والسيارة تجري، والقبة الخضراء تزداد وضوحا ويزداد النظر بها تعلقا، وها هي ذي بشائر المدينة المنورة كلها تبدو، لقد صرنا إذن منها قاب قوسين أو أدنى.
وحي المدينة
وقف حسن بالسيارة فجأة بعد أن استدار صعدا من الطريق المستقيم إلى طريق يليه، ثم مد إصبعه إلى ناحية الشرق مشيرا وقال: «هذه القبة الخضراء.» وقال صاحبي: «نعم، قبة الحرم النبوي.» ومددت بصري فإذا هذه القبة أمامي تقوم حولها مآذن ترتفع في الجو، وتحيط بها قباب أصغر منها حجما، ولم يعلق النظر بالمآذن ولا بالقباب الصغرى إلا ريثما ارتسمت في خاطري صورة منها، أما القبة الكبرى فقد شد إليها نظري ما يكاد يتركها؛ وقد استرعى انتباهي كل ما جل ودق من أمرها، ووجهت المنظار المقرب نحوها أريد أن أقف على تفاصيلها، ولم يكن ذلك حرصا مني على اجتلاء ما بها من دقائق الزخرف في عمارتها، ولا أملا في أن أستشف شيئا مما وراء النوافذ التي أحاطت بقاعدتها، وإنما دفعت إليه حركة نفسية مبعثها الشغف بكل ما يتصل بالرسول وقبره، وشدة التوق إلى معرفة كل آثاره.
وذكرت أن من ولاة مصر من كان لهم حظ في هذا الأثر، فقايتباي هو الذي أمر بإنشاء هذه القبة، ومن بني وطني رجال العمارة من شاركوا في تشييدها، وشعرت لذلك بغبطة أفعمت قلبي سرورا ورضا، على أني سألت نفسي: «فيم الغبطة أن يأمر وال مصري بتشييدها؟! وإنما شأنه في ذلك شأن كثيرين من أمراء المسلمين وملوكهم ممن لهم في عمارة هذا المسجد حظ وأثر.» لكن هاتفا وجدانيا هتف بي: «الأقربون أولى بالمعروف، وبنو الوطن هم الأقربون الأولون، وبينك وبينهم مع إخاء العقيدة الروحي إخاء القربي وإخاء التاريخ والشركة الوثيقة في أرض الوطن ونهره وسمائه.»
وتنطلق القبة بشاهدها المدبب في السماء، ويلمع على سطحها الأخضر وهج الشمس الوضاء، فيزيدني منظرها تعلقا بها حتى ما أكاد أجد لي منصرفا عنها، وتتقدم السيارة في الطريق وتتلوى مع بعض أجزائه فتغيب القبة عن ناظري وتقوم أمامها أبنية متواضعة حينا وهضاب قليلة الارتفاع حينا آخر، ويذكر صاحبي بعض ما يعرف من أمر هذه الأبنية وهذه الهضاب وأسمع له، لكن القبة تبقى مع ذلك مرتسمة أمام ذهني وكأن لم تغب عن ناظري، أليست القبة منارة القبر الذي يثوي فيه رسول الله؟! أوليست المدينة هي التي أوى إليها فنصرته من يوم هجرته إلى أن اختاره الرفيق الأعلى؟! فما الجبال وما الهضاب وما الأبنية التي يحدث عنها صاحبي إلى جانب ما تحدث القبة عنه مما يملأ القلب روعة وهيبة وجلالا؟!
وذكرت ما دار بخاطري من يومين وأنا بمجلسي من المسجد الحرام بعد طواف الوداع، وقلت في نفسي: إذا كانت مكة مدينة السلام فهذه المدينة لا ريب مدينة الجهاد، كذلك كانت يوم هاجر النبي إليها، وكذلك بقيت من بعده طيلة عهد خلفائه الراشدين. هذان وصفان أفاء الله أحدهما على مكة، والآخر على المدينة، فبقي لهما على عهد النبي، لم يتغير ولم يتبدل، وكان حقا أن يبقى ما بقي للمسلمين على الأرض سلطان، ولقد فتح الله مكة على محمد وعلى المسلمين، فخشي الأنصار العاقبة وقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ وكان جواب النبي حين علم ما قالوا: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم»، ولما قسم محمد فيء حنين ورأى الأنصار كيف تألف النبي أبناء مكة وكيف أجزل لهم العطاء، ظنوا أنه سيقيم بينهم، وقال بعضهم لبعض: لقي والله رسول الله قومه، فكان مما تحدث به إليهم حين بلغته قالتهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟!» ومن قبل جنح الرسول إلى السلم عام الحديبية لم يثنه عنه تحرش أوشاب مكة بالمسلمين ولا غضب أصحابه من تجهز أهل مكة لقتالهم.
أما المدينة فبقيت بعد الفتح كما كانت قبله، مدينة الجهاد، منها وجه النبي قواده بعد الفتح إلى ناحية الروم في غزو تبوك، ومنها جهز جيش أسامة بن زيد كي يأخذ بثأر أبيه من قتل الروم إياه في غزوة مؤتة، ومنها كان قد جهز قواده قبل الفتح في بدر وأحد وقريظة وخيبر حتى ضم العرب جميعا في دين واحد وتحت لواء واحد، أما مكة فبقيت حراما كما كانت منذ أقيمت قواعدها لم يسفك فيها دم ولم يعضد فيها شجر، وبقي شعار الذين يدخلونها ويؤدون التحية لبيت الله فيها: «ربنا منك السلام، وإليك السلام، حينا ربنا بالسلام.»
أدت بي هذه الموازنة بين البلدين وما أفاء الله على كل منهما من حظ إلى التفكير في الإسلام، أدين سلام هو أم دين جهاد؟ وأعانني على التفكير ونحن على أبواب المدينة أنا وقفنا ننتظر «البكس» حتى لا يقفه الموكلون بأسوار المدينة عند بابها، فللمدينة، فيما ذكر لي أصحابي، سور وأبواب، ولا يتخطى أحد إليها إلا أن يبرز جواز مروره لحراس أبوابها، وأدى بي تفكيري في هذه السويعة إلى أن الإسلام دين سلام في بدئه وغايته، وأنه مع ذلك دين جهاد متصل في سبيل السلام، فقد نزل الوحي الأول في بلد السلام على غار حراء، وقد أكمل الله للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته في بلد السلام بعد حجة الوداع، وكانت الدعوة إلى هذا الدين عن طريق الجهاد السلمي في بلد السلام حتى الهجرة، فلما لم يجب أهل مكة داعي السلام، وأعرض عنه رجال القبائل الذين يجيئون حاجين بيتها، هاجر النبي إلى يثرب جهادا في سبيل السلام، وكانت خطته أن يدعو إلى السلام وأن يذود عن حياضه من يريدون أن يصرفوا الناس عنه، وإن اقتضى زيادة نضالهم وقتالهم، ومن ثم كان ما حدث من مغاز وسرايا أثناء مقام الرسول بيثرب جهادا في سبيل السلام لا يبلغ غايته حتى يظل الناس كافة بلوائه، فإذا آمنوا أصبحوا إخوة وتحابوا بنور الله بينهم وبلغوا بالإنسانية الكمال الذي تنشده، وهذا الكمال هو الإيمان عن علم بالله - جل شأنه، والبلوغ عن طريق العلم إلى معرفة سنته في الكون، فهذه المعرفة هي التي تزيد الإيمان تثبيتا وتجعل طريق الإيمان ضياء ونورا.
الإسلام إذن هو الجهاد في سبيل السلام؛ سلام الروح للفرد من طريق الرضا عن علم، وللجماعة عن طريق التحاب في الله وبنور الله، وللإنسانية كلها من طريق الأخوة التي تدعو المرء ليحب لأخيه ما يحب لنفسه، ذلك هو الكمال الذي يدعو الإسلام إليه، وإلى الجهاد في سبيله، وطريق الجهاد شاق طويل لمن يظنون الحياة تبدأ بميلادهم وتنتهي بموتهم، وجيز هين لمن يبتغون الدار الآخرة دار السلام والرضا، ويرون للإنسانية كلها من الوحدة في حياتها ما للفرد من الوحدة في حياته، أولاء يرون في الجهاد ما يرون في السعي والعمل من عبادة لله وتقوى إياه يثاب العامل عليها ويجزى الجزاء الأوفى.
الإسلام جهاد في سبيل السلام، وجهاد المرء نفسه لينعم روحه بالسلام ليس دون جهاد الجماعة من يحاول العدوان عليها والحد من حريتها في سعيها وعملها، فحياة الفرد موجز كامل من حياة الجماعة ومن حياة الإنسانية، والسعيد من لم تخدعه المسرة العاجلة ولم تحل بينه وبين إشراق الروح بالمسرة الدائمة وضياء القلب بالمعرفة في أكمل صورها، والجماعة السعيدة من عرفت طريق الحق والعدل المجرد من الهوى، ولم تخدعها المذاهب الزائفة، ولم تدفعها إلى طريق البطش الغرور الذي يجعل الحياة نضالا على متع العيش ولذاذاته، والذي يسخر الجيوش ويجند ليسلب القوي طعام صاحب الحق في هذا الطعام.
Bog aan la aqoon