صلى الله عليه وسلم : «لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر يوم بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم.» ومنهم جماعة وهبوا حياتهم لله ولإخوانهم المسلمين فاستشهدوا في سبيل الحق، وشهد الناس لهم في حياتهم بالتقوى، فلهم عند ربهم مغفرة وأجر كريم، ومن بينهم جماعة من العلماء الذين توفروا حياتهم على العلم مخلصين له وجوههم لا يبغون به غير الحق مرضاة لله؛ من هؤلاء مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي وعالم المدينة العظيم، والعلماء ورثة الأنبياء ما أرادوا بعلمهم الحق وهداية الناس له، أما وذلك شأن الثاوين في هذا المكان فلم يغل من سماه جنة البقيع، ولم يغل من رفع القباب على قبور أصحابه لو أنه قصد منها إلى الإشادة بذكرهم لتكون للناس على كر العصور مدكرا وعبرة.
يقول «برخارت» في كتابه وصفا لهذا المكان:
1 «في اليوم الذي يلي أداء الحاج واجباته للمسجد والحجرة تجري العادة بذهابه إلى مقبرة المدينة تكريما لذكرى القديسين الكثيرين المدفونين بها، وهي تجاور أسوار البلد على مقربة من باب الجمعة، وتسمى البقيع، صورتها مربع مكون من بضع مئات من الأذرع يحيط به جدار يتصل من الجنوب بضاحية المدينة وتحيط به من سائر نواحيه مزارع النخيل، وهذا المكان حقير جدا بالنظر إلى قداسة الأشخاص الذين يحتوي رفاتهم، ولعله أشد المقابر قذارة وحقارة بالقياس إلى مثله في أية مدينة شرقية في حجم المدينة، فليس به قبر واحد حسن البناء، كلا بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة اتخذت غطاء للقبور، إنما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة، وقد اتهم الوهابيون بأنهم الذين دمروا القبور، واتخذ الدليل على ذلك من بقايا قباب ومبان كانت على قبر عثمان والعباس وفاطمة وعمات محمد قيل: إن هؤلاء المتعصبين دمروها، لكنهم من غير شك ما كانوا ليزيلوا أي قبر بسيط مبني من الحجر ها هنا وهم لم يصنعوا من ذلك شيئا بمكة ولا بغيرها من الأماكن، فما عليه هذه المقبرة من سوء الحال لا بد أن قد سبق عهد الغزوة الوهابية، ويرجع سببه إلى ضيق التفكير الذي جعل أهل المدينة يضنون بأي نوع من البذل إكراما لرفات العظماء من بني موطنهم ، فالمكان كله مضطرب، يجمع أكوام التراب إلى جانب الحفر الواسعة والحثالة من غير أن يكون به حجر قبري واحد، ويطاف بالحاج لزيارة عدد من القبور ولتلاوة الأدعية المألوفة حين وقوفه بكل قبر منها، وإن كثيرين ليقصرون أنفسهم على حرفة هي الوقوف طيلة النهار على مقربة من أحد القبور الهامة وفي يدهم منديل منشور في انتظار الحجاج الذين يجيئون للزيارة، وهذه الحرفة امتياز خاص ببعض الفراشين من خدام المسجد وأسرهم، إذ قسموا المقابر فيما بينهم ليقف الواحد منهم عند أحدها أو يبعث خادمه بديلا منه.»
هذا ما يصف به الحاج عبد الله برخارت جنة البقيع، ولقد زرتها بعد خمس وعشرين ومائة سنة من زيارته إياها فلم أجد بها بقية لبناء أو قبة على الأجداث، مما حمل التركي على أن يسمي هذا المكان جنة البقيع، ولم أجد بها أكواما من التراب ولا حفرا ولا حثالة، إنما وجدت قبورا مسواة بالأرض يحيط بكل قبر منها أحجار صغيرة تعلمه، فقد أزيل في هذا العهد الحاضر كل ما بقي من أثر لقبة أو بناء وسويت القبور بالأرض، فلولا أنك تعرف أن هذا المكان هو البقيع وأن به رفاتا خلف أصحابها على التاريخ أعظم الذكر، ولولا هذه الأحجار المحيطة بكل قبر، لخلتها فضاء مسورا لا شيء البتة فيه، لكن ما تعلمه عن الثاوين بها يجعلك تقول مع برخارت: «لقد بلغت المدينة مع الغنى برفات القديسين العظماء حتى لقد كان كل من هؤلاء يفقد جلال العناية بذاته، على حين تكفي بقية من رفات أي من المدفونين بالبقيع لتجعل لأية مدينة إسلامية أعظم الشهرة.»
زرت البقيع وتخطيت أثناء القبور، ووقفت على كل قبر وصليت على صاحبه واستغفرت الله له، ثم وقفت متأملا أتدبر ما أمامي وتناجيني نفسي: «أويموت الذين يسبقوننا إلى القبور؟! أم أنهم ينقلون من عالمنا هذا إلى العالم الآخر فتنحل أجسامهم إلى عناصرها الأولى وتبقى أرواحهم بين يدي بارئها يحاسبها على ما قدمت؟ وما قدم الذين قبلنا لا يزول بزوالهم بل ينتقل إلينا ويصبح ميراثنا عنهم ، تتأثر به حياتنا حتى لكأنهم بيننا، وحسبي أن أذكر ما في نفسي أنا المصري من ميراث هؤلاء المؤمنين المدفونين بهذا البقيع ليثبت يقيني باتصال الوحدة بيننا وبين الذين سبقونا، ليكن مذهبي الإسلامي شافعيا أو حنفيا أو حنبليا، فأنا قد تأثرت وتأثر أمثالي لا ريب بمذهب هذا الفقيه العظيم مالك بن أنس الراقد في هذا البقيع، وليكن هواي السياسي في الحياة الإسلامية علويا أو أمويا فأنا تأثرت بلا ريب بهذا الخليفة الكبير عثمان بن عفان، وبزوج هذه الراقدة ها هنا فاطمة ابنة النبي وبابنيها الحسن والحسين، وهذه الأسرة الكريمة أسرة رسول الله، وها هنا منها رفات زوجاته وبناته وعماته، قد تركت من الأثر في حياتي أبلغه وأعمقه، تغير اتجاه تفكيري على السنين غير مرة ولم يتغير ما ترك هؤلاء جميعا في النفس من أثر آيته أنني كنت وبقيت أحني الرأس إكبارا وإجلالا لدى ذكرهم وحين الحديث عنهم.
كم مرة جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى هذا المكان؟ عشرات المرات، فقد كان يجيء إليه كلما مات صاحب من أصحابه يصلي عليه ويقف حتى يواري جثمانه التراب، وكان يجيء وحده أحيانا ومع أصحاب له أحيانا أخرى، لغير شيء إلا للصلاة على من في البقيع والاستغفار لهم ومناجاتهم، فقد كان يرى الحق من أن الموت انتقال من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، وأن الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا وإن كانوا لا يتحدثون فلا يستطيعون أن يجيبونا؛ لذا سمعه أصحابه جوف الليل بعد أن نصر الله المسلمين ببدر يناجي المشركين الذين قتلوا في المعركة ودفنوا في القليب الذي حفره المسلمون لهم وهو يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا ... (واستمر يذكرهم بأسمائهم) يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟! فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.» قال المسلمون: «يا رسول الله، أتنادي قوما جيفوا؟!» فكان جوابه: «ما أنتم بأسمع لما أقوله منهم، لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني .»
وكثيرا ما ناجى أهل البقيع من أنصاره الذين استشهدوا في سبيل الله، وكان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره، فقد أرق ليلة أول ما بدأ يشكو فخرج ومعه مولاه أبو مويهبة وذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر وقال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى ...» ثم استغفر الله لهم.
وهذه آية من رسول الله في السمو بالتفكير على الزمان والمكان، وفي مقدرة من وهبه الله ما وهب رسوله أن يتصل بمن شاء الله أن يتصل بهم ممن يحجبهم الزمان والمكان، ولقد يسر لنا العلم أن ندرك اليوم شيئا من هذا حين يسر لنا أن نصل على المكان بمن شئنا عن طريق الأثير والإذاعة، وما يزال علماء يحاولون حل مشكلة الزمان بالاتصال بأرواح الذين سبقونا، ومن يدري! فلعل العلم يطوع لنا أن نتصل بهم يوما في يسر كما نتصل اليوم بمن في أقصى الأرض، وأن نراهم طي القرون كما نرى عن طريق «التلفزيون» من تحجب البحار والجبال والقارات بيننا وبينهم.
Bog aan la aqoon