كان انعدام تطبيق هذه الضمانات الركيزة الأساسية التي استند عليها تقرير شامل أصدرته حركة الإصلاح «كفاية» عام 2006 وحث العديد من المنظمات الأخرى على تسليط الضوء على الفساد. وإذا كان التقرير الوارد في مائتي صفحة - الذي استقيت منه الأمثلة سالفة الذكر حول القطع الأثرية المسروقة وفضائح الأدوية - عبارة عن مزيج غير مترابط من الأفكار والتوثيقات غير المنظمة وفي بعض الأحيان استدلالات متناقضة ورثاء منظوم بأبيات شعرية - كما أوضح خبير شئون الشرق الأوسط باري روبين - فجزء من السبب في ذلك أن «كفاية» منظمة صغيرة متنوعة من مفكري القاهرة تعمل بميزانية ضئيلة وتتعرض للكثير من المضايقات المستمرة، والجزء الأكبر أن الفساد في مصر مهول ومتشعب، وأخيرا، يتعذر إدراكه.
يغطي التقرير وقائع الفساد في قطاعات المال والتجارة والثقافة والإعلام. ويشير إلى عملية توزيع المبيدات المسرطنة على يد وزارة الزراعة في الفترة ما بين 1981 و2003؛ ويكشف عن قائمة بأسماء رجال الأعمال ونواب مجلس الشعب الهاربين الذين يقال إنهم متورطون في الاستيلاء على قروض بمليارات الدولارات دون ضمانات؛ ويحلل صفقة بيع البنك المصري الأمريكي التي حامت حولها شبهات الفساد؛ ويشير إلى ما وصفه بالتلاعب السافر في معدلات التضخم ونسب البطالة على مدار خمسة وعشرين عاما من سوء الإدارة في قطاع الاقتصاد؛ ويلقي الضوء على تفشي الإهمال وانعدام كفاءة الأطباء الذين يحصلون على رواتب متدنية في القطاع الصحي العام؛ ويتحول إلى الحديث عن التعذيب وظاهرة أطفال الشوارع الذين يقدر عددهم بمليون طفل في القاهرة وحدها. لقد أصبح الفساد مرضا عضالا تفشي في الجسد المصري بأكمله شأنه في ذلك شأن التعذيب واستغلال السلطة اللذين يرتبطان بالفساد ارتباطا وثيقا. ولا تلوح في الأفق نهاية لهذا الفساد، فهو يبدأ من الشرطي الذي يتقاضى خمسة جنيهات للتغاضي عن مخالفة مرورية، ويصل إلى أعلى المستويات لتزداد فداحته كل مرة، إلى أن ينتهي على نحو قابل للجدل عند مبارك نفسه، وهو رأس الفساد في الدولة، نظرا لكونه فوق المساءلة؛ وأقول «على نحو قابل للجدل» هنا كيلا يقول المتشككون إن أرباب نعمته في الولايات المتحدة هم أكثر فسادا لأنهم يمولون نظامه في الوقت الذي يتشدقون فيه بالحديث عن دعم الديمقراطية في المناطق التي لا تبدي قياداتها الحالية تعاونا كبيرا في تحقيق أجندة الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط. ما يظهر من تقرير «كفاية» ويتضح وضوح الشمس لكل من يقضي فترة من الوقت في مصر هو أن داء الفساد قد تفشى بين قطاعات عدة من الشعب، وبين أصحاب المناصب الرسمية بلا شك؛ أولئك الذين يكون فسادهم على قدر ما يتيحه لهم المنصب والذين لن يتورعوا عن ممارسة المزيد من الفساد حال تمتعهم بمزيد من النفوذ. •••
يقول بروتس: «ثمة مد في شئون البشر كالمد في البحر؛ فإن اغتنمت الفرصة في عنفوانها جاءت لصاحبها بالحظ السعيد.»
1
ربما يكون البنك الدولي ومؤسسة التمويل الدولية قد وضعا هذه المقولة الشكسبيرية نصب أعينهما أواخر عام 2007 عندما منحا مصر المرتبة الأولى في الإصلاح الاقتصادي، وذلك في تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام 2008. أشاد التقييم - الذي بدا أنه أعد خلال الفترة الوجيزة التي قضاها بول وولفويتس زعيم الديمقراطية وأحد العقول المدبرة للحرب على العراق بوصفه رئيسا للبنك الدولي - بالحكومة المصرية لأنها «بذلت قصارى جهدها.» احتلت مصر موقع الصدارة عن طريق تحقيق المزيد من الإصلاحات الاقتصادية عامي 2006-2007 تفوق ما حققته أي دولة أخرى من الدول التي شملها التقييم. ركز التقرير على عشر نواح مختلفة لتنظيم الأعمال في مائة وثمانية وسبعين دولة، من خلال تحديد الوقت والتكاليف اللازمة لتلبية متطلبات الحكومة فيما يتعلق ببدء النشاط التجاري والتشغيل والتبادل التجاري وتسديد الضرائب وتصفية الأعمال. اعتبر التقرير أن مصر قطعت شوطا مهما في خمس نواح؛ وهي تسهيل بدء النشاط التجاري، واستخراج التراخيص، وتسجيل الملكية، والحصول على ائتمان، والتجارة عبر الحدود، وتصفية النشاط. وأسفرت العديد من الإصلاحات عن تسهيل بدء نشاط تجاري في مصر، ومن بينها خفض هائل في الحد الأدنى من رأس المال اللازم لبدء المشروع من 8930 دولارا إلى 180 دولارا. وانخفض متوسط وقت وتكاليف البدء إلى النصف بواقع تسعة أيام و385 دولارا. ووفقا لمعدي التقرير ثمة تغيرات تشريعية جديرة بالثناء تضمنت تخفيف الإجراءات البيروقراطية في استخراج تراخيص البناء، وتدشين مجموعة جديدة من مجمعات خدمات الاستثمار الموحدة لخدمة المصدرين والمستوردين ورجال الأعمال والمستثمرين في الموانئ المصرية. وانخفضت أيضا تكاليف تسجيل الملكية، ما أدى إلى زيادة 39 بالمائة في إيرادات رسوم التسجيل، استفادت منها السلطات في الأشهر الستة الأولى بعد تفعيل هذا القرار. فضلا عن ذلك أنشئ مركز خاص للمعلومات الائتمانية بغرض تسهيل الحصول على الائتمان خصوصا للمشروعات صغيرة ومتوسطة الحجم والشركات متناهية الصغر.
وفي الوقت الذي احتج فيه البعض بأن مصر ما حققت إصلاحات سريعة على مدار العام الماضي إلا لأنها بدأت من أقصى درجات التشدد في وضع اللوائح المنظمة - لأنه، بعبارة أخرى، الانتقال من صفر إلى 1 هو في الواقع قفزة هائلة يستحيل مقارنتها بمجرد تحسن من مستوى متوسط إلى جيد - فإن مايكل كلين نائب رئيس مؤسسة التمويل الدولية التابعة للبنك الدولي لشئون شبكة تنمية القطاع المالي والخاص أكد أن: «المستثمرين يبحثون عن فرص استثمار مربحة ويجدونها في البلدان القائمة بتنفيذ الإصلاحات بصرف النظر عن نقطة بدايتها.» وليس بعد هذا ما يقال للرد على الرأي القاصر الذي أورده هويدي عندما قال إن «الفساد سيقف عائقا أمام تقدم الاقتصاد وانتعاش الاستثمار.» وبالطبع يصعب انتقاد البنك الدولي لتنبيهه أغلبية حملة الأسهم في الغرب لوجود فرصة مواتية. وأضاف كلين أن «العوائد على أسهم الملكية أعلى في البلدان التي تجري الإصلاحات بأقصى سرعة»؛ خصوصا في ظل الأرباح الزائفة الهائلة التي حققها المضاربون على الأسهم في الأيام التي أعقبت نشر التقرير.
ومع كل هذا، يظل صعبا على البعض فهم السبب وراء منح مصر تلك المرتبة العالية واللافتة للانتباه (متقدمة بها على كل من الصين وبلغاريا) لأن أي شخص - عدا راغبي الاستيلاء على الشركات الذين يعتمدون على مبدأ إصابة الهدف ثم الفرار بسرعة - سيقع في مأزق كبير إذا سار وفق هذا التصنيف. أوضحت دراسة أكثر واقعية نشرتها مجلة «نيوزويك» - التي نادرا ما تتهم بالتحامل الشديد على الاقتصاد الموجه - قبل عامين: «حتى بمعايير الشرق الأوسط، لم تكن مصر قط مكانا سهلا لإدارة مشروع تجاري. وأصيب الاقتصاد المصري المتمركز داخليا بحالة من الركود طوال الأعوام السبعة الماضية. فمعدلات التضخم مرتفعة، والتعريفات الجمركية والبطالة هي الأعلى بين دول العالم، والإجراءات البيروقراطية لا حد لها.» وعلى الرغم من أن المجلة علقت آمالها على نحو سخيف على جمال مبارك، فقد طرحت رؤية أكثر واقعية للوضع الاستثماري قائلة إن نتيجة الإصلاحات الجارية حينئذ كانت على أحسن تقدير «غرس أمل جديد حول مستقبل مصر وتأثيرها على المنطقة.» وأضافت تحذيرا مهما للغاية: «لا شك أن الإفراط في التفاؤل أمر وارد عند الحديث عن الإصلاح في مصر. لكن ماضي الدولة حافل بالوعود الزائفة وخلف الوعود منذ سبعينيات القرن العشرين.» وأشارت «نيوزويك» إلى أن وزير الاستثمار محمود محيي الدين أعلن عن برنامج خصخصة طموح من أجل العام المقبل يشمل على الأقل بنكا حكوميا وربما الشركة المصرية للاتصالات. لكنها أضافت: «حتى إن استطاع الالتزام بالجدول الزمني الذي وضعه، فثمة شك يراود الخبراء بشأن إجراء تغيير اقتصادي دون التطرق إلى مزيد من الإصلاح السياسي.»
غير أنه بعد مرور عامين، وفي الفقرة الإجبارية التي ترد في التقرير تحت عنوان «بحاجة إلى الإصلاح»، لم يجد البنك الدولي بدا من أن يأسف على أنه في الوقت الذي يسهل فيه نسبيا توظيف العمال، يظل فصلهم صعبا إلى حد ما في ضوء المعايير الإقليمية والدولية؛ «على نحو يقضي على أي حافز لخلق فرص العمل.» «أي حافز»: لا توجد كلية إدارة أعمال في العالم - مهما كانت متشددة - تعتبر نشوة انتزاع فرص العمل مرة أخرى الحافز الوحيد لتوفير تلك الفرص في المقام الأول. أبدى تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام 2008 أسفه أيضا على أن الشركات متوسطة الحجم تستغرق 711 ساعة في إجراءات تسديد الضرائب سنويا مقارنة بمتوسط 236,8 ساعة و183,3 ساعة في المنطقة وفي الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية على التوالي. وحتى في مسألة نزع الأصول، تتخلف مصر إلى حد كبير فيما يتعلق بسهولة وتكلفة تصفية أي نشاط تجاري بواقع 4,2 أعوام في المتوسط في مقابل 3,7 أعوام في المنطقة و1,3 عاما في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. أما متوسط التكلفة فهو مرتفع في مصر بواقع 20,0 بالمائة من إجمالي الدخل القومي لكل فرد في مقابل 13,9 بالمائة في المنطقة و7,5 بالمائة في الدول الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية؛ لكن مع الأخذ في الاعتبار أن نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي ضئيل جدا مقارنة بهذه البلدان. لكن ما يزيد الأمر سوءا أن معدلات الاسترداد على المشروعات المغلقة كانت منخفضة للغاية بواقع 16,6 سنتا على الدولار في مقابل 25,8 سنتا و74,1 سنتا في الجهات موضع المقارنة.
ثمة عدد من التفسيرات المحتملة لمضمون ولهجة التقرير الذي أعده البنك الدولي؛ أولها - وهو بلا شك تفسير سيكون التفكير فيه جديا نوعا من جنون الشك - أن رئيس البنك الدولي السابق أو أولئك الذين يدين لهم بالولاء رأوا في نشر هذا التقرير فرصة لمكافأة مصر على مساعدتها في «الحرب على الإرهاب» في وقت كان لا يزال يشغل فيه منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي. والتفسير الثاني أن البنك الدولي - الذي هو أبعد ما يكون عن كونه منبرا للنزاهة المالية الدولية - هو في حقيقة الأمر طائفة إضافية من متطرفي السوق الحرة الذين يؤمنون بأن الشفافية والمساءلة ذواتي أهمية ثانوية في العمل التجاري الناجح؛ شيء أشبه بطائفة دينية متطرفة في عالم التمويل الدولي بكل ما تنطوي عليه من تناقضات وحماقة ظاهرة في التقرير. وأيا كانت حقيقة الأمر فإن تقرير «ممارسة أنشطة الأعمال» لعام 2008 يطرح مثالا نموذجيا لقدرة نظام مبارك على أن يستمر باستخفاف في إساءة استعمال أي مبدأ اتفق عليه المجتمع الدولي. قطعا تبدو الإصلاحات جيدة من الناحية النظرية حتى إنها قد تخدع أصحاب النظرة السطحية. إن مشكلة الفساد أنه حالما توطن لا يلتفت أحد ولو بمثقال ذرة لما تقوله القوانين، والتكالب على تفادي البيروقراطية يزيد الفرص المتاحة أمام اللصوص الذين يحكمون البلاد لسرقة القليل الذي تبقى منها. •••
الكلمة الأخيرة عن الفساد في مصر لن تكون على لسان المصرفيين الدوليين، وإنما على لسان روائي مصري هو صنع الله إبراهيم الذي لخص المشكلة ودور المسئولية الفردية فيها، وذلك أمام وزير الثقافة ورواد المفكرين العرب عندما نال جائزة «مؤتمر الرواية العربية» عام 2003: «لم يعد لدينا مسرح أو سينما أو بحث علمي أو تعليم. لدينا فقط مهرجانات وصندوق أكاذيب. لم تعد لدينا صناعة أو زراعة أو صحة أو عدل؛ تفشى الفساد والنهب، ومن يعترض يتعرض للامتهان والضرب والتعذيب. انتزعت القلة المستغلة الروح منا. الواقع مرعب. وفي ظل هذا الواقع لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت. لا يستطيع أن يتخلى عن مسئوليته. لن أطالبكم بإصدار بيان يستنكر ويشجب، فلم يعد هذا يجدي؛ لن أطالبكم بشيء فأنتم أدرى مني بما يجب عمله. كل ما أستطيعه هو أن أشكر مرة أخرى أساتذتي الأجلاء الذين شرفوني باختياري للجائزة، وأعلن اعتذاري عن عدم قبولها لأنها صادرة عن حكومة لا تملك - في نظري - مصداقية منحها.»
Bog aan la aqoon