على هذا الجبل؛ حراء، كانت خاتمة التمهيد والتهذيب والإعداد قبل الرسالة، إذن لقد شهد حراء هذه الرياضة الروحية العظيمة منذ هدى الله محمدا إلى الحق حتى أضاء أمامه سبيل هذا الحق بنور الرؤيا الصادقة، وإلى أن أوحى إليه النبوة ليكون من بعد بشيرا ونذيرا، وليس ثمة موضع نعرفه في العالم شهد هذا كله، فلا جرم - وذلك شأنه - أن يتعلق به الذهن، وأن يتوجه له القلب، وأن تشد إليه المشاعر.
وحسبك أن تقف قبالة حراء وأن تتأمله لتذكر هذا المشهد كله، ولتراه مرتسما أمامك وكأنما حدث بمرأى منك، أو كأنما حدث منذ عهد قريب، فها هو ذا محمد يسير وحيدا منفردا حاملا من الزاد ما لا ينوء رجل بحمله، يخترق طرق مكة من جنوبها الشرقي حيث يقع اليوم شعب علي، وحيث كانت دار خديجة، إلى شمالها الشرقي حيث يقوم هذا الجبل.
وها هو ذا على سفح حراء يصعد إليه، وسيما التفكير مرتسمة على قسمات محياه، وليس فيما حوله من أسباب الحياة ما يرفه عن تفكيره أو ينبهه إلى جديد في الحياة، ويستمر في تصعيده، وزاده معه، حتى يبلغ قمة الجبل، هنالك يجد ماء المطر القليل قد اختزنته بعض أخاديد شعابه، ويجلس على مقربة من هذا الماء ومن غار قريب منه، هو مأواه أثناء نومه، ويجيل بصره فيما حوله من خلق الله، ثم يرجع البصر ويغمض عينيه الواسعتين الجميلتين إغماضة تأمل وادكار لكل ما سمع وما رأى، فإذا جن الليل وتألقت النجوم وانتشرت في قبة السماء، أجال بصره فيها، وفكر في أمرها وفي خلقها وفي خلق هذا العالم العظيم كله، وقضى أشطر الليل متأملا يقلب في صحف ذهنه كل ما يقول قومه في العالم وفي خلقه، وفي الآلهة والملائكة، وفي هذه الأصنام التي يعبدون، وينسيه التفكير نفسه، وينسيه طعامه ونومه، وينسيه الوقت ومره، ويذره متعلقا بما ينشد من حقيقة العالم والوجود والكون، ويستريح في الغار سويعات لا يلبث حين يقظته بعدها أن يعود إلى تفكيره وإلى تأمله وإلى نشدانه حقيقة العالم والوجود.
لقد كان - إلى أن مال به حبه العزلة إلى التحنث والانقطاع عن الناس - محبوبا من قومه، مقدرا بينهم لوفائه وأمانته، وقد كان مضرب المثل بينهم لبره أبناءه وحبه زوجه وعطفه على الضعيف والمحروم، وكان يشارك قريشا في أحاديثهم وسمرهم؛ يجلس وإياهم في دار الندوة إلى جوار الكعبة ، وينصت إلى حديثهم، ويراهم إذا اختلفوا في أمر ذهبوا إلى هبل فضربوا عنده بالقداح ليشير عليهم الصنم بما يجب أن يصنعوه، وكان يرى منهم قوما عرفوا بالحكمة وحسن الرأي ينظرون إلى هبل وإلى من دونه من الأصنام التي يعبدها بنو وطنهم نظرة ريبة في ربوبيتها وفي صحة عبادتها، وكان يسمع الخطباء من هؤلاء الحكماء ينادون في الأسواق التي تنعقد حول مكة إبان الحج بأن لله دينا غير هذا الدين الذي عليه قومه، ويرى قوما من أهل الكتاب يعيبون العرب لوثنيتهم ويبشرون بالنصرانية، يريدون بالعرب أن يهتدوا بهداها.
وكان قومه يسمعون لما يسمع، ويتناقلون أخبار الرهبان الذين يلقونهم أثناء رحلتهم إلى الشام في تجارة الصيف، فلا يثنيهم ذلك عن التعلق بما ألفوا من تجارة الحياة، ولا يعدل بهم عن دينهم وعن عبادتهم أوثانهم، ولا ينصرف بتفكيرهم إلى شيء غير الدفاع عما لمكة من مكانة دينية قائمة يومئذ على الوثنية، وعما تيسره هذه المكانة لها من مزيد في الرخاء وسعة في التجارة، أما هو فقد انصرف منذ عهده الأول عن عبادتها، وتاقت نفسه إلى معرفة الحق، فتعلق به ودأب على البحث عنه والتفكير فيه، وشغله هذا الدأب عن تجارة خديجة فلم يخرج فيها إلى الشام كما فعل قبل أن يتزوجها، بل كفاه منها أن أغناه الله بها، وانصرف يلتمس هذا الحق الذي شغلت نفسه بالبحث عنه والتفكير فيه، يريد أن يراه واضحا صريحا لا لبس فيه ولا غموض.
اعتزل الناس وأمعن في الانقطاع عنهم، ووجد في حراء خير مرصد روحي يمتحن به أسباب الحقيقة التي تتجلى أمام بصيرته في أناة ودقة، فإذا جاء شهر رمضان من كل عام صعد إليه واستعان بالصوم والزهد في متاع الدنيا على استجلاء الحقيقة في كل ما تقع عليه عينه أو يتعلق به حسه، وفيما يتوسمه من حياة وراء ما يقع عليه الحس أو تدركه العين، وكذلك ظل حتى أماطت له الحقيقة عن لثامها وتبدت أمامه في كل صفائها وتجردها، وصار يراها في يقظته كأنها وضح الصبح ، بهذا كله أدبه ربه، فلما تم لنفسه صفاؤها، أنزل الله عليه أول الوحي، فارتاع له وخافه، ثم أمره أن ينذر الناس وأن يدعوهم إلى الحق الذي اهتدى إليه، فصدع بأمر ربه ودعا الناس إلى الهدى.
ترى هل يأخذ بالنفس في الحياة شيء ما يأخذ بها هذا المرصد الروحي الذي تجلت الحقيقة فيه لمحمد كاملة واضحة صريحة؟! لقد وقفت أمام جبال شتى أخذ بعضها بمجامع قلبي لجماله، وبهرني بعضها بعظمته، وشدهت لما احتوى عليه بعضها من عجائب الخلق والحياة، ولقد وقفت ذاهلا مأخوذا أمام آثار شادها الإنسان تزري بالزمن وتسخر من الدهر، ووقفت معجبا أمام مراصد أقامها العلم لتزيد ما في العالم وضوحا أمام الحس، لكني لم أشعر يوما بما شعرت به خلال المرات التي وقفتها قبالة حراء أرسم من هذا المرصد الروحي صورة في نفسي، فلا يكاد يعدله شيء مما شاهدت في حياتي من عظمة الطبيعة وجلالها، ومن فن الإنسان وبراعته، مع يقيني ببساطته وبأن الصاعد إليه لن يرى فوقه إلا ما يرى فوق سائر الجبال.
ألحت علي الرغبة في ارتقاء هذا الجبل لأقف حيث كان يقف محمد، وأشهد من مظاهر الخلق ما كان يشهد، ولأرى الغار الذي كان يقضي فيه ليله، والذي نزل عليه الروح الأمين بالوحي فيه، وأفضيت إلى أصدقائي برغبتي، وأبدى جماعة من أهل مكة الرغبة في مصاحبتي؛ ليشهدوا معي ما لم يشهدوه من قبل على قربهم منه، وكان بعد صلاة العصر من يوم الجمعة موعدنا، فأقلتنا السيارة، حتى إذا كنا قبالة قصر الملك تياسرت بنا ثم انحرفت إلى مضارب جماعة من البدو لا يأبون أن يقدموا القهوة لمن شاء أن يتناولها، وقد جعلهم مقامهم بالحضر يتوقعون ما لا يتوقعه أبناء البادية من اقتضاء ما تنفحهم به مقابل تقديمهم إياها، ومقابل حراستهم السيارة أثناء مقامك بالجبل إذا صحبك سائقها.
ماذا أرى؟ لقد كان حراء ينحدر وأنا أنظر إليه من بعيد في استقامة مخروطية تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان، وها هو ذا الآن وله سفح كسفوح الجبال ، وتبدو على السفح آثار طريق لسير الناس فيه، لكن قمته أكثر استقامة من سائر ما حولها من القمم. أتراها أشد عسرا في الصعود إليها؟ سألت عن ذلك فهون القوم علي الأمر، وذكر من تسلقوا هذا الجبل من قبل أن الله يهيئ للصاعد فيه من أسباب اليسر ما لا يهيئه للصاعد في غيره من الجبال، لكننا أتينا بعد الظهيرة، وهذا السفح الذي يصعد الناس منه تطالعه أشعة شمس المغرب وينحسر الظل لذلك عنه، ولو أننا أتينا مصبحين لكان صعودنا في الظلال أكثر يسرا، على أن أصحابي ذكروا أن الإنسان يستدير في صعوده إلى الفيء حين يقترب من القمة، وأنه يرى منها عند المغيب وقرابته كل ما حول حراء إلى أبعاد نائية مما يحجبه الضوء الباهر حين الظهيرة.
وسرنا إلى السفح وبدأنا نتسلقه، بدأنا في نشاط رجونا ألا يفتر قبل الغاية، وما له يفتر والجبل أمامنا ليس بالغا في ارتفاعه ما يخاف الإنسان معه اللغوب؟! وسرنا في الطريق المألوف خلا شابا منا آثر أن يختزل هذا الطريق وأن يتسلق الجبل في استقامة تدنيه من غايته، وأنذره أصحابه أنه جاهد نفسه بهذا الصعود العنيف فمنقطع به دون القمة، ولم يسمع شبابه لإنذارهم، وانطلق انطلاقة السهم، يسبقنا مصعدا ويقف بين آن وآن فوق صخرة من الصخور يصيح بنا صيحة الفائز المنتصر، وقطعنا في تسلقنا دون ربع الساعة، ثم بدأنا نشعر بالشقة ونقدر طول الطريق الذي حسبناه من قبل قصيرا، واعتذر لي أصحابي عن سوء حال هذا الطريق وألقوا التبعة في ذلك على حكومة الوهابيين الذين هدموا قبة حراء، فصرفوا الناس عن الصعود للتبرك بها، فأهمل الطريق وساءت حاله، وزاد بنا الشعور بالمشقة، فاتخذنا من فيء صخرة حمى نستريح إليه، وعاودنا سيرنا حتى عاودتنا المشقة فاسترحنا كرة أخرى، وكلما أخذ منها الجهد ارتفعنا بأبصارنا نحزر ما بقي من الطريق إلى القمة.
Bog aan la aqoon