وجاوزنا الوهط إلى الوهيط القريبة منها والتي تشاركها في أن أهلها من ثقيف، وبالوهيط بستان كبير للشريف عون الرفيق يكاد يكون خلاء من الزرع لولا شجرة كبيرة من شجرة «اليوكالبتس» كان عون الرفيق قد جاء بها إليه، وهو يسقى من عين جارية تنحدر إليها المياه من سفوح الجبال القائمة على مقربة من البستان، والتي تميز طبيعة الوهيط عن طبيعة الوهط السهلة الفسيحة الرحاب في جوانب الوادي.
وانطلقت السيارة في طريق يقع أسفل جبل برد ويدور معه حتى يبلغا الموضع الذي يصعد منه الصاعد إلى الشفا، ووقفنا في منتصف هذا الطريق عند صخرة تفصل بين قريش وهذيل وسفيان؛ سفيان في الشرق وهذيل في الجنوب وقريش في الغرب، ونزل إخواني وحاولوا قراءة ما على هذه الصخرة من آثار لم أعن بمشاركتهم في قراءتها؛ لأنني لا أثق بقدمها؛ ولأنها إن تكن قديمة في حاجة إلى دراسة ليست في نطاق ما أقصد إليه من بحوثي، فلما رأى أصحابي انصرافي عن هذا الأثر عدنا إلى السير حتى بلغنا مكانا انفسح فيه الوادي، هنالك نزلنا، فإذا الدواب في انتظارنا، على أننا رأينا على مقربة منا خلايا للنحل زرناها، فإذا هي تذكرني تربية النحل عندنا في أوائل هذا القرن المسيحي؛ ولعلها هي الطريقة التي كانت تتبع في تربيته منذ قرون ترجع إلى أوائل الدهر.
ركبنا الدواب وسرنا في دروب بدأت سهلة مريحة، ثم بلغ من وعثها ووعورتها أن صار النقب الأحمر جنة بالقياس إليها، وطال الطريق، وبعدت الشقة، ونالني الجهد، وكدت أوقن أنا لن ندرك لهذا الجبل غاية، وكم مرة جال بخاطري أن ألوي عنان دابتي لأعود من حيث أتيت لولا أن غلبني الحياء! ويترجل الشريف حمزة الغالبي عن دابته ويسير إلى جانبي يشجعني إذا استقام الطريق، ويعاونني في المنحدرات وفي المرتقيات المخوفة، ويحاول أن يرفه عني ويهدئ ثائرة أعصابي، والطريق يطول ويزداد وعورة، ولا أجد في كلمة من حمزة أملا في قرب الغاية، فتعود إلى أعصابي ثورتها وأكاد أغالب حيائي وأتغلب عليه وأعود أدراجي، وهممت أن أفعل لولا أن أكد لي حمزة أن ما بقي من الطريق دون ما قطعناه منه بمراحل.
وانتهى بي الأمر أن استسلمت للأقدار، وآثرت أن أنعم حتى بالمشقة، وأن أجني منها خير ما فيها ، وأن أنعم بهواء هذه الساعة فوق الجبل بلغ من الصفو والعذوبة ما لعله سرى عني وجعلني أستمتع بما حولي، وتكبدت الشمس السماء، وأرسلت إلى الخليقة من باهر ضيائها ما زادني بما حولي متاعا، ثم آن لحمزة أن يزف إلي البشرى بأنا لم نضل الطريق وأنا أشرفنا على الغاية منه، وبعد نصف ساعة من ذلك تبدت لنا دار مضيفنا عامر الريعي قائمة وحدها في هذا المنقطع من ظهر الجبل، ويقال مع ذلك: إنها بقرية خماس من قرى الطلحات إحدى قبائل هذيل.
وتلقانا عامر وبنوه مرحبين، ودار بينهم وبين الشيخ صالح حديث سمعته ولم أفهم منه كلمة، وجلسنا في فناء الدار عند باب غرفة لعلها الوحيدة فيها، ثم انتقلنا إلى مخزن بعيد عنها بضعة أمتار، وهناك جيء لنا بالثريد صب عليه السمن بمقدار لم أستطع معه أن أتناول منه لقمة، ولم ينحر عامر جزورا؛ لأنا بلغنا داره بعد الظهيرة، وسنعود إلى الطائف قبل أن يتاح للحم الجزور أن ينضج، واكتفيت لطعامي ببعض ما جئنا به من الفاكهة والحلوى، وجمع من شاء بين صلاة الظهر والعصر، ثم أقمنا هنيهة نستريح، وفيما نشرب القهوة أغمضت عيني ورحت أفكر فيما رأيت، فهذه البادية، التي جست خلالها أمس واليوم، بادية الخصب غزيرة الماء بديعة الهواء في الصيف غير قارسة القر في الشتاء، ونحن الآن في شهر مارس والهواء فيها رقيق ينعش النفس ويبعث النشاط إلى الحواس كلها، وما رأيت بها من سدود ضخمة لحجز المياه كي ينتفع بها الزراع وترتفع بها مياه الآبار يشهد بأن الذين عمروها وأنشئوا هذه السدود كانوا ذوي حضارة وفن يعرفان كيف يفيدان من خصب الطبيعة وقوتها على الإثمار.
وتاريخ هذه البلاد وتراجم أبنائها الذين عاشوا في عصور مختلفة منذ صدر الإسلام إلى آخر عهد بني أمية يشهد بما كان لها من أدب رائع ومن فلسفة وشعر وحكمة، كما يدل على أنها أخرجت أولي مقدرة ودهاء في الحكم وسياسة الشعوب، فماذا دهاها اليوم فصارت إلى ما أرى من اضمحلال الثروة وتهدم المنشآت وجهل الناس وفساد الأمر فيها؟! كيف هوت من مرتبة الحضارة الرفيعة إلى هذه المراتب الأولى من البداوة، وكيف تعطل علمها وفنها فتحطمت فيها كل آثار العلم والفن؟! وكيف ذهبت لغتها العربية الصميمة الصحيحة وحلت محلها هذه الرطانة البدوية التي لا يصل بينها وبين العربية الأولى نسب؟!
ذهبت هذه الحضارة وذهب العلم والفن معها منذ تقلص السلطان من هذه البلاد، ومنذ هجرها أبناؤها ذوو السلطان إلى بلاد أخرى، فمن يوم انتقل الأمويون إلى دمشق، ومنذ استقر العباسيون ببغداد، والفاطميون بالقاهرة، حكم على هذه البلاد العربية بالاضمحلال والانحلال، أغرقت أول عهد الأمويين بأموال الفتح، وفاتها من أول عهد الأمويين شرف الفتح وفخاره، ملك ثروتها أبناؤها العرب الذين ارتحلوا عنها وأقاموا بعواصم الإسلام دون تفكير في العودة إليها، وما يغني المال إذا ذهب السلطان؟! وما يغني الماضي إذا تقلص ظل الحاضر؟! وكيف ينمو المال إذا غاب عنه رب المال؟! لذلك لم تلبث تلك البلاد التي كانت حاكمة فانقلبت محكومة، وكانت سيدة فصارت مسودة إلا قليلا، حتى تقلص عنها ظل النعمة إلى غيرها، وحتى انتقلت منها العروبة إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر، وبقيت لها البداوة الساذجة والأعرابية التي فقدت كل مقومات الحضر العربي.
ثم كان الانحلال الذي بدأ منذ الأيام الأخيرة من العهد العباسي، والذي نقل السلطان من يد العرب إلى يد الفرس والترك والمماليك، هنالك انحلت اللغة وحلت محلها عجمة نكراء كانت بلاد العرب أول من اصطلى بنارها، فلما آل الأمر إلى الأتراك العثمانيين لم يبق لبلاد العرب من المكانة إلا أنها موطن البلاد المقدسة ومكان بيت الله وقبر رسول الله؛ من ثم أصبحت أدنى في نظر الحاكمين إلى أن تكون بلادا أثرية، فصار الرأي فيها أن تتجرد من زخرف الحياة كما يتجرد الحاج بيت الله من زينة هذه الحياة، بذلك غاضت قوة الحياة في البلاد العربية جميعا وأصبحت كلا على غيرها في كل مرافق الحياة، وما حاجة من أصبح كلا على غيره إلى السعي ؟! وما حاجة من لا يسعى إلى العلم أو الفن أو الحضارة؟! وتعاقبت القرون ونفسية أهل هذه البلاد هذه النفسية، وروحهم هذا الروح، ونظرة المسلمين إليهم هذه النظرة، لا عجب وذلك شأنهم أن تتهدم السدود، وأن يغيض الماء، وأن يرحل عنهم العلم، وأن يعودوا إلى بداوة الجاهلية الأولى، لقد أسفت واشتد أسفي لحال هذه البلاد، وما عسى أن يغني الأسف؟! هل تراه ينهض يوما بأمة من ضعفها وانحلالها إلى مواطن البأس والقوة؟! إنما ينهض بالأمة صائح من أبنائها يحرك فيها معاني الإنسانية ويدفعها إلى الأمام تبتغي الكمال العقلي والكمال الروحي، أما وقد تحرك أبناء هذه البلاد يريدون الحياة مؤمنين بالله وبالروح وبالحق، فما أجدرهم أن يعودوا إلى الحياة وأن يعيدوا مجد الأجداد!
آن لنا أن نعود أدراجنا، فامتطينا دوابنا وسرنا في الجبل نصعد حينا وننحدر آخر، ونترجل عن ظهور المطي إذا اشتدت وعورة الطريق، وأدركنا سيارتنا وأهبنا بالسائق أن يسرع لنزور المثناة، وأسرع بنا السائق، وأدركنا المثناة والليل وشيك أن يمد على الوجود رواقه، وانحدرنا نتسلل خلال الأزقة نريد مسجد عداس لنقف حيث وقف الرسول - عليه السلام - في ساعة من أدق ساعات حياته ورسالته، ولو أني لم أقف هذا الموقف ولم أدرك هذه الزيارة لخرجت من الطائف وكأن لم أحضر إليها ولم أقف بها، وما الطائف من غير زورة لمسجد عداس؟!
في المكان الذي يقوم هذا المسجد اليوم عليه وقف رسول الله بعد أن أخرجه أهل الطائف من ديارهم وقد أبوا نصرته وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويلقون عليه الأحجار، لاجئا إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة يحتمي به من أذى هؤلاء السفهاء، وهناك جلس إلى ظل شجرة من عنب يقلب كفيه ثم يرفع رأسه إلى السماء ضارعا في شكاية وألم ويقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.» ونظر إليه ابنا ربيعة وهو في هذه الحال وطال تحديقهما به، فتحركت نفساهما شفقة عليه، فبعثا غلامهما النصراني عداسا إليه بقطف من عنب الحائط، وتناوله الرسول ووضع يده فيه وقال: «باسم الله» ثم أكل، ودهش عداس لما سمع وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد، وعلم محمد أنه نصراني نينوي فقال له: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟! قال محمد: «ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي»، فأقبل عداس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه.
Bog aan la aqoon