هذا الشعور باليأس وما تولد عنه من حنين إلى الماضي، زاد عمقا على مدار العقد الذي مر منذ ظهور مقال فؤاد عجمي. قال عوض المر كبير قضاة المحكمة الدستورية العليا السابق في الذكرى الخمسينية لانقلاب عام 1952: «لا أعتقد أن ثورة عام 1952 كان لها أي ميزة إيجابية، طالما لا تزال الديمقراطية مفقودة. فشلت الثورة فشلها الأكبر في تحقيق الديمقراطية، وهو ما أدى في رأيي إلى هزيمتنا عام 1967. ولم تشهد مصر حكومة ديمقراطية منذ عام 1952 حتى الآن ... الثورة حملت شعار «ارفع رأسك يا أخي؛ لقد ولى عهد الذل والاستبداد»، لكنها بعدئذ استبدلت به قدم عبد الناصر التي أحنت الرءوس.» ويبدو هذا الاتهام للوهلة الأولى غريبا بالنظر إلى أنه صادر عن أحد أعمدة النظام الذي خلف عبد الناصر، مع أن القضاء المصري أثبت في أحيان كثيرة أنه شوكة في حلق النظام، سارع عبد الناصر بفصل المئات من كبار القضاة الذين اعترضوا على حكمه الديكتاتوري. وفي الواقع، بحلول عام 2006، صار كبار قضاة الدولة الذين احتجوا على فساد الانتخابات التي خولوا دستوريا بالإشراف عليها لكن منعهم نظام مبارك من مراقبتها؛ بمنزلة قادة غير رسميين لحركة احتجاج واسعة النطاق جذبت قطاعات المجتمع المصري كافة: من مفكرين علمانيين، إلى طلاب، إلى نشطاء عماليين، إلى إسلاميين معتدلين. وبدا لوهلة أن النظام يتداعى بفعل القوى التي تعارضه سواء التي تدخل في نطاق سيطرته أو تخرج عنها؛ إذ شهدت مصر الاضطرابات الأوسع نطاقا على مستوى البلاد منذ عهد الثورة. لكن هذه المرة احتشد المضربون والمتظاهرون في مواجهة الكساد السياسي، ووحشية نظام حسني مبارك الصارخة؛ فمبارك شأنه شأن سلفه (وخليفة عبد الناصر)، أنور السادات، رجل عسكري، وهو آخر حماة نظام عبد الناصر العسكري الفاسد غير الديمقراطي الذي ما زال يقبض على المجتمع المدني بقبضة من حديد.
إلا أنه في الوقت الذي وضع فيه عبد الناصر قيودا شخصية صارمة على مدى استعداده للتنازل عن السيطرة على بلاده لحساب بريطانيا والولايات المتحدة من بعدها، عن طريق تأميم قناة السويس في خطوة استراتيجية بارعة، أنهت فعليا سيطرة الاستعمار الإنجليزي على مصر وعلى المنطقة ككل؛ فإن مصر في عهد مبارك أضحت بطريقة ما أكثر اتكالا على الولايات المتحدة؛ الإمبريالية الجديدة، صاحبة القرار في المنطقة. وقد شبه الزعيم العراقي الراحل صدام حسين - الذي امتلك نوعا ما باعا في صفقات الخداع والمساومات التي يعقدها طغاة الحكام العرب للتشبث بالسلطة - مبارك بأسلوب لاذع بأنه «مثل هاتف العملة؛ تضع فيه النقود فتحصل على ما تريد.» لكن عامة المصريين يشعرون بالسخط والمذلة لاعتماد النظام المصري باستمرار على عطايا الولايات المتحدة (التي تمد مصر بمساعدات عسكرية قدرها مليارا دولار سنويا منذ معاهدة السلام التي وقعتها مصر مع إسرائيل عام 1979، وهي مساعدات ينظر البعض إليها على أنها رشوة للإبقاء على السلام البارد مع الدولة العبرية). هذا لأن عامة المصريين بادئ ذي بدء لا ينتفعون بأي حال من الأحوال بتلك الأموال، بينما يجدون الفجوة بين الفقراء والأغنياء تتسع أكثر فأكثر. وربما يكون السبب الأهم في هذا البلد الذي ترسخ فيه الشعور بالفخر بالهوية القومية هو أن المصريين يمقتون أيضا جسارة سياسات الولايات المتحدة على الصعيد العسكري في المنطقة ودور حكامهم في ذلك، لا سيما لتعاطفهم القوي مع القضية الفلسطينية، ولأن قطاعا كبيرا من المصريين ينظر إلى الاحتلال الذي قاده المحافظون الجدد الأمريكيون لغزو العراق على أنه احتلال تم بأمر عصبة من المتآمرين المعاونين لإسرائيل في واشنطن.
عادت مصر من حيث بدأت بعد خمسة عقود من الانقلاب العسكري. أصبحت المظالم نفسها التي قادت إلى تمرد استغله الضباط الأحرار هي الأساس الذي انطلقت منه مظاهرات جديدة في الشوارع، ومقالات ساخطة في وسائل الإعلام المعارضة الصاعدة، تطالب بسقوط الاستعمار ومعاونيه، وانتهاء سيطرة الرأسماليين الاستغلاليين على الحكومة وإهمال العدالة الاجتماعية، وتنادي بالحاجة إلى نظام حكم ديمقراطي لا يكتفي بتقديم وعود كاذبة. فمع وجود (ولي العهد)، ابن مبارك المتغطرس المتأنق جمال مبارك، الذي يرى الكثيرون أنه يعد لخلافة والده المعتل في الرئاسة، لن يرى أي اختلاف بين النظام الحالي والنظام الملكي الذي أطاح به عن السلطة قبل خمسة عقود باسم تحرير الشعب المصري. إن الحنين إلى عهد الملكية لا يختلف عن اشتياق أهل السلف إلى نقاء عهد محمد وأتباعه؛ إنها رغبة يائسة في العودة إلى الماضي، في حاضر شديد البؤس. •••
لكن حتى مع إقرارنا بالآثار السلبية المؤكدة للحكم الاستعماري المباشر أو غير المباشر، فإن النظام المصري الحالي يفشل على جميع المستويات عندما يقارن بالنظام الملكي الذي سبق الثورة، والذي ساهم غزو نابليون بونابرت القصير لمصر عام 1798 في تأسيسه؛ فالانقلاب الذي قاده عبد الناصر قضى على كل ما هو جميل بمصر، ورويدا رويدا أبدل كل ما هو سيئ بما هو أسوأ كثيرا. لقد جاءت الدولة المصرية الحديثة نتيجة عرضية لمحاولات نابليون بونابرت للاستيلاء على مصر وللهزيمة المذلة التي لاقاها على يد الإنجليز والتي أنهت تلك المحاولات. لقد تطورت على مدار القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين على غرار تطور أوروبا، لا سيما تحت قيادة الخديوي إسماعيل وجده محمد علي الذي يشار إليه كثيرا على أنه «مؤسس مصر الحديثة»، والذي حكم أحفاده مصر مع التمتع بدرجات متفاوتة من السلطة حتى حفيد حفيده الملك فاروق الذي أزاحه عبد الناصر في نهاية الأمر عن السلطة في عام 1952.
بعد أن رحل الفرنسيون عن مصر، ظل الجيش العثماني الذي حكم مصر منذ عام 1517 في البلاد، عازما على الوقوف في وجه إحياء سلطة المماليك واستقلال مصر عن الحكم العثماني، لتخضع مصر لحكم الحكومة العثمانية المركزية. شكل المماليك طبقة أرستقراطية من الرقيق الأبيض حكمت مصر باعتبارها دولة مستقلة منذ عام 1250 إلى عام 1517 ثم ظلوا بها رعايا عثمانيين شكلوا الطبقة العليا في المجتمع المصري. إلا أنهم استعادوا السلطة في القرن السابع عشر؛ فأعادوا تجديد صفوفهم من خلال أسواق الرقيق على مدى مائتي عام حكموا فيها بالاستبداد. وفي غمرة الفوضى التي خلفها رحيل نابليون، ظهرت طبقة حاكمة جديدة ذات نفوذ شكلت من فرقة عسكرية ألبانية ألحقت عام 1801 بالقوات العثمانية لمحاربة الفرنسيين، ودانت اسما فقط بالولاء للحكومة العثمانية، وتورطت في الصراع بين المماليك والحكومة العثمانية. قاد تلك الفرقة محمد علي نفسه الذي كان جنديا مرتزقا أتى مصر قائدا صغيرا في القوات الألبانية، وبلغ بحلول عام 1803 مرتبة القائد الأعلى ثم انتخبه أولو النفوذ من شيوخ الدين بالقاهرة واليا على مصر عام 1805 بعد أن عزز شعبيته؛ ولما خلع عليه العثمانيون لقب والي البلاد خطط لتصفية منازعيه، وهذا ما فعله ببراعة في مارس/آذار عام 1811 حين اغتال أربعة وستين مملوكا من بينهم أربعة وعشرون بيك عقب دعوتهم لحفل رسمي. وهكذا أصبح محمد علي صاحب السلطة الأوحد في مصر، وسنحت له فرصة فريدة لتوحيد أمة توشك الفوضى على ابتلاعها.
كان انفصال مصر النهائي عن الدولة العثمانية أحد أكبر طموحات محمد علي، إلا أنه أدرك أن البلاد يجب أن تتمتع بالقوة الاقتصادية والعسكرية لتحقيق هذا؛ ومن ثم تملق الأوروبيين من البداية، مغدقا الثروات على باريس ولندن لدى التفاوض معهما واحدة وراء الأخرى. وتقف مسلة رمسيس الثاني في قصر الكونكورد بباريس ومسلة كليوباترا على سد نهر التايمز بلندن شاهدا على ذلك إلى اليوم. وشرع أيضا في بناء المصانع الجديدة التي تستخدم آلات مستوردة، وأحاط نفسه بالمستشارين الأوروبيين المهرة عاكفا ساعات طويلة على العمل وزيارة مشاريعه المفضلة، وغمس نفسه في تكنولوجيا العصر الجديدة المتقدمة؛ فيذكر على سبيل المثال أنه ضحك ضحكا شديدا عندما تلقى صدمة كهربية بسلك مشحون بالكهرباء عند توضيح كيفية عمل الكهرباء له. كما تعهد بالرعاية أنبغ من التقاهم بالقاهرة، الخبراء المتفانين في عملهم الذين أتوا من خلفيات متنوعة مثله؛ من مهاجرين أرمن إلى خبراء ماليين أقباط، وشكل هؤلاء بيروقراطية جديدة وجيشا تحت رئاسته الشخصية المباشرة. وسمح الحكم المركزي والسلطة التي تمتع بها هذا الألباني الذي ولد في مقدونيا باتخاذ مبادرات هامة أسست قواعد النظام التعليمي المصري، وأحيت الحياة الثقافية، وأصلحت النظام الزراعي بإلهام من باريس التي تطلع إليها محمد علي دائما. تعود المفاهيم السياسية والاجتماعية والثقافية التي ظهرت في الأجيال التالية إلى تلك الحقبة، لكن حتى مع نهاية عهد محمد علي، كان لدى البلاد طاقم من الموظفين البيروقراطيين، وجيش من الضباط عازم على إصلاح البلاد على النمط الغربي وتحقيق استقلالها.
من أهم إنجازات محمد علي أنه شجع زراعة القطن لتصديره إلى مغازله الآخذة في الانتشار بأوروبا، لتمول عائداته الرواج الاقتصادي الذي شهدته البلاد في عهد حفيده الخديوي إسماعيل الذي حكم مصر من عام 1863 إلى عام 1879. فمع تطلع بريطانيا بلهفة إلى مصر لإمداد ليدز ومانشيستر بالقطن لتوقف الولايات المتحدة عن تصديره إبان الحرب الأهلية بين عامي 1861 و1865، ارتفع سعر القطن المصري. ومع تدفق الأموال على الخديوي إسماعيل، أخذ في استكمال طموحات جده بتأسيس مشروعات عامة عظيمة كحفر القنوات واستصلاح الأراضي وإنشاء المدن وإقامة البنى التحتية، فشرع في غضون عام واحد في بناء أربعمائة وخمسين جسرا وستة وأربعين مصنع قطن، وإنشاء سكك حديدية تمتد إلى ما يقرب من ألف ميل. كما أسس اتحاد البريد العام، وامتدت خطوط التلغراف جنوبا في البلاد حتى السودان، فأصبحت مصر في غضون وقت قصير تتمتع بأحد أكفأ خطوط البريد في العالم، وتخلصت أخيرا من صورتها باعتبارها بؤرة راكدة من الإمبراطورية العثمانية تحكمها طبقة من العبيد مع تدفق المهندسين المعماريين والفنانين والساسة والموسيقيين إلى القاهرة ومدينة الإسكندرية الساحلية المطلة على البحر المتوسط.
كانت زيارة إسماعيل للمعرض العالمي بباريس في ساحة عرض تشامب دي مارس عام 1876 زيارة فارقة، وكان لها آثار شديدة الأهمية على مصر؛ فعقب زيارة المعرض بوقت قصير صرح إسماعيل تصريحا شهيرا قال فيه: «لم تعد دولتي جزءا من أفريقيا، نحن اليوم جزء من أوروبا.» واغتنم إسماعيل فرصة افتتاح قناة السويس عام 1869 لبناء أحياء جديدة على النمط الغربي ذات متنزهات فخمة وشوارع واسعة وقصور لاستضافة ضيوفه الأوروبيين، رغبة في أن يصنع للقاهرة ما صنعه البارون جورج هوسمان لباريس. وفتح إسماعيل أبواب المجتمع المصري واقتصاده للكثير من الأوروبيين، ولما تولى البريطانيون إدارة الخزانة المصرية (ومن ثم إدارة البلاد) عام 1882 عقب أزمة مالية من تدبيرهم؛ تدفق مئات الآلاف من الأوروبيين على مصر بحثا عن المال والثروة، حيث استقر بهم المقام في القاهرة والإسكندرية وأنشئوا أحياء لهم وأسسوا وأداروا شركات على النمط الغربي. أرسى إسماعيل بعبارة أخرى قواعد مدينة القاهرة، فمهد شوارعها وعبد طرقها الطويلة وأنشأ بها الحدائق والمتاحف والعمارات السكنية والنافورات على الطراز الفرنسي، وأسس بها دار أوبرا من طراز عالمي (عرضت أوبرا عايدة التي ألف موسيقاها فيردي لأول مرة في القاهرة في ديسمبر/كانون الأول عام 1871 بسيناريو كتبه ماريت باشا). قامت مدينة أوروبية بين ميدان العتبة والنيل، ونشأت طبقة وسطى مصرية جديدة انتشرت شمالا. وفي ذلك كتبت سينثيا مينتي في كتابها «باريس على النيل: فن العمارة في قاهرة الزمن الجميل» (1999) تقول إن سكان القاهرة وزائريها وجدوا فيها «متاجر الكتب الإنجليزية والفرنسية، وصالات شاي، ومقاهي مطلة على الطريق، وبوتيكات شهيرة، ومعارض للفنون، ومتاجر متعددة الأقسام ... وأقيمت فنادق شهيرة كفندق شبرد وسافوي وسميراميس وإيدن بالاس. وفيما بعد ظهرت دور السينما وحلبات التزلج الترفيهية.»
ومع أوائل القرن العشرين، في الفترة الفاصلة بين الحربين العالميتين، بعدما منحت بريطانيا مصر السيادة الاسمية على أرضها، وأضحت البلاد خاضعة لحكم ملكية دستورية وديمقراطية برلمانية تسيطر على كافة شئون البلاد عدا الأمن القومي وقناة السويس، أصبحت القاهرة أكثر مدينة متعددة الثقافات في العالم. لكن قبل ستة أشهر من اندلاع ثورة 1952، في يوم يذكره التاريخ باسم يوم السبت الأسود، أضرمت حشود من الغوغاء المعادين لبريطانيا النيران في معالم القاهرة الغربية الشهيرة، ومن بينها نادي تيرف وفنادق هامة وبنوك ودور سينما ومقار ضيافة، فتحول جزء كبير من القاهرة إلى رماد يحترق تحت غطاء كثيف من الدخان. واستغل الضباط الأحرار تلك القلاقل واسعة الانتشار للاستيلاء على السلطة بعد ستة أشهر. ولما فعلوا لم يرثوا عن النخبة السابقة ثراءها وفسادها وحسب، بل اضطلعوا أيضا بمسئولية بناء العاصمة. •••
كتب فنان وناقد وكاتب القرن التاسع عشر جون راسكين يقول: «فن العمارة هو فن إتقان تصميم وتجميل الصروح التي يشيدها الإنسان ... إلى حد يسهم في صحته النفسية وطاقته وبهجته.» وأكثر من يؤمن بهذا الرأي في القاهرة في وقتنا الراهن هو سمير رأفت وهو مؤرخ هاو بارز ينحدر من عائلة أرستقراطية بارزة، ويتمتع بشخصية شديدة الجاذبية، حتى إن مسامرته ساعات تمر كالدقائق. لقد بذل جهدا مضنيا في توثيق تاريخ القاهرة المعماري على مدى العقود الماضية والمدينة تتداعى أمام عينيه، ونشرت الكثير من أبحاثه في كتابه «القاهرة: سنوات المجد» (2003)، الذي ينتقد فيه «الدولة الاشتراكية» في عهد عبد الناصر وخلفائه واصفا إياهم بأنهم إقطاعيو القاهرة الجدد الذين لا يرجى منهم نفع.
Bog aan la aqoon