وكما هو متوقع، ظهرت عقب الاضطرابات الأخيرة تقارير في صحف مصر الوطنية تذكر أن البدو يطالبون بضمهم مجددا إلى إسرائيل، أو بأن يشكلوا «كيانا مستقلا» عن البلاد، وأكد زعماء القبائل في بيان صدر بالعريش أنهم يعتبرون أنفسهم «مواطنين مصريين مخلصين»، ولا يجب التشكيك في انتمائهم القومي. وقال شيخ قبيلة العزازمة للصحفيين: «نحن مصريون بالرغم من موقف الحكومة المصرية السلبي منا، ونحب وطننا بالرغم من المعاملة التي نلقاها من أجهزة الأمن، لذا نناشد الرئيس مبارك مساعدتنا.» لكن حتى إن صح هذا، فلن ترغب إلا قلة في الحكومة المصرية في الإصغاء إلى البدو، فاتهام القبائل التي تشتهر بغدرها وعدوانيتها بأعمال العنف أفضل بكثير من الإقرار بوجود مشكلة ساعدت الحكومة في خلقها. بل ظلت الصحف تسهب في الحديث عن مقابلة صحفية لممثل آخر للبدو مع قناة بي بي سي العربية أوضح فيها أن البدو قصدوا إسرائيل للتعبير للسفير المصري في تل أبيب عن همومهم، لأن تل أبيب «أقرب لنا من القاهرة». والأرجح أن الرجل قصد القرب المادي - فالبدو على كل حال لم يقصدوا الكنيست - لكن لا يزال بالإمكان إقناع الآخرين بأن هذا مطلب غادر يدعو إلى تدخل إسرائيل.
لكن لا يسع المرء لوم البدو. قد تدعهم إسرائيل يضطلعون بالمهام القذرة لها، لكنها على الأقل تدفع لهم لقاء عملهم، في الوقت الذي يتعذر فيه بالطبع على أكثر شيوخ القبائل وفاء أن يشرح لقبيلته سببا واحدا محددا يدعوه إلى حب الدولة المصرية، ربما باستثناء أن يوضح لهم أن ما يربطهم بغيرهم من المصريين هو المعاناة التي تطلق الدولة يدها في صبها عليهم بدورهم. لكن الواقع هو أن البدو لا يميلون إلى الجانب المصري أو الإسرائيلي، فقد حثت الظروف المعيشية البائسة بعض البدو على البحث عن سبل بديلة لكسب الرزق تأخذ شكل المتاجرة في الأسلحة مع الفلسطينيين، وفي المخدرات، وفي تهريب النساء إلى إسرائيل التي تعد معبرا لعاهرات شرق أوروبا ووسط آسيا.
يعبر البدو جيئة وذهابا الحدود التي تمتلأ بالمنافذ بين مصر وإسرائيل، وتتهمهم الحكومتان المصرية والإسرائيلية بالتهريب بناء على أسس قوية. على سبيل المثال: في سبتمبر 2007، كشفت السلطات المصرية عن خبيئة من الذخائر حوت ثلاثة أطنان من المتفجرات في حقائب بلاستيكية، وكشفت في شهر يوليو/تموز من العام نفسه عن نصف طن من المتفجرات على بعد خمسة وعشرين كيلومترا من الحدود المصرية مع غزة. وفي الوقت نفسه، وجد التيار الإسلامي - ومن ثم العداء لإسرائيل - أرضا خصبة بين شباب البدو الذين حفزتهم سياسة الهوية والتي من شأنها أن تنتشر آخر الأمر بين من لا يجدون أمامهم خيارا سوى موالاة هذا التيار. لقد اقتبست منظمة إنترناشونال كرايسيس جروب عن رجل يمثل الكثير من البدو في نويبع قوله: «أنا مسلم، عربي، بدوي من قبيلة ترابين من سيناء من مصر.» وبعبارة أخرى، فإن الولاء الديني يأتي أولا. يعود هذا في جزء منه إلى أن الكثير من قبائل البدو يرجع أصلها إلى بلاد النبي محمد لا بلاد الفراعنة، لكن يستحيل تحديد إلى أي مدى تأتي هذه العبارة من قبيل التملق والولاء الكاذب للدين - أو بعبارة أخرى، هل لم يعد الولاء للقبيلة يحل في المرتبة الأولى - ويصعب تحديد مدى تنافي العروبة لدى البدو مع الانتماء للغرب أو اليهودية؛ وفي الأحوال كافة، يظل تأثير الإسلام واضحا جليا، وإذا أضفت إلى هذا الخليط الفقر والشعور بالاستياء، فستحصل على النتيجة المتوقعة.
يكشف برنامج أعضاء جماعة التوحيد والجهاد - أيا كانت صلات هذه الجماعة بالمنظمات الإرهابية الأجنبية - بوضوح شديد عن تلك الظاهرة؛ أي ظاهرة تطرف الشباب الذين قد يكون انجذابهم إلى النشاط الإسلامي المسلح نابعا من خليط من اليأس الناجم عن الظروف الاجتماعية والاقتصادية وأزمة الهوية، وعن رغبة في التضامن مع المنطقة. كم هي منطقة عازلة آمنة فعلا!
فوق ذلك، يدور الحديث اليوم عن إحياء خطة الحكومة المصرية القديمة لإخلاء منطقة حظر عسكرية تضم منازل وأشجارا بجوار معبر رفح، حيث يمكن فيها للبدو ممارسة أنشطة التهريب، ولكنهم سيسكنون ويزرعون الأرض في الوقت نفسه. وقد تروق هذه الخطة لمبارك الذي يواجه مشاكله الخاصة مع قيادات حركة حماس بالناحية الأخرى من المعبر (لاحظ أن حماس نشأت أصلا من الفرع الفلسطيني لجماعة الإخوان المسلمين)، كما قد تروق للإسرائيليين الذين يشكون دوما من تهريب الأسلحة عبر أنفاق تحت الجدار الحدودي. ذكر أهل تلك المنطقة في يوليو/تموز عام 2007 أن الخطة تستهدف إخلاء قطاع عرضه مائة وخمسون مترا، سيتسع فيما بعد ليصل عرضه إلى ثلاثة كيلومترات عند حد رفح الذي يمتد اثني عشر كيلومترا. ويشير أهل المنطقة إلى زيارة غامضة قام بها وفد من الكونجرس الأمريكي في يوليو/تموز عام 2007 لتفتيش المنطقة. لكن المؤكد هو أن قوات الأمن تتدفق إلى هناك، وقد تحبط على المدى القصير بعض محاولات التهريب، لكن كما يقول الصحفي الإسرائيلي تسفي بارئيل في صحيفة هاآرتس: «لم تعد العقوبات تؤثر في البدو في الوقت الحالي.» •••
لا ترد المساعدات تقريبا للبدو إلا من خارج البلاد، وهو ما من شأنه أن يصم مصر بالعار - فهي على كل حال بلد يعتبر تشويه سمعته بالخارج جرما - والأدهى أن بعض المساعدات ترد من برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، الذي يقترن كثيرا في الأذهان بضحايا المجاعات في كوريا الشمالية، والنازحين من أفريقيا جنوب الصحراء أكثر مما يرتبط بالمناطق السياحية المزدهرة. في ذلك قال بيشو بارجولي مدير برنامج الأغذية العالمي: «لا تشير الإحصائيات إلى أن المنطقة تعاني من فقر شديد؛ فسيخفي الازدهار السياحي ومنطقة شرم الشيخ هذا، لكن علينا التعرف على مجتمعات المنطقة التقليدية.» يسلط برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة في سيناء الضوء على الغذاء و«بناء القدرات»، لكن هذا يعني في المقام الأول أن يمنح البدو الطعام إن وافقوا على الاستقرار، وهذا يجعل البرنامج في جوهره ذراعا للسياسات الحكومة المصرية على أقل الأحوال. ويمكن قياس نجاحه - وفقا لمنظمة إنترناشونال كرايسيس جروب - من خلال حقيقة أن مشروع إسكان واحد فقط هو الذي شارف على الانتهاء في وسط سيناء دون توفير ظروف معيشة مستقرة لعشرات الأسر التي يشملها البرنامج، وذلك بعد مرور خمس سنوات من تمويله. أما المفوضية الأوروبية، فقد رصدت لمشروع تنمية ذي شقين في محافظة جنوب سيناء 55,5 مليون يورو. الجزء الأول من المشروع هو النهضة بالبنية التحتية، كإمداد ماء الشرب إلى المجتمعات الزراعية، وإدارة المخلفات الصلبة والسائلة، وتوفير وسائل الحماية البيئية لمحميات المنطقة الطبيعية. أما الجزء الثاني فيقوم على رصد 20,5 مليون يورو لتخفيف الفقر ومشروعات التنمية الاجتماعية عبر المنظمات غير الحكومية المحلية والدولية. وتذكر التقارير في هذا الشأن أن أهل المنطقة لا يدينون هنا أيضا بالفضل للدولة التي تطالبهم بالولاء.
لكن لا يكفي أي من هذا لإنهاء الموقف الخطير في سيناء، فكما قال حسين القيم عضو حركة كفاية الداعمة للديمقراطية بجريدة الأهرام عقب أحداث الشغب في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007: «على الحكومة أن تعيد النظر في استراتيجيتها تجاه البدو، وإلا أحالها أهل تلك المنطقة المسلحون إلى حرب يبدو أن القاهرة تدفع إليها.»
الفصل الخامس
التعذيب
كان عباس - وهو رجل في الثلاثينيات التقيته في رحلة إلى أسوان، حيث دعاني لتناول العشاء في منزل أسرته - مقيما في شقتي بالقاهرة منذ أسبوعين، وقد أخذ ملابسي إلى المغسلة القريبة من المنزل قبل ساعتين. نشأت بيننا على الفور صداقة كالتي تنشأ كثيرا بسهولة بين المصريين والأجانب أثناء تناول الشاي، والتي تنسى بنفس السهولة التي نشأت بها ما إن يمضي كلا الطرفين إلى حال سبيله، لا سيما في مراكز مصر السياحية. أخبرني عباس عقب العشاء أنه يود القدوم إلى القاهرة للبحث عن عمل، ففهمت ما يرمي إليه، ووافقت على السماح له بالإقامة في غرفة إضافية بمنزلي إلى أن يقف على قدميه، بشرط أن يؤدي المهام المنزلية التي تتضمن أخذ الملابس إلى المغسلة. إلا أنني ما لبثت أن شعرت بأنه لا يجب الوثوق به تماما بما أنه يعمل في أسوان بائع تذاكر في السوق السوداء، يحصل على العمولات من السياح وعلى الوجبات المجانية هنا وهناك. غير أنه كان متعلما، وذكيا، ورفقته بوجه عام ممتعة، وأيضا كل منا عاش في مدينة جدة الساحلية بالمملكة العربية السعودية (التي أحبها مثلما أحببتها أنا). وكانت رحلة العودة بالقطار من أسوان إلى القاهرة، التي تستغرق خمس عشرة ساعة، ستبدو أقل مللا إن قمت بها مع رفيق أحدثه وأمضي معه الوقت. لكن بينما كنت أتطلع من نافذة منزلي إلى الشارع بالأسفل باحثا مجددا عن عباس، خطر لي احتمال مخيف: هذا الرجل استغل كرم ضيافتي، وسرق ملابسي وتركني.
Bog aan la aqoon