صلى الله عليه وسلم
وابنه إسماعيل - عليه السلام - للكعبة المعظمة، أنه بناه بأمر الله - سبحانه وتعالى، وكان الباني إبراهيم والمساعد له إسماعيل، وأنه بناه بالحجارة، وجعل ارتفاعه إلى اليسار تسع أذرع، وطوله من الشمال إلى الجنوب مما يلي الجهة الشرقية اثنتين وثلاثين ذرعا، ومن الشمال إلى الجنوب مما يلي الجهة الغربية إحدى وثلاثين ذراعا، ومن الشرق إلى الغرب مما يلي الجهة الجنوبية، أي: من الحجر الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، ومن الشرق إلى الغرب أيضا مما يلي الجهة الشمالية أي: من جهة حجر إسماعيل اثنتين وعشرين ذراعا، وجعل له بابين ملاصقين للأرض، أولهما من الجهة الشرقية مما يلي الحجر الأسود، والآخر من الجهة الغربية مما يلي الركن اليماني على سمت الباب الشرقي، وحفر في داخله بئرا تكون خزانة له؛ ولم يجعل عليه سقفا، ولا وضع على بابيه أبوابا تفتح وتغلق. والله أعلم.
رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، وجعلاه مثابة للناس وأمنا، وخلف العمالقة وجرهم إسماعيل على مكة أجيالا بعد ذلك متعاقبة ثلاثمائة سنة، فأعاد هؤلاء ثم أولئك بناءه وزادوا فيه، وأقاموا على تعظيمه والطواف به، ولم يكن أحد يجرؤ أن يأخذ من هدايا البيت المحفوظة بالبئر مخافة ما ينزل به من عقاب رب البيت، على أن السهيلي روى في الروض الأنف: أن سارقا سرق من مال الكعبة في زمن جرهم، وأنه دخل البئر التي فيها كنزها، فسقط عليه حجر فحبسه فيها حتى أخرج منها وانتزع المال منه، ثم بعث الله حية لها رأس كرأس الجدي، بيضاء البطن سوداء المتن، فكانت في بئر الكعبة خمسمائة عام فيما ذكر رزين، ولعل رزينا والسهيلي لم يقف أحد منهما على نقوش قدماء المصريين؛ إذ كانوا يجعلون الحية التمثال الحارس على أبواب المحاريب التي تكون فيها المومياء والنفائس المدفونة معها.
وبناء العمالقة وجرهم الكعبة بعد إبراهيم مختلف عليه، ومنهم من يذكر أن أول من جدد بناء الكعبة بعد إبراهيم قصي بن كلاب الجد الخامس للنبي العربي، وأنه سقفها بخشب الدوم وجريد النخيل، والمعروف أن الكعبة كانت إلى عهد قصي قائمة في الفلاة لا يبني أحد حولها إعظاما لحرمتها، فلما آل إليه أمر مكة أمر الناس فبنوا حول البيت ولم يتركوا إلا قدر المطاف.
ولم تذكر المراجع المختلفة أن أحدا تولى تشييد الكعبة بعد قصي، وقبل أن تبنيها قريش قبيل بعث محمد نبيا، إلا ما رواه تقي الدين الفاسي في كتاب «شفاء الغرام بأخبار المسجد الحرام» أن عبد المطلب جد النبي بناها، ولعله أبدع هذه الرواية ليكسب عبد المطلب بها تشريفا، فإن ما أصاب جدران الكعبة من الوهن بعد موت عبد المطلب بعشرين سنة أو نحوها لا يتفق مع هذا القول.
أما الثابت الذي أجمع عليه المؤرخون وكتاب السيرة، فذلك بناء قريش الكعبة على عهد محمد حين طغى السيل عليها ووهن جدرانها، فلما بلغ القوم مكان الحجر الأسود اختلفوا وكادت تنشب الحرب الأهلية بينهم، ثم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا؛ ودخل محمد من هذا الباب وحكم بينهم بأن وضع الحجر على ثوب رفعه أهل القبائل المختلفة من أطرافه ثم رفع محمد الحجر ووضعه مكانه من البناء.
ذكرت هذا الذي تداولته الروايات المختلفة عن بناء الكعبة وأنا بموقفي في جوفها، فلما بلغت باستعراضي إلى قيام محمد بين قومه مقام الحكم في وضع الحجر الأسود مكانه، تنبهت إلى موقفي وذكرت أن رسالة محمد وما جاء فيها من فرض الحج على الناس هي التي جاءت بي إلى هذا المكان ووقفتني هذا الموقف، واقتربت من باب الكعبة أنظر إلى ما حولها، وخيلت لنفسي صورة هؤلاء الذين رفعوا الثوب والحجر الأسود فوقه، وموقف محمد منهم وهو يقضي بينهم قضاء تطمئن له نفوسهم وتستريح إليه أفئدتهم.
وما لبثت حين ارتسمت هذه الصورة أمامي أن انتقلت فجأة أرى صورة أخرى تنبعث أمامي واضحة المعالم، ممتلئة حياة وقوة، كلها الروعة وكلها الجلال؛ تلك صورة محمد والمسلمون من حوله يوم فتح مكة، فها هو ذا ممتط ناقته القصواء يجيء متجها إلى الكعبة وأصحابه من ورائه، ومن ورائهم عدد من سادة مكة وكبرائها، ويطوف رسول الله بالبيت سبعا، ثم يقف أمام بابه فيدعو السادن ليفتحه له، ويفتح عثمان بن طلحة الباب فيقف محمد فيه وقد تكاثر الناس من حوله، فيخطبهم ويتلو عليهم قوله - تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ، ويسأل أهل مكة فيقول: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ فيقولون: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، ويجيبهم: فاذهبوا فأنتم الطلقاء.
ويدور فيلقي ببصره إلى جدران الكعبة وهو واقف من بابها مثل موقفي الساعة فيرى هذا الهيكل الذي أقامه إبراهيم وإسماعيل هيكلا للتوحيد قد انقلب هيكلا للوثنية والشرك، فلم تبق من ثم له بساطته ولا بقيت له مهابته وقوته، عبث الفن بجدرانه وبجوفه، فأنشأ من الصور والتماثيل ما يأخذ النظر إليه والفكر إلى تقدير دقة صنعه عن التفكير في وحدانية الله - جل شأنه - وفي قوته وقدرته، نقشت على الجدران صور الملائكة نساء ذوات جمال، فصارت هذه الأرواح النورانية ذات كيان مادي يطغى على المعنى الروحي فيها، وصور إبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم بها، وصور النبيون من حوله في أوضاع مادية كوضعه، وفي جانب وضع تمثال حمامة من عيدان، وقام الصنم هبل في جوف الكعبة تحف به هذه الصور على جدرانها، وهو على صورة الإنسان قد صنع من العقيق إلا ذراعا له كسرت فأبدله القرشيون منها ذراعا من ذهب، وشدت أصنام كثيرة بالرصاص إلى جدر الكعبة، ولبعضها من جمال الفن بعض ما لهبل.
Bog aan la aqoon