات تتعدد بتعدد الشعوب والأوطان؟ والحق أن تلك كانت أول مرة أسمع فيها بمشكلة كهذه، وذلك أني كنت حتى ذلك اليوم، على يقين ثابت بأن الحضارة الأم هي في كل عصر حضارة واحدة، يفرزها من هو في ذروة السلطان الفكري بين الشعوب، ومن تلك الحضارة الأم في عصر معين، تنبثق أشعة تضيء أرجاء العالم بدرجات تتفاوت بتفاوت قدرات تلك الأرجاء، ومع الحضارة الأم تقوم ثقافتها، وأظن أن الفرق واضح بين المعنيين: فالحضارة هي المنشآت والنظم، وأما الثقافة التي تصاحب تلك الحضارة فهي الجانبان الفكري والوجداني اللذان يؤثران في تشكيل تلك المنشآت والنظم، ثم يعود فيتأثر بها، كانت الثقافة العربية الإسلامية هي الثقافة - من فكر ووجدان - التي تولدت عنها حضارة عربية إسلامية لها منشآتها ونظمها التي تحمل طابعها.
ثم عادت تلك النظم والمنشآت بدورها لتؤثر في ترسيخ الطابع المميز لتلك الثقافة وتعميقه، ومن ذلك المصدر العربي الإسلامي، انبثقت الأشعة في سائر الأرجاء، فلما مالت شمسها نحو غروب، كانت الظروف التاريخية في سبيلها إلى إقامة مصدر جديد، هكذا كان الرأي عندي يوم حضرت مؤتمر باريس سنة 1947، وهو أن المصدر الحضاري الثقافي واحد في كل عصر من عصور التاريخ، فثقافة واحدة تقترب منها أو تبتعد عنها سائر الثقافات، وكذلك حضارة واحدة للعصر الواحد، فلما وجدت السؤال مطروحا: أهي ثقافة واحدة للجميع، أم هي ثقافات تختلف باختلاف الشعوب؟ لم يكن لي بد من التفكير العميق في طبيعة هذه المشكلة لأرسم لنفسي طريق السير في مناقشات المؤتمر.
فما هو المقصود بواحدية الثقافة أو تعددها؟ إن اللغة - مثلا - هي في صميم البناء الثقافي، فهل يعقل أن تعني واحدية الثقافة واحدية اللغة التي يستخدمها العالم أجمع؟ وإذا كان الجواب بالنفي، تبع تعدد اللغات تعدد الآداب من شعر ونثر ... وعلى هذا الغرار يمكن السؤال عن واحدية الفن وواحدية العرف الاجتماعي والتقاليد وغير ذلك مما يكون مقومات ذلك الشيء الذي نسميه «الثقافة» عند شعب من الشعوب، إذن فالتعدد الثقافي بديهية تفرض نفسها، إلا أنك سرعان ما تلح عليك فكرة أخرى، لا تلغي ذلك التعدد الذي ذكرناه، بل تجاوره، وهي أن نوعا من الواحدية الصورية لا بد من قيامه بالنسبة للجميع في العصر الواحد، وذلك لأن العصر المعين - عادة - يدور حول محور رئيسي، كالدين أو الفن أو العلم، وذلك المحور الواحد البارز هو الذي يشع في شتى الجهات ليحدث في الناس أينما كانوا، نقطة التقاء مشتركة في الذوق العام، فإذا كان المحور الأساسي هو العلم التكنولوجي - مثلا - كما هي الحال في عصرنا، أخذ كل شعب على وجه الأرض من ذلك الاتجاه بنصيب. بل أخذ كل فرد رشيد من أفراد شعب بنصيب من إشعاعات ذلك المحور ونتائجه المادية والعقلية على حد سواء.
بهذه الخطوط العريضة حددت موقفي في مؤتمر باريس ... بالنسبة إلى السؤال المطروح: فكان الجواب المبدئي عندي على ذلك السؤال هو: إنها ثقافات تتعدد شكلا وروحا، لكنها كذلك تتحد في جذر من جذورها، وهو ذلك الذي يعكس روح العصر ممثلا في حضارته الأم، وما يسبقها ويلحقها من ثقافة تلائمها، وتلك الحضارة الأم في عصرنا هي حضارة الغرب، ومحورها الرئيسي هو العلم وما يتصل به من منهج النظر، وبهذه الثنائية المعيارية تحدثت وضربت الأمثلة، فإذا أردنا الحكم على الثقافة الهندوكية في عصرنا - مثلا - قبلنا جوانبها الأصيلة في الموسيقى والتصوير والنحت، ورفضنا تقديس البقر، وإذا أردنا الحكم على الثقافة العربية في صورتها الراهنة، قبلنا فنونها وأدبها وتصورها الديني، ورفضنا تواكلها ورفضها للروح العلمية في منهاج النظر. وهكذا تحدثت في ذلك المؤتمر على نحو شد انتباه الحاضرين.
ولقد حدث لي - بمحض المصادفة - أن جلست مع عضو بريطاني من أعضاء المؤتمر، وأخذنا نتحدث حديثا حرا، قد يمس شئون المؤتمر من قريب أو بعيد، وقد لا يكون ذا صلة بالمؤتمر وشئونه، وفي غضون هذا الحديث، قال محدثي إنه قد استخلص من كلامي وطريقة سلوكي، أنني رجل يصب اهتمامه على «الأفكار» ولا يوجه اهتمامه إلى «الأشخاص» وصمت قليلا، ثم قال: إنك تحيا داخل رأسك في فكر أكثر جدا مما تعيش مع سائر الناس في واقع، فكانت تلك اللمحة التصويرية عن شخصيتي، جديدة علي كل الجدة، إذ لم أكن قد فكرت قبل ذلك قط في عناصر شخصيتي، ولو كنت قد فعلت فربما لم أكن لأقع على هذه الصورة. على أني منذ تلك اللحظة شغلت بالأمر، رغبة أكيدة مني في معرفة نفسي على حقيقتها، وكان من أهم ما عرض لي أثناء انشغالي بذلك التحليل، هو أني ذات لحظة سألت نفسي قائلا: إذا صدق محدثي ذاك في تصويره لشخصي، أفتكون الصورة مقصورة علي وحدي؟ أم هي - يا ترى - صورة تمثل، بوجه عام، شخصية العربي و«المصري بالتالي» أينما رأيته؟ ومنذ تلك اللحظة تحولت القضية عندي إلى مشكلة، تعترضني كلما فكرت في تحليل الوقفة العربية، وأحسبني قد انتهيت آخر الأمر، إلى أن «العربي» يحيا في رأسه أكثر جدا مما يحيا في الواقع الذي يحيط به، وحتى لا يدهش القارئ لحكم كهذا، أسرع فأنتبه بأن «الكلام» بضاعة تتعلق بالرأس، قبل أن تكون موصولة بواقع، فربما دارت الألسنة في الأحلاق بسيل وراء سيل من الكلام دون أن تكون في ذلك الكلام قوة تقلقل حجرا واحدا من موضعه على أرض الواقع، وبعد هذا التوضيح، أعود فأقول إنني خلال تفكيري فيما قاله عني ذلك المتحدث؛ وسعت السؤال لأسأل: ألا تكون هذه سمة من سمات الشخصية العربية؟ إنها إذا كانت نكون قد وضعنا أصابعنا على مفتاح لما ينبغي أن نؤديه في سبيل تغيير الثقافة العربية وتحديثها.
Bog aan la aqoon