على الرغم مما انطوى عليه رد فعل وزارة الثقافة من حدة ومبالغة، فإن فهم الدافع وراءه ليس بالأمر العسير إذا تأملناه من منظور محدد؛ فالأهرامات تحتل مكانة فريدة بالفعل لكونها العجيبة الوحيدة الباقية من عجائب الدنيا، ولا شك أن السلطات المصرية قد رأت في احتمال الانتقاص من مكانتها تلك - وإن كان احتمالا مستبعدا - على أيدي مجموعة من الجهلاء المشاركين في تصويت إلكتروني إساءة لها. لكن على صعيد آخر أكثر أهمية فقد فاحت من رد الفعل هذا رائحة الرياء. فلما كان قطاع السياحة واحدا من أهم مصادر الدخل للاقتصاد المصري، فإن الحكومة المصرية نفسها تولي الأهرامات - إلى جانب المتحف المصري ونهر النيل - أهمية محورية ضمن سياسة التسويق السياحي على مستوى العالم؛ تلك السياسة الموجهة قطعا لدعم خزانة الدولة. أضف إلى ذلك أنه في زمن يمكن للترويج فيه أن يكون ذا أثر فعال في تشكيل مفاهيم الأجانب عن دولة ما، فإن الحملات السياحية المتواصلة - المقرونة بوثائقيات تليفزيونية ممولة من الحكومة المصرية عن التاريخ الفرعوني - تلعب دورا مستترا في خداع العالم لينظر إلى مصر على أنها أرض الابتسامات، وحسن الضيافة، والبهجة، والآثار القديمة؛ لا على أنها دولة فوضوية غارقة عن آخرها في الاستبداد والقمع والفقر على شفا ثورة شعبية، وأنها ترزح تحت وطأة نظام قمعي كما هو الواقع. وبالمثل فإن محاولة الحفاظ على المظاهر الكاذبة لدعم الصورة الرمزية على حساب الواقع المعقد هي السبب وراء سلسلة المحاكمات الجنائية لمن يجرؤ من الصحفيين والإصلاحيين والنشطاء الحقوقيين المصريين على توجيه النقد لمبارك أو أسرته أو المؤسسة العسكرية، وكثيرا ما يحدث ذلك بموجب القانون الذي يحظر ممارسة أي نشاط أو حتى الإدلاء بحديث يرى النظام أنه «أساء لصورة مصر في الخارج»، وهو ما ينطوي على غموض غاشم بغيض.
غير أن الرياء الواضح الذي شاب رد فعل وزير الثقافة يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. فأي شخص قام بزيارة إلى الأهرامات سيقر بأن الفساد وانعدام الكفاءة بوجه عام قد أوقعا آخر عجائب الدنيا السبع في قبضة مجموعة من الهواة والعابثين يحاولون في استماتة استغلال تراث مصر. بادئ ذي بدء، لطالما اشتكى علماء المصريات من أن ما لحق بالأهرامات من أضرار أثناء الفترة القصيرة التي هي عمر السياحة الجماعية يفوق ما لحق بها من أضرار طوال الأربعة آلاف عام الماضية. ومع هذا يبدأ الهواة رحلة استغلالهم للسياح الراغبين في رؤية ما تبقى من الأهرامات قبل نحو كيلومتر من وصولهم إليها؛ إذ ينقض محترفو مطاردة السياح على سيارات الأجرة في محاولة لإقناعهم بأخذ جولة معهم بعد إيهامهم أن مكتب بيع التذاكر الرسمي مغلق أو خداعهم بأي حيلة مشابهة. وتتزايد المضايقات مع اجتياز السياح للبوابة الرئيسية حيث تتزايد أعداد المطاردين الذين يتعقبونهم مثل أسراب الذباب حول النفايات. أما أفراد الأمن المنوط بهم حراسة المكان - والذين يتمثل عملهم رسميا في حماية السياح من مثل هذه المضايقات - فإنهم عادة ما يغضون الطرف عما يحدث، ما لم تثر ثائرة أحد السياح أخيرا، ويحدث ضجة في المكان. حينها يصيح الشرطي فيمن يضايق السائح موبخا إياه في فتور؛ ذلك أنهم اتفقوا معهم على أخذ نسبة من الأموال التي يجنونها من وراء السياح الذين يرضخون لمطالبهم، ويوافقون في النهاية - بحنق شديد غالبا - على أخذ جولة بالخيل أو التقاط صورة. •••
قد يبدو ما سبق أمرا تافها، غير أنه في عام 1997 لعب هذا الفساد المستشري في قاعدة قطاع السياحة دورا في السماح لجماعة من المقاتلين المدججين بالسلاح باجتياز عدة نقاط تفتيش تابعة للجيش والشرطة ومؤدية إلى معبد حتشبسوت بالقرب من الأقصر من دون جهد يذكر. وهناك شرعوا في ذبح العشرات من السياح والمصريين قبل فرارهم إلى الصحراء دون عائق يعترض طريقهم. قبل هذا الهجوم، كان الشغل الشاغل للعديد من الجنود وأفراد الشرطة المكلفين بحراسة المكان هو جمع الرشا من المواطنين الذين يعملون مع الأفواج السياحية، وتدخين السجائر، والاستغراق في النوم طوال ساعات الظهيرة الصيفية الحارة في مؤخرة شاحناتهم. وبعد الهجوم بدت الأولوية مجددا لصورة الدولة، وليس سلامة ضحايا الهجوم العنيف. ولما كانت الصورة أبلغ من ألف كلمة، فقد خصصت قوات الأمن - حسبما ذكر شهود عيان كثيرين آنذاك - جل جهودها للبحث عن كاميرات الفيديو وكاميرات التصوير مع أي شخص في المنطقة ومصادرتها خشية أن تتسرب صورة لأحداث المذبحة التي نفذها إرهابيون - أطلقوا النار على السياح ثم قطعوهم إربا - إلى وسائل الإعلام الغربية، ومن ثم تشوه صورة مصر البراقة في الخارج إلى الأبد. كان هناك مئات من السياح في الموقع وقت الهجوم، ومن المفترض أنهم جميعا يحملون كاميرات تصوير، لكن لم تظهر صورة واحدة للمذبحة منذ وقوعها؛ ولو على شبكة الإنترنت.
غير أنه عندما يزور السياح الأجانب - في أولى رحلات الكثيرين منهم إلى العالم العربي - المتحف المصري فإنهم يطئون عن غير قصد البؤرة المعتمة لنظام يجني فيه الهواة والعابثون أرباحا طائلة من وراء الاستغلال الفج لتراث مصر الفريد. والمتحف الكائن بوسط القاهرة خير مثال على الخلل وسوء التنظيم المصري واسع النطاق، لأنه يفسح المجال أمام نهب تراث الدولة على نحو يكاد لا يتصوره عقل. •••
يضم الطابق السفلي من المتحف المصري عددا هائلا من القاعات الفسيحة ذات الجدران العالية والممرات بحجم مقبرة كبيرة، ويحتوي على خمسة وستين ألف قطعة أثرية من بينها ألف تابوت بعضها داخل صناديق لم يفتح منذ سبعين عاما . ويعتقد أن معظم القطع الأثرية يرجع تاريخها إلى أكثر الأسر الحاكمة نفوذا في مصر القديمة؛ وقد عرض بعضها من قبل، لكن اضطرت الحاجة إلى نقلها لإخلاء مكان في الطابق العلوي للتحف الأخرى؛ بينما لم يعرض البعض الآخر أمام العامة قط. تقبع هذه القطع الأثرية أسفل أكوام من الغبار وقد تكدس بعضها فوق بعض، وتعرضت لتلف بالغ في معظم الأحيان بفعل العقود التي مرت عليها من الإهمال وسوء التهوية، فضلا عن أنها أغفلت فعليا، وربما سقطت من الذاكرة تماما.
استمر الوضع هكذا إلى أن أنشأ المجلس الأعلى للآثار مخازن جديدة للآثار المكتشفة حديثا في جميع محافظات مصر، وهو المكان الذي توضع فيه كل الآثار التي يعثر عليها أسفل الرمال. يتولى الإشراف على هذه الآثار الآن الدكتور زاهي حواس الحائز على جائزة «إيمي» وصاحب الحضور الدائم على شاشات التليفزيون وصفحات الجرائد بأنفه الضخم وقبعة إنديانا جونز التي تميزه. واعتمادا على شهرته الكبيرة شن حواس معركة شخصية جديرة بالثناء ضد الفساد داخل قطاع الآثار، فضلا عن مطالبه التي شكلت مادة خصبة لوسائل الإعلام باستعادة الآثار المصرية الموجودة في متاحف بالخارج، وجرد الآثار الموجودة في الداخل. ومع هذا عندما أعلن عن فقدان نحو ثمان وثلاثين قطعة أثرية من قبو المتحف نفسه عام 2004، أنكر المسئولون إمكانية حدوث شيء من هذا القبيل. وذكر حواس نفسه أن عملية الجرد ستستغرق خمسة أشهر على الأقل، في حين سيستغرق ترميم الطابق الأرضي عاما كاملا، وتمنى ظهور القطع الثمانية والثلاثين بانقضاء تلك الفترة. غير أن المسئولين عن ترميم الطابق السفلي سرعان ما اكتشفوا أن 70 بالمائة من القطع الأثرية المعرضة للتلف هناك لم يسجل من قبل قط.
ليس أسهل إذن من اختفاء القطع الأثرية في ظل ظروف كهذه. وقد ذكر أن عاملا ألقي القبض عليه متلبسا بمحاولة بيع ثلاث قطع لا تقدر بثمن كان قد أخفاها في أكياس القمامة التي يحملها إلى خارج المبنى في إحدى عمليات التنظيف الثانوية. ألقى بعض المسئولين باللوم على قلة أعداد الحراس؛ إذ يكون الواحد فيهم مسئولا عن حراسة ما يتراوح بين عشرة آلاف وأربعين ألف قطعة أثرية. ووفقا لما ذكره حواس فإن المتحف المصري لم يخضع لعملية جرد منذ خمسين عاما أو أكثر، بسبب خوف الجميع من المساءلة إذا ثبت وجود نقص في المخازن أو وجود قطع أثرية غير مسجلة. والواقع أنه حتى عام 1983 كانت الآثار المصرية تباع رسميا في المزادات، وتنقل علانية عبر المطارات؛ ومن المستبعد أن يكون هذا الأمر قد انتهى تماما بعد حظر الدولة تصدير الآثار بموجب قانون رسمي. وفي عام 1994 تبنى واحد من أسلاف حواس في منصبه - وهو عبد الحليم نور الدين - مشروعا طموحا يهدف إلى جرد كافة المواقع والمخازن والمتاحف بموجب قرار وزاري، لكن المشروع توقف فور رحيله من منصبه. ذكر نور الدين أن جردا أجري على العديد من القطع الأثرية، وأنه وضع خطة لجرد المواقع والمتاحف الصغيرة مرة كل عام، وجرد المتاحف الكبرى مرة كل أربعة أعوام. ويعتقد حواس أن نسبة 10 إلى 15 بالمائة فقط من الآثار المصرية خضعت لعمليات جرد؛ بمعنى أن الجرد لم يشمل نحو 85 بالمائة من هذه الآثار، وعليه يمكن اختفاء أي منها في أي وقت دون إمكانية تقفي أثرها. •••
نأتي الآن على ذكر طارق محمد (المعروف باسم طارق السويسي). ثمة غموض هائل يكتنف صعود نجم السويسي من مجرد عامل بسيط في أحد البازارات في شارع الجمهورية بالقاهرة إلى شخص يمتلك ثروة تقدر بأكثر من 50 مليون دولار أمريكي، وقصرا على مساحة ثلاثين فدانا بمنطقة أبو رواش بالهرم، ويشغل منصب أمين الحزب الوطني عن دائرة الهرم. لم تعثر السلطات داخل قصره على الآثار الفرعونية التي زين القصر بها فحسب، وإنما على لوحات لا تقدر بثمن يرجع تاريخها إلى العصور الإسلامية (إضافة إلى مخبأ لأسلحة غير مرخصة). من المؤكد أن السويسي لم يكن يعمل بمفرده؛ إذ كان معه ما لا يقل عن واحد وثلاثين متهما في القضية التي رفعت ضده في النهاية من بينهم مفتشو آثار وضباط شرطة. وقطعا لم تكن السلطات المصرية صاحبة الفضل في كشف النقاب عن عمليات التهريب، وإنما الشرطة السويسرية التي اشتبهت في شحنة وصلت أحد المطارات السويسرية دون أي بيانات أو تحديد لهوية المرسل إليه على الطرد. كشفت التحقيقات السويسرية عن أن السويسي هرب ما جملته مائتان وثمانون قطعة أثرية نادرة عبر مصلحة الجمارك وقرية البضائع بالقاهرة بمساعدة إحدى شركات التصدير.
أين الحديث إذن عن تشويه سمعة مصر؛ فها هم الأجانب يلقون القبض على رجل أعمال شهير وعضو بارز في الحزب السياسي الحاكم أيضا بتهمة تهريب الآثار والتراث القومي. لا يخفى على أحد أن حدثا كهذا سبة في جبين النظام، لكن توجيه التهم إلى رجل بارز كهذا لم يكن بالأمر الهين. تحركت الجهات القانونية المصرية على قدم وساق؛ فتوجه وفد من نيابة أمن الدولة العليا والرقابة الإدارية والشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) ضم عددا كبيرا من خبراء الآثار إلى سويسرا للتحقيق في الواقعة. كشف الوفد عن أن المسروقات تضم قطعا أثرية على درجة عالية من الأهمية التاريخية بما في ذلك محتويات مقبرة كاملة منها النصف العلوي لتمثال يجسد الإله «بتاح»، وبقايا رأس الإلهة «سخمت»، وتمثال نادر لإلهة الحب «أفروديت»، وتمثالان من الخشب الملون يمثلان الإله «حورس» على شكل صقر، ومومياوان سليمتان، وجميعها يرجع تاريخه إلى عصور قديمة مختلفة - مثل العصر الفرعوني والإغريقي والروماني - وأنها تخضع جميعا لحماية القانون المصري التي لا جدوى لها. جرى التنقيب عن كل هذه الآثار خلسة في مواقع أثرية مهمة، وكانت جميعها بلا أرقام تسجيل لدى المجلس الأعلى للآثار، وتم التعامل مع العديد منها دون حذر. وعلى الرغم من أن بعض هذه الآثار- خصوصا المومياوات - كان عرضة لخطر التحلل، فإن معظمها كان لا يزال بحالة جيدة؛ إذ جرى التنقيب عنها في مناطق صحراوية جافة، وكان من الممكن إنقاذها.
ووفقا لتقرير مهم نشرته حركة «كفاية» عام 2005 حول الفساد في مصر فإن تقرير نيابة أمن الدولة العليا ضم نحو ثلاثة آلاف وخمسمائة صفحة ورد فيها اعترافات المشتبه بهم في القضية، وتضمن - إلى جانب تهم التهريب - دعاوى غسيل أموال وحيازة مخدرات وأسلحة.
Bog aan la aqoon