وخطوت إلى القمة وتفيأت ظل الصخرة قبل أن يدركني أكثر أصحابي الذين تسلقوا الجبل معي، ولم تكن القمة فسيحة الأرجاء، فمربعها لا يتجاوز الثلاثين مترا، لكنها كانت ذات بهجة بظلها وبالصخور المحيطة بها، والتي تجعل منها بهوا تستريح النفس إليه ويطيب لها المقام به.
فلما هدأت أنفاسي تناولت شربة من الماء، ثم قمت أدور حول الصخرة ومعي منظاري، فشهدت مكة والحرم، وشهدت ما وراء مكة إلى حد الأفق، وشهدت الجبال بين ثور ومكة يتلو بعضها بعضا ولا تستبين العين ما بينها من الطرق.
هذه إذن أم القرى التي أخرجت محمدا منها؛ لأنه دعا إلى الحق أهلها، وهذا البيت الحرام الذي أقامه إبراهيم وإسماعيل مثابة للناس وأمنا يتوسطها وينفس عنها، وهذه البادية الفسيحة الممتدة أمام النظر إلى غاية الأفق تدعوني أرجاؤها إلى التأمل وإلى الأناة وإلى تدبر ما في الكون من حاضر أمام نظرنا ومن غيب نتوسمه ولا نعلمه، فليس يعلم الغيب إلا الله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
أدركني أصحابي وجلسوا يتفيئون ظل الصخرة، وجلست إليهم، وتناولنا الشاي إذ كنا نتناول بالقول انصراف المسلمين عن زيارة هذه الأماكن اتقاء المشقة وخوف ما يذكرونه عن بطش العرب في الماضي بمن ينقطع عن قافلته، وجعل القوم ينصرفون واحدا بعد واحد، يقصد أحدهم إلى الغار، ويدور الآخر حول الصخرة، ويلتمس ثالث مسالك الجبل في غير الناحية التي صعدنا منها، فلما اطمأننت إلى وحدتي فوق القمة عدت بذهني إلى الليلة التي هاجر فيها الرسول، فرأيته قائما صدر الليل في داره يعبد ربه ويتلو كتابه، ورأيت أبا بكر بداره في طرف آخر من مكة لا يطرق النوم جفنه ولا يدري ما الله صانع به، لقد أسر محمد إليه أن الله أذن لهما في الهجرة، فمتى تكون؟ وكيف تكون؟ إنه أعد راحلتين تحملانهما من مكة إلى يثرب، لكنهما لن يخرجا بأعين الناس، والناس لمحمد بالمرصاد وقد ائتمروا به ليقتلوه، والليلة موعده من الرسول فلينتظره وليصبر، إن الله مع الصابرين.
وهذا علي بن أبي طالب في دار محمد قد تسجى برده الحضرمي الأخضر ونام حيث ينام ابن عمه مبلبل النفس منذ أسر إليه أن ينتظر بمكة بعد مغادرته إياها حتى يؤدي ما لديه من ودائع للناس، وهؤلاء فتيان قريش بالباب وحول الدار ينظرون لعلهم يصيبون من محمد فرصة يفتكون به فيها فتكة رجل واحد حتى يضيع دمه بين القبائل، والليل يردف أعجازا وينوء بكلكل فيأخذ هؤلاء الفتيان غمض ليس بالنوم ولكنه أدنى إلى الأرق، ويخرج محمد من داره إلى دار أبي بكر فلا يراه منهم أحد ولا تقع عليه عين، ويلفي أبا بكر في انتظاره أشد ما يكون شوقا إلى هذه الساعة التي يهاجر معه فيها بأمر ربه.
نحن الآن في ساعة الهجود قبيل الفجر، فليس بمكة همس، ولست تسمع فيها ركزا، والرجلان يسريان متجهين إلى أقرب مخرج من مخارج مكة صوب الجنوب، لا ينبس أحدهما ببنت شفة، ولا يحس مسراهما أحد، ها هما ذان الآن قد خرجا بين الجبال، وآن لهما أن يخرجا من صمتهما ليسر محمد إلى صاحبه أنهما في الطريق المستقيم إلى ثور، ويلزمان الصمت كرة أخرى، وإن أيقنا أنهما صارا من العيون بمنجاة، فليس يدور بوهم أحد أنهما اتخذا وجهة اليمن بعد أن هاجر المسلمون قبلهما إلى يثرب، ومحمد مستغرق أثناء مسيره في التفكير، فما يكاد يحس وجود أبي بكر إلى جواره، ويتلفت ملتمسا إياه فإذا هو يسير خلفه، فينتظره حتى يكونا كتفا إلى كتف، ويعود محمد إلى تفكيره، ثم يلتمس صاحبه فإذا هو قد سبقه يسير أمامه، والجبال حولهما تشهد مسراهما وحيدين حيث لم يسر قبلهما في مثل هذه الوحدة أحد.
ويفطن محمد إلى أبي بكر يسير تارة خلفه وطورا أمامه، فيعجب ويسأله في ذلك، فيجيبه صاحبه: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، ويبتسم محمد وتفعم قلبه المسرة لإخلاص صاحبه ويسأله: يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ ويجيب أبو بكر في حماسة: نعم والذي بعثك بالحق! وترتسم على محيا محمد سيما الغبطة، ويظل في انطلاقه هو وصاحبه إلى غايتهما يسعدهما نسيم الليل الرقيق حتى يبلغا أسفل ثور ثم يندفعا إليه يصعدانه، وما كان لهما أن يتخوفا من التصعيد مشقة أو عنتا وهما من أبناء الجبال، قد ألفا خشونة العيش وألفا في المشقة النعماء المستعذبة.
ما أبهى هذه الصورة وما أعظم روعتها في نفسي! لقد انتشرت أمام ذهني وأنا في مجلسي من القمة فتعلق بها قلبي ونقشت فيه نقشا، إن كثيرا ما يسري رجلان أو تسري قافلة جوف الليل في هذا الطريق، طريق اليمن أو في طريق غيره، وقد يكون لصورة هؤلاء السراة جمالها وعذوبتها، لكنه جمال مادي وعذوبة فنية، فأما هذان الرجلان اللذان يسريان، وقلبهما مفعم بجذوة الإيمان المقدسة، فرارا بإيمانهما إلى الله ممن يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فلمسراهما في النفس صورة أخرى، صورة روحية بالغة غاية السمو، صورة من يستهين بالحياة ومتاعها، ومن لا يمسك عليها إلا حرصا على الحقيقة أن يبلغها الناس، وأولهم المؤتمرون به، وإن ناله في تبليغها الأذى وأصابه العذاب.
وبلغ الرجلان الغار، فتقدم أبو بكر فاستبرأ المكان مما حوله، ثم استبرأ الغار مخافة أن يكون به ما يؤذي الرسول، وصلى الرجلان شكرا لربهما، ولجأا إلى الغار يحتميان به ويستريحان فيه من مشقة يومهما.
بلغت هذا الموضع من الصورة الذهنية التي ارتسمت في نفسي إذ عاد صاحبي الذي لزمني في صعودي وأعانني فيه، فلما رأيته لم أمهله أن قلت له: هلم بنا إلى الغار نلتمس الدخول إليه، قال: خير لك أن تدور حوله وأن تدخل من صغرى فوهتيه، فالدخول منها آمن عثارا وإن لم يكن أشد يسرا، ودرت ودخلت ووقفت ما أتاح سقف الغار لي أن أقف، واطمأن صاحبي إلى سلامتي فتركني ومضى، وتلفت فيما حولي ثم طاب لي أن أجلس فجلست، جلست في شبه الظلمة التي تشتمل كل ما في الغار، ونظرت إلى فوهته الكبرى - وأسفت كما أسف غيري أن اجترأ أمير من أمراء المسلمين فأوسعها عن حسن نية لييسر الدخول لمن أراد - وهذه الفوهة الكبرى مستديرة، يبلغ قطرها مترا أو نحوه، أما الفوهة الصغرى فلا تبلغ نصف مساحتها، فإذا استوى الإنسان في الغار رأى سقفه يرتفع إلى حيث يستطيع أن يطمئن إلى مقامه فيه طمأنينة العابد المنقطع إلى ربه في خلوته.
Bog aan la aqoon