ولقد حدث في تاريخ الرياضة حدث عظيم من هذا القبيل، وكان ذلك في القرن الماضي، فكانت له نتائج يصعب جدا أن نقيس مداها، وذلك أن العقل البشري لبث قرونا وهو على ظن بأن النسق الهندسي الذي أقامه إقليدس في العصر القديم، هو شيء يفرض نفسه على العقل فرضا ولا خيار للعقل دونه، فجاء علماء الرياضة في القرن الماضي، وقالوا لأنفسهم: لماذا لا نجرب فروضا أخرى غير المسلمات التي وضعها إقليدس واستنتج منها نتائجه؟ وكان ذلك ما فعلوه، فكان أن فتح الله عليهم بعدة أنساق هندسية جديدة، ولم يعد الأمر حكرا لإقليدس إلا في المجال الذي تصلح فيه هندسته، وأما الهندسات الجديدة لقد كان شأنها ما كان بالنسبة للأبعاد الكونية البعيدة، وكذلك بالنسبة للأبعاد البالغة في الصغر داخل الذرة الواحدة، وكان فتح الله على الناس عظيما يوم أن مارس العقل الإنساني حريته في أن يستبدل فروضا بفروض.
ومن هذا القبيل نفسه في حرية العقل، أن يبيح ذلك العقل الحر لنفسه أن يستبدل بمبادئ ثبت بوارها، مبادئ أخرى قد تكون أهدى للإنسان في حياته، إن كلمة «مبدأ» أو «مبادئ» لها في القلوب رهبة وفي الآذان سحر، حتى ليفاخر الإنسان إنسانا آخر بكونه رجل «مبادئ» وبأنه ثابت على مبادئه لا يغير منها شيئا، وهذا بالطبع شيء جميل وحميد، طالما كانت تلك المبادئ مؤدية إلى نتائج تنفع الناس في حياتهم العملية، وإلا فلا مناص عندئذ من تحرر العقل منها، ليستبدل بها ما هو أهدى سبيلا، إذ ما هو «المبدأ»؟ هو - بحرفية اللفظ - نقطة نبدأ منها، ثم نسير وفق الخطوات التي تستخلص من ذلك المبدأ، ولكن ماذا إذا وجدنا أنها خطوات مؤدية بنا إلى هلاك؟ إنه لا بديل أمامنا إلا أن نترك لعقولنا حرية الانتقال إلى مبدأ جديد، فالمبادئ صنعها الإنسان لنفسه، وهو حر في أن يصنع سواها، وفقا لما تقتضيه الحياة وازدهارها.
ذلك كله خاص بحرية العقل في طريقه الأول، الذي هو طريق نقطة الابتداء فيه «جملة» أو عدة جمل، مسطورة في صحائف أو محفوظة في صدور الناس يتناقلونها بالتواتر.
وأما حرية العقل في طريقه الثاني، وهو الطريق الذي يسلكه عندما تكون نقطة الابتداء معطيات تقدمها له حواسه الظاهرة أو الباطنة، فالأمر فيها شبيه بالأمر في حرية العقل وهو في طريقه الأول، يستبدل - إذا لزم الأمر - مسطورا بمسطور، وذلك لأنه وهو بصدد معطيات حسية جاءته عن ظواهر الطبيعة، ويريد قراءتها، لا بد له أن يلجأ إلى التجريب، فيقرؤها على صورة معينة، فإذا أفلحت كان بها، وإلا فهو «حر» في أن يجرب قراءة أخرى، وأما إذا ظل العقل حبيس قراءة واحدة لظواهر الكون ومشكلات الحياة، فاللهم أنت أعلم إلى أي هاوية يسير.
قال رفيقي الذي يتسقط لي الأخطاء وعثرات القلم: لست أرى إلى أي شيء تهدف بكلامك هذا، فقلت له: إن الذي أهدف إليه يا أيها العبد ، هو أن تكون حرا.
الكاتب ومستويات القراء
جاءتني رسالة من الزميل الكريم الأستاذ الدكتور عبد الفتاح عثمان، يعلق فيها على ما أكتبه، بدأها بقوله إن الأفكار التي أعرضها وبالطريقة التي أعرض بها، تثير اهتماما شديدا بين أساتذة الجامعات وصفوة المثقفين، فهؤلاء هم الذين يستطيعون التفاعل مع تلك الأفكار، وكثيرا ما جعلوا منها - كما شهد سيادته - موضوعا للمناقشة والجدل وتبادل الرأي، وذلك لأنها أفكار، كما يقول هو عنها في رسالته، «تمس الجذور العميقة لمشكلات إنسان هذا العصر، وخاصة في مجتمعاتنا النامية.» لكنه يستدرك فيضيف إلى ذلك قوله بأن فيما أكتبه «تجريدا» يراه «عقبة أمام القارئ العادي»، وعلى ذلك تكون الفئة القادرة على متابعة ما أكتبه قلة قليلة من الصفوة المثقفة، ممن قد يكونون أقل حاجة إلى الأفكار المعروضة، من الكثرة غير القادرة على المتابعة، ويسألني سيادته - بناء على هذا - لماذا لا أمزج المنهج العقلاني الديكارتي الذي أستخدمه، بالمنهج البراجماتي والمنهج الحسي (هذه كلها كلماته) مما يجتذب «القارئ العادي»؟
ولقد أتاحت لي رسالة الزميل الفاضل فرصة الكتابة في موضوع طالما فكرت في معاودة عرضه، لأنني وإن كنت كثيرا ما تعرضت له في سياق ما أتناوله من موضوعات، إلا أنه لم يظفر بحديث مستفيض خاص به، وأعني به علاقة الكاتب بفئات القراء، التي لا بد - بحكم ضرورة الأمر الواقع - أن تكون فئات متدرجة في مستوياتها الثقافية، تدرجا يبدأ مما يقرب من درجة الصفر، صعودا إلى ذروة «الصفوة الثقافية» التي أشار إليها الزميل في رسالته، فإذا كتب الكاتب وجمهور القارئين على تفاوت درجاته هو الماثل أمامه، كان معنى ذلك أنه يتحتم عليه الوقوف من الفكرة التي يريد عرضها، عند «المضاعف المشترك البسيط» (مستخدمين في هذه العبارة لغة الحساب) فلا يبقى من الفكرة إلا أقلها، وبذلك يضيع علينا موضع الإشكال الذي من أجله كتب الكاتب ما كتب، ولكنه في الوقت نفسه، إذا حرص على أن يعرض من الفكرة مواضع الإشكال التي تستحق العرض، أفلتت منه الكثرة الغالبة من جمهور القراء، الذين هم على تفاوت ثقافي واسع المسافة بين سكان الذروة وسكان السفح الأدنى، بعبارة أخرى موجزة، إن الكاتب في مثل مجتمعاتنا، يتعرض للحيرة بين هدفين: فإما أن يخدم الفكرة المعينة وما تقتضيه، وإما أن يخدم جمهور القراء بكل درجاته المتفاوتة، ولا سبيل إلى الجمع بين الجانبين.
لأن الجمهور العريض إنما تكفيه من الفكرة قشورها الخارجية، بحكم قدرته المتواضعة التي لا يستطيع بها مجاوزة تلك القشور، ذلك من جهة، ومن جهة أخرى فإن الفكرة المعينة لا تبدأ في قوة فعلها من حيث التأثير في الناس لكي يغيروا من أنفسهم، ويحلوا رؤية جديدة محل رؤية قديمة، إلا إذا عرضت بكل لبابها؛ فيصبح حتما محتوما على الكاتب أن يختار لنفسه ما يتفق مع طبيعته وقدراته، فإما أن يختار جانب الفكرة فينحصر في القلة التي هي الصفوة المثقفة - على حد تعبير الزميل صاحب الرسالة - وإما الجمهور العريض، فيعفي نفسه من الأعماق ليسبح مع ذلك الجمهور على سطح الأحداث الجارية. وتحضرني الآن إجابة أجاب بها كاتب في شئون الاقتصاد على مستوى رفيع، كان يكتب في صحيفة التايمز البريطانية (قبل أن يعين سفيرا لبريطانيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان ذلك منذ بضع سنوات)، وذلك أن رئيس التحرير سأله مرة على سبيل النقد لصعوبة ما يكتبه ذلك الكاتب: كم تظنهم أولئك الذين يستطيعون قراءتك؟ فأجاب الكاتب في استعلاء: إنهم ثلاثة، لست أنت أحدهم! لكن ما كان يكتبه ذلك الكاتب ولا يقرؤه قراءة الفهم إلا ثلاثة - على حد قوله الساخر - هو الذي كان له الأثر في تغيير المسار الاقتصادي في بلاده.
وعند هذه النقطة - نقطة تغيير الاتجاه القائم بين أفراد الشعب - أنتقل مع الزميل الفاضل صاحب الرسالة إلى صميم الموضوع، فأسأل ابتداء: لماذا يكتب كاتب؟ ولست ب «الكاتب» هنا أعني ذلك النوع من الكاتبين، الذي لا بد أن قد كان ماثلا في ذهن الزميل، حين اقترح علي في رسالته أن أقسم المقالة إلى أجزاء، بحيث يقع كل جزء منها تحت عنوان فرعي كما هي العادة المألوفة في مذكرات التلاميذ؛ لأن مثل هذه الصورة مرغوب فيها عندما يراد لدارس المذكرات أن «يحفظ» المادة المعروضة عليه ليدخل بها الامتحان؟ وأما «الكاتب» الذي أعنيه (والذي قد لا أكون موفقا بحيث أكون مثلا له) فهو الذي تشبع كتابته في قارئها نزوعا نحو أن يفكر وأن يسلك على غير ما ألف من قبل أن يفكر وأن يسلك، فليس الأمر هنا أمر «نقاط» في الموضوع، بقدر ما هو «إيحاء» للقارئ باتجاه جديد؛ ولذلك ترى «الكاتب» في كثير من الحالات، لا يبسط فكرته بسطا مباشرا، كما هي الحال حتما ودائما في الكتابة العلمية، لا، بل إنه يبحث لفكرته عن إطار يعلقها عليه، كأن يلجأ إلى حكاية من التاريخ، أو أسطورة، أو حلم، أو خيال قصصي، أو حوار بين شخصين أو عدة أشخاص، أملا في أن يكون ذلك الإطار المختار معينا على إشاعة الانطباع المراد إشاعته في نفس القارئ، فيكون له بمثابة الإيحاء الموجه إلى نمو فكر جديد وسلوك جديد، وما كذلك الكتابة العلمية، فهذه تنقل إلى الملتقى «معلومات» محددة، يراد لها أن تعرف لذاتها، ولا يراد بها أن «توحي» بشيء، ولذلك لا نقول عمن يكتب كتابة علمية، أيا ما كانت المادة العلمية التي يكتب فيها، إنه «كاتب».
Bog aan la aqoon