لكن ما لنا الآن وسائر الدنيا وشعوبها، إن الذي يهمنا هو مصر في المقام الأول، فمصر هي أنت وأنا، وولدك وولدي، إنها طعامنا وشرابنا ومأوانا، إنها ماضينا وحاضرنا ومستقبل حياتنا، إنها ليست معنى من تلك المعاني النظرية المجردة التي تتبادلها أذهان مع أذهان، كلما أراد المفكرون لأنفسهم شيئا من رياضة العقل، لا بل هي - مصر - رئاتنا وأنفاسها، قلوبنا ونبضاتها، تقلنا فوق أرضها، وتظللنا بسمائها، فهذه الأرواح من جوها، وهذه الأجساد من تربها، (كما قال أبو العلاء المعري) فلئن كانت مصر تشارك أرجاء العالم غيبة ضميره، في هذه المرحلة الانتقالية من تاريخه، فليس حديثنا عن الأرجاء الأخرى في ذلك شبيها بحديثنا عن مصر فيه؛ لأن حديثنا عن تلك الأرجاء البعيدة عنا، هو كحديثنا عن القنابل الذرية التي أسقطت في ختام الحرب العالمية الثانية، على هيروشيما وناغازاكي، نرويه خبرا من الأخبار، وأما حدثينا عن مصر فمتصل شريانه ووريده بنبض القلب وتنفس الرئتين ... والضمير في مصر اليوم غائب غيابه في سائر أنحاء الدنيا.
وانعكس غياب الضمير عندنا في ظواهر كثيرة، منها أنه لم تعد في حياتنا قواعد ضابطة، كبر الأمر أو صغر، فمثلا، بكم يكون الانتقال في إحدى سيارات الأجرة من الجيزة إلى الزمالك؟ ثلاثة جنيهات في تقدير السيارة الأولى - من سيارتين متجاورتين - وبجنيه واحد في تقدير السيارة الثانية، وبات محرما على طالب الانتقال أن يسأل: أليس في كل سيارة عداد يضع القاعدة، ويضبط التعامل بين الناس؟ لا، لا، هذه العدادات وأمثالها من ضوابط القانون قد أصبحت خرافة من خرافات الأولين ... وكم يكون راتب الجامعي إذا عمل في إحدى الشركات، إنه ثلاثون أو أربعون جنيها عند إحداها، وثلاثمائة أو أربعمائة (وقد تبلغ ألفا) عند الأخرى، فإذا سألت عن القاعدة الضابطة لهذه الرواتب هنا وهناك؟ أهي الخبرة. وليس عند أحد من متخرجي العام الجامعي الواحد، خبرة يزيد بها على أخيه، أهي درجة النجاح؟ لا أبدا، فالممتاز منهم قد يكون نصيبه العشرات، ومن دونه قد يكون نصيبه المئات؟ إذن فما هو الضابط؟ كلا، محرم عليك هذا السؤال؛ لأن الحقيقة المقررة الآن هي ألا قواعد ولا ضوابط، والمسألة كلها «شطارة» في شطارة! ولن أترك هذا الموضع من حديثي قبل أن أزيدك علما بهذه «الشطارة» ما أصلها وما فعلها؟ إذ قد لا تعلم أن أصل اللفظة هو أولئك الذين كانوا في الماضي يشطرون جيوب الضحايا لسرقة ما فيها؟ فالشاطر هو لص في أكثر الحالات.
وكم تتقاضى «أمينة المنزل»؟ (وهذه التسمية عندي أفضل من قولنا خادمة وشغالة) إن أحدا لا يدري أي رقم تنفرج به شفتاها عند النطق بالجواب، فالأمر في ذلك مرهون بالمصادفات، إنه خمسون جنيها مرة، ومائة جنيه مرة أخرى، وأكثر من ذلك أو أقل من ذلك مرة ثالثة، فلم يعد هناك «هامش» تنحصر فيه احتمالات التقدير، بحيث يكون فيه حد أعلى وحد أدنى، وكم سوف يتقاضاني - يا ترى - نجار دعوته لإصلاح باب انكسر مفصله؟ اللهم إنه لا يعلم ذلك إلا أنت يا علام الغيوب، أما نحن البشر فلا بد لنا من انتظار ما ينطق به النجار عند «النطق بالحكم»، فقد يكون خمسة جنيهات، وقد يكون عشرين، وكم يكون هذا، وكم يكون ذلك؟ إننا لا ندري شيئا - نحن البشر - قبل النطق بالأحكام؛ لأنه لا قواعد، وقد اختفت القواعد حين غابت الضمائر عن أصحابها، فباتت حياتنا سفينة بلا سكان (وسكان السفينة في اللغة هو دفتها) ومع غياب الضمائر وانقلاب السفينة، غاب الذوق، وغابت الرحمة، وتعرضت إنسانية الإنسان نفسها للضياع.
ولولا غياب الذوق لما وقع ما حكاه لي صديق بيني وبينه أوثق الروابط، إذ حكى أن إحدى جامعاتنا خارج القاهرة، اتصلت به ملحة عليه أن يستجيب لرغبة الطلاب في الاستماع إليه محاضرا، وقد كان إلحاحها بالخطابات مرة، وبالهواتف مرة أخرى نتيجة لاعتذاره المتكرر، وما كان اعتذاره إلا لضعفه في شيخوخته، ولكثرة معوقاته، لكنه لبى الدعوة آخر الأمر، وسافر إلى هناك بسيارته وتم اللقاء بينه وبين الطلاب في محاضرة عامة وفي مناقشات سبقتها ولحقتها، وبالطبع لم يكن له بد من قضاء ليلته في الفندق الذي دعي للمبيت فيه، فلما أصبح عليه الصباح، وأراد العودة، أبلغه مضيف الفندق بأن خطاب الجامعة إليه، يحتم عليه ألا يقدم إلى الأستاذ الزائر إلا طعام الإفطار فقط، وأظنه وضع تحت كلمة فقط خطين غليظين لئلا تفلت من عين القارئ، وأما أن الأستاذ سافر على حسابه الخاص، وأما أنه بحكم الضرورة كان لا بد له من غداء وعشاء، فذلك ما لم ترد الجامعة الداعية أن يؤخذ في حسابها، ذلك ما حكاه لي الصديق، فلم يسعني ساعتها، إلا أن أصيح في وجه الهواء: يا ناس يا هوه اسألوا في أقطار الدنيا جميعا، هل رأت أستاذا جامعيا، هرم وشاخ في أستاذيته ولبى الدعوة بعد إلحاح ضاغط يعامل من إحدى الجامعات بمثل هذه المهانة والإهانة؟ فماذا نقول إلا أن الضمائر قد غابت عن أصحابها؟
ذلك عن الذوق الذي جف عوده وذوى، وأما غياب الرحمة فلا أطلب منك إلا أن تقرأ صحيفة يومية واحدة، في يوم واحد، فأنت لا بد واقع فيها على عدة حوادث تكشف عن قسوة القلوب كم بلغت بالناس، وعلى غلظ الأكباد وما قد وصل إليه التعامل بعضنا مع بعض، وقد كنا قبل الآن نتوهم أن تلك الفظاظة يعرفها ناس في غير بلادنا، وأما في مصر فأبناؤها يحنو بعضهم على بعض حنان الأشقاء في أسرة واحدة، ونعم، وألف نعم لقد كانت تلك هي مصر التي كانت ولم يبق إلا دعاء ضارع إلى المولى عز وجل أن يعود بمصر إلى ذاتها، وإلا فهل عرفت مصر قبل الآن فتاة تذبح خمسة أطفال، لتأخذ ما فوق أجسادهم من ذهب وفضة؟
لا، استحلفتك الله ألا تقول: إن العيب هنا هو عيب الدولة التي لا تسن القوانين الرادعة! ولست أملك في هذا الموضع من سياق الحديث، إلا أن أعيد بضعة أسطر من مسرحية شكسبير «دقة بدقة »؛ إذ يقول فيها «الأمير» في مناسبة كهذه:
لقد أصدرنا من القوانين أشدها صرامة، ومن «اللوائح» أدقها تفصيلا، وأعددنا لجوامح الخيل اللجم والشكائم لكننا أرخينا قبضاتنا أربعة عشر عاما فأصبحت تلك القوانين واللوائح، وتلك اللجم والشكائم جميعا كالليث الهرم قابعا في عرينه لا يخرج لصيده، أو قل إننا كالآباء الحمقى الذين يخزنون عصا التأديب الرادعة أو هم لا يزيدون على التلويح بها أمام صغارهم يتوعدونهم العقاب ثم لا يعاقبون فيجيء على العصا يوم محتوم، تصبح فيه مثارا للسخرية أكثر منها أداة للوعيد، وهكذا القانون قد بات مجمدا كأن لم يكن ولما كانت الحرية تابعة للعدالة، فإذا كانت عدالة، كانت الحرية مرغمة على الظهور.
وما دامت العدالة بيننا قد ذهبت مع اختفاء القانون.
رأيت الطفل الرضيع يصفع حاضنته. «رأيت الحياة الكريمة قد تفككت منها الأواصر.»
لا يا صاحبي، نشدتك الله ألا تهيل على الدولة تبعات فوق تبعاتها. (انتهى قول الأمير)
Bog aan la aqoon