أقر كثيرون هذا الرأي حرصا منهم ألا تشوب سفرة «كوثر» شائبة، وكاد هذا الرأي يسود لولا أن قال أحد الحاضرين: فإذا فرض أن بكوثر عيبا يستره التحامها بالشعب ويبديه سحبها فتتعرض بسببه حياتنا للخطر، فما عسى أن يكون الرأي؟ أليس الأحكم أن ننتقل أولا إلى زمزم، ثم تجر «زمزم» «كوثر»، فإن سحبتها من الشعب وعادتا معا إلى جدة تحقق الأثر الذي تبتغيه الشركة ولم يتعرض المسافرون لخطر، وإلا عادت «زمزم» بنا إلى جدة قبل أن تضيع علينا فرصة الحج، ولم يبق على الوقوف بعرفات إلا ثلاثة أيام؟!
وسمعت السيدات هذا الحديث وكن منتحيات جانب البهو المقابل للرجال، فلما بدا لهن خوف الخطر إذا سحبت «زمزم» «كوثر» ونحن بها تقابلت نظراتهن في لمح البصر، ولم تلبث إحداهن أن اندفعت معبرة عن شعورهن جميعا تقول: لن تتحرك «كوثر» ونحن بها، فلينقلونا أولا إلى «زمزم»؛ لنكون بمأمن على ظهرها ثم ليفعلوا ما شاءوا، وإذا وجب علينا - لأننا مصريون - أن نحرص على نجاة «كوثر» وسلامتها، فواجب على الشركة أن تكون أشد حرصا على أرواحنا، كذلك قالت، ثم حدقت بنا معشر الرجال بنظرة الآمر، وأضافت: هذا رأينا، وعليكم - معشر الرجال - أن تتشاركوا فيه وأن يبلغ للمختصين من رجال الشركة.
ألقيت هذه الكلمة في حزم تجلت فيه كل مظاهر الإرادة الصلبة التي لا تلين، وأيدت السيدات قول زميلتهن في حزم كحزمها، وكان الرأي ظاهر السداد، فلم يكن إلى التردد في تنفيذه سبيل، وأجابنا ممثل الشركة بأن الأمر استقر كما أردنا، وأن تنفيذه يبدأ من فجر الغد، فقد أرخى الليل سدوله وسادت دولة الظلام.
شهدت ثورة السيدات قبل اليوم غير مرة وفي غير بلد، شهدتها في إنجلترا، وفي فرنسا، وفي مصر، لكنها كانت في هذه المرات كلها متصلة بمطالب سياسية أو قومية، فكانت العاطفة التي تدفع إليها تشوب قوتها رقة ويشوب عنفها فن يتصل بها اتصال الرقة بسجية الأنوثة، أما هذه الثورة التي بدت في أعين السيدات مذ شعرن بالخطر يهدد حياتهن وحياة بعولتهن أو ذويهن، فلم تشبها رقة ولم يسر فيها شيء من روح الفن، بل كانت كلها عنفا وقوة وحزما وصلابة، وهذا طبيعي، فالثورة القومية أو السياسية يمكن أن تنتهي إلى صلح - إن لم يحقق أغراضها - كان فيه شيء من حفظ الكرامة، أما ثورة من يدفع الخطر عن حياته وحياة من يعز من ذويه فلا صلح فيها إلا بالتسليم والنزول على إرادة هؤلاء الثائرات حفاظا على كيانهن وكيان ذويهن، وكذلك كان.
اطمأنت النفوس إلى الانتظار في «كوثر» حتى الصباح، وزاد في طمأنينتها أن بقي الجو في صفوه والنسيم في رقته، فلم نكن نخشى عاقبة تتأثر الباخرة بها وهي مائلة فوق الشعب تأثرا بالغ بعضهم أثناء النهار تقدير نتائجه، وجاء إلى «كوثر» قنصل مصر في جدة وطبيب القنصلية بها ورجال الحكومة العربية السعودية منتقلين من «زمزم» إليها مع رجال شركة مصر للملاحة، فشعرنا لوجودهم بيننا؛ كي يشاركونا مصيرنا، كأن الباخرة رست، وكأننا وإياهم في أرض جدة، وتناولوا وإيانا طعام العشاء، واتصل بيننا وبينهم حديث فيمن سبقونا إلى موسم الحج، وفي هذا الحادث ولطف الله بنا في قضائه، وفي حسن حظنا بوجود «زمزم» بجدة لتيسر انتقالنا فلا يفوتنا الحج، بهذا كله سكنت أعصابنا، وأتيح لنا أن ننال بعض الراحة بالنوم في أمن من انزلاق الباخرة إلى قاع اللج، ممتلئين أملا أن ندرك مكة قبل مغيب شمس الغد.
وابتدأ انتقال المسافرين إلى «زمزم» في بكرة الصباح، وكان الانتقال بطيئا لعدم التعاون بين المسئولين عن سرعة إنجازه، ولولا اندفاع المسافرين وانتقال طائفة كبيرة منهم في زوارق النجاة لما تم طيلة اليوم، وكمل المسافرون بزمزم في الساعة الثالثة من بعد الظهر، فتحركت بهن على هون حتى قاربت مرفأ جدة والنهار يولي، وبينما كان المسافرون في ابتهاجهم بقرب نزولهم إذا قرار السلطات المحلية في هذا الأمر يحيل ابتهاجهم تجهما؛ فقد خشيت هذه السلطات أن يصيب «السنابك» التي تنقل المسافرين من الباخرة إلى الشاطئ ما أصاب «كوثر» حين مرور هذه السنابك بين الشعاب في ظلمة الليل، فقررت مبيت المسافرين بزمزم، ولم يستثن من هذا القرار إلا الأميرة خديجة حليم وحاشيتها، واستثنيت أنا منه لكوني ضيف وزير المالية العربية الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان، فتركنا الباخرة مع رسوله إلي ونزلت ومن معي إلى «اللنش» لينقلنا إلى الشاطئ.
وانطلق «اللنش» مخلفا وراءه «زمزم» ومن بها، وإني ليتنازعني ساعة انطلاقه عاملان: عامل الأسف لمقام إخواني على الماء ليلة أخرى، وعامل الغبطة لإدراك مكة والبيت الحرام ولقضاء العمرة طوافا وسعيا، ولقد تنازع هذان العاملان نفسي مذ علمت أني مغادر «زمزم» قبل إخواني، وكان عزيزا علي أن أفارقهم أو أتقدمهم وقد قضينا سفرا نعمت معهم فيه بخير رفقة، لكنهم رأوا الأميرة وحاشيتها يسبقونهم فشجعني بعضهم على النزول، وكأنما رأوا فيه مظهر مساواة بين الطوائف، أو شبهة مساواة على الأقل.
وجرى بنا «اللنش» بين الشعاب قاصدا إلى الشاطئ والشمس وراء ظهورنا تنحدر إلى مغيبها، واتشحت اللجة الزرقاء الأديم بوشاح المغيب، فلم نأبه لها، وقد شغلنا عنها باستعجال غايتنا، ومررنا بباخرة محطمة غرقت في الماء فليس يبدو منها إلا أعلاها، تلك هي الباخرة الفرنسية «آسيا» التي احترقت منذ سنوات أثناء وقوفها حيث هي اليوم من غير أن تصطدم بشعب أو يصادفها غير الأجل الذي سلط ألسن النار عليها، وسرى إلينا نسيم المغيب فوق لجة الماء فأنعشنا وأنسانا بعض وصب النهار، وتلوى الزروق في انطلاقه متيامنا حينا متياسرا حينا، محاذرا الشعاب، مطمئنا إلى مهارة سائقه وإلى معرفته ما تحت الموج إلى قاع اللج معرفة يأمن معها الاصطدام بالسامري أو غير السامري من هذه الشعاب.
اقتربنا من جدة وبدت لناظرنا دورها وعماراتها، وازدادت وضوحا على رغم نزول الظلام، وكان مظهرها يغري بالظن أنها خططت تخطيطا جميلا وبنيت على الطراز الحديث، وذلك الشأن في كل ما يبدو للمقبل في البحر من مظاهر اليابسة، فإذا اقتحمناه كنا كالجراح إذ يقتحم بمشرطه جسدا جميلا، وشاهد «نابولي» أو «مرسيليا» أو «بيروت» قبل أن ترسو الباخرة بها يرى جمالا أدنى إلى جمال المرأة في ثياب زينتها، وأحسب الذين لم يعرفوا من ذلك ما عرفت قد خدعوا بمظهر جدة، وكان من حقهم أن يخدعوا بهذه المباني التي تمتد أمامهم على الشاطئ أميالا عدة في نظام زاده البعد اتساقا وجمالا.
وأرسى «اللنش» على درج صعدنا منه إلى الشاطئ، ولم يثر إحرامنا تطلع أحد؛ إذ كان الإحرام لباس عشرات الألوف الذين يفدون إلى جدة كل عام حاجين، وتناول رسول وزير المالية جوازات سفرنا، وتخطينا بناء الجمرك ولا يكاد يرى الإنسان أثناءه طريقه لضآلة نور المصابيح المعلقة إلى جدرانه، وتفضل رسول مضيفنا فأمر من تقدمنا بمصباح ذي نور أبيض، وأفضى بنا الجمرك إلى ميدان فسيح لولا نور القمر لتعذر علينا أن نصل منه إلى جانب وقفت السيارات فيه، وقد أعدت إحداها لتقلنا إلى أم القرى.
Bog aan la aqoon