Sainte Adille
وتزور الدير، ثم تعود إلى ستراسبورج من طريق آخر، وأنت في ذهابك وإيابك تمر بقرى، وترى مناظر، وتزور كنائس، ولكن الشيء الوحيد الذي أثر في نفسي من هذه الأشياء كلها إنما هو هذا الدير الذي وصلنا إليه نحو الساعة الثالثة بعد الظهر.
دير قائم على قمة شاهقة في الجو، لا تكاد تتصل بالسهل إلا من هذه الطريق التي تقطعها بك السيارة، فأما من جميع نواحيها الأخرى فهي قائمة شاهقة مشرفة على السهل، منفصلة عنه انفصالا تاما بحيث تعجب كيف اختير هذا المكان لإقامة هذا الدير، ثم لا تلبث أن تشعر بهذه الوحدة التي يستشعرها المقيمات في هذا الدير، فتملأ نفوسهن رهبة وجلالا، ثم تمكنهن من الخلو إلى ضمائرهن وقمعها ومحاسبتها، وما هي إلا أن يصلن من هذه الوحدة أمام الضمير إلى شيء من الإيمان فيه تصوف وزهد، وعكوف على النفوس، وطموح إلى الكمال الديني الأعلى.
والشعب الألزاسي من أشد الشعوب الفرنسية تدينا وإيمانا، وأحرصها على العادات والسنن الموروثة، وكان انفصاله من فرنسا سببا في بقاء هذه العادات والسنن قوية شديدة الأثر في نفسه، حتى إذا عادت الألزاس إلى فرنسا لم تخضع ولم تفكر فرنسا في إخضاعها للتشريع الديني الفرنسي، ولا للفصل بين الكنيسة والدولة، وما ينشأ عنه من الآثار في حياة الشعب والقسيسين والرهبان وفي التعليم أيضا.
وكان أشد الشعوب الفرنسية تدينا وإيمانا قبل الحرب، وأبعدهم في المحافظة، وأحرصهم عليها، أهل بريطانيا، فلما كانت الحرب وردت الألزاس أصبح لرجال الكنيسة معقلان منيعان: بريطانيا والألزاس.
وأذكر أني شهدت في بريطانيا منذ سنين حفلا دينيا اجتمع له الشعب رجالا ونساء وشبانا وأطفالا، وأقبلوا إلى كنيستهم بعد أن طافوا المدينة يتغنون بأغان دينية ووطنية محلية، فكان لهذا المشهد في نفسي أثر قوي تركه هذا الغناء، تمتزج فيه الأصوات الحلوة، أصوات النساء والأطفال، بهذه الأصوات الغلاظ الشداد؛ أصوات الرجال والشبان، وهذه المعاني الساذجة البسيطة التي تقدس الله والوطن الخاص في غير تكلف ولا إسراف.
ثم شهدت في الألزاس حين وصلت إلى هذا الدير حفلا كهذا الحفل البريطاني؛ فقد اجتمع فيه الحجيج من أهل هذا الإقليم رجالا ونساء، شبانا وأطفالا، وأقبلوا إلى ديرهم يتغنون باللاتينية مرة وبالألمانية مرة أخرى وبالفرنسية قليلا جدا، يقدسون ربهم ووليتهم ووطنهم الصغير، حتى إذ طافوا بالدير وانتهوا إلى الكنيسة وقفوا خاشعين، وقام القسيس باسمهم يتوسل إلى القديسة في لغة ألمانية قوية عذبة، فتوسل وأطال التوسل، وما كنت تشك وأنت تراه وتسمعه، وترى خشوع الشعب من حوله في أن نفوس هذا الشعب كله متصلة به، تنطق بلسانه وتخفق مع قلبه حين يخفق رغبة ورهبة، حتى إذا فرغ من صلاته الألمانية استأنفها بالفرنسية، لا لأن القديسة في حاجة إلى أن تترجم لها الصلاة، ولكن لأن الشعب نفسه في حاجة إلى أن يفهم الصلاة التي يقوم بها عنه القسيس ليصليها معه، وليكون شعوره ملائما لشعور القسيس. وكثرة الألزاسيين يفهمون الألمانية أو قل كل الألزاسيين، ولكن بينهم الآن فرنسيين هاجروا إلى الألزاس، وبينهم أولئك الألزاسيون الذين آثروا فرنسا على ألمانيا، فتركوا وطنهم بعد الهزيمة ثم عادوا إليه أو عاد إليه أبناؤهم بعد الانتصار. وللسياسة الجديدة حكمها؛ ففرنسا مضطرة إلى أن تقبل الألمانية لغة الصلاة، ولكنها مضطرة أيضا إلى أن تفرض الفرنسية لغة الصلاة. وللدين الآن في الألزاس لغتان حديثتان إلى اللغة اللاتينية المقدسة، وللتعليم كذلك لغتان، وسيظل الصراع قويا بين الفرنسية والألمانية حتى يستطيع الزمن والسياسة أن ينصرا إحداهما على الأخرى.
الفرق عظيم جدا بين هذين الحفلين اللذين شهدتهما في بريطانيا والألزاس، يمثلان نفس شعبين مؤمنين حقا، وبين هذه الحفلات التي تستطيع أن تشهدها في لورد
Lourdes
إذا أقبل الصيف من كل عام؛ فحفلات لورد لا تمثل إيمانا ولا إخلاصا في حب الله، وإنما هي الشعوذة من ناحية، والنفاق من ناحية أخرى، وضعف المرضى وتهالكم على طلب الشفاء من ناحية ثالثة. الدين في لورد تجارة رابحة، ولكنه في بريطانيا والألزاس مرآة صادقة لقلوب مؤمنة خاشعة، تخفق بذكر الله والقديسين والتوسل إليهم.
Bog aan la aqoon