وقد أشرت إلى ضاحية قروة حيث يقع منزل مضيفنا الشيخ محمد الصبان، وثم إلى جوار الطائف من ناحية الشمال بستان اسمه نجمة، جميل الموقع غاية الجمال، وبه قصر تمنيت إذ رأيته أن يكون لي، فموقع نجمة بديع حقا، يقع من خلفه واد يطلقون عليه اسم وادي العقيق، وإن أنكر الشريف حمزة الغالبي قدم هذا الاسم، ويقوم من وراء هذا الوادي جبل أبي صحفة، وهذا كله يحيط نجمة بهالة طبيعية بارعة تبلغ روعتها ساعة المغيب حين تنحدر الشمس وراء الجبل وتلقي بأشعتها على وادي العقيق مبلغا تتعلق به النفس ويأخذ الفؤاد منه البهر؛ لذلك اختارها الشريف عون الرفيق أمير مكة السابق لبناء هذا القصر الذي بها والذي أريد بالبستان أن يحيط به، لكن تصاريف القدر أقوى من إرادة الإنسان، وله فيها العبرة البالغة، فقد بغتت حوادث النهضة في بدء الحرب الكبرى بناة هذا القصر فلم يتموه، وبقي لذلك بناء قائما من الآجر الجميل لم يجصص ولم توضع له أبوابه ونوافذه، لكن متانة البناء حفظته مدى هذين العقدين من السنين اللذين انقضيا منذ بنائه، فهو اليوم قائم كأنه ينتظر بناته يستأنفون عملهم فيه صبح الغداة. أما البستان فصار اسما لا مسمى له، وهلك عون الرفيق وتركت ذريته الحجاز، وهي تقيم بمصر الآن، ولا يفكر أحد في استئناف هذا البناء البديع في ذلك الموقع الساحر، ولا في غرس البستان حوله ليكون مصيفا بارعا قل نظيره.
أما وهذا شأن نجمة فهي أدنى إلى الأثر منها إلى الضاحية، وإن تكن أثرا يسهل بعثه إلى الحياة ليكون قصرا فخما وبستانا جميلا، فأما الضاحية البديعة حقا فتلك شبرة التي مررنا بها في طريقنا من مكة إلى الطائف، والتي تقع على أبواب الطائف، ولم تقف السيارة بنا إذ ذاك عندها، ولم ألتفت يوم ذاك إليها رغم انبساط ضوء القمر عليها، لتقدم الليل، وشدة الجهد، وطول الشقة التي قطعناها، لكني عدت إليها قبيل المغيب ذات يوم من أيام مقامنا بالطائف فخلتني إذ دخلت قصرها واخترقت بساتينها كأنما انتقلت من بلاد العرب كلها إلى جزيرة الروضة بالقاهرة، أو إلى بعض الجوانب النضرة من سويسرا، هذا مع أني كنت قد مررت قبل ذلك ببساتين عدة في بادية الطائف، وكنت قد نسيت الجدب والإمحال المحيطين بمكة، واللذين ينتشران في تهامة إلا في قليل من أوديتها.
وشبرة ليست مع ذلك بالضاحية القديمة، فقصورها وبساتينها من بناء آل عون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن العشرين، بنى الشريف عبد الله بن عون القصر الأول، أو شبرة القديمة كما يسمونها، وبنى الشريف علي ولده القصر الثاني أو شبرة الجديدة، وغرست حول القصرين بساتين فخمة يقصر دونها الطرف، بها من أشجار الفاكهة النادرة والأزهار البالغة في البهجة ما جلبه بناة القصرين من مختلف بلاد الأرض، كما جلبوا رخام القصرين من إيطاليا، وأخشابهما من تركيا، وقد آل هذان القصران إلى الملك ابن السعود بعد جلاء الأشراف عن الحجاز، فاتخذهما مصطافا له ولعائلته، أما وحريم ابن السعود من زوجات وملك يمين يفقن في العد ما يتصوره ذهننا المصري، أما وأبناؤه منهن يجاوزون العشرات، أما ولكل زوجة في القصر جناح، فالقصران جميعا لا يسعان الأسرة الملكية السعودية كلها؛ لذلك يضطر الأمير فيصل، وزير خارجية ابن السعود ونائب الملك بالحجاز، أن ينزل بالطائف إذا اصطاف بها؛ لأن قصري شبرة وبساتينها تضيق به .
وبينما يصطاف ابن السعود وأهله بشبرة الطائف إذا الشريف علي باشا الذي أقام شبرة الجديدة بعد أن أقام أبوه الشريف عبد الله بن عون شبرة القديمة يقيم بمصر يستعيد ذكريات عهد سلف، ويتطلع بآماله إلى هذه البادية التي شهدت عظمة سلطانه ثم نسيته كما نسيت عتاة سبقوه وكان لهم فيها السلطان، وإن حفظت ذكر الذين عطروا جوها من عهد رسول الله بالتضحية بحياتهم جهادا في سبيل الله.
عدت إلى شبرة قبيل المغيب ذات يوم من أيام مقامنا بالطائف بعد أن قضينا نهارنا بالبادية نصعد في الجبال وننحدر عنها، وكان السيد محمد صالح القزاز قد أبلغ حارس القصر أن يلقانا عنده وأن يفتح لنا بابه أول وصولنا إليه، ووقفت قبالة القصر أحدق في عمارته، ولم يدهشني ألا ينم شيء منه على الطراز العربي في قليل ولا كثير رغم قيامه في قلب بلاد العرب؛ فقد شاده الأشراف في عصر كانت صفة العربية تدل على الانحطاط والتأخر في كل ما تنسب إليه، وكان سلطان الحضارة الغربية متغلغلا في نواحي الحياة في ربوع العالم جميعا، إنما بني القصر على طراز أدنى إلى الروماني، فتح حارسه لنا بابه فصعدنا إلى درجات فسيحة مريحة تبلغ عرض الباب، أي: نحو المترين، ومصراعا الباب من خشب جميل النقش ثمين، وطالعنا سلم القصر وراء الباب وهو في مثل عرضه، صنع من رخام إيطالي جميل، وقام عن جانبيه درابزون من الحديد الدقيق الصناعة، وتدل آثار من النحاس باقية بأعلى الدرابزون على عناية بنقشه وزخرفته، وقد قيل لنا: إن الوهابيين لما وصلوا الطائف واقتحم جندهم القصر حسبوا النحاس ذهبا فنزعوه واعتبروه من الغنائم الثمينة، ويفضي هذا السلم إلى الطابق الأول للقصر فيفضي بذلك إلى أبهاء فسيحة، وغرف تذكرك سعتها بأبهاء الفنادق، وزادها سعة خلوها من الأثاث، وأردت أن أعرف هذا الأثاث ما يكون حين نزول الأسرة المالكة أثناء الصيف بالقصر فلم أجد إقبالا على إجابتي، فحسبت القوم غلبهم الحياء دون الحديث في أمر ملكي ذلك مبلغه من الاتصال بالحياة البيتية في الليل والنهار، وأردت أن أشجعهم فذكرت ما يراه الإنسان بالقصور الملكية في إنجلترا وأوروبا من الطنافس وأدوات الزينة وأسرة النوم، فنظر أحدهم إلي في دهشة وقفتني عن المضي في القول وذكرتني أنني في بلاد العرب ولست بأوروبا.
ولم نصعد إلى الطابق الثاني من القصر إذ قيل: إنه على نظام الطابق الأول، وعدنا من الغرف إلى السلم لنهبطه، فأشار إلينا الشيخ صالح القزاز فدخلنا من باب قبالة السلم يؤدي إلى طنف «بلكون» مطل على بساتين القصر، فجلسنا حتى تناولنا القهوة، ثم هبطنا إلى البساتين نسير فيها متنقلين من بستان شبرة القديمة إلى بستان شبرة الجديدة نقضي من الوقت أثناء سيرنا بهما ووقوفنا أمام أشجار مختلفة فيهما ما يشيع في النفس المسرة ويذهب عنها نصب النهار في متاعها بمنظر شجرة باسقة لفاكهة نادرة، وأخرى متشعبة الفروع لزهر ذكي عطر، وإن لم يكن الفصل بالطائف بعد فصل جبي الفاكهة أو تضوع أريج الزهر.
وهذه البساتين، على ما فيها من أشجار ثمينة نادرة، لم يعن أحد بتنسيقها أو بتنظيم الطريق خلالها لتيسير المرور بها والوقوف عند محاسنها والمتاع بعطر زهرها وأريج فاكهتها، هي أدنى إلى أن تكون غابة مستوحشة ألقت المصادفة إليها بهذه الأشجار فنمتها تربتها الخصبة في نضرة وبهاء دون أن تجمع بين المتشابه منها أو تعنى باتساق ألوان الزهر فيما يجتمع من أشجاره، يشير لك البستاني إلى شجرة من الورد ويصف لك بهاء لون زهرها، ثم يذكر لك أن شجرة مثلها تقع في ناحية من البستان نائية أو قريبة، وأن شجرة من فصيلتها تقع في الطرف الآخر منه، وما سوى الورد والفاكهة مبعثر في هذه البساتين كالورد سواء، فسبيلك إلى معرفتها أن تدرس مواقعها من هذه الغابة وأن تقتحم طريقك إليها خلال الأشجار الباسقة البارعة النمو المتشابكة الغصون.
وبلغنا بابا صغيرا بآخر البساتين فيما وراء القصور، واتجه أصحابي يريدون الخروج منه، وإني لعلى أهبة اتباعهم إذ وقف إلى جانبي الشريف حمزة الغالبي، وقال: أتعلم أن لهذه البساتين كرامة لن ينساها أهل الطائف ولا أهل مكة؟! وعجبت أن تكون البساتين أولياء أولي كرامات، فقال: لا تعجب! فقد كان أهل مكة يصطافون بالطائف حين أغار الوهابيون عليها، ولم تكن بالطائف حامية تصد غارتهم، فلما سلمت المدينة ودخلها الإخوان أخذوا من بها أسرى، وبحثوا عن محلة تتسع لهم جميعا فلم يجدوا إلا هذه البساتين فحشروهم فيها زمرا ولم يدفعوا إليهم بطعام ولا بشراب، وكان الفصل فصل الفاكهة، فوجد هؤلاء الأسرى فيها طعامهم، وفي العيون التي تستقي منها البساتين شرابهم، ولولا ذلك لهلكوا جوعا وعطشا، ألا ترى هذه كرامة لهذه البساتين تسجل لها مع ما ينسب لبعض الآبار والآثار من الكرامات؟!
وألقيت على هذه البساتين كأنها الغابات قبل خروجنا من بابها الصغير نظرة أحاطت بها، ثم سرت وأصحابي بعد أن انحدرت الشمس إلى المغيب تاركة وراءها بقية من الضوء تنير الطريق للسالكين، وأفضيت إلى أصحابي والسيارة تجري بنا إلى الدار بما رأيت من عدم تنسيق البساتين وتركها غابة غير ذات نظام، فقال أحدهم: «لعلها كذلك أجمل! ولعل ذلك رأي الأشراف الذين نسقوها.»
وبلغنا الدار فعلمنا أن شعراء البادية سيحضرون إلينا في المساء، ودخلت غرفتي أزيل غبار النهار، ثم توضأت وصليت وأقمت على سجادة الصلاة أذكر ما رأيت، وتمثلت لي البساتين في غاباتها وسألت نفسي: أهي حقا كذلك أجمل مما لو نسقت ونظمت وخططت فيها الطرق وجمع فيها كل ضريب من الأشجار إلى ضريبه، وكل لون من الزهر إلى نظيره؟ أم هي كذلك أجمل لأنها في بلاد العرب بين أحضان الطبيعة البكر لم تنظمها يد الإنسان، وأنها لو نظمت لكانت نابية في هذه البيئة؟ فالبدوي المتنقل من مكة أو من نجد إلى الطائف، والذي قضى في البادية ما قضى يخب به الجمل تتقاذفه الفلوات، أو تجري به السيارة منذ غزت السيارة هذه الربوع جريا مضطربا بين المرتفعات والمنخفضات، لا يألف نظره البستان المنظم ما يألف هذه الغابة الموحشة في روعة جمالها البارع! أم يرجع عدم تنظيمها إلى بقاء الخلق البدوي متأصلا في النفس العربية فهي لما تألف الحضارة ونظامها، وهي لا تحتمل هذه الحضارة ولا تسيغها إلا أن تحمل على ذلك حملا وتكره عليه إكراها؟
Bog aan la aqoon