فقد صديقي هذا صوابه عندما أشرت عليه بإبلاغ شرطة السياحة.
نهرني بلهجة فجة ليست من عادته قائلا: «أأنت غبي إلى هذا الحد؟ سوف يلقون القبض علي بتهمة إثارة القلاقل! وسوف يقول الفتية إنهم أصدقاؤه، وينكرون علاقتهم الجنسية معه. ماذا سأفعل وقتها؟ سوف يتحزب الفتية ضدي ويؤذونني. أضف إلى ذلك أن جميع أفراد الشرطة يحصلون على رشا من القواد؛ كعلبة سجائر هنا وبضعة جنيهات هناك. لا يمكن لأحد هنا أن يشكو مما يفعله أي أجنبي. فلو أوسعتني ضربا الآن وبلا سبب، سوف تلقي الشرطة القبض علي، ويسألونك إن كنت بخير أم لا. فأنتم أيها الأجانب تتمتعون بالحصانة.»
كان هذا الرجل استثناء في غضبه؛ فكل شباب البلد الذين تحدثت معهم عما حدث بعد وفاة الأجنبي كادوا يضحكون، ويصفون الفتية الذين ذهبوا إلى الرجل بأنهم «حمير»، وقالوا إنهم يستحقون مصيرهم لو أنهم كانوا يعلمون أنه مريض بالإيدز. •••
لم أستطع تفهم رد الفعل الشعبي إزاء إلقاء القبض على سفاح أطفال في ديسمبر/كانون الأول عام 2006 إلا بعد رؤية تلك الأفئدة المتحجرة بأم عيني. ارتكب رمضان عبد الرحمن منصور - زعيم عصابة يبلغ من العمر ستة وعشرين عاما من إحدى المدن شمال القاهرة - جرائم قتل بحق أكثر من ثلاثين طفلا من أطفال الشوارع، واتهم أيضا باختطافهم والاعتداء عليهم جنسيا وتعذيبهم. انتشرت عصابة التوربيني المكونة من أربعة أشخاص التي بدأ نشاطها منذ سبع سنوات في محافظات مختلفة، واعترف بارتكاب جرائمه قبل التعرف على صور اثنتي عشرة ضحية من ضحاياه. اكتسب رمضان اسم شهرته «التوربيني» من القطارات السريعة المكيفة التي تربط القاهرة مع ثاني أكبر المدن المصرية الإسكندرية، إذ كانت أسطح تلك القطارات المكان المفضل لارتكاب جرائمه. ذكرت الشرطة أنه كان يعتدي جنسيا على ضحاياه، ويعذبهم، ويقطعهم إربا قبل أن يلقي بهم على شريط القطار إما موتى أو يلفظون أنفاسهم الأخيرة.
الأمر الذي أثار دهشتي أن صحيفة الأهرام - الصحيفة القومية الرئيسية - ذكرت فيما بعد أن منتجات مصرية تسمى الآن باسم التوربيني. وأضافت أيضا أن مطاعم في مدينة طنطا في دلتا النيل تقدم نوعا جديدا من الساندويتشات أطلقت عليه اسم التوربيني وأنه «يحظى بإقبال كبير»، «بينما تجار الخراف يستخدمون الاسم كعلامة على ندرة السلالة.» أضافت الأهرام أن «أغرب هذه الحيل التسويقية» هي إعادة أصحاب مراكز الاتصالات والمحال التجارية في الغربية تسمية محلاتهم باسم «التوربيني: سفاح الغربية». ويكاد رد الفعل هذا يكون عصيا على الفهم، لكنه يشير بجلاء إلى أن ثمة خللا خطيرا يحيق بالمجتمع المصري في الوقت الراهن.
لكننا لن نعجز عن فهم السبب وراء تدليل الحكومة للأجانب إذ استقبلت مصر 9,7 ملايين سائح عامي 2006-2007، أي بزيادة قدرها 13 بالمائة عن أعداد السياح في العام السابق الذي بلغ 8,6 ملايين سائح، وأن هؤلاء أنفقوا 8,2 مليار دولار (أي بزيادة قدرها 14 بالمائة عن النفقات التي بلغت 7,2 مليار دولار في العام السابق). •••
في حين أن الدين ليس عنصرا أساسيا بالغ الأهمية في حياة معظم المصريين الذين يعيشون في الأقصر، فإن الإسلاميين ينظرون إلى المدينة وإلى قطاع السياحة بوجه عام من منظور محاولتهم تطهير مصر من التأثيرات الثقافية الأجنبية . ولم يكن من قبيل المصادفة أن معبد حتشبسوت في البر الغربي لمدينة الأقصر قد شهد أعنف الهجمات الإرهابية وأشدها تأثيرا في تاريخ الدولة الحديث، إذ ذبح عشرات المصريين والسياح في المكان عام 1997. ولكن في وقت مبكر عن هذا عام 1990، ألقى أحد الموظفين قنبلة مولوتوف على أحد المطاعم المطلة على البحر الأحمر ما أدى إلى مقتل ألماني وفرنسية وإصابة آخرين بحروق خطيرة. وادعى منفذ الهجوم أن سلوك السياح كان «مسيئا إلى الإسلام». أيضا تعرض السياح لإلقاء القنابل عليهم في الأقصر عام 1992 في ظروف مشابهة، وحينها صرح أحد قادة الجماعة الإرهابية المسئولة عن هذا الهجوم وعن سلسلة هجمات أخرى أنه «لا بد من تدمير السياحة لأنها مفسدة» و«تؤدي إلى نشر عادات وسلوكيات غريبة تخالف الإسلام».
الفصل الثامن
مصر بعد مبارك
الأقصر مدينة تبعث على الابتهاج والاكتئاب الشديد في آن واحد؛ فعظمة الآثار والحضارة التي تشهد عليها تلك الآثار تتعارض مع المتاجرة الصفيقة - من أعلى المستويات إلى أدناها - التي باتت عالة طفيلية على الماضي ومفسدة للحاضر. يفخر المصريون فخرا طبيعيا لا يثير العجب بتراثهم، ويقرون في اعتزاز أنه يتيح لهم فرصة التفكير في المستقبل. لكن لا بد أن نقر أنه قد لا يكون هناك مستقبل - أمام النظام الحالي على الأقل - إن لم تعالج القضايا المهمة والملحة في الحاضر. اتضحت أمارات التخبط الحاصل في الوقت الحاضر في سبتمبر/أيلول 2007 عندما راجت الشائعات في القاهرة عن تدهور حالة مبارك الصحية، وربما وفاته. وسرعان ما تصدرت روايات مبهمة المصدر الصفحات الأولى من صحف المعارضة، وكادت لهجتها تفصح عن رغبة في ألا تكون هذه مجرد شائعات. ولم يكن في ذلك ما يدعو إلى الدهشة؛ فمنذ خروج وسائل إعلام المعارضة الجديدة من قوقعتها عام 2003 في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق - عندما تعهدت إدارة بوش بتدعيم الديمقراطية في العالم العربي، وما تلاه من تنعم الليبراليين في مصر بحقبة «ربيع القاهرة» - لم يكد يمر يوم دون صدور الصفحات الأولى من صحف المعارضة وهي تكيل الإهانات لكل من مبارك وابنه جمال . بدا واضحا أيضا أن غالبية المصريين - باستثناء المنتفعين من النظام - يحلمون بيوم الخلاص من الأسرة المباركية. وفي الوقت الذي شن فيه النظام حملة قمع استهدفت المعارضة، لم يعبر واحد ممن التقيت بهم خلال الأسابيع التي قيل فيها إن مبارك يرقد على فراش الموت عن أدنى درجات التعاطف معه. كان لاستمرار الشائعات التي لا تستند إلى دليل من جانب، ونفي الحكومة لها من جانب آخر؛ دلالة واضحة على أن مزيجا من الأمل والخوف وتحديدا الريبة يسيطر على المصريين. ففي ظل غياب حكومة شرعية وآلية منظمة تكفل عملية انتقال السلطة، يصبح التخمين والحزر جوهر اللعبة.
Bog aan la aqoon