من لي بأن يدرك المسلمون هذا الذي فاتهم، وأن ينفضوا عنهم جمود الأثرة، وأن يجعل كل منهم إلهه الله لا يشرك به هواه ولا يشرك به أحدا، وأن يذكروا أنهم إخوة، أخوة إيمان وعبادة؟! إن يفعلوا فقد آن للزمن أن يرتفع بهم إلى السماك كما ارتفع بهم من قبل، وأن يجعلهم هداة الإنسانية، ويومئذ يتم وعد ربك فينصر دينه على الدين كله.
ما عسى أن تكون صلاة الجمعة بالحرم يومئذ؟! فيومئذ يؤمه حين الحج أضعاف من يؤمه اليوم من المسلمين، ويومئذ يؤمه أولو الرأي والعلم منهم ومن يريدون أن يشهدوا في الحج منافع للأمم الإسلامية كافة، ويومئذ يؤمونه والروح مبعث إيمانهم وقوام نظامهم، والمحبة الصادقة رباط وثيق بينهم، هؤلاء جميعا إذ يقفون في الحرم منادين: الله أكبر، يحمدون الله، وإياه يستعينون، يكونون قلبا واحدا وجنانا واحدا وقوة واحدة، أية قوة في الأرض لا تحدق إلى هذه القوة مطأطئة إكبارا وإعجابا؟! بل أية قوة في الأرض لا تسير وراء هذه القوة في الخير والحق والجمال والسعادة والسلام؟!
هل لي أن أرى ذلك اليوم؟! لشد ما أسعد به إن رأيته! فإن مت قبله فما أسعد روحي به يوم يتحقق، وما أشد ما تهتف روحي يومئذ: الآن عاد للإسلام مجده!
والمجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام.
في جوف الكعبة
منذ فرغت من شعائر الحج وعدت إلى مكة كان الدخول إلى جوف الكعبة في مقدمة أغراضي، لكن كثرة تجوالي بمكة وما حولها، وذهابي أثناء ذلك إلى الطائف، أجل قيامي بهذا الواجب حتى غادر أكثر الحجيج أم القرى، ولقد أجله كذلك أن الحجيج لا يفتئون طيلة مقامهم بالبلد الحرام يلتمسون المثوبة من رب البيت بالدخول إلى جوفه، وهم يدخلون الكعبة زمرا؛ فإذا احتوتهم لم يجد من يكون بينهم فرصة تفكير أو استجمام، فلما خلت مكة من غير أهلها وآن لي أن أغادرها، فكرت في تحقيق غرضي بإتمام هذه الزيارة، وقيل لي يوما: إن سادن الكعبة يفتح بابها بعد صلاة الظهر، فأقمت بالمسجد أنتظره؛ لكنه لم يحضر إلى العصر ولم يفتح الباب لداخل بقية ذلك اليوم، إذ ذاك رجوت مضيفي أمين العاصمة فكتب إلى الشيخ الشيبي ينبئه بما أريد، ورد السادن ردا رقيقا ضرب لنا فيه موعدا ضحى الغد.
وذهبت في الموعد فطفت بالبيت، وصليت بمقام إبراهيم وبحجر إسماعيل، ثم عدت إلى المقام قبالة باب الكعبة أنتظر فتحه، وكان مطوفنا يتنطس أخبار السادن خيفة أن يطول بنا انتظاره، وأقبل الشيخ الشيبي بعد سويعة في لباسه الضافي، وسار خدم الكعبة من ورائه، ورآهم الناس فتفرجوا عند الباب، ووضع الخدم السلم وصعدوا عليه، وفتحوا باب البيت ودخلوا إليه، ولم يؤذن بالدخول لغيرهم، وسألت في ذلك فعلمت أنهم يكنسون الكعبة ويطلقون فيها البخور، ولما أتم القوم واجبهم وقف السادن بالباب وأشار إلي، فتقدمت نحو هذا الدرج الذي يوضع كلما فتحت الكعبة ويرفع بعد تمام زيارتها.
تقدمت ممتلئ النفس خشوعا وإكبارا، أنا أعلم مما قرأته أن الكعبة ليس بداخلها شيء منذ طهرها النبي العربي من الأصنام يوم فتح مكة، ولقد دخلت قبل اليوم هياكل ومحاريب من آثار مصر يرجع تاريخ بنائها إلى بضعة آلاف من السنين، كما دخلت متاحف ومعابد في بلاد أوروبا المختلفة، ولقد كنت أشعر في الكثير من هذه الأماكن بالهيبة والإجلال، لكن شعوري ساعة تقدمت لأصعد إلى الكعبة كان غير هذا الذي شعرت به في هذه الأماكن ، كان شعورا قويا عميقا آخذا بمجامع القلب، صادرا من أعماق الروح، ملك علي كل وجودي فجعلني أتعثر في مشيتي وأنا أخطو إلى الدرج وما أكاد أرفع بصري إلى باب الكعبة، وكيف لا يأخذني الخشوع والإكبار وأنا أصعد إلى بيت الله، وأنا أؤمن بأن الله أكبر من كل كبير في الأرض وفي السماء؟!
وصعدت الدرج ودخلت البيت العتيق، وتلقاني الشيخ الشيبي أول دخولي فحياني هشا بشا، وأشار لي بيمناه إلى علامتين في إزاء الجدار الذي يقابل الباب، وقال: هنا يصلي الإنسان ركعتين في المكان الذي صلى فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتقدمت نحو المكان أصلي ركعتين، وما أذكر أني شعرت في حياتي بمثل ما شعرت به في هذه اللحظة من غبطة ورضا، تباركت ربي! أأقف أنا الآن حيث كان يقف عبدك ورسولك، وأعبدك مخلصا لك الدين كما كان يعبدك؟! ليتني أستطيع السمو بفضلك إلى هذا الرضا، ولكن غفرانك! أين الروح الذي يستطيع السمو إليك سمو من اصطفيته لرسالتك، ويطمع في أن يبلغ من الصفاء ومن الحب لبني الإنسان ما بلغ نبيك الكريم؟! وأتممت صلاتي، وبقيت في جلستي أستغفر الله وأعبده وأستعينه، ولعل السادن أدرك ما أنا فيه فتركني في استغفاري وادكاري.
Bog aan la aqoon