ومسجد الجعرانة اليوم أدنى إلى أن يكون أثرا، أما بئرها فمعني بها، أقيم بناء مستدير حول فوهتها، وعلقت فيها دلو يشرب الناس منها، وذلك أن ماء هذه البئر عذب ليس كمثله بمكة ماء، والموسرون من أهل مكة يؤثرونه على ماء زبيدة ويجيئون به إلى دورهم؛ لأنه أصلح من كل ماء غيره، وأشهد إنهم لصادقون، فلطالما شربت من هذا الماء بمنزل مضيفي فلذت لي عذوبته وأعجبتني رقته.
والطريق من مكة إلى الجعرانة طريق صالح للإبل وللسيارات جميعا، يخرج الإنسان من مكة حتى يحاذي حراء ويكون في أول طريق منى، هنالك ينعطف يسرة بين الجبال دائرا حول حراء، ولقد استمهلت السائق فسار مبطئا في هذا المنعرج كيما أملأ ناظري من جبل النور في عزلته، ولما أكن قد صعدت إليه، وكان لي بالوقوف أمامه وبالتحديق فيه من الشغف ما ازداد بعد أن وقفت أمام الغار الذي نزل الوحي الأول على الرسول فيه.
ثم انبعثت السيارة في طريقها بين الجبال حتى نفذت بنا إلى فرجة واد ضيق نمت فيه أعشاب اتخذت منها الإبل مرعاها، فهي تمرح منها في كلأ تجد فيه الشبع والنعمة، وهي تسير أسرابا في رعيها لا يحول بينها وبينه وعث الطريق ولا التصعيد في الجبال، ولشد ما كانت دهشتي حين رأيت بعضها يتسلق الهضاب إلى قممها يبحث فيها عن أسباب العيش! فقد ألفيت جمالنا في مصر رقيقة العظم على ضخامتها، حتى ليبلغ أحدها حجم اثنين من جمال الحجاز، ورقة عظمها تدعو للإشفاق عليها أن يصيبها مكروه إذا زلقت في اليوم المطير، أو هفت خطوتها عند قناة، أو ارتطمت بحجر، فأما هذه القطعان من إبل الحجاز فتسير أسرابا وتجري أفرادا وتتسلق الجبال ولا يأخذ الإشفاق عليها راعيها، ولعلها كذلك تفعل لأنها نشأت في أحضان الطبيعة معتمدة على ذاتها؛ فالبادية بيئتها، وهي تعيش فيها كما يعيش الإنسان في داره، أما بيئتنا المصرية في الوادي فالجمل فيها ضيف على دواب الحمل الأخرى، وإن يكن سفينة صحارانا كما أنه سفينة صحراء العرب، وكيف لا تعتمد هذه الإبل في بلاد العرب على نفسها في تسلق الجبال والتماس الكلأ بين الصخور وليس لديها سبب غير ذلك من أسباب العيش؟! والجبال في البادية تتصل بالأودية ويتصل بعضها ببعض، فهي محيطة بهذه الإبل حيثما توجهت وأنى سارت.
ولقد أحاطت بنا هذه الجبال طول الطريق إلى الجعرانة، فما تكاد تنفرج إلى أفسح من الطريق إلا في أماكن قليلة، مع ذلك تتابعت أسراب الجمال تسير عشرات وعشرات، وتسير مطمئنة لا تزعجها السيارة ولا تدعوها إلى الفرار لطول ما ألفتها في السنوات الأخيرة، وتياسرت السيارة بعد مسير ساعة فإذا واد فسيح ينفرج أمامنا ويمتد النظر في فسحته إلى حيث يشاء، ذلك وادي الجعرانة، وانكشف لنا المسجد، وتبدت لنا فوهة البئر، ووقفت السيارة بينهما، فأسرع إلينا صغيران ينتظران الخير من مجيئنا ومن وقوفنا.
وزرت المسجد، وشربت من ماء البئر، ووقفت أسرح الطرف فيما حولي وأستعين بمنظاري المقرب أرى به ما يكسو قمم الجبال من كلأ لا يفل من حدة عبوسها، وماذا عسى أن يكشف المنظار عنه غير هذا الكلأ وليس هاهنا إلا رمال الوادي والجبال المحيطة به؟! وقصدت هضبة على مقربة من المسجد صعدت فيها حتى بلغت منتصفها، ثم درت بالمنظار كرة أخرى فيما حولي فلم أر غير ما رأيت من قبل، ولم أر في صخور هذه الجبال شيئا يلفت النظر.
وسألت صاحبي: ألهذا المكان موسم يقصده الناس فيه كما كانوا يقصدون أسواق العرب قبل الحج إلى مكة؟ قال: إنهم يخرجون إلى هذا المكان في شهر رمضان فيحرمون بالعمرة؛ ذلك لما روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «عمرة في رمضان تساوي حجة معي.» كذلك كانوا يفعلون قبل حكم الإخوان، ولا يزالون كذلك يفعلون وإن كانوا أقل على هذه العمرة إقبالا.
وسألته في هذا الحديث وروايته عن النبي، فابتسم وقال: لعلك تحسبه من روايات المكيين مما يجذبون به الغلاة في الدين إلى مدينتهم، أما أنا فلا أحقق سنده، لكني أحسبه يرجع إلى الأسوة بالنبي في عمرته من الجعرانة بعد عودته من الطائف، وإن كان هذا الحديث يجعل العمرة في شهر رمضان، وكانت عمرة الرسول من الجعرانة في ذي القعدة، ولئن صح ظنك ليكونن قصد رواته أن يباعدوا ما بين عمرة شهر رمضان والحج ليجعلوهما موسمين، بدل أن تجتمع العمرة والحج في موسم واحد.
قلت: لك رأيك، ولكنني أفكر الساعة في المسلمين الذين عادوا يقتسمون ها هنا فيء حنين، فالذين سمعوا حديث العمرة في شهر رمضان لا يزيدون على مائة أو بضع مئات، أما الذين عادوا مع النبي من حصار الطائف فكانوا ألوفا بلغت العشرة أو زادت عليها، وكان الفيء الذي جاءوا يقتسمونه هنا ستة آلاف من الأسرى، واثنين وعشرين ألفا من الإبل، وأربعين ألفا من الشاء، خلا أربعين ألف أوقية من الفضة، أفشهد هذا الوادي في كل ما مضى من تاريخه مثل هذا العدد من الناس ومن الإبل والشاء؟ ومحمد على رأس المسلمين يقسم بينهم هذا الفيء، إذ جاءه وفد من أسلم من هوازن يرجونه أن يرد عليهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم، ويقول له أحدهم: «يا رسول الله، إن في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به لرجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.»
كلا: ما عرف تاريخ الجعرانة كله يوما كهذا اليوم، وإن من الأرض لبقاعا جرداء ، قل أن تصلح لمقام أو حضر، ثم يكون بها حادث يتغير له وجه التاريخ، فإذا هي علم باق بين الناس ذكره، وإن عادت بعد هذا الحادث جرداء غير صالحة لإقامة أو حضر، وهل ينسى الجعرانة من يعرف حنينا؟! وهل ينساها من يعرف سيرة محمد بن عبد الله، وهي اليوم كما كانت على التاريخ، فيما خلا أيام حنين، واد غير ذي زرع، لا يستوقف النظر منه إلا ما يحتفظ به من ذكرى أيام حنين! ولعلع لهذه البقاع من الأرض عزاء فيما تحتفظ به من هذه الذكريات الخالدة عما تعانيه من عزلة وإمحال، كما أن من الناس من يجد في ذكريات ماضيه من المجد ما يملأ حياته خيرا ألف مرة مما يملأ أكثر الناس الحياة به مما يثيرونه فيها من ضجة وضوضاء.
جالت هذه الخواطر بنفسي وأنا بموقفي فوق الهضبة المجاورة لمسجد الجعرانة أجيل بصري في هذا الوادي الخلاء اليوم وقد ملأته الذكرى بما أعاد إلى خيالي صورته يوم قسمة الفيء مليئا بالحياة وضجتها، مليئا بالرضا والتذمر، وبالصفو والغضب، عفا رسول الله عن نساء هوازن وأبنائها، فغضب لذلك رجال حديثو عهد بالإسلام، وأفشى محمد أعطياته في المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، فغضب المهاجرون والأنصار وتهامسوا، وبلغه الهمس، فوقف مغضبا إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.» ولم يرض عباس بن مرداس عن نصيبه الذي أخذه، فقال النبي: «اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه.» فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه، ويقول الأنصار بعضهم لبعض: «لقي والله رسول الله قومه»، فيحدثهم النبي ويقول في ختام حديثه لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار»، فيتأثرون ويبكون ويقولون : «رضينا برسول الله قسما وحظا.»
Bog aan la aqoon