ونعيد سؤالنا مرة أخرى: لماذا يكتب «الكاتب»؟ جوابنا هو: إنه يكتب ليغير الاتجاه السائد في فكر أو سلوك؛ ويندر جدا أن يعد كاتبا ذلك الذي يكتب ليؤيد ما هو قائم؛ لأن ما هو قائم، قائم سواء كتب كاتب يؤيده أو لم يكتب، فإذا اتفقنا على هذه النقطة المبدئية، التي هي أن معيار الارتفاع أو الهبوط في منزلة الكاتب، هو قدرة ما يكتبه على إحداث التغيير في تفكير الناس، وميولهم، وسلوكهم، نتج لنا عن ذلك نتيجة مهمة في موضوع حديثنا هذا، وهي أن معيار الجودة في الكتابة لا صلة له على الإطلاق بعدد من يقرءونها، بل إني لأوشك أن أقول إن النسبة عكسية دائما بين مقدار الجودة في الكاتب، وعدد قرائه؛ فقراء الجاحظ وأبي العلاء المعري وسرفانتيز وشكسبير، أقل بكثير من قراء الحكايات البوليسية ، أو الجنسية، أو غير ذلك مما يغوص في تفصيلات من الحياة، دون أن يمس جوهر «الإنسان» وراء تلك التفصيلات.
يكتب الكاتب ليغير، وهذا هو أهم المعايير التي تقاس بها الكتابة، شريطة ألا تكون وسيلته إلى التغيير «وعظا»، فالوعظ لا يغير من واقع الأمر مثقال حبة خردل، ومن هنا كان لأعلام الكاتبين على طول التاريخ أثرهم البالغ في نقل الناس من حال إلى حال، دون أن تجد في شعر الشعراء منهم، أو في نثر الناثرين، جملة واحدة فيها نبرة الوعظ بما هو مطلوب، اللهم إلا في حالة واحدة، هي حالة تكثيف المعنى إلى الحد الذي يجعل الجملة المحتوية على ذلك المعنى حكمة يسهل حفظها ودورانها على الألسن. وفي هذه المناسبة أقول إنه حدث سنة 1946م أن أقامت جامعة لندن لقاءات فكرية على نطاق واسع، كان الهدف منها أن تلقى فيها سلسلة محاضرات عن الشرق الأوسط، خدمة لمن هم في سبيلهم من البريطانيين إلى السفر إلى الشرق الأوسط، استئنافا للنشاط بمختلف صوره، بعد أن انتهت الحرب العالمية الثانية. وقد اختير اثنان ليحاضرا في الأدب العربي، أحدهما يختص بالأدب العربي القديم، وكان هو المرحوم محمد النويهي، والثاني يختص بالأدب العربي المعاصر، متمثلا في شاعر معين أو كاتب، وكان ذلك الثاني هو كاتب هذه السطور، وقد اخترت لمحاضرتي «العقاد الشاعر» لأنني كنت - ما أزال - أعتقد أن شعر العقاد يصور أهم اتجاه في حياة الأمة العربية في ذلك العصر، ألا وهو الاتجاه نحو «الحرية»، لكن شعر العقاد كما رأيته وأراه، لا يمثل اتجاهنا الجديد نحو الحرية، بمعنى أنه يدير حديثه عن «الحرية» صراحة ومباشرة، بل يفعل ذلك بمعنى قوة «الإيحاء»، فقارئ ذلك الشعر لا بد له أن يخرج من قراءته مزودا بدفعة نحو أن يسعى إلى تحقيق الحرية لشخصه وللآخرين معه، وذلك هو الأدب الرفيع وكيف يفعل فعله في النفوس.
قلنا إن الشعب درجات متفاوتة في الغزارة الثقافية، وتبدأ تلك الدرجات مما هو شبيه بدرجة الصفر، ثم تصعد إلى حيث يقدر لها أن تصعد، وقد تكون لكل درجة من تلك الدرجات كتابة هي الأصلح لها؛ فإذا خاطبت الكتابة أصحاب الدرجات الدنيا من السلم؛ فهي تخاطب «الشعب» متمثلا في هؤلاء؛ وكذلك إذا خاطب الكاتب بما يكتبه تلك القلة القليلة ذات الغزارة النسبية من الثقافة، فهو إنما يخاطب «الشعب» أيضا ممثلا في تلك الفئة القليلة.
إن كل ابن من أبناء الشعب، هو هو «الشعب» ممثلا في شخصه، وليس لأحد من الأفراد حق يزيد على حق الآخر في كونه ممثلا لشعبه؛ وكل ما في الأمر هو أن أبناء الشعب يمثلونه من جوانب مختلفة؛ تماما كما نقول عن اللوحة الفنية إنها متمثلة في ألوانها وخطوطها وطريقة بنائها، فاللون هو اللوحة، والخط هو اللوحة، والتكوين هو اللوحة، وكل مقوم من مقوماتها هو كسائر المقومات في كونه هو اللوحة عند النظر إلى مكانتها من الفن؛ وأذكر في هذا الصدد إجابة أجاب بها العقاد على الوزير الذي كان يرأس المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، وكان العقاد عضوا فيه، فلقد قال الوزير، ونظراته موجهة إلى العقاد: إننا نريد ثقافة للشعب، لا ثقافة تنفرد بها الفئة القليلة، فأجاب العقاد قائلا: إنني أنا الشعب بمقدار ما يكون أي مواطن آخر هو الشعب، على اختلاف ما بين أبناء الشعب من الدرجة الثقافية لكل منهم، فأنا لست قادما من فرساي.
لكننا إذ ننفي أن يكون الانتساب إلى «الشعب» مقصورا على من قلت حظوظهم من الثقافة، ونصر على أن تكون كل شريحة من المواطنين، من الذروة إلى السفح، هي «الشعب» لا بد لنا أن نضيف إلى ذلك إضافة بالغة الأهمية في موضوع هذا الحديث، وهي أن الذي يستطيع أن يغير اتجاه الشعب من هدف لم يعد صالحا، إلى هدف آخر استحدثته الظروف، هم تلك الفئة القليلة التي تسكن الذروة من الهرم الثقافي؛ لأنهم هم وحدهم القادرون على استخدام أدوات التغيير، من العلم والفن والأدب، وأما سائر الدرجات فهي تتلقى وقد تتغير بما تلقته أو لا تتغير، وذلك متوقف على انفراج الزاوية بين مضمون ما تلقاه من جهة ، ووجدانها العميق من جهة أخرى، على أن هذا كله لا يمنع من أن تكون الفئات التي منها تتألف أكثرية الشعب، هي مصدر الوحي لتلك الفئة القليلة التي تعود بإنتاجها الفكري والأدبي والفني، فتحدث في كثرة الشعب ما قد تحدثه من تغيير.
ماذا نعني عندما نقول إن لطفي السيد، وطه حسين، والعقاد، وأحمد أمين، ومن سار سيرتهم من رجال التنوير في الجيل الماضي، كانوا عوامل قوية في إحداث بعض التغير في الاتجاه الثقافي للشعب المصري، بل وللأمة العربية كلها؟ إننا لا نعني بذلك أن فلاح الحقل، وعامل المصنع - وهم أغلبية الشعب - كانوا يقرءون لهؤلاء ما يكتبونه، وحتى لو كان في مستطاع بعضهم أن يقرءوا لهم في موضوعات السياسة؛ لأن تلك الموضوعات كانت قد شغلت الناس إلى حد كبير، فهل كانوا يقرءون لهم في الجانب الثقافي الذي كان بحق مناط التغير الاجتماعي الذي حدث؟ هل كان أفراد الشعب بالمعنى الشائع لهذه العبارة، يقرءون للطفي السيد نزعته الليبرالية، واتجاهاته الفلسفية؟ هل يقرءون لطه حسين ما كتبه عن أبي العلاء، والمتنبي، وغيرهما من شعراء تناولهم طه حسين بالعرض والنقد على طراز جديد من التناول؟ هل كانوا يقرءون العقاد في شعره وفي تراجمه وفي نقده الأدبي، وهل كانوا يقرءون أحمد أمين في التاريخ العلمي الذي حلل به الحياة الثقافية عند العرب الأقدمين؟ كلا، إنهم بالطبع لم يكونوا يقرءون شيئا من ذلك، ومع هذا فذلك هو نفسه الذي أحدث ما قد حدث في رؤية الشعب من تغيير، فالقليل من عملية «التحديث» الذي تحقق لهم في حياتهم الفعلية قد جاءهم عن طريق هؤلاء، فكيف حدث هذا التأثر بما لم يطالعوه؟ إنه حدث - كما يحدث مثله في كل الأمم وفي كل العصور - على درجات، فهؤلاء الأعلام أثروا تأثيرا مباشرا في قلة قليلة قرأت لهم، لكن أفراد هذه الفئة القليلة كثيرا ما يكونون أصحاب قلم، فتنعكس قراءاتهم فيما يكتبونه، وهكذا تأخذ الدائرة في الاتساع كلما هبطنا من قمة الهرم الثقافي إلى قاعدته.
فالكاتب الذي يكتب للفئة القليلة التي هي «صفوة المثقفين» (بتعبير الزميل الفاضل صاحب الرسالة) عندما يعرض لفكرة يريد عرضها، سواء اختار لها طريقة الأدب الخالص في التصوير، أعني أن يكون قد اختار لها أن تبث في قصة، أو أن تتوازى مع أسطورة أو حلم أو حوار، أم اختار لها طريقة العرض المباشر الذي هو أقرب إلى الدراسات العلمية، فإنه - على أي الحالتين - لا بد أن يمعن في تحليل الفكرة المعروضة، تحليلا يتعقب ما استطاعت قدرته أن تتعقب من جزئيات صغيرة فرعية، هي التي منها تتألف الفكرة المعروضة، وأما تلك الفكرة نفسها حين نأخذ في النزول من القمة إلى القاعدة، على أيدي كتاب أقصر قامة، فإنها تفقد مع كل خطوة إلى أسفل بعض عناصرها وتفصيلاتها، حتى تنتهي آخر الأمر إلى رجل الشارع، بعد أن تكون قد تجردت من كل تفصيلاتها وأصبحت أقرب شبها بالمحارة الجوفاء التي ذهب عنها اللباب الحي.
ذلك فارق جوهري، أرجو أن أشد إليه الانتباه؛ لأنه هو الذي يبين وجه الاختلاف الرئيسي، بين الكاتب الذي يخاطب صفوة المثقفين، والكاتب الذي يخاطب الجماهير العريضة عند قاعدة الهرم؛ وهو أن درجة التحليل للفكرة المعروضة، تزداد كلما صعدنا في درجات الهرم الثقافي، وتقل كلما هبطنا، فافرض - مثلا - أن الفكرة المراد عرضها، هي فكرة «المساواة» ففي هذه الحالة سترى الفرق بعيدا، بين ما تقرؤه لكاتب الصفوة الثقافية عن «المساواة» وما تقرؤه عنها لكاتب الجماهير، فهذا الثاني يكفيه أن يورد كلمة «المساواة» في سياق حديثه، ويتركها هكذا كما هي، وكأنها محددة المعنى وواضحة لجميع قرائه، بل إن هؤلاء القراء من جماهير القاعدة العريضة في الهرم الثقافي لا يتوقعون عن فكرة «المساواة» أكثر من اسمها، على وهم منهم أنهم يفهمون معناها فهما واضحا، وأما كاتب الصفوة فيعلم علم اليقين أن فكرة «المساواة» مركبة ذات تفصيلات كثيرة، ولا بد لفهمها من ضوابط تحدد المعنى المقصود.
لأنك إذا أردت لفكرة «المساواة » دقة في التحديد نشأت لك مشكلات كثيرة تتطلب التفكير وإمعان النظر، فإذا بدأت بالسؤال: مساواة بين من؟ وفي أي الجوانب؟ فقد يأتيك جواب متسرع يقول: مساواة بين أفراد الناس جميعا، وفي كل جوانب الحياة، وهنا يكون من حقك أن تسأل أسئلة كهذه: هل نكلف المريض بمثل ما نكلف به السليم؟ هل يكون للأطفال الصغار حق التصويت النيابي؟ هل يكون للإناث ما للذكور في الميراث؟ هل؟ وهل؟ وأسئلة كثيرة كهذه لا تقع تحت الحصر، وعند كل سؤال منها، يجد السامع نفسه مضطرا إلى وضع الضوابط التي تحدد المجال الذي في حدوده تكون المساواة، وشيئا فشيئا يزداد ذلك السامع إدراكا بأن لكل فرد، وفي كل مجال، ظروفا معينة تجيز له، أو لا تجيز له، أن يتساوى مع هذا أو ذلك من سائر الأفراد؛ فمن هو دون الثامنة عشرة - مثلا - لا يتساوى مع بقية الناس في التصويت النيابي؟ والمرأة لا تتساوى مع الرجل في المواريث، ومن لم يحصل من التعليم على درجة معينة لا يتساوى مع من حصلوا على تلك الدرجة في دخول الجامعات، وهكذا وهكذا.
لكننا إذا وجدنا أنه - في كل مجال - لا بد من وضع الحدود التي تجيز أو لا تجيز المساواة بين الناس جميعا، فسرعان ما يتبين لنا أن مثل هذه الاستثناءات ليست دائما محل اتفاق عام وشامل، فإذا سألنا - مثلا - هل إذا تساوت كل الظروف بين شخصين، إلا في اختلاف بينهما في اللون يتساويان؟ هنالك من الشعوب من يقول: لا؛ فاللون يؤخذ في الاعتبار؛ وكذلك إذا سألنا؟ هل إذا تساوت كل الظروف بين رجل وامرأة، يتساويان بعد ذلك في كل شيء؟ هنالك من يقول: نعم، وهنالك من يقول: لا، وهكذا تنفتح أبواب الخلاف في الرأي أمام الناس، فما يراه بعضهم واجب المساواة، يراه آخرون غير ذلك.
Bog aan la aqoon