تقديم الكتاب
الكتاب الأول: فرض الحج
عزم السفر
بين المرفأين
العمرة بمكة
وقفة عرفات
أيام التشريق
الكتاب الثاني: البلد الحرام
مكة الحديثة
ابن السعود بمكة
الجمعة في الحرم
في جوف الكعبة
آثار مكة
في غار حراء
في غار ثور
ظاهر مكة
الكتاب الثالث: الطائف وآثارها
طريق الطائف
الطائف
بادية الطائف
أسواق العرب
الكتاب الرابع: بين الحرمين
طواف الوداع
طريق المدينة
وحي المدينة
الكتاب الخامس: مدينة الرسول
في المسجد النبوي
المدينة الحديثة
آثار المدينة
جنة البقيع
على قبر حمزة
أمام الحجرة النبوية
ظاهر المدينة
زيارة الوداع
الكتاب السادس: أوبة الرضا
بدر وشهداؤها
أوبة الرضا
خاتمة الكتاب
تقديم الكتاب
الكتاب الأول: فرض الحج
عزم السفر
بين المرفأين
العمرة بمكة
وقفة عرفات
أيام التشريق
الكتاب الثاني: البلد الحرام
مكة الحديثة
ابن السعود بمكة
الجمعة في الحرم
في جوف الكعبة
آثار مكة
في غار حراء
في غار ثور
ظاهر مكة
الكتاب الثالث: الطائف وآثارها
طريق الطائف
الطائف
بادية الطائف
أسواق العرب
الكتاب الرابع: بين الحرمين
طواف الوداع
طريق المدينة
وحي المدينة
الكتاب الخامس: مدينة الرسول
في المسجد النبوي
المدينة الحديثة
آثار المدينة
جنة البقيع
على قبر حمزة
أمام الحجرة النبوية
ظاهر المدينة
زيارة الوداع
الكتاب السادس: أوبة الرضا
بدر وشهداؤها
أوبة الرضا
خاتمة الكتاب
في منزل الوحي
في منزل الوحي
تأليف
محمد حسين هيكل
بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
تقديم الكتاب
ثلاثمائة مليون من المسلمين أو يزيدون تهفو قلوبهم جميعا إلى منزل الوحي، ويهزهم الحنين إليه، يولون وجوههم شطره خمس مرات كل يوم أينما أقاموا الصلاة، وإلى البيت العتيق تهوي أفئدتهم رغبة في أداء فريضة الحج، وإلى قبر الرسول النبي العربي يحثهم الشوق ابتغاء زيارته، ومنهم من يود لو يقف عند كل مكان وقف فيه الرسول ليتمتع ما وسعه المتاع بما توحيه هذه المواقف من جلال روحي خلقي وإنساني يأخذ بمجامع النفس، ومنهم من يدعوه تطلعه العلمي إلى البحث عن أسرار هذه البيئة العربية التي اختارها القدر، فجعل منها منزل الوحي بالتوحيد إلى محمد عبد الله ورسوله في أكثر صور التوحيد سموا وصفاء: ماذا كانت قبل الرسالة؟ وكيف كانت حياة الرسول؟ وإلام صارت على توالي العصور؟
بلاد ذلك مبلغها من عناية العالم بها جديرة بأن تتعلق بها أفئدة الكتاب والشعراء والمؤرخين والعلماء، تتلمس أسرارها وتستلهم من روحها، وهي لا ريب قد استوقفت منهم كثيرين من أهل الأمم المختلفة، بل لقد استوقفت كثيرين من غير المسلمين في مختلف العصور وفي عصرنا الحاضر، على أن ما تحتفظ به من تراث دائم الجدة، بالغ غاية الدقة في تشعبه خلال التاريخ واتصاله بأرجاء العالم المختلفة، قد حال بين طائفة من الأدباء والشعراء والباحثين وبين التنقيب في كنوز هذا التراث، وذلك لما لها في نفوس الباحثين المسلمين من قداسة روحية تصدهم عن الغوص فيها إلى غاية أعماقها، ولما يغيب من أسرارها عن غير المسلمين بسبب هذه القداسة الروحية ذاتها، هذا إلى أن ما صارت إليه بلاد العرب منذ قرون طويلة من تأخير واضمحلال قد لوى الكثيرين عنها، ومال بهم عن التفكير في أمرها، شأن الناس إذ يرغبون عن كل ما انطفأ بريقه، وإن حوى في طياته أثمن النفائس؛ ومن ثم قل ما كتب عن بلاد النبي العربي في القرون الأخيرة مما له قيمة علمية تكشف الغطاء عن حقيقة هذه البلاد واختبار القدر إياها للوحي والرسالة على نحو يقنع تفكير هذا العصر، وكان ما كتبه العلماء الأجانب بعيدا عن تناول الظاهرة الروحية التي تغير لها وجه التاريخ منذ أربعة عشر قرنا، والتي ستظل عاملا خالد الأثر في حياة العالم ما كان للقوة الروحية في توجيه العالم أثر وسلطان.
ولقد حرصت على أن أقف ما استطعت عند البحوث التي تناولت بلاد العرب من هذه الناحية، منذ بدأت أكتب السيرة وأنشرها تباعا في فصول كتابي «حياة محمد»، ولقد وفقت لبعض ما أردت في الكتب العربية التي كتبت في العصور الإسلامية الأولى، وفيما كتب بالعربية من بحوث في هذه العصور الأخيرة، كما وفقت لناحية أخرى منه فيما كتبه علماء الغرب ورجال الرحلات فيه، لكنني شعرت آخر الأمر بأنني سأظل ينقصني جوهر ما أبحث عنه إذا أنا لم أذهب إلى بلاد النبي العربي بنفسي، ولم أقف حيث وقف في أدق ما مر به أثناء حياته، ولم أمهد لذلك بأن أحيط - في حدود الطاقة - بالبيئة العامة التي نشأ فيها، وإنما كنت أفكر في هذا لأتم به بحوثي في السيرة، فأما أن أجعله موضوع كتاب مستقل فذلك ما لم يدر بخلدي بادئ الرأي، فلما ذهبت إلى الحجاز وتجولت فيه تبينت أن ما قمت به من بحوث يتعدى السيرة إلى عصرنا الحاضر؛ لذلك رأيت من الخير أن أطالع القراء بكتاب مستقل يتناول ما رأيت، ويتناول ما أحسست به حين كررت بالزمن راجعا إلى عهد الرسول، وما كان بعد ذلك من حياة المسلمين في عهدهم الأول، ثم ما أصاب البلاد الإسلامية المقدسة بعد ذلك إلى وقتنا الحاضر، مع الإشارة الموجزة إلى ما أرجو أن يكون القدر قد خطه في لوحه لهذه البلاد العربية يوم ينصر الله دينه على الدين كله.
وهذه الإشارة الوجيزة التي يجدها القارئ في بعض فصول الكتاب هي مع ذلك أول ما تحركت له نفسي منذ فكرت في الرحلة إلى الحجاز حتى استقر بي العزم عليها، من يومئذ جعلت أسأل الذين سبقوني إلى الحج عن الحال في بلاد العرب، وعما يروى من الأنباء عن الوهابيين فيها، وعن مذهب ابن عبد الوهاب وما ينطوي عليه، أبتغي بذلك التهيؤ للبحث فيما يستطاع عمله لخير هذه البلاد العربية ولخير المسلمين الذين ينزلونها، وإنما عالجت هذا البحث لما أعرفه من أثر الفوارق المذهبية بين أهل الدين الواحد في مختلف البلاد والأديان والعصور، أفيبلغ الاختلاف بين الوهابيين وغيرهم من المسلمين مبلغا يجعل العمل المشترك والتعاون عليه أمرا غير مستطاع؟ أم أن جوهر العقيدة الإسلامية في هذا المذهب كجوهرها في سائر المذاهب الإسلامية واحد لا يتغير:
قل هو الله أحد * الله الصمد * لم يلد ولم يولد * ولم يكن له كفوا أحد ؟ أما الجوهر في المذاهب الإسلامية جميعا فهو التوحيد، أما وكتاب الله هو كتاب المسلمين جميعا، فالرجاء عظيم في تعاون المسلمين على إصلاح ما يتصل بشعائرهم وعقائدهم في بلاد البيت العتيق والقبر النبوي، وفي متابعة هذا التعاون على الزمن حتى يقضي الله بأمره، ويتم على الناس نوره.
وقد استغرق التفكير في هذا الأمر كل انتباهي منذ بدأت رحلتي؛ جعلت أفكر فيه حين ركبت الباخرة، وحين نزلت جدة، وأثناء الطواف والسعي بالعمرة بمكة، وعندما ذهبت أتم فرض الحج في عرفات وأختم شعائره في منى، ولم أعجب حين رأيت الكثيرين من زملائي في الحج يشاركونني في هذا التفكير، فقد رأوا جميعا حاجة مناسك المسلمين إلى الإصلاح، فتحركت لذلك نفوسهم وعقدوا الاجتماعات يلتمسون وجوه الرأي فيه، أما أنا فقد وضعت مقترحات لبعض ما رأيت من الإصلاح ودفعت بها إلى رجال الحكومة العربية، ولعل من بين الذين سبقوني إلى الحج من صنع صنيعي راجيا ما أرجو أن يوفق الله المسلمين لغاية الخير.
على أنني لم أتبسط أثناء هذا الكتاب في بيان ما رأيت وما أرى الآن من وجوه الإصلاح؛ لأنني لم أجعل هذا الغرض غايتي الأولى من وضعه؛ ولأن شئون الإصلاح تتطور في تصويرها تبعا لما تقضي به حاجات العصر، ونحن في زمن تسرع فيه الأشياء إلى التحول، حتى لترى ما كان صالحا أمس قد أصبح اليوم عتيقا، إن حدث بعده ما هو خير منه وأدنى إلى الفائدة، لكني تبسطت في بعض فصول الكتاب في نقد ما رأيته موجبا للنقد من أحوال بلاد العرب الاجتماعية، وفي بيان الأسباب التي أدت إلى تدهور البلاد العربية والإسلامية؛ لاقتناعي بأن النقد فاتحة الإصلاح، وبأن تحري الأسرار التي أدت إلى الضعف تشخيص للمرض يسهل معه وصف علاجه.
ومع وقوفي في موقف الناقد من بعض الشئون الحاضرة في البلاد المقدسة، لقد وجهت أكبر عناية إلى آثار الرسول الكريم فيها، وجعلت جل همي أن أسير حيث سار ؛ ألتمس ما في حياته من أسوة وعبرة، وأرجو أن أقف على شيء من السر الذي هيأ هذه البلاد لتكون منزل الوحي إلى النبي العربي خاتم الأنبياء والمرسلين.
ولم أتقيد في تفكيري وتأملي أمام شيء مما رأيت بغير منطقي وعقيدتي الذاتية اللذين كونتهما الطريقة العلمية الحديثة، فأنا لا أسلم بالعقيدة الموروثة إذا لم يكن لها أساس غير ما وجدنا عليه آباءنا، ما لم أمتحنها وأمحصها، وما لم أصل من أمرها إلى الإيمان بأنها هي الحقيقة كما يسيغها عقلي ويطمئن إليها ضميري، وأنا لا أحسب الذين يدينون بعقيدة ما لغير شيء إلا أنهم وجدوا عليها آباءهم مؤمنين حقا، بل أرى واجبا على الإنسان لكرامته الإنسانية أن يحاول ما استطاع فهم ما يلقى إليه، اتصل ذلك بالعقيدة أو بالتشريع أو بالعلم والفن، فإن اهتدى إلى الحق فيه فذاك، وإلا فليلتمس الهدى عند أهل العلم وليطالبهم بإقناعه، والعالم الجدير باسم العالم هو من أقنع سامعه بالحقيقة التي اهتدى إليها عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن، فلا إكراه في الدين، ولا يماري في الحقيقة متى تبين الرشد من الغي إلا من أضله هواه.
ولقد جعلت السير في إثر الرسول غرضي من يوم أتممت مناسك الحج، فقد كنت شديد التوق إلى هذا السير من سنوات، ومذ كنت أتابع الرسول خلال الكتب أبحث فيها سيرته، وكنت أحسب السبيل ميسرة، وأني سأجد عند كل موقف من مواقف الرسول أثرا يدل عليه ويشهد به، ولم يزعزع من ذلك في نفسي ما علمته من هدم الوهابيين القباب التي أقامها من حكموا الحجاز في العصور التي سبقتهم، فالوهابيون إنما استقروا فيه لعشر سنوات خلت، وهذا زمن لا يتيح للنسيان أن يجني على آثار خلدتها أربعة عشر قرنا متعاقبة، هذا إلى أن القباب ليست كل ما يمكن أن يقام من الآثار، وإذا كنا نحتفظ في مصر بآثار ناهضت الدهر خمسين قرنا متوالية؛ فما أحرى المقيمين ببلاد النبي العربي أن يحتفظوا بآثاره وهي أقرب من ذلك عهدا، وأبلغ دلالة، وأبقى على التاريخ ذكرا ، والوهابيون هم بعد مسلمون، إن أنكروا القباب فلا ينكروا ما سواها من دواعي الذكر والأسوة.
والحق أني لم أجد مشقة في تعرف الآثار التي هدم الوهابيون قبابها، فالأسف على ما صنعوا قد جعل الذين يخالفونهم في الرأي أشد ذكرا لها وحرصا على إشهاد الناس ما حل بها، ولقد شاركت هؤلاء في أسفهم من ناحية لا يفكر أحدهم فيها، فقد كان بين هذه القباب التي هدمت آثار بارعة في الفن، لم يكن يجمل بيد تقدر الفن أن تمتد إليها بسوء، لكني إنما وجدت المشقة في الاهتداء إلى آثار لها في تاريخ المسلمين الأولين أثر بالغ، ولا ترضى أمة تقدر تاريخها أن تذرها للنسيان يعبث بها ويجني عليها، من ذلك اختلاف الأقوال على موقع حنين حيث كانت الغزاة التي تركت في تاريخ الإسلام أثرا قل كمثله أثر، ومنه اختلافهم على موقع عكاظ سوق العرب جميعا في الجاهلية وفي صدر السلام، وإنما سوغ الجهل الذي خيم على بلاد العرب من عصر العباسيين هذه الجناية النكراء، كما سوغ أمرا لا يقل عنها نكرا، فقد أقيمت آثار لحوادث وقعت وليس في التاريخ ما يدل على أنها وقعت حيث تقوم هذه الآثار، وأقيمت آثار لحوادث لا يعرف التاريخ الحق من أمرها شيئا، وتحقيق ذلك كله وبيان قيمته العلمية أمر جدير بكل من يريد الحقيقة، وقد حاولت من ذلك ما استطعت، لكن هذا التحقيق يحتاج إلى أضعاف الزمن الذي قضيته بالحجاز، ويحتاج مع الزمن إلى بحوث ينقطع لها صاحبها ليقابل بين ما جاء في الكتب المختلفة؛ لعله يبلغ من المقابلة إلى ما تستقيم به النتيجة التي يتوخاها، وليس يخامرني ريب في أن هذا العمل لو قامت به بعثة جامعية لوجدت فيه من الفائدة ومن المتاع العلمي ما تهون معه كل مشقة.
وكان حديث الآثار الصحيحة التي وقفت عندها كله البلاغة في التعبير عما تدل عليه وتوحيه إلى النفس من آي الجلال والعظمة، فجبل حراء والغار في قمته، ومسجد عداس بالطائف، ومسجد العقبة وجمرتها، وجبل ثور ومختبأ رسول الله وأبي بكر بالغار فيه، والطريق الذي سلكه النبي إلى المدينة حين هجرته من مكة، ومسجد قباء، والمسجد النبوي والآثار الكثيرة المختلفة بالمدينة، وميدان بدر حيث وقعت الغزوة الأولى بين قريش والمسلمين، هذه المواقع وما إليها كانت تثير أمام ذهني ذكريات مليئة بالحياة كأنما حدثت بالأمس، وكانت توحي إلي معاني الإكبار والإعظام وتزيدني إجلالا لهذه الأماكن في صمتها العميق لم يغير منه توالي القرون، ولقد كان ما أوحته هذه الأماكن مما حاولت تصويره في هذا الكتاب أبلغ من كل ما استطاع قلمي أن يصفه أضعافا مضاعفة.
ولقد كشفت لي هذه الآثار عن صورة لبلاد العرب حين بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق تختلف أشد الاختلاف عن صورتها في الوقت الحاضر، وتختلف عما وقر في نفس الكثيرين من صورتها في آخر أيام الجاهلية، كانت بلاد العرب يومئذ ذات حضارة لا شيء يشبهها في شبه الجزيرة اليوم، كانت مكة وبعض بلاد الحجاز مدنا تجارية عامرة مزدهرة، وكانت الطائف ذات الخصب موضع عناية من أهلها بحسن استغلال خصبها وبصيانة سلامتها، وكان أهل تهامة وأهل الحجاز أولي ثقافة وحكمة وأدب، وكان العرب على اتصال بالعالم ينقلون تجارته بين الشرق والغرب مما زادهم علما وزادهم براعة في التجارة وأساليبها، لكنهم كانوا يحيون حياة سياسية أشبه بحياة اليونان القديمة وبحياة بعض بلاد الغرب، ومنها إنجلترا، منذ قرون قليلة، كانوا قبائل ومدائن تحتفظ كل منها بوحدتها وبسلطانها، وتدفع عن حياضها كل من يحاول الاعتداء على سيادتها أو على ثروتها، فلما بعث الله النبي العربي داعيا إلى التوحيد، ألفى في هذه القبائل قوة في الجدل وصلابة في الاستمساك بعقائدهم ونظمهم، فلما هدى الله الكثيرين من أهل يثرب إلى الإسلام، وهاجر النبي إليهم وانتصر بهم، وجمع كلمة العرب تحت لواء الدين الجديد، استطاعت هذه الأمة الفتية المستعدة بحضارتها للنهوض أن تثب إلى حيث وثبت، وأن تبث في العالم حضارة هذا الدين الذي اختارها الله لتكون وطنه الأول.
كشفت لي هذه الصورة عن جانب من السر الذي كنت ألتمسه، والذي كان خفيا عني حين كنت أتصور بلاد العرب كلها - كما يتصورها الكثيرون - واديا غير ذي زرع لا تصلح مقرا لحضارة يضيء نورها العالم، كان أهلها شديدي المحافظة على عقائدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وكانوا ذوي بأس وقوة في هذه المحافظة، وقد كانت عقائدهم الوثنية تمسكهم دون الوثوب إلى دعوة العالم المفكك الأوصال يومئذ ليستظل بحضارة أجدر بالإنسانية مما كانت تدعو إليه بزنطية وفارس، فلما هدى الله العرب إلى الإسلام كانت تعاليم هذا الدين منارة الهدى للعالم، وكان النبي
صلى الله عليه وسلم
الأسوة والمثل بأدبه وخلقه وقوته على الحياة لنشر هذه التعاليم، وإحياء الإنسانية بروحها السامي، وهذه الأسوة هي ما تحدث به آثاره في بلاد العرب حديثها البليغ الذي تهتز له النفس وتسمو به الروح إلى مراتبها العليا حيث تشرق الأرض بنور ربها، ويرى الإنسان فيها فضائل الكون مجتمعة.
والواقع أن ما توحيه آثار الرسول من هذه المعاني بالغ غاية القوة، وأنت تستطيع أن تجمع هذه المعاني في عبارة موجزة: تكريس الحياة لمثل أعلى يوجه الإنسان إلى جهوده فيبلغه أو يموت دونه مستشهدا في سبيله، وحسبك أن تقف عند كل واحدة من كلمات هذه العبارة لترى الجلال والقوة والسمو على الحياة متضافرة كلها إلى خير غاية، فالمثل الأعلى في الإسلام ما هو؟ رضا الله بالبر والتقوى، وحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، صور هذه المعاني النفسية صورة مادية، واجعل منها مثلك الأعلى الذي تكرس له جهود حياتك، هذا التصوير وحده عظيم شاق يقتضيك مجهودا جسيما، أنت تريد الغنى مثلا أعلى لك، فليكن؛ لكن يجب أن تبتغي به رضا الله، وأن تكون في تحصيله برا تقيا، وألا تعامل الناس في تحصيله إلا بما تحب أن يعاملك به من أراد منهم مثل غايتك، وذاك يرى جاه الحكم مثلا أعلى له، فليكن؛ لكنه يجب أن يبتغي بالحكم رضا الله، وأن يكون فيه برا تقيا لا يعامل غيره إلا بما يحب أن يعامله الغير به إذا ولي أمره، فإذا صور المرء مثله الأعلى وجب عليه أن يسعى إليه غير وان، ويوجه إليه كل جهوده، وأن يستهين في سبيله بكل تضحية وإن كانت بالحياة، ولا عليه إن أصابه مكروه ما دام رضا الله مبتغاه، فكان لذلك برا تقيا مؤمنا بالأخوة الإنسانية، محبا لإخوانه المؤمنين ما يحب لنفسه، راجيا لهم الخير، وأن يبلغ كل من مثله الأعلى ما يود هو أن يبلغه من المثل الذي جعله نصب عينيه وغرض حياته.
لكن الأمثال العليا تتفاوت تفاوتا عظيما، وأسمى الأمثال - لا ريب - ما بعث الله به نبيه هدى للناس ونورا، ولقد بلغ من إيمان العرب في الصدر الأول بهذا المثل أن جعله كل منهم غرض حياته، وأن أخضع له كل ما في الحياة من غرض دونه، وأن كان الاستشهاد في سبيله أملا يتمنى أن يجعله الله نصيبه، فهذا الذي اتخذ التجارة حرفة له في الحياة ووقف لها جهوده كان يجعل في تجارته حظا معلوما للسائل والمحروم، وكان يهب نفسه لله يوم يدعو الداعي إلى الجهاد في سبيله؛ ذلك لأن الدين الجديد علمهم أن الأمة يجب أن يكون لها، كما يجب أن يكون للفرد، مثل أعلى، وأن المؤمنين في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة لكل منهم على الآخر ما للأخ على أخيه من حق، فيجب أن يكونوا يدا واحدة في سبيل الله يتحابون بنوره بينهم، ويبذلون في سبيله مهجهم وأرواحهم، يعلمون الناس بذلك أنه لا إله إلا هو، لا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وأنه - جل شأنه - برأ الناس ليتعاونوا على البر والتقوى حتى يبلغوا بالإنسانية كمالها، فإن بغت طائفة منهم فقد وجب عليهم جميعا أن يقاتلوا الباغي حتى يفيء إلى أمر الله.
هذه المعاني السامية هي تعاليم النبي العربي وتعاليم الإسلام، وهي ما توحيه آثاره
صلى الله عليه وسلم
إلى من يقف عندها في بلاد العرب، ولقد كان من أثر هذه التعاليم أن صارت بلاد العرب محط أنظار العالم كله في حياة الرسول وبعد اختياره الرفيق الأعلى، امتد الفتح الإسلامي في عهد أبي بكر وعمر إلى بلاد الإمبراطوريتين الرومية والفارسية، ثم تخطاهما إلى ما وراءهما من أنحاء العالم شرقا وغربا حتى بلغت الحضارة الإسلامية فيما دون المائة من السنين ما لم تبلغه حضارة غيرها في قرون متعاقبة، كان الرجل في أقصى الصين يذكر فتح العرب بلاد المغرب والأندلس، وكان المسلم في مصر وفي بلاد المغرب يتحدث مفاخرا بفتح جيوش الإسلام بلاد البوذية والكنفشيوسية، وحيثما امتد الفتح رفرف لواء الإسلام وشهد الناس أنه لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأخذوا بتعاليم الدين الجديد وتفقهوا فيه، وأبناء العرب في هذه الوثبة الأولى يتيهون فخرا بما يتم على أيديهم كل يوم من معجزات لم يتأت لغيرهم في مختلف العصور أن يأتوا بمثلها، ويكادون يحسبون أن الله قد نصر دينه على الدين كله منذ هذا العهد الأول.
وأقبل أهل شبه الجزيرة على الفتح وجعلوا يزدادون منه ثراء ويزدادون بأنعم المال متاعا، وخيل يومئذ إليهم أن العهد الذهبي الذي فتح الله لهم أبوابه لا نهاية له، وأنهم ناهلون من ورده هم وأبناؤهم وحفدتهم أبد الآبدين ودهر الداهرين حتى يرث الله الأرض ومن عليها، ولم يدر بخلد أحدهم وهو يعب من هذا النعيم أن للزمن دورته، وأن لكل يوم غده، وأن الله مغير ما بقوم يوم يغيرون ما بأنفسهم.
ولقد غيروا ما بأنفسهم فغير الله ما بهم، حتى صاروا إلى حال تبعث الحسرة إلى النفس، أنت اليوم تقطع عشرات الأميال ومئاتها فلا ترى لحضارة - بل لحياة - مظهرا، وفيما خلا المدن القليلة، لا أعرف منها غير مدن الشاطئ وغير مكة والمدينة والطائف، أنت لا تقف على الطريق المأهولة إلا عند نجع هنا ومخيم هناك، فما بالك بما سوى الطرق المأهولة مما ترامى به البادية الفسيحة؟! إنك من ذلك في مهمه لا يعرف غير الأفق حدا، وكلما أغذذت السير أو انطلقت بك السيارة تطوي الأميال إثر الأميال تراجع الأفق أمام ناظرك ولم يكشف جديدا، فإذا مر بك سانح من الطير أو ضارب في البيداء وراء بعيره سعدت بهذه المصادفة من الحياة سعادة راكب البحر شام سفينة تمخر العباب على مرمى النظر، وليس فيما يصادفك من ذلك إلا ما يزيدك حسرة على ما هوت إليه هذه البلاد من درك الهمجية، وهي التي وثب بها الإسلام تلك الوثبة فأضاء العالم بحضارة ظل ينعم بها قرونا عدة متوالية، نقل المسلمون أثناءها آثار التفكير الإنساني في اليونان القديمة وفي الهند وفي فارس، فمهد لهذه الحضارة الحالية التي ينعم العالم اليوم بها، ثم يتهم هذا الإسلام بأنه السبب في تأخر بنيه والذين يدينون به.
وقفت غير مرة إزاء هذه الظاهرة أسائل نفسي وأسائل غيري عن سببها، ولم يكن الاهتداء إلى السبب عسيرا، فهؤلاء العرب الذين وثبوا الوثبة الأولى على عهد النبي وفي صدر الإسلام قد أقام الكثيرون منهم في بلاد غير بلادهم، ولئن لم ينس الكثيرون منهم تعاليم دينهم لقد نسوا الغرض الأسمى الذي يدعو هذا الدين إليه، تفتحت لهم كنوز الأرض وتدفقت عليهم خيراتها فشغلوا بها وبتنظيم شئونها، وبذلوا في ذلك من الجهود ما حسبوه يساوي تثبيت دعائم الإيمان الصادق في نفوس الذين دانوا للإسلام، اكتفوا بأن يعلموا الناس فروض هذا الدين دون أن يفقهوهم فيه، وجعلوا غاية الفقه تنظيم علاقات المال في الحياة وفيما بعد الحياة، أما الإيمان الصادق الذي أضاء العالم ووثب بجزيرة العرب فقد اختص بالنظر فيه أهل الكلام وعلماؤه، من ثم شغل المسلمون بالحياة الدنيا عن الآخرة، وبالعرض عن الجوهر، وبحكم الناس عن سياسة أمورهم في دينهم ودنياهم؛ ولذلك كثرت الثورات وكثر الانتقاض وعم الاضطراب، واتخذ الملوك من العلماء والفقهاء ألسنة دعايتهم للدفاع عن ملكهم، كما اتخذهم الثائرون ألسنة دعايتهم لتسويغ ثورتهم، وإذ كان ما في بلاد العرب من ثروة لا يغني غناء ما في الشام وفارس ومصر والأندلس، فقد انتقل مقر الملك من المدينة إلى دمشق، وإلى بغداد، وإلى القاهرة، وإلى قرطبة.
من يومئذ بقيت بلاد العرب يحكمها من تئول إليه الخلافة وإمارة المؤمنين، ولقد حرص هؤلاء الملوك في العهد الأول على استرضاء العرب وإغراقهم في الأعطيات وفي الجاه، كذلك فعل بنو أمية، وكذلك فعل الأولون من بني العباس، ولم يكن لهم محيص من أن يفعلوا وبلاد العرب كانت بعد ذات حضارة لم تقوض دعائمها، وأبناء العرب كانوا بعد أولي الأمر في المملكة الإسلامية، فلما اشترك الفرس والتتار في بلاط بني العباس ونازعا العرب الحكم، بدأ المال ينقبض عن أهل شبه الجزيرة باعتباره حقا من حقوقهم، وبدأ الملوك والأمراء ينعمون عليهم بألوان من الإحسان مختارين مشكورين، ولم يعن أهل بلاد العرب بالتفريق بين الحق والإحسان بعد أن نزح الأكثرون من أبنائها الأصليين عنها، وحل الأجانب من رقعة المملكة الإسلامية محلهم فيها، وزاد في عدم عنايتهم بالتفريق أن بدأ الجهل يخيم عليهم كما بدأ يخيم على غيرهم من بلاد المسلمين، على أن بلاد العرب كانت أسرع من غيرها انحدارا إلى هاوية الجهل بعد أن فقدت بهجرة أبنائها العنصر الأساسي من مقومات الحياة القومية، وبعد أن نزح العلماء والفقهاء والأدباء إلى العواصم التي بعدت عن بلاد العرب حتى صارت العلوم والفنون جميعا غريبة عنها.
ولم تنهض البلاد الإسلامية المقدسة من بعد ذلك إلى يومنا الحاضر؛ لأن الدولة الإسلامية هوت إلى حضيض الجمود والجهل، فأما اليوم ففي بلاد العرب توثب إلى نهضة جديدة تكاد تضارع ما في غيرها من البلاد الإسلامية الأخرى.
وقفت عند هذه الظاهرات غير مرة أحاول تحليلها، لكني لم أقصد من هذا التحليل إلى تفصيلها، فالتفصيل يتناول تاريخ الأمة العربية الإسلامية، أو الأمم الإسلامية إن شئت، خلال ثلاثة عشر قرنا متوالية، وهذا جهد عظيم لا يتسنى لفرد أن يقوم به، وميدانه ما يزال بكرا في حاجة إلى تنظيم علمي دقيق، والغاية التي أبتغيها من وقوفي عند هذه الظاهرات لا تتناول من هذا الميدان إلا جانبا عاما يتصل ببلاد العرب، وأسباب تأخرها على القرون منذ العهد الإسلامي الأول إلى زمننا الحاضر، ثم إني لم أرد فيما ابتغيته من ذلك سرد تاريخ العرب وهجرتهم من بلادهم، أو ذكر من حل محلهم فيها، إنما اكتفيت بالإشارة إلى ذلك لأبين أن التأخر مرجعه إلى أسباب سياسية واجتماعية لا أثر للعقيدة ولا للدين فيها، وإلى أن العقيدة والدين تأثرا - كما تأثر العرب والمسلمون - بهذه الأسباب السياسية والاجتماعية، وأن من اليسير لذلك أن يعود العرب والمسلمون سيرتهم الأولى، وحسبهم أن يغيروا ما بنفوسهم ليغير الله ما بهم.
ليس هذا الكتاب إذن مرجعا من مراجع التاريخ الإسلامي، ولا شيء فيه من تقويم بلاد العرب، إنما هي وقفات وقفتها في بلاد الوحي ومنزله أستوحي فيها مواقف محمد عبد الله ونبيه ورسوله، وهناك في هذه المواقف تجردت نفسي، وسمت روحي، وكررت بالعصور والقرون أطويها، ورحت أتمثل هذا الهادي الكريم، وأتمثل المسلمين من حوله، ألتمس في ذلك الأسوة والعبرة آملا أن أشرك فيهما إخواني المؤمنين بالله وبما جاء من عند الله، ولم أتقيد في هذه المواقف بما جاء في كتاب غير كتاب الله الكريم، ولم أخضع تفكيري لحكم غيري، وما كان لي أن أخضعه وقد كنت أحس في كثير من هذه المواقف أنني بين القوم أسمع وأرى، وأتمنى لو كنت أجاهد معهم فأفوز فوزا عظيما، وما كان لي أن أفعل ثم أخدع نفسي فأزعم أنني إذ أحدث الناس إنما أقص عليهم ما رأيته وما أحسست به، في حين لا أقص إلا ما رآه غيري وما سبقني إلى تسطيره.
لقد تركت نفسي على سجيتها، تتوجه بوحي روحي وتستلهم الحق مما حولي، وتستعرض ما تستلهم على حكم عقلي وتقدير ضميري، ثم سطرت ما اجتمع من ذلك لا أبغي به إلا رضا الله وحسن ثوابه، فليقل هذا أو ذاك من كتاب المسلمين أو غير المسلمين عن أي من هذه المواقف ما شاء، وليستند في حكمه أو رأيه إلى أي سند يطيب له أن يستند إليه، إنما ذلك قول له عندي احترامه ما اطمأننت إلى حسن القصد فيه، لكن لحكمي المكان الأول من الاحترام عندي، وإذا لم يكن من حسن القصد أن نعجل بالحكم قبل أن نطمئن إليه وقبل أن تتم بين أيدينا أسبابه، وكانت العجلة طيشا غير جدير بمفكر يحترم عقله، فليس من حسن القصد ولا من احترام المفكر عقله أن ينحل نفسه حكم غيره قبل أن يمحصه حتى يطمئن ضميره إليه، ومن الجمود الذي لا يقاس إليه طيش أن نأبى تقليب الأمور على وجوهها جميعا حتى نطمئن إلى بلوغ غاية ما نستطيعه من الحق فيها.
وأقف هنا لأدفع زعما حسب الذين زعموه أنه مغمز غمزوني به بعد تأليف كتابي «حياة محمد»، حسب هؤلاء أنني انقلبت بكتابة السيرة رجعيا، وكنت عندهم قبلها في طليعة «المجددين»، وكيف لا أنقلب عندهم رجعيا وقد جعلت القرآن حجتي، وما جاء فيه عن السيرة سندي، ولم أضعه كما يقولون موضع النقد العلمي؟! وكيف لا أنقلب عندهم رجعيا وقد دفعت بالحجة ما طعن به على النبي العربي جماعة المستشرقين ومن تابعهم من شباب المسلمين؟! وكيف ساغ لي بعد ذلك أن أزعم أمامهم في «حياة محمد»، وأن أزعم اليوم ها هنا أنني طليق من القيود، عدو للجمود، نصير للبحث العلمي الحر، وأنني أومن بحرية الرأي وأعتبرها الأساس، لا أساس غيره، لمن يريد معرفة الحقيقة، هم يرون ذلك خداعا يأباه العلم والبحث الحر، وأنا بعد عندهم رجعي انقلبت إلى الجمهور أتابعه ابتغاء رضاه، وكنت قبل ذلك أتقدمه أريد توجيهه وهدايته.
وأقف لأدفع هذا القول، وما أتلمس في دفعه سبيلا غير مواجهته، لا أقول: إن قوما غمزوني بنقيضه وزعموني خارجا عن الإجماع والتمسوا الحجة لتأييد قولهم، وليس يستقيم في المنطق أن يغمزني هؤلاء وأولئك، لا أقول ذلك وأنا ما كتبت أبتغي رضا قوم أو أتقي سخط آخرين، إنما كتبت للحق أبتغيه وحده، لكني أسائل أصدقائي أحرار الرأي عن غايتنا جميعا حين ننتج: ألسنا نبتغي التقدم خطوة جديدة في سبيل الكمال؟ فالعالم يبتغي مزيدا من العلم ومن الدقة فيه، ورجل الفن يبتغي سموا في الفن وفي إلهامه، وطالب الحقيقة يريدها أجلى سنا وأعم نورا، ومن الناس من يحسب أنا نحاول من إنتاجنا أن نبلغ السعادة لأنفسنا وللعالم، ومنهم من يعتقد أن السعادة لفظ مبهم يصور الوجدان مدلوله على هوى صاحبه، وأنا إنما نحاول من إنتاجنا أن نزيد في معارف الإنسان القليلة الضئيلة حين تقاس إلى هذا العالم الذي لا يعرف الزمان، ولا يعرف المكان له حدا؛ لنطوع للإنسان أن يزداد بالكون اتصالا، وأنا بين هؤلاء، أرى رأيهم، وأعتقد كما يعتقدون أن التماس المزيد من المعرفة والطموح من ذلك إلى أبعد غاية هو وحده المطمح الخليق بالجانب الإنساني فينا.
وإنما مطمعنا حين نلتمس المزيد من المعرفة أن نسمو بهذا الجانب الإنساني في الأفراد والجماعات، ولطالما التمسنا في شرقنا الأدنى أسباب النهوض بعلمنا لنقف إلى جانب الإنسانية المهذبة لا ينكس الخجل رءوسنا، ولا يحز في نفوسنا ذلك الشعور الممض بأنا دون الغرب مكانا، ولقد خيل إلي زمنا، كما لا يزال يخيل إلى أصحابي، أن نقل حياة الغرب العقلية والروحية سبيلنا إلى هذا النهوض، وما أزال أشارك أصحابي في أنا ما نزال في حاجة إلى أن ننقل من حياة الغرب العقلية كل ما نستطيع نقله، لكني أصبحت أخالفهم في أمر الحياة الروحية، وأرى أن ما في الغرب منها غير صالح لأن ننقله، فتاريخنا الروحي غير تاريخ الغرب، وثقافتنا الروحية غير ثقافته.
خضع الغرب للتفكير الكنسي على ما أقرته «البابوية» المسيحية منذ عهدها الأول، وبقي الشرق بريئا من الخضوع لهذا التفكير، بل حوربت المذاهب الإسلامية التي أرادت أن تقيم في العالم الإسلامي نظاما كنسيا أهول الحرب، فلم تقم لها فيه قائمة أبدا، بذلك بقي الشرق مطهرا من الأسباب التي أدت إلى اضطراب الغرب الروحي وإلى ثوراته السياسية التي نشأت عن هذا الاضطراب، وبقي المسيحيون المقيمون بالشرق في جوار المسلمين في طمأنينة لا يصلون من نيران الثورات والحروب الأهلية ما كان يصلاه إخوانهم في الغرب، كان الخروج عن الكنيسة المسيحية في الغرب إعلانا للثورة على السلطان، وكانت الثقافة الروحية لذلك في قبضة رجال الدين يبرمون من أمرها ما يشاءون إبرامه، وينقضون ما يشاءون نقضه.
أما والإسلام لا يعرف الكنيسة، وأقرب الناس فيه إلى الله أتقاهم، ولا فضل فيه لعربي على عجمي إلا بالتقوى، فقد بقيت الثقافة الروحية في الشرق حرة طليقة لم تقيد إلا حين قعد الجهل بالناس؛ ففترت الأذهان، وخمدت القرائح، وجمدت القلوب، لم تعرف عصور الازدهار الإسلامي قيدا لحرية الفكر ما كان صاحبه بريء القصد يبتغي برأيه سبيل الحق، ولم يعرف المسلمون أن الذنوب يغفرها غير الله، كيف نستطيع أن ننقل ثقافة الغرب الروحية لننهض بهذا الشرق وبيننا وبين الغرب في التاريخ وفي الثقافة الروحية هذا التفاوت العظيم؟ لا مفر إذن من أن نلتمس في تاريخنا وفي ثقافتنا، وفي أعماق قلوبنا وفي أطواء ماضينا هذه الحياة الروحية نحيي بها ما فتر من أذهاننا وخمد من قرائحنا وجمد من قلوبنا.
هذا كلام واضح بين، ومن عجب أن يخفى على أصحابي فلا يرونه، وأن يكون خفاؤه سبب تثريبهم علي، ولكن لا عجب، فقد خفي هذا الكلام عني سنوات، كما لا يزال خفيا عن كثيرين منهم، وقد حاولت أن أنقل لأبناء لغتي ثقافة الغرب المعنوية وحياته الروحية لنتخذهما جميعا هدى ونبراسا، ولكنني أدركت بعد لأي أنني أضع البذر في غير منبته فإذا الأرض تهضمه ثم لا تتمخض عنه ولا تبعث الحياة فيه، وانقلبت ألتمس في تاريخنا البعيد في عهد الفراعين موئلا لوحي هذا العصر ينشأ فيه نشأة جديدة، فإذا الزمن وإذا الركود العقلي قد قطعا ما بيننا وبين ذلك العهد من سبب قد يصلح بذرا لنهضة جديدة، وروأت فرأيت أن تاريخنا الإسلامي هو وحده البذر الذي ينبت ويثمر، ففيه حياة تحرك النفوس وتجعلها تهتز وتربو، ولأبناء هذا الجيل في الشرق نفوس قوية خصبة تنمو فيها الفكرة الصالحة لتؤتي ثمرها بعد حين.
والفكرة الإسلامية المبنية على التوحيد في الإيمان بالله تنزع في ظلال حرية الفكر إلى وحدة الإنسانية، وحدة أساسها الإخاء والمحبة، فالمؤمنون في مشارق الأرض ومغاربها إخوة يتحابون بنور الله بينهم؛ وهم لذلك أمة واحدة تحيتها السلام وغايتها السلام، وهذه الفكرة الإسلامية تخالف ما يدعو إليه عالمنا الحاضر من تقديس القوميات وتصوير الأمم وحدات متنافسة يحكم السيف وتحكم أسباب الدمار بينها فيما تتنافس عليه، ولقد تأثرنا - معشر أمم الشرق - بهذه الفكرة القومية واندفعنا ننفخ فيها روح القوة نحسب أنا نستطيع أن نقف بها في وجه الغرب الذي طغى علينا وأذلنا؛ وخيل إلينا في سذاجتنا أنا قادرون بها وحدها على أن نعيد مجد آبائنا، وأن نسترد ما غصب الغرب من حريتنا وما أهدر بذلك من كرامتنا الإنسانية، ولقد أنسانا بريق حضارة الغرب ما تنطوي هذه الفكرة القومية عليه من جراثيم فتاكة بالحضارة التي تقوم على أساسها وحدها، وزادنا ما خيم علينا من سجف الجهل إمعانا في هذا النسيان.
على أن التوحيد الذي أضاء بنوره أرواح آبائنا قد أورثنا من فضل الله سلامة في الفطرة هدتنا إلى تصور الخطر فيما يدعو الغرب إليه، وإلى أن أمة لا يتصل حاضرها بماضيها خليقة أن تضل السبيل، وإلى أن الأمة التي لا ماضي لها لا مستقبل لها، من ثم كانت الهوة التي ازدادت عمقا بين سواد الأمم في الشرق، والدعوة إلى إغفال ماضينا والتوجه إلى وجهة الغرب بكل وجودنا، وكان النفور من جانب السواد عن الأخذ بحياة الغرب المعنوية مع حرصه على نقل علومه وصناعاته، والحياة المعنوية هي قوام الوجود الإنساني للأفراد والشعوب؛ لذلك لم يكن لنا مفر من العود إلى تاريخنا نلتمس فيه مقومات الحياة المعنوية؛ لنخرج من جمودنا المذل، ولنتقي الخطر الذي دفعت الفكرة القومية الغرب إليه، فأدامت فيه الخصومة بسبب الحياة المادية التي جعلها الغرب إلهه.
لم ألبث حين تبينت هذا الأمر أن دعوت إلى إحياء حضارتنا الشرقية، ومصدر الحضارة سنا الأرواح المضيئة، وقوامها وثبة النفوس القوية، والأرواح تضيء ما اتصلت بروح أقوى سلطانا وأبهر سنا، كما يضيء سلك البلاتين إذ يصهره تيار الكهرباء، وكم في ماضينا من أرواح ذات سنا باهر قادرة بقوتها على أن تبعث الحضارة الإسلامية خلقا جديدا، كما بعث فلاسفة اليونان الحضارة الغربية الحديثة، ومحمد بن عبد الله هو النور الأول الذي استمدت هذه الأرواح منه ضياءها، وهو الشمس التي أمدت كل هذه الأقمار بسناها؛ لذلك جعلت سيرته موضع دراستي في «حياة محمد»، وجعلت مواقفه في «منزل الوحي » مصدر إلهامي؛ لما تنطوي عليه من تعاليم أوحاها الله إليه، كلها السمو والقوة والجلال والعظمة، فأين هذا من تملق الجمهور أو متابعته التماسا لرضاه؟
يقول الذين يغمزونني: لك رأيك، فما لك لم تقف عند ما آخذ به المستشرقون محمدا؟! وما لك جعلت القرآن سندك الأول في السيرة، وسندك الأول في هذا الكتاب دون أن تمحص ما فيه تمحيص العلم وتنقده نقده؟! إنما فعلت لأنك خفت الجمهور فجاريته، وخشيت الناس فملقتهم، ولم تخش العلم ولم ترع حقه. غفر الله لكم أيها الصحب! وبم آخذ المستشرقون المنصفون النبي العربي؟ وما الذي نقدوا القرآن به؟ لست أريد العود إلى ما ذكرته عن ذلك في «حياة محمد» وفي تقديم طبعته الثانية، وحسبي أن أقول: إن ثلاثة عشر قرنا انقضت وتنصف القرن الرابع عشر منذ وفاة النبي ولم تستر هذه المآخذ من ضيائه إلا ما يستر كلف الشمس من ضياء الشمس، ولم يغير هذا النقد من سلطان الحق في كلام الله إلا ما تغير الرياح من سنن الطبيعة.
وها هم أولاء علماء العالم يعود اليوم أقدرهم وأكثرهم يعترفون بعجز العالم، ويقولون: ربنا، لا علم لنا إلا ما علمتنا، فإن يكن ذلك مبلغ العلماء من العلم فأخلق بالذين يتحدثون عن النقد العلمي، إذ يذكرون القرآن أن يكونوا أكثر تواضعا، وأن يخشوا الله أكثر من خشيتهم غرورهم، وأن يذكروا أن ما في النفس الإنسانية من قوى يتوسمها العلم، ولما تزل خفية عليه يعدل أضعاف ما كشف العلم حتى اليوم عنه، وأن ملايين الشموس والكواكب المنثورة في فضاء هذا العالم أضخم قوة وأخفى، وإني إن تحدثت عن شيء من هذه القوى التي لم أبلغ من العلم بها بعض ما بلغ العلماء، فليس ذلك متابعة للجمهور ولا خشية منه، ولكنه الإقرار بالضعف والعجز، وبأنا إذا وجب علينا أن نجاهد ما استطعنا لنبلغ من العلم ما يؤتيه الجهد، فواجب كذلك علينا أن نقر بأنا لم نبلغ من العلم ما يطوع لنا كل هذا الغرور.
أويجد أولئك الأصحاب - عفا الله عنهم - ما يفسرون به كيف استطاع «ماركوني»، وكيف استطاع «أديسون» أن يكشفا في عصرنا ما اكتشفا مما لم يستطعه غيرهما، وأضرابهما في العلم والمعرفة كثيرون؟ ما هذه القوة التي أرتهما ما لم يره غيرهما؟ ولماذا لم ينسج أضرابهما على منوالهما كما ينسج الصانع على غرار الصانع، والزارع على غرار الزارع؟ وهل يجدون ما يفسرون به لماذا ظل أرسطوطاليس وأفلاطون أئمة في الفكر، وقد تقدم العلم بالإنسانية نحو ثلاثمائة وألفي سنة؟ وما قولهم في الظاهرات التي يسجلها العلم اليوم، ولا يجد لها فيما اهتدى إليه من سنن الكون تأويلا؟
لا يسعك إذ تقف أمام هذه الأسماء والظاهرات إلا أن تقف موقف تواضع وإكبار، ولكن أين هذا من موقفي أمام آثار الرسول الكريم في منزل الوحي؟! ما كان أعظمه في تحنثه! وما كان أعظمه في دعوة قومه إلى الهدى، وفي صبره على أذاهم، وفي تأديبه المسلمين بأدب القوة على الحياة! وما كان أعظمه في هجرته وفي غزواته، وفي عفوه وحلمه، وفي تقواه وعدله! نعم ... ما كان أعظمه في كل صفاته وفي كل أعماله! لكن هذه العظمة التي لا تدانيها عظمة تصبح أمرا إنسانيا إذا ذكر الوحي وذكر اتصاله بربه وما رأى من آياته الكبرى، وهنا يبلغ السمو إلى حيث لا تدرك الإنسانية منه بعض المدى، ولا يسع الإنسان إلا أن يكرر قوله - تعالى:
والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى * علمه شديد القوى * ذو مرة فاستوى * وهو بالأفق الأعلى * ثم دنا فتدلى * فكان قاب قوسين أو أدنى * فأوحى إلى عبده ما أوحى * ما كذب الفؤاد ما رأى * أفتمارونه على ما يرى * ولقد رآه نزلة أخرى * عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى * إذ يغشى السدرة ما يغشى * ما زاغ البصر وما طغى * لقد رأى من آيات ربه الكبرى .
وهنا يحاول العقل أن يسمو فوق نفسه ليدرك هذا الأفق الأعلى، وهيهات أن يدركه والعلم ما يزال إلى اليوم محدود الأفق، قاصرا دون تفسير الكثير مما يقع عليه الحس، أفرجعية أن يقف الإنسان في منزل الوحي يحاول السمو إلى أن يفهم كيف كانت صورته؟! أم رجعية أن يقف الإنسان عند آثار صاحب الوحي يلتمس فيها الأسوة والعبرة؟! إن يكن ذلك ظن أصحابي فأحبب إلي بها رجعية أستسيغها.
وأدع الإشارة إلى محاولات قام بها السلف، ولا يزال العلماء من أهل عصرنا يعالجون القيام بمثلها ابتغاء الاتصال بالعالم في وحدته التي تشتمل الزمان والمكان، وإلى محاولات غيرها يبتغي العلماء بها تفسير هذا الاتصال على الطريقة العلمية الحديثة، وأدع الإشارة كذلك إلى أن المذاهب الفلسفية ترمي كلها إلى تصوير الكون بدءا وغاية، وإلى أنها تستمد هذا التصوير من وحي الحياة ما كان منها وما يكون، ما كشف عنه العلم وما يزال مطويا في سر الغيب، وهذه المذاهب تقتتل ويتهم بعضها بعضا بقصور وسائله عن درك الغاية، أو بنزوع وسائله منزعا لا يقف في حدود العلم وطريقته، بل ينحو نحو المنطق التجريدي «الميتافيزيقي» المتهم في نظر الواقعيين بالرجعية، فلو أنني حاولت هذه الإشارة لطال بي الاستطراد إلى ما لا يتسع له هذا التقديم، ثم لرأى القارئ أمثال «برجسون» - صاحب نظرية الإلهام والتطور المنشئ - يغمزون برجعية كالتي أغمز اليوم بها، وحسبي عزاء أن ما غمزوا به لم يحل بين الجمهور المثقف والعناية بمذاهبهم، حرصا من هذا الجمهور على اجتلاء الحق الذي تنطوي هذه المذاهب عليه، بل إن هذا المغمز بالرجعية ليزيدني غبطة بما لقيته بحوثي هذه من عناية القراء والباحثين بها عناية كانت الشهيدة على ما حباني الله من توفيقه في التحدث إلى الناس حديثا يرونه جديرا بالاستماع له.
على أن هذه الرجعية التي زعموا قد أتاحت لي أن أقوم في مواقفي هذه بالبحوث التي أشرت إليها عن شئون من بلاد العرب اختلفت الآراء عليها في عصور الإسلام المختلفة، وإذا لم أكن قد تعمقت في هذه البحوث؛ لأنني لم أقض بالحجاز إلا ستة أسابيع، ولم أنفق للبحث بعد ذلك من وقتي إلا ما قضت به الحاجة لتأليف هذا الكتاب، فلشد ما يسرني لو يمهد مجهودي لبحوث جامعية أدنى إلى الدقة في تصوير الحقيقة، بعد إذ بلغت أنا منها حظا أغتبط له في مسائل شتى خالفت رأي الجمهور في بعضها، وإني لأترك الحكم على هذه النتائج لمن اختصوا ببحث هذه الشئون، كما أترك لهم تقدير ما خالفت الجمهور فيه بعد أن رجعت إلى مصادر البحث العربية والأجنبية التي أتيح لي الرجوع إليها، وبعد أن استعنت في ذلك بمن أمدوني بمعلوماتهم، ومن عاونوني في تقصي المراجع المختلفة.
وليس يسعني وقد ذكرت من عاونوني، بدون التنويه في هذا التقديم بما كان لمعونتهم من فضل جدير بأطيب الثناء، وشبان الحجاز هم أول الأعوان الجديرين بشكري، والحاج عبد الله فلبي، أو سانت جون فلبي، حقيق بمثل هذا الشكر.
ولقد كان لرجال القسم الأدبي بدار الكتب المصرية من فضل معاونتي في كثير من مراجعاتي ما يستحقون من أجله أطيب الثناء، أما دقة الفن في طبع الكتاب فترجع إلى أولي الأمر في مطبعة دار الكتب، والقارئ يشاركني في شكرهم عليها.
وسأظل أذكر ما حييت ما بذله الشيخ عبد الحميد حديدي أحد رجال مكة ذوي الفضل والعلم من معاونة صادقة كان لها أبلغ الأثر في اتجاهي، وكان مضيفي بمكة الشيخ عباس قطان أمين العاصمة قد أحدث التعارف بيني وبينه ورجاه أن يصحبني، فصحبني الرجل في تجوالي بمكة وبادية الطائف، وذهب معي إلى المدينة، ولزمني حتى ودعني مسافرا من ينبع، وقد كان في صحبته رفيقا ذكيا ودليلا محيطا بتفاصيل المواقع في مكة، عارفا بما في الطائف والمدينة، وقد أعانه السيد صالح القزاز والشريف حمزة الغالبي في رحلة الطائف، وأعانه الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أعظم العون في رحلة المدينة، ولقد حرصت على الإشارة أثناء فصول الكتاب إلى ما قام به هؤلاء الإخوان الأجلاء من جهد في معاونتي جدير بكل تقدير وحمد.
أما ما كان لجلالة الملك ابن السعود ولوزير ماليته الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان ورجال الحكومة العربية من فضل في معاونتي فذلك ما لا يفي الثناء بتقديره.
وإني لأستغفر من نسيت ذكرهم من أولي الفضل ومن كانت لهم يد في معونتي، والله يجزيهم عني أحسن الجزاء.
ويزيد في تقديري لهذه المعاونة وفي ثنائي على الذين أسدوها إلي بما هم أهله أنها طوعت لي أن أقف أنا نفسي عند ما وقفت عليه من قبل في بطون الكتب، وأن أصف ها هنا ما كان لهذه المواقف من أثر مباشر في أطواء روحي، وإني لأعتبر هذه الحرية في الشعور فضلا من الله عظيما، فنحن في حاجة إلى أن نرى الأشياء في كل عصر بعين أهله، وأن نحكم عليها بما بلغنا فيه من تقدم أو تطور في العلم والحضارة، فأما أن نتقيد بما شهده السلف فذلك الجمود الذي لم يرضه الإسلام مذ بعث الله به نبيه، وذلك ما يحب أن نتنزه عنه؛ ولهذا قدمت أنني لم أتقيد أمام شيء مما رأيت بكتاب غير كتاب الله، ولم أجعل لي في التقدير إماما إلا ما رضيه العقل وطابت به النفس، ولم أخش إلا الله، وإلا ضميري فيما أفاضه الحس على القرطاس، فليغمزني من شاء بالرجعية، وليتهمني من شاء بمخالفة الإجماع، وليقدر هذا المجهود من شاء بما يشاء؛ فإنما أبتغي به الجزاء من الله يوم تجزى كل نفس بما كسبت ولا يعرف حميم حميما، والله وحده عليم بذات الصدور.
وأختم هذا التقديم راجيا أن يثمر هذا العمل من تقدير قومي ما يدعو جامعات الشرق العربي، وما يدعو الكتاب إلى مزيد من العناية بهذه البلاد الإسلامية المقدسة، ودراسة حاضرها وماضيها دراسة علمية دقيقة، وما يدعو المفكرين والساسة أولي العزم ليعملوا على إصلاح هذه البلاد، وليتخذوا من مكة أم القرى مقرا لعصبة أمم إسلامية، ألا لو فعل هؤلاء وأولئك ليكونن عملهم أعظم فوز لهذا الكتاب، وليكونن فتح الله يومئذ للمؤمنين مبينا.
محمد حسين هيكل
الكتاب الأول
فرض الحج
عزم السفر
وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت .
في هذه الكلمات الحكيمة تمثل شعور الكثيرين من أصدقائي منذ أعلنت عزمي على الرحلة إلى الحجاز حاجا حتى ودعوني مسافرا، وفيها كان يتمثل شعوري لو أن أحدا حدثني عن هذه الرحلة قبل خمس سنوات من قيامي بها، فلما كانت سنة 1931 وبدأت أكتب «حياة محمد» شعرت بعد التقدم فيها بالرغبة الملحة في الذهاب إلى الحجاز، ولما سيرت شركة مصر للملاحة البحرية باخرتها الأولى «زمزم» إلى الأماكن الإسلامية المقدسة في سنة 1934، علمت أن في نيتها تسيير هذه الباخرة في أكتوبر من تلك السنة كيما تطوع لمن شاء قضاء العمرة في شهر رجب، إذ ذاك لم أتردد وصممت على انتهاز الفرصة لتنفيذ ما اعتزمته، لكن قلة الإقبال على هذه الزيارة الرجبية لم تسمح بتسيير الباخرة فلم تتم الرحلة، وأسفت لفوات الفرصة، وبقيت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب وأن أقوم فيهما بكل ما أستطيع من الدراسات.
ولئن أسفت على فوات هذه الرحلة لقد أسفت كذلك لإضاعة فرصة عرضت من قبل، ولم يدر بخاطري يوم أضعتها أني سوف آسف عليها، تلك فرصة السفر إلى الحجاز مستهل الشتاء من عام 1930، حين دعت الحكومة السعودية الصحافة المصرية إلى الحجاز لحضور حفلة التتويج للملك ابن السعود، فقد دعيت إلى هذه الحفلة، وكنت أود إجابة الدعوة لولا إقبال مصر يوم ذاك على المفاوضة لعقد الاتفاق بينها وبين إنكلترا، ولما تكن كتابة سيرة النبي العربي قد تمكنت من نفسي لتربط بيني وبين بلاد العرب بصلة تجعلني حريصا على أن أتعجل زيارتها؛ لذلك لم يكن ما يحفزني إلى المفاضلة بين المقام بمصر ومغادرتها في وقت كانت أحوال مصر تدعوني للقيام بواجبي القومي كاملا؛ من ثم رجوت صديقي وزميلي الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني، فسافر إلى الحجاز ممثلا جريدة السياسة بالنيابة عني، ولو كشف لي يومئذ من الغيب ما يسرتني الأقدار له لما عدل بي عن السفر إلى موطن النبي العربي أي اعتبار، ولكن «ما تدري نفس ماذا تكسب غدا».
أقمت على عزمي أن أزور الحجاز وبلاد العرب، وآثرت أن يكون ذلك أشهر الحج؛ لأؤدي فرضه وأدرك إدراكا ذاتيا كل حكمته، ووطد عزمي ما عرفت في فرائض الإسلام الأربع الأولى من حكمة بالغة يدرك سمو جلالها وجليل نفعها كل من يؤديها بنفسه أو يعيش بين أهله وإخوانه الذين يؤدونها، ألا يجمل بي أن أقف بنفسي بين الحجيج بمكة ومنى وعرفات، ومع الذين يزورون قبر النبي بالمدينة؟ لأؤدي فريضة الحج فأستبين حكمته، ولأقف على ما يدركه المسلمون اليوم من هذه الحكمة، ولأرى كيف يؤدون هذا الفرض؟
أما فرض الحج ليشهد الناس منافع لهم، وليذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام؛ ولتتيسر لهم بالاجتماع لأداء الفريضة فرصة التعارف والتفاهم؟ فليكن الوقوف على مبلغ تقديرهم لهذه الحكمة بعض ما أشهده في الحج من منافع.
وبدأ التفكير في السفر للحج يساور نفسي ويشغل حيزا من ذهني، ولم أطالع بهذا التفكير بادئ الرأي أحدا؛ إذ كانت شوائب التردد ما تزال تشوبه، فقد انتشرت أمام ذهني في الأيام الأولى منه صورة غير مشجعة لما قد يقوم في سبيل هذا السفر من عقبات، فما عسى أن تكون الحياة في بلاد العرب لرجل تقتضيه عادات الحياة ما لا يتيسر هناك؟ وما عساي أفعل إذا مرضت؟ ولي ابن عم مات على عرفات ودفن بمكة من عامين لعله لو أسعف بالعلاج والطب لما تيتم أبناؤه، وإذا استطاع الإنسان التغلب على مخاوف المرض وحاجات الحياة في غير أشهر الحج، فكيف يغالبها حين يختلط حابل المسلمين بنابلهم بمكة، وحين تكون الأماكن المقدسة معرضة للأمراض الوافدة إليها من الهند ومن جاوة ومن مختلف أقطار الأرض؟ هذا إلى ما تقضي به نظم مصر الصحية من احتياط بالوقاية الطبية قبل السفر، وحجر صحي في العودة.
والإحرام: التجرد من الملابس كلها، والاكتفاء بمئزرين غير مخيطين يلتف الإنسان بهما، ويبقى عاري الرأس ليله ونهاره أياما عدة، كيف يحتمل الإنسان ذلك كله في الحجاز؟! وهو - فيما يصفه الواصفون - بلاد بادية، لا تعرف من صور الحضارة ما تطمئن إليه نفس أحد ممن أصبح جوار الطبيب والصيدلية بعض ضرورات حياته.
ولئن نسيت هذه الاعتبارات وجعلت لي فيمن سبقني إلى الحج أسوة ، أأنسى هذا الاضطراب الدولي القائم بسبب الحرب الناشبة بين إيطاليا والحبشة؟ لقد ألبت إنكلترا الدول المشتركة في عصبة الأمم على عاهل «رومية»، وحشدت في البحر الأبيض المتوسط وعلى حدود مصر من القوات ما ينذر بالحرب بين عشية وضحاها؛ حرب يكون البحر الأحمر وطريق الحجاز فيه بعض ميادينها، فإذا أنا سافرت ثم وقعت الحرب فكيف لي أن أعود إلى وطني وأهلي وأبنائي؟
مر ذلك كله في خاطري فزاد في ترددي، ولقد حاولت الاطمئنان إلى رأي فيه بسؤال أصحابي الذين زاروا الحجاز عن نوع العيش هناك، وبسؤال المشتغلين مثلي بالسياسة عما يتوقعونه من أثر الخلاف بين إيطاليا وإنكلترا، على أنني لم أتجاوز السؤال إلى ما قد يفهم منه عزمي على السفر، فلو أنهم فهموا مني ذلك العزم لأقدمت وسافرت غير عابئ بالنتائج، ذلك مزاجي، ولعله مزاج من يغلب عليهم الحياء في اتصالهم بالناس، يجازفون مخافة أن يقال: خافوا! ولم أتلق من أصحابي بادئ الرأي جوابا أطمئن إليه، فبينا كان قوم يهونون علي أمر العيش بالحجاز كان آخرون يصفون لي من عسره وشدته ما يطير معه اللب شعاعا، ولقد أوجب بعض الأطباء أن يأخذ المسافر معه من صناديق المياه المعدنية ما يكفيه اتقاء تلوث مياه الحجاز، ورأى آخرون أن يحمل المسافر معه كل ما يحتاج إليه من طعام وشراب.
لم يكن الأمر على هذا التصوير سفرا إلى بلاد قريبة يذهب الإنسان إليها، ويقضي مناسكه بها ويعود منها في أسبوعين أو نحوهما، فالعدة للطواف حول الأرض أو السفر إلى القطب لا تزيد على ما يذكرون، أية عزيمة لا تتضعضع إزاء هذه المخاوف ولا ترد صاحبها عن عزمه؟!
صحيح أن أكثر الذين زاروا الحجاز وحجوا البيت وزاروا المدينة هونوا علي الأمر وجعلوه في صورة من اليسر لا يبقى معها موضع للتردد، بل أضاف بعضهم أن هذه الرحلة جميلة محببة تثير في نفس المثقف من الإحساس والصور الشعرية والفنية السامية ما لا تثيره الرحلات إلى المصايف، أو بلاد الآثار في مصر والغرب، لكن كلام هؤلاء المشجعين لم يمح من نفسي أثر كلام المحذرين، فقد تصورتهم متأثرين بعاطفتهم الدينية أكثر منهم بالواقع، وأنهم يخشون إن ذكروا المشقة، أو ذكروا نقص أسباب الراحة والصحة بالحجاز، أن ينقص أجرهم عن حجهم وعمرتهم، ولولا أن منهم علماء ومثقفين لما بلغت أخبارهم من نفسي أن تغالب أخبار المحذرين، وأن تجعلني أديم التفكير في أمر السفر.
وكان الخوف من الحرب وخطر الطريق أبلغ في نفسي أثرا، ولم يقنعني من سألتهم رأيهم في الأمر بما يزيل هذا الأثر من نفسي، فبينما كان بعضهم ينفي احتمال الحرب بين إنكلترا وإيطاليا قبل أن تتضعضع قوات إيطاليا في الحبشة، كان آخرون يؤكدون اقتراب الحرب ويكادون يضربون لوقوعها موعدا، وكان من بين الذين استشرت من اعتزم الحج منذ العام الماضي، فلما استنجزتهم عزمهم اعتذروا بما طرأ من أحوال قد تجر إلى حرب تشترك مصر فيها، وتكون الأراضي المصرية أو المياه المصرية ميدانها، ويتعرض أبناء مصر وتتعرض ثروتها من جرائها لما تجره الحرب وراءها من الدمار والهلاك؛ ولهذا الاحتمال ثارت مصر تطلب إلى إنكلترا أن تعقد معها معاهدة مودة وتحالف كانا قد انتهيا من قبل إلى نصوصها، وأجابت إنكلترا بعد لأي أنها على استعداد للمحادثة من جديد على ضوء ما سمته الأحوال المتغيرة للشئون الحربية الحديثة، وقبلت مصر عرض إنكلترا، وجعلت تعد العدة للمحادثات فالمفاوضات، وبهذه المفاوضات اعتذر بعض الذين نذروا السفر إلى الحجاز من قبل، وحاولوا أن يلقوا في روعي أن السفر في مثل هذه الأحوال يعتبر تنحيا عن أداء ما للوطن من حق على أبنائه، وربما كان موقف مصر من هذه المفاوضات أدعى إلى إرجائي السفر من موقفها سنة 1930، حين اعتذرت عن تلبية الدعوة إلى حفلات التتويج لابن السعود.
فكرت في هذه الأمور مليا، على أن استشارتي أصحابي جعلت غير واحد منهم يسألني: أمسافر أنت حقا لتؤدي فريضة الحج؟ وكان جوابي منذ ألقي هذا السؤال علي لأول مرة: إن شاء الله، ومع أن مشيئة الله يتعلق بها إرجاء السفر كما يتعلق بها السفر، فقد كنت أحس كلما قلت هذه الكلمة كأن دافعا أقوى من تفكيري يدفعني إلى عدم الإرجاء، وإن أمسكني ما قدمت من الاعتراضات في دائرة ترددي، وتركت الأمر معلقا بمشيئة الله وإن لم يمنعني ذلك عن ذكره وتفصيل الحديث فيه كأنه أمر لا محالة واقع.
ومن عجب أني رأيت بعض أصدقائي يزداد حرصا على صدي عن السفر كلما رآني أشد إقبالا عليه، وكان بعضهم يلتمس من أسباب الإرجاء ما يراه مقنعا، قال أحدهم: إن تيسير المواصلات لأداء فريضة الحج يطرد سراعا، فخير لمثلك أن يرجئ أداءها حتى تكون غير مرهقة إياه، أما إن كان مقصدك في السفر استيفاء البحث في سيرة محمد وعصره، فالخير أن تذهب في غير أشهر الحج، فالبحث التاريخي والعلمي بحاجة إلى الهدوء والطمأنينة ليؤتي ثمره، ومكة في غير أشهر الحج هادئة، يعاون سكونها على البحث من غير عناء بحثا أعود بالفائدة وأدنى إلى الدقة العلمية، فلا تغامر الآن حتى تطمئن إلى سلامة البحر الأحمر، وحتى تنتهي مصر من مفاوضتها إلى موقف حاسم في أمر الاتفاق مع إنكلترا.
على أنني لم أعدم تشجيع قوم استهانوا بمشقة السفر وبخطر الحرب، وأكبروا عزمي واستحثوني على تنفيذه، قال أحدهم: إنك سترى في الأماكن الإسلامية المقدسة تاريخا يمكن التثبت منه والقطع بصحة وقائعه؛ وذلك على خلاف تاريخ المسيحية في فلسطين، حيث تحجب الأساطير كل ما يمكن أن نسميه تاريخا بالمعنى العلمي، وقال آخر: إذا كانت المفاوضات المصرية الإنكليزية هي التي تدعوك إلى البقاء، فأنا الكفيل بأن تسافر وتؤدي فريضة الحج وتحقق ما تشاء تحقيقه ولما تقطع المفاوضات مرحلتها الأولى، وقال ثالت: هب الحرب شبت وتعرضت الملاحة في البحر الأحمر للخطر، ففي مقدورك أن تعود بالسيارة من طريق سيناء، ولن تضن مصلحة الحدود المصرية عليك بالمعونة كي تعود، ولو أن ذلك حدث لكان لك فيه من الحظ أن ترى من الأماكن المقدسة المتصلة بسيرة النبي العربي ما لا تتيسر لك رؤيته إذا عدت بالبحر والبحر آمن.
وأفضيت إلى زوجي بذات نفسي، فكانت أكبر مشجع لي على السفر، قالت: إنك تفكر في الحج وفي السفر إلى الحجاز منذ عام أو أكثر من عام، فسافر على بركة الله وتوكل عليه ما دمت قد عزمت، وسترى في الحجاز لونا جديدا من الحياة يريح مرآه الأعصاب وتطمئن له النفس، وقد شغلت نفسك حتى انتهاء مقامنا في الصيف بالشام بالدرس والبحث، فروح عن نفسك بهذا السفر منهما.
كان حديث زوجي وتشجيع أصدقائي حريين بالقضاء على كل أثر للتردد في نفسي، لكني ظللت أفكر في العقبات وتذليلها، جاهدا لتغليب جانب العزم على جانب الإرجاء، وإنني ذات ليلة لشغل بالأمر أقلبه على وجوهه وأستخير الله فيه، إذ سمعت حديثا كأنه الإلهام قضى على ترددي قضاء مبرما؛ فقد عدت إلى داري بعد انقضاء عملي الصحفي منتصف الليل، وجلست إلى جانب أداة «الراديو»، وجعلت أدير شارته على محطات مختلفة حتى كانت عند «بودابست» عاصمة المجر، و«بودابست» تعزف في مثل هذه الساعة من الليل ألحانا موسيقية تطرب لها النفس، فما كان أشد عجبي حين سمعت الإذاعة فيها غير موسيقية! وحين سمعتها محاضرة باللغة الإنكليزية، وكانت أول عبارة تنفست عنها الإذاعة قول المحاضر: «وسط هذه الجموع الحاشدة حول الكعبة جعلت أسمع: الله أكبر، الله أكبر: فلما انتهيت من الطواف ذهبت أسعى بين ربوتي الصفا والمروة ...» وانطلق المحاضر يتكلم عن الحج وشعائره ومناسكه وما كان له في نفسه من أثر عميق.
لم يخامرني ريب من أول وهلة في أن المحاضر هو صاحبي الأستاذ المجري «جون جرمانوس» الذي أسلم وتسمى باسم عبد الكريم؛ والذي جاء إلى مصر منذ عام فزارني غير مرة، ثم ذهب من مصر إلى الحجاز فقضى بها أشهر الحج وعاد فلقيني وقص علي شيئا مما مر به أثناء رحلته، فلما أتم إذاعته من «بودابست» أقفلت أداة «الراديو» وقد علاني الوجوم، وقلت في نفسي: أويكون هذا الأستاذ الأوروبي الحديث العهد بالإسلام أصدق عزما مني في زيارة الأماكن الإسلامية المقدسة؟! وهل تراه يطيق من مشقة الحج ما لا أطيق؟ وشعرت بما في ترددي من تجديف يجب أن يتنزه عنه إيماني بالله وثقتي بنفسي، إذ ذاك نضوت عني كل ما علق من قبل بإرادتي، ولم أرتب لحظة في أن الله قد عزم لي بهذا الحديث من «بودابست» بعد أن استخرته مخلصا واستعنته صادقا.
فلما اطمأن عزمي وقرت إرادتي عدت ألوم نفسي على ما كان من مخاوفها، وكيف أخاف اليوم وعهدي بنفسي أعظم ثقة بالله من أن أحجم دون ما أعتقده الحق أو الخير، أو أرجع عن أمر تعلقت به نيتي، وما البحر الأحمر واحتمال مخاوف الحرب فيه إذا قيس إلى سنة 1914؟! لقد كنت إذ ذاك محاميا بالمنصورة، وكنت قد عقدت العزم مع صديق لي أن نقضي بعض الصيف بلبنان، وحددنا اليوم الثاني من شهر أغسطس موعدا لسفرنا على إحدى البواخر التي تبرح بورسعيد إلى بيروت؟ وبينما كنا نستقل القطار صبيحة ذلك اليوم من المنصورة إلى مرفأ سفرنا طالعتنا الصحف بأن الحرب شبت بين النمسا والصرب وروسيا وفرنسا بعد أن عجزت السياسة عن تسوية حادث «سيراچيڨو» بما يصون السلم ويحقن الدماء.
وقدرت وصاحبي امتداد الحرب إلى عرض البحر الأبيض، ودار بخاطرنا أن نقضي أسابيع رياضتنا في بورسعيد، لكني ما لبثت حين داعبنا هذا الخاطر أن دفعته بأن في مقدورنا أن نركب الصحراء في عودتنا من لبنان إذا خيف البحر وتعذر ركوبه، وركوب الصحراء يومئذ كان معناه امتطاء ظهور الإبل، فلم تكن سكة الحديد قد مدت لفلسطين، ولم يكن السفر بالسيارات مألوفا، وسافرنا إلى لبنان، فإذا تركيا تحشد جنودها، وإذا الأنباء تترى بعد أيام بأن البواخر الذاهبة إلى مصر اضطربت مواعيد سفرها، مع ذلك لم تتغير ابتسامتي للحياة، وبقيت وصاحبي حتى أقلتنا باخرة جمع عليها المصطافون من مصر جميعا فحشروا فوقها زمرا.
ها هي ذي أكثر من عشرين سنة انقضت منذ هذا الحادث وما أزال سعيدا بذكراه، راضيا عن إقدامي، فكيف أخشى اليوم احتمال حرب في البحر الأحمر لا يزيد على أنه احتمال قريب أو بعيد، ولم أكن أخشى يوم ذاك أن تمتد إلى البحر الأبيض حرب شب بالفعل أوارها ، أوبلغ من تقدم السن بي أن أضعف عزمي؟ أم أن الأولاد مجبنة لي اليوم ولم تكن لي مجبنة يومئذ؟ أم أن إغراء الشباب بالمغامرة الرخيصة ليس في شيء من حكمة الكهولة وأناتها في تدبرها الأمور وتقديرها؟ ليرجع ترددي من خوف الحرب في البحر الأحمر إلى أي من هذه الأسباب أو إليها جميعا، فأنا ملوم فيه، فما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله، وكل نفس ذائقة الموت كتابا مؤجلا.
ولقد رأيت الموت بعيني غير مرة، وها أنا ذا مع ذلك أضرب في الحياة وما أزال أجاهدها؛ سقطت من أعلى دارنا بالريف في سنة 1901، فلولا قدر عفا عني لكنت اليوم في جوار الله، ومرضت في سنة 1924 مرضا خيف منه على حياتي، وصدمتني سيارة في سنة 1928 صدمة قضى مثلها على حياة كثيرين غيري، وانقلبت بي السيارة في سنة 1932 فلم يؤذني انقلابها، وتصادمت ومعي أولادي في سنة 1935 تصادما أزعجنا ولم ينلنا بأذى، ودون هذا وما إليه ما يودي بالحياة إذا حم الأجل، وكم مات أقوياء أصحاء فجأة بلا مرض ولا حادث، فليكن بعض إيماننا بالله أن نقبل على أداء واجبنا في الحياة مطمئنين غير هيابين ولا وجلين؛ فإن بلغنا من أدائه ما نرجو فذلك فضل الله وحسن تيسيره، وذلك هو الفوز العظيم، وإن اخترمتنا المنون أثناء قيامنا به مخلصين، فذلك مجدنا في الحياة ورجاؤنا في الله، وأي مجد في الحياة كأداء ما نؤمن بأنه الواجب؟ وأي رجاء في الله أكبر من الاستشهاد في سبيل الواجب؟
وخجلت وأنا أحاسب نفسي حين ذكرت ما تخيلت من مشقة الحياة بالحجاز، فما المشقة؟ ثم ما قيمة عيش لا مشقة فيه؟! وأين المتاع بالحياة وجمالها إذا نحن قضيناها على نسق مطرد يشابه فيه كل يوم ما قبله، لا يهزنا فيها جديد ولا تفجؤنا فيها فجاءة سارة أو ممضة؟! وكيف نروض أنفسنا على ما قد يمر بنا في الحياة من شدة، وكيف نعرف الصبر في البأساء وفي الضراء وحين البأس إذا أفزعنا شبح المشقة وانخلعت قلوبنا هلعا لتصورها؟ أولسنا نقبل عن طواعية واختيار على فنون من الرياضة فيها من الجهد والمشقة ما لا يقاس إليه كل ما في بلاد العرب مما نتصوره من جهد ومشقة؟ أولا يتسلق جماعة منا جبال الألب بسويسرا معرضين أنفسهم لقسوة الزمهرير في قننها ولأخطار السقوط أثناء تسلقهم إياها؟ بل إننا لنحمل أنفسنا أحيانا على ألوان من الرياضة أشد إجهادا للقوى وأشد تعريضا للخطر من تسلق الألب، ومتاعنا بهذه الألوان من الرياضة خير ما يلذنا من أيام حياتنا، حتى لنجد في ذكره من العذوبة ما يجعل العود إليه حلوا سائغا.
وإني لأذكر من مخاطرات الصبا ومن جولاته بأوروبا وغير أوروبا أياما قضيتها في مثل نسك الزاهد وخشونة صومعته، فأجد لهذه الذكرى لذة ونشوة لا يشبهها في شيء ذكر أيام الدعة والنعيم، وأستعيد بها صورة مشاهد في الطبيعة مما خلق الله أو نظم الإنسان قل لمن لم يعرف الخشونة أن يشهد مثلها، فما لي لا أغتبط لما عسى أن يكون بالحجاز من مشقة أثاب عنها بما أستمتع به بعدها من جمال ذكرياتها العذاب؟ وهل الحياة بنعيمها وبؤسها إلا ذكرى؟ وما لي لا أسارع إلى طلب هذه المشقة أستعيد بها ما عرفت في ماضي حياتي من شئون العيش، وقد كان التقشف خير أستاذ يدرك مريدوه مغزى هذه الكلمة القوية العميقة: «اخشوشنوا فإن النعم لا تدوم.»
نضوت إذن ترددي، ولم أرتب لحظة في أن الله عزم لي بحديث «بودابست» وعمدت منذ الغداة أستشير السابقين في الحج من أهلي وأصحابي في أهبة سفري، وهون بعضهم الأمر، وهوله آخرون، هونه الشيوخ والذين ينعمون بالضراء ابتغاء مغفرة الله لمن حج بيته، وهوله من ليسوا أقل إيمانا وإن كانوا أشد على طمأنينتهم وصحتهم حرصا، كان من رأي هؤلاء أن المياه في موسم الحج مخوفة، وأخوفها ماء منى، وأن الاحتياط لقسوة البرد أثناء الإحرام يقضي بلباس خاص مع مئزريه، وسألت بعض الأطباء رأيهم في ماء الحجاز ووسيلة اتقاء تلوثه، وهون بعض الأطباء الأمر وهوله آخرون، وكان ما يلائم جو الحجاز وتقاليد العيش فيه من أمر الملبس موضع خلاف كذلك، وقدم لي صديق من الأطباء جعبة من الدواء لإسعاف المسافر، وأكملتها بما يتفق وحالي الخاصة، وانتهى بي التفكير في الاحتياط الطبي إلى الاكتفاء بهذه الجعبة تاركا ما سواها مما نصح به الأطباء إلى موجبات الحاجة أثناء السفر، ولعله السأم لاضطراب رأي الأطباء هو الذي حملني على هذا الاكتفاء، أما اللباس فأخذت من ألوانه كل ما نصح الناصحون به، وقد شغل ما يقتضيه الإحرام وحده من عياب المتاع حيزا عظيما.
لست أذكر أني ساورتني مثل هذه الحيرة في أهبة السفر إلا صدر الشباب حين كنت مسافرا في سنة 1909 لإتمام دراسة الحقوق بأوروبا، فقد صحبت منها يوم ذاك ما عرفت من بعد أني في غير حاجة إليه، فأما في هذه الفترة التي انقضت بين سفري الأول إلى أوروبا وسفري الأول إلى الحجاز، والتي تزيد على ربع قرن من الدهر، فقد كنت أتخفف من الأهبة أثناء أسفاري ما استطعت، وما أسفت يوما على هذا التخفف، سافرت مرات إلى أوروبا، وسافرت إلى لبنان والشام، وسافرت إلى السودان، ولم أكن في أسفاري هذه جميعا أحمل من الثقل إلا ما أشعر بمسيس الحاجة إليه، ثقة مني بأني واجد ما ينقصني حيث أنزل، وكيف لا أجده وأهله يعيشون ويجدون حاجاتهم فيه؟ وكان حتما علي أن أصنع هذا الصنيع في السفر إلى الحجاز، وأن أذكر أني واجد في كل بلد ما تقضي به حاجات العيش فيه، لكني نسيت هذا الأمر، وما أنسانيه إلا كثرة ما سمعت ممن استشرتهم، ولعلي إنما طاوعتني نفسي إلى سماع الكثير مما قالوا لقلة من يسافرون لأداء فريضة الحج من الطبقات المستنيرة من المسلمين، ولكثرة ما يقال عن الحجاز والحالة الصحية فيه، وأغلب ظني أنني لو قمت بهذه الرحلة في غير موسم الحج لجريت على عادتي، ولتخففت من أهبة سفري ما استطعت.
ونزلت على حكم الإجراءات الرسمية التي تجب على من يفرض الحج، فقدمت بذلك طلبا إلى الحكومة ودفعت نفقات السفر، وأسلمت نفسي للتطعيم ضد الجدري والحقن ضد الكوليرا والتيفود، وحددت موعد سفري على الباخرة «كوثر» التي تبرح السويس يوم الثلاثاء 25 من فبراير سنة 1936، من يومئذ اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في ترحالي وما سأشهده بالبلد الحرام والبلاد المقدسة، أما أصحابي الذين حاولوا من قبل أن يصرفوني عن سفري، فقد جعلوا يسألونني عن شعوري إزاء هذه الرحلة وإزاء فريضة الحج، مشفوعا سؤالهم بأصدق الرجاء أن أتم الفريضة والرحلة وأن أعود إليهم بخير ما يرجونه لي من صحة وعافية.
وهرع آخرون من أصدقائي ومعارفي يهنئونني بما عزمت، ويؤكدون لي أنه آية فضل الله علي ورضاه عني، وشكرت لهم تأكيدهم مغتبطا به ثقة مني بإخلاصه وصدق النية فيه، وكيف ترقى إلى إخلاصه شبهة وأصحابه من أشد المسلمين تمسكا بدينهم واطمئنانا إليه، وأكثرهم ضليعون في علومه واقفون منه على ما لا يتسنى لغيرهم الوقوف عليه بعد إذ قضوا السنين الطوال في دراسته وتمحيصه والتدقيق في متونه وشروحه؟ وغاية ما رجوت أن يجيب الله دعاءهم فيقبل مني حجي وعمرتي، وييسر لي ما قصدت إليه من سفري.
اتجه تفكيري إلى الحجاز وإلى الحج ومناسكه، وجعلت أصور لنفسي ما أنا ملاقيه في هذه المناسك وما أنا مشاهده في البلد الحرام، وسرعان أن ملأ هذا التفكير نفسي هيبة ورهبة؛ فقد عدت بذاكرتي إلى حجة الوداع، وتخيلت أمامي النبي العربي يؤديها على رأس مائة ألف أو يزيدون، فطأطأت رأسي لهذا المشهد إكبارا وإجلالا، ما أعظم الفرق بين ما كان يومئذ وما نحن عليه اليوم! كان المسلمون يتحرقون شوقا إلى أداء الفريضة وهم لا يعلمون متى كتب لهم أن يؤدوها مع رسول الله، فلما أذن مؤذنه في الناس بالحج أقبلوا إليه من كل فج وهرعوا من كل حدب ينسلون، وأقاموا بالخيام التي ضربت حول المدينة ينتظرون يوم الرحيل وقلوبهم فياضة بالبشر، وكلهم الغبطة والمسرة، واستفزهم المنادي، فقام جمعهم وراء الرسول الكريم إلى ذي الحليفة بظاهر المدينة، وقد امتلأت من خشية الله قلوبهم، وقد فاضت من هيبته عبراتهم، وكلهم إلى بيت الله هوى، وفي سبيل دينه الحق اندفاع ومحبة.
ونزلوا ذا الحليفة وباتوا ليلتهم بها، ثم أصبحوا فتطهروا وأحرموا وأعلنوا إلى الله أنهم نسوا الدنيا في سبيله، وأنهم نووا الحج إلى بيته يبتغون وجهه، وسوى الإحرام بينهم جميعا، فلم يبق منهم غني وفقير، ولا قوي وضعيف، ولم يبق منهم من يفكر إلا في رضا بائه جل شأنه تعنو له الجباه، ولعظمته يخر من في السموات ومن في الأرض إلى الأذقان سجدا، وانطلقوا من ذي الحليفة في طريق مكة يفكر كل منهم فيما قدم من عمل صالح، وينادون جميعا بصوت رجل واحد ملبين: «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك»، وتجاوبت الأودية بصدى هذا النداء فحملته إلى بقاع البادية وإلى فسحة الصحراء، ونزل الجميع حين جن الليل؛ فلما تبسم الفجر عن تباشير الصباح صلوا ولبوا ثم انتشروا وساروا يحدوهم الإيمان، ويدفعهم إلى بيت الله شوق ومحبة، وظلوا في طريقهم إلى مكة اثني عشر يوما، إذا جنهم الليل نزلوا، فإذا أضاء لهم الصبح قاموا متوجهين بقلوبهم إلى الله مصلين ملبين، ناسين عرض الدنيا، مؤمنين بأن لا فضل لأحدهم على صاحبه إلا بالتقوى، فلما بلغوا مكة دخلوا المسجد الحرام يؤمهم محمد، وطافوا سبعا بالبيت العتيق، ثم سعوا سبعا بين الصفا والمروة، طافوا جميعا معا، وسعوا جميعا معا، وهم جميعا في إمامة محمد تسري إليهم من قدس روحه نفحات روحية، لم يعرفوا، ولم يعرف أحد قبلهم، ما يشابهها سموا وقوة.
وآن لهم أن يرتقوا إلى عرفات ليتموا حجهم، فاتبعوا النبي إلى منى يوم التروية ثم ارتقوا الجبل معه، وأقاموا فوق عرفات في مساواة الإحرام يهللون ويكبرون ويلبون حتى مالت الشمس إلى المغيب، إذ ذاك استمعوا إلى خطاب النبي، ثم أفاضوا إلى المشعر الحرام فذكروا الله عنده، وهبطوا منى فأتموا بها المناسك، وعادوا وقد طهر الحج قلوبهم إلى حياة جديدة بقلوب أكثر طهرا، ونفوس أجابت داعي الحق، وعاهدت الله أن تجيبه كلما دعاها.
ارتسم أمامي هذا المشهد الذي يملأ النفس رهبة والقلب إيمانا، ورأيت نفسي مقبلا على مثله في ألوف اجتمعوا من أقاصي الأرض، لا من جزيرة العرب وحدها، للفريضة التي اجتمع إليها الأولون الذين اتبعوا محمدا من نيف وأربعين وثلاثمائة وألف سنة خلت، فازدادت نفسي لليوم القريب الذي أقف فيه هذا الموقف مهابة وإكبارا، قلت لنفسي: «ها أنا ذا بعد أيام سأركب البحر قاصدا بيت الله حاجا، فإذا بلغت رابغا، ميقات الإحرام، أحرمت، وأحرم المسافرون للحج كما أحرم النبي وأصحابه، ونادى ركب الباخرة جميعا: لبيك اللهم لبيك، وامتلأت النفوس جميعا هيبة والقلوب إيمانا، رب أية شعلة من نورك الذي أضاءت له السموات والأرض ستشتمل هذه الباخرة في اندفاعها تمخر العباب إلى بيتك المحرم يلبي ركبها كلهم دعاءك، وتتجه قلوبهم كلها إليك صادقة القصد عامرة بالإيمان.
لن تكون هذه الباخرة في تلك الساعات القدسية مطية أجسام تجري فوق الماء، بل قبسا من ضياء الهدى ونور الحق أفضته على عبادك فعادوا به إليك مهللين مكبرين مستجيبين إلى ندائك القدسي الأطهر، باعك كل منهم نفسه مجاهدا في سبيلك، ونسي كل منهم هذه الحياة الدنيا فانيا في جلال جنابك، لك الجلال جل شأنك، وبك العون على الجهاد في سبيلك، وسأكون أنا واحدا من هؤلاء الفانين فيك، الصادقين في توجههم إليك، كلنا عبادك، وكلنا نلتمس غفرانك وعفوك، فاعف عنا واغفر لنا وارحمنا، اغفر لنا ولوالدينا ولمن دخل بيتنا مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات، واهدنا اللهم صراطك المستقيم، «صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين».»
امتلأت نفسي بهذا المشهد، كله الجلال والرهبة، وبلغت منها مهابته أن لم يبق فيها موضع لشيء سواه، وأجبت الذين سألوني عن شعوري نحو رحلتي - وبينهم جماعة من غير المسلمين - عما يخالج نفسي مما أرى أمامي، فرأيتهم تمتلئ قلوبهم منه هيبة وله إكبارا وإجلالا، وأي مشهد أدعى إلى المهابة الصادقة من هذه الصيحة المؤمنة المنبعثة من أعماق القلوب، تنفرج عنها شفاه عشرات الألوف من الواقفين بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة، يلبون داعي الله، متجردين من كل زخرف الحياة، عراة الرءوس، متشحين بمآزر الإحرام، معلنين التوبة عما مضى من هنات الحياة وخطاياها، منيبين إلى الله ليطهر نفوسهم كي تعود إلى الحياة في مثل براءة الطفولة؛ لتكون من بعد مثال النزاهة والفضيلة والجهاد الحق في سبيل الله جهادا يهون من كل صعب، ويهون الموت بل يحلو في سبيله.
وتعاقبت الأيام؛ ينسخ الليل النهار، ويمحو النهار آية الليل، فلما كنا من موعد السفر على يومين جاء أهلي من الريف يهدون إلينا تحية الوداع، وكلهم مطمئنو النفوس، كبيرو الرجاء في الله، وكلهم يطلبون إلي ما طلبه قبلهم كثيرون غيرهم، أن أقرأ لهم الفاتحة عند بيت الله وعند قبر رسوله
صلى الله عليه وسلم ، وأن أدعو لهم الدعوات الصالحات، فلما كان الصباح الباكر من يوم الثلاثاء 25 فبراير 1936 ذهبنا إلى محطة «كوبري الليمون» لنستقل قطار «الديزل» الذي يشق الصحراء إلى السويس، ولقينا المودعون بالمحطة يرجون لنا حجا مبرورا وذنبا مغفورا وسفرا موفقا وعودا حميدا، وانطلق القطار يشق الصحراء براكبيه الذين اختاروا آخر باخرة من بواخر الحج، وبلغنا السويس، وأخذنا أوراق سفرنا، وأقلتنا السيارات إلى بور توفيق وإلى مرسى الباخرة «كوثر»، وعلونا الباخرة ولما يكن الزوال قد آذن، وجعلت أطوف في أرجائها ألتمس من أعرف من المسافرين معي عليها، وألقيت نظري على مياه البحر الأحمر في خليج السويس، فذهب خيالي مع الأمواج يتقلب بعضها فوق بعض، فخلتها آتية من جدة تحيينا وتعلن إلينا أنها في انتظار تحركنا إلى مرفأ البيت الحرام، وبقي خيالي مع موج البحر حتى ناداني من أصحابي جماعة جلست وإياهم، وجعلنا نتحدث في انتظار طعام الغداء، وفي انتظار سير الباخرة إلى الأرض الإسلامية المقدسة.
يا عجبا! أي خاطر هذا الذي يجول الساعة بنفسي وأنا أسطر مشاهدي؟! إن هذه البواخر تقوم بحجاج المسلمين من السويس إلى جدة لتصل بين مرفأ سيناء حيث كلم الله موسى، وبين مرفأ مكة حيث نزل الوحي على محمد، والذين يؤمنون برسالة محمد يؤمنون بإبراهيم وموسى وعيسى والنبيين من قبل، لا يفرقون بين أحد منهم، وهم لله مسلمون ، تبارك الله ذو الجلال! إن كل ما في الحياة ليوحي اتصال الوجود كله في الزمان والمكان في وحدة هي الحجة البالغة على وحدة بارئ الوجود - جل شأنه، وسنرى من مظاهر الوحدة الروحية في سفرنا هذا، وفي مهبط الوحي على محمد ما يزيد المسلمين إيمانا وتثبيتا.
فلأنتظر مطمئنا، فعما قليل تجري بنا الباخرة باسم الله مجريها ومرسيها، إن ربي على كل شيء قدير.
بين المرفأين
كانت الأميرة خديجة حليم قد فرضت الحج عامنا هذا، واختارت السفر على «كوثر» آخر باخرة تدركه، وكان برنامجها أن تغادر مكة طائرة إلى المدينة في اليوم التالي للوقوف بعرفة، مكتفية بالفداء عن فرائض الحج ومناسكه جميعا.
ولقد أحدث صعودها وصعود حاشيتها إلى الباخرة هرجا بين الذين سبقوهم إليها، ولم أجد لهذا الهرج مسوغا إلا في كثرة المودعين الذين كانوا أضعاف المسافرين إلى الحج عددا؟ هؤلاء أقاموا على ما طبعته الحياة الحاضرة في نفوسهم من تقديس ذوي الجاه والإمارة، أما الذين فرضوا الوقوف بين يدي الله بالأماكن المقدسة، فقد وجب أن تبرأ نفوسهم من كل تقديس لغير الله ما دامت قد فرضت أن تبرأ من الحوبات والأوزار جميعا.
وشغلت إدارة الباخرة بالأميرة وما تختاره من الغرف لنفسها ولمن معها، فلما فرغت من ذلك أذنت للخدم في دعوة الناس للطعام، وجلس طلعت باشا حرب مدير شركة مصر للملاحة البحرية إلى مائدة تتوسط غرفة الطعام، ودعاني إلى الجلوس معه، كما دعا آخرين منهم محافظ السويس وحكمدارها الإنكليزي وربان كوثر، ودار حديث اشترك فيه الربان بالإنكليزية تارة وبالفرنسية أخرى، وما كنت لأشير إلى هذا الحديث لولا ما أصاب الباخرة ساعة وصولها إلى جدة، وتركنا الربان وما نزال على المائدة، فذكرت لزملائي عليها أن إنكليزيته وفرنسيته تدلان على أنه ليس إنكليزيا ولا فرنسيا، قال طلعت باشا: بل هو إيطالي، إذ ذاك توجهت إلى الحكمدار الإنكليزي وقلت مبتسما: ذلك خير، فلئن أصبح البحر الأحمر ميدان حرب بين إيطاليا وإنكلترا أثناء سفرنا لنكونن في حمايته الإيطالية.
وسارع طلعت باشا إلى التعقيب على عبارتي هذه بقوله: لقد دعوته منذ نشأت الأزمة الدولية الأخيرة ونبهته في حزم إلى احتمال وقوع حرب يشتبك وطنه فيها، وسألته ما يكون موقفه يوم ذاك؟ فأكد لي بشرف البحار أنه يخدم بإخلاص العلم الذي يظل الباخرة التي يقودها كائنة ما تكون الأحوال التي تحيط به.
وأردف الحكمدار الإنكليزي بهذه العبارة العميقة المغزى: قد تكون الحوادث أحيانا أقوى من كل ما نقسم به.
ونهضنا وغادرنا غرفة المائدة إلى حيث جلسنا نتحدث ونشهد تقلب الموج، وتناول حديث بعض الحاضرين زميلتنا في الحج إلى بيت الله، الأميرة خديجة حليم شقيقة عباس حلمي خديو مصر السابق وأرملة الأمير سعيد حليم الصدر الأعظم في تركيا في أخريات حكم السلطان الخليفة محمد رشاد، ودار الحديث حول تصور الأمراء للحج، وما يلتمسون أثناءه من مغفره الله لهم، وإنا لفي هذا الحديث إذ أقبل علينا الأمير محمد عبد المنعم ابن الخديو عباس حلمي وولي عهد مصر السابق، وكان قد جاء يودع عمته بالسويس، وانتقل الحديث لمجيئه إلى موضوعات أخرى كان من بينها فيلم «وداد» السينمائي الذي أخرجته المغنية أم كلثوم في شركة مصر للتمثيل والسينما، وكان مدير هذه الشركة في مجلسنا، وكان حريصا على أن يسمع رأي الناس في هذا الفيلم، قال الأمير عبد المنعم: إنما ألاحظ على هذا الشريط صورة المسجد فيه والنداء للأذان به.
ولاحظ الأمير صمت الحاضرين وعدم إبدائهم الموافقة على ملاحظته، فقال: صحيح أن المناسبة التي ألقي فيها الأذان من فوق مئذنة المسجد حسنة جدا؛ فقد كان الناس يختصمون، فلما سمعوا الأذان انصرفوا عن الخصومة وولوا وجوههم شطر بيت الله، لكن السينما تنتقل من بلد إلى بلد، ولا عجب أن يعرض هذا الشريط في أوروبا، والغربيون يستهزئون حين يسمعون الأذان وحين يسمعون القرآن، ومن الواجب علينا ألا نعرض ما نقدسه إلى استهزاء الغير به.
ودار حول رأي الأمير حوار دل على أن كثرة الحاضرين لا تؤيده وإن اختلطت عبارات هذا الحوار بكثير من ألفاظ التبجيل والاحترام، وتنقل الحديث من بعد في مسائل شتى ، تركنا الأمير على أثرها ليقيم سويعة مع عمته قبل سفرها، ولعله تركنا غير راض عن الذين خالفوا رأيه عن الأذان في السينما.
ولم أشترك في حوار الذين حاوروا الأمير، ولم أرد أن أذكر ما ورد في القرآن عن الذين يستهزئون حين يسمعون كلام الله وأن الله يستهزئ بهم ويردهم في طغيانهم يعمهون؛ فما كنت لأثير جدلا حول أمر يتصل بعقيدة صاحبه، وليس من اليسير أن يصرفه الجدل عن رأيه، أو يحمله على المصارحة بالعدول عن عقيدته فيه.
على أني لم أعجب لهذا الرأي من شاب نشأ في أسرة مالكة، وكان يوما ولي العهد لعرش دولة لها مكانتها في العالم الإسلامي كله، فهؤلاء يبالغون في الحرص على تقديس ما يعتقدونه مقدسا ليبالغ غيرهم في تقديس الدين وما يصدر عنه، وهم لا يؤمنون كما يؤمن أبناء الشعب بصوت الشعب وأنه من صوت الله، وإنما يؤمنون بصوت الملك وأنه من صوت الله، فإذا حجوا ليستغفروا أو يطهروا، كفاهم أن يرتقوا إلى عرفات ولهم في سعة مالهم من أسباب الفدية ما يحسبون أنهم يفتدون به كل الأوزار والخطايا، وإن منهم من لا يرضى أن يحرم يوم عرفة؛ لأنه لا يؤمن بالمساواة، فهو يريد أن يفتدي منها كأنما يفتدي من عذاب يوم عظيم.
وإنما عجبت أن لم يذكر أحد من الذين جادلوا رأي الأمير ما سمعته غير مرة من أن الأذان بصوت حسن كان مما حمل كثيرين من غير المسلمين على أن يدينوا بالإسلام، ولقد عرف هذه الحقيقة من أقاموا من قبل في تركيا حين كانت تختلط في عاصمتها زمر الأمم المختلفة الأديان، والحق أن كلمات الأذان البسيطة العذبة جديرة حين ترتل ترتيلا يؤدي معناها بكل قوته أن تنفذ إلى أشد النفوس صلابة، وأشد النفوس استكبارا، وهل هناك أقوى من قولك: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر، لا إله إلا الله؟!
وغير المسلمين يسمعون إلى آي الذكر الحكيم حين يقصد من ترتيله إلى حسن فهمه بإجلال وإكبار كإجلال المسلمين وإكبارهم، فلا عجب أن يحرص المسلمون على أن يذاع القرآن ويذاع الأذان بكل وسائل الإذاعة، ولا عجب أن يحتج المسلمون من أقطار الأرض كافة حين يسمعون أن محطة الإذاعة في مصر ستعدل عن إذاعة القرآن أو تقلل من تلاوته.
وآن لكوثر أن تتحرك، فتركها المودعون بعد أن ألقوا على المسافرين كلمات الأمل الطيب، وحسن الرجاء في حج مقبول وعود حميد، وانتقل المسافرون إلى ناحية الشاطئ يحيون مودعيهم التحية الأخيرة قبل السفر، فإذا جمع من ألوف الناس على رصيف المرسى لم يلبثوا حين سمعوا الموسيقى تصدح أن تعالى في الجو هتافهم للإسلام وللحج وللوطن هتافا حارا صادرا من حبات القلوب ومن أعماق الأفئدة، ما أبلغ أثر هذا المنظر في النفس! فهذي الألوف الذين جاءوا لتحية المسافرين إلى بيت الله لا يعرف أكثرهم أحدا من هؤلاء المسافرين، وإنما جاءوا يودعون إخوانهم في الدين بقلوب عامرة بالله والوطن، لقد كانت مشاعري تهتز أيما اهتزاز كلما علا نداء هذه الجماهير في الجو، فهذه أمة تلتمس التوجيه الصالح إلى حياة تريدها حياة مجد وعظمة، وتلتمس هذا التوجيه بصدق وإخلاص، وتلتمسه في كل مظهر من مظاهر الحياة المصرية، يملؤها الأمل من اقتراب هذا اليوم الذي يفتح فيه باب الرجاء فتندفع إليه متفانية في سبيله، كلها التضحية للعقيدة، وكلها التضحية للوطن.
وتحركت الباخرة، فعدت إلى ناحيتها الأخرى أشهد أمواج خليج السويس المصري، وأشهد من ورائها مخازن شركة البترول الإنكليزية القائمة في الأراضي المصرية، وأعود بتفكيري إلى الحجاز وإلى الحج، وإلى ألوف المسلمين الذين يؤدون هذه الفريضة في كل عام؛ لأنهم يستطيعون إليها سبيلا.
وشغلت بخليج السويس ومياهه وأمواجه حتى انحدرت الشمس إلى مغيبها، ولما تناولنا طعام العشاء أسرعت إلى مخدعي، علي أجد في النوم ما يعوضني عن مجهود نهاري، وبعض ما يعوضني عن مجهود الأيام التي سبقت.
واستيقظت مع الصبح واستنشقت هواء البحر، ما أرقه وأعذبه وأصحه! وشكرت لله أنعمه وأنا في خلوتي المبكرة فوق سطح الباخرة أشهد شواطئ خليج السويس التي لم تزل قريبة منا، فلما آن ليقظة النهار أن تجمع أصحابي معي كي نتبادل من الحديث أطرافه ألفيتني في رفقة لم ألف منها أحدا فيما سبق من أسفاري، وإن يكن منهم من سافر من قبل إلى أمريكا وأوروبا، وإن يكن منهم من يقيم في باريس أكثر وقته، قال صاحبنا هذا: أولا تعجبكم هذه السكينة التي غمرتنا على البحر منذ غادرنا السويس؟! ولو أن «كوثر» كانت مسافرة في رحلة الصيف إلى أوروبا لسمعنا الموسيقى على العشاء، ولشهدنا فيلما من أفلام السينما المسلية إن لم تحرك الموسيقى شجن ذوي الشجن إلى الرقص، أما وهي مسافرة إلى بيت الله بالذين يريدون وجهه فقد نسيت ما ألفت من ألوان المسرة الساخرة، واتشحت برداء من الحكمة هو وحده الجدير بوجهتنا، ولست أخفي عليكم أنني ابتسمت مساء أمس حين ذكرت ما كان على الباخرة التي أقلتني من أوروبا منذ أسابيع من مرح شد ما كنا نستطيبه، واشتد بي الشوق أن أسمع إذاعة من مصر على الأقل أتداوى بها من ملال السفر على الماء، فلما جنني الليل واشتملت الباخرة سكينته ولم أسمع إذاعة ولا موسيقى، تداويت عن طمأنينة العاطفة بطمأنينة القلب، وادكرت ما أنا مقبل عليه، فطابت إلى سكينة القلب نفسي، وجعلت من ذكر الله وتلبية دعائه أنيسي، وتذكرت أن الأقلين من أوتوا مثل حظي فداولوا في أسابيع بين النهل من ورد باريس وعلمها ومسارحها ومتاحفها ومجتمعاتها الحافلة بأسباب الأنس، وورد المنهل العذب للحياة الروحية بمكة عند بيت الله الحرام وبالمدينة مثوى قبر رسوله - عليه السلام.
وبهت بعض الحضور لهذا القول، فتبادلوا النظرات بينهم هنيهة خيم أثناءها الصمت، ثم قال أحدهم موجها الكلام إلينا جميعا: ائذنوا لي أن أقدم لكم كتيبا جمعت فيه مناسك الحج وأركانه، لعل لكم في تلاوته بعض ما ينفعكم فيما أنتم مقبلون عليه.
وأخرج من جيب قفطانه عدة كتب صغيرة وزعها علينا جميعا، عرفت إذ أجلت النظر فيها أنها تلخص مناسك الحج على المذاهب الأربعة، ولم ينجه هذا التلطف من أن يوجه إليه أحد الحاضرين بعد أن استوى الكتيب في يده قوله: وهل ترك مطوفو مكة لأحد في الحج قولا؟ إنهم ليوجهوننا في كل دقيقة وجليلة من شئون حجنا وإن استوى لأحدنا من العلم بهذه الفريضة ومناسكها ما لا علم بعده.
قال صاحب الكتيب: الذنب على الحاج لا على المطوف، فلو أنه عرف فروض الحج وواجباته وسننه لما كان لمطوف عليه ما تذكر من سلطان.
ومر بنا الخادم فطلبنا إليه قهوة ما كان أشهاها والباخرة تجري بنا فوق لج صاف ونسيم رقيق منعش، وأقمنا نتحدث؛ أن لم نجد غير الحديث ما يسلينا في هذا السفر، فلما نودي لصلاة الظهر قبيل موعد الطعام ذهبت مع القوم إلى حيث يؤمهم فقيه منهم في صلاة الجماعة، وعجبت حين رأيتهم يتخطون بهو الدرجة الأولى، فليس وراء هذا البهو في كوثر إلا «البار»، ولم يدر بخلدي يوما ما أن يكون بار من البارات مسجدا، لكن عجبي لم يمنعني من مشاركة القوم حين رأيتهم اتخذوا من بار كوثر مصلى وما لهم ألا يتخذوه وقد طهر أثناء رحلة الحج من أمهات الكبائر، وأمهات الصغائر، وفرش بالحصير الطاهر؟! وكان هذا المصلى أبلغ آية على أن العمل الصالح يخلع قدسيته على كل مكان يحل فيه، وإن شهد هذا المكان قبل ذلك من الوزر ومن اللهو ما يجعله إذ يشهدهما مثابة لهو ومهد متاع.
وتناول المسافرون طعام الغداء، وقال منهم من اعتاد أن يقيل، وأدوا فريضة العصر في مصلاهم ثم انتظموا جماعات يتحدثون، وجلس في جماعتنا شاب عرف الحجاز ونجدا، وقضى بهما سنوات اتصل أثناءها بابن السعود ورجال حكومته، وكان يرتدي «جلابية» من السكروتة وعباءة من صوف دقيق شف لدقته عما وراءه، وقد طرز ما حول العنق والصدار منها بالقصب، وتدلت من حاشية الصدار «كراريت» مكسوة بالقصب كذلك، وسأله أحد الحاضرين عن هذه العباءة، فقال: إنها لباس أهل الحجاز الرسمي كالجلابية سواء، أما غطاء الرأس عندهم فالطرحة والعقال، وحذاؤهم النعال، وهم يسمون العباءة «المشلح»، وسئل عما يقصونه عن النجديين وشدة تعصبهم لمذهبهم، فقال : كان ذلك أول فتحهم الحجاز وانحدارهم من نجد إليه، فقد دفعوا يومئذ إلى الغزو والفتح عقابا للأشراف أصحاب الحكم في الحجاز على استهانتهم بدين الله وارتكابهم المعاصي، وقيل لهم: إن أهل الحجاز قد أقاموا من القباب أوثانا فهم على عبادتها عاكفون؛ لذلك كانوا يحطمون القباب أينما ثقفوها، كما كان المسلمون الأولون يحطمون الأصنام، وكانوا يبالغون فيما يسمونه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى كانوا يعتدون على المدخنين وعلى غير الملتحين، أما اليوم فقد استقرت الأمور إلى نصاب وسط تواضع عليه القوم، وكان للحجاج من البلاد الإسلامية المختلفة أثر بالغ في تقريره، وما أحسب مسلما يرى هذا النصاب الوسط اليوم عنتا، فالإخوان «النجديون» حريصون على أن يسيروا حيث ولوا الأمر على حكم كتاب الله وسنة رسوله؛ لذلك يجزى كل من جهر بمعصية بالحد الشرعي، بذلك اختفى ما كان باديا قبل توليهم أمر الحجاز من استهتار ومجون، فلم يبق من يعاقر جهرة الخمر، أو يغازل جهرة غلاما، وتطبيق الحدود على الجرائم هو الذي أقر الأمر في نصابه، حتى صار الحجاز يفاخر بحق أكثر الأمم طمأنينة وأمنا، والفضل في هذا النصاب الوسط يرجع إلى ما بدءوا به من شدة وتزمت. «وإنما أدى بالحكومة الحجازية إلى العدول عن بعض ما كان أهل نجد يشتدون فيه كشدتهم في إرخاء اللحية، وقص الشارب وعدم التدخين، وما إلى ذلك مما يبيحه غير المذهب الحنبلي من المذاهب الإسلامية، ما حدث غير مرة من أهل نجد وأهل المذاهب الأخرى من المسلمين أثناء أشهر الحج مما كان له أثره في الحج، وفي الحالة الاقتصادية في البلاد، ولو ذكرتم أن التسامح في مسألة التدخين يرجع في كثير إلى تأثر إيراد المكوس «الجمارك» الحجازية بسبب منعه، لعلمتم ما للحالة الاقتصادية من أثر كبير في العقائد والعادات.»
بينا كنا نستمع لصاحبنا يتحدث عن الحجاز وما صنع به أهل نجد، مر بنا جماعة ليسوا مصريين لبسوا لباس الإحرام، وإذ كان بيننا وبين ميقات الحج برابغ يوم كامل، فقد فسر أحد الحاضرين سبقهم إلى الإحرام بأنه تعجل لمغفرة الله واستزادة من ثوابه.
وأوينا بعد العشاء إلى مضاجعنا، فلما أصبحنا كنا على ساعات من ميقات رابغ، وعلى ساعات كذلك من إعلان النية بالحج والعمرة والإحرام بهما؛ لذلك لم يكن للمسافرين جميعا طيلة الصباح حديث غير حديث الإحرام، بعد هذه الساعات يتطهر المسافرون جميعا ويصلون بنية الحج والعمرة ويحرمون، وبعدها يكررون التلاوة لقوله تعالى:
الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج ، ثم نلتقي جميعا على سطح الباخرة وقد تغير لباسنا، وتغيرت تحيتنا، وتغير حديثنا، جميعا نلبس غير المخيط، ونحيي بالتلبية، وننسى من شئون الحياة كل شيء سوى الحج ومناسكه، يا لرهبة الموقف وروعة جلاله! يجب أن ننسى كل شيء إلا أننا جند الله لبينا دعاءه، ويجب أن يكون كلامنا طاهرا، وقلوبنا طاهرة، وأعمالنا طاهرة، وأن يكون كل وجودنا خالصا لله وحده، خالصا إخلاص صدق لا تشوبه شائبة ولا ترقى إليه ريبة من أوهام هذه الحياة الدنيا.
أي: سمو بالنفس كهذا السمو؟ وأية مرقاة هذه المرقاة التي نروض أنفسنا على الارتفاع بها لإدراك هذه الغاية؟ ما أبلغ هذه الحكمة الأولى من حكم الحج! وما أعظم هذه الرياضة الروحية للنفس! رياضة تبلغ بالإنسان إلى عليا درجات الإنسانية، إلى الدرجة التي يقرب عندها من الأنبياء والصديقين والأولياء المقربين، والتي تطوع له أن يفنى حقا في جلال الله ذي الجلال والإكرام؛ ليقوي بهذا الفناء ضعف نفسه، وتزول بهذه القربى كل عوارض أهوائه، لقد تضاعفت هيبة هذه الصورة في نفسي منذ أحسستها قريبة كل القرب مني، فامتلأ قلبي بجلالها أضعاف ما امتلأ من قبل حين كنت أصورها لنفسي قبيل السفر.
وتناولنا طعام الغداء، وأويت إلى مخدعي، وأوى الآخرون إلى مخادعهم وإلى غرف الاستحمام نتهيأ كلنا للإحرام، ودلفت محرما إلى بهو الباخرة أتقي به هواء البحر، فإذا من بالبهو جميعا محرومون، وألقيت عليهم السلام فكان جوابهم أن تنادوا وأنا معهم: لبيك اللهم لبيك ... ها أنا ذا الآن تنطق شفاهي وأسمع بأذني ما كان يتصوره ذهني ، وها أنا ذا يخفق فؤادي لهذا النداء نجيب به داعي الله صادرا من قلوب ملئت بالله إيمانا، ويقبل علينا قادم محرم فتعلو بالتلبية أصواتنا جميعا في شيء من الترتيل لا يذهب بمعناها وينتظم نغمها، فإذا انقضت فترة لم نشغلها بالتلبية تحدث الحاضرون في الحج، أو قص أحدهم طرفا من سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام، فلما آن للشمس أن تغيب قام فقيه فنادى مؤذنا بصوت جهوري سمعه أهل الباخرة أو أكثرهم، ثم أم المكان الذي اتخذناه مصلى فنادى فيه للصلاة، وسرعان ما انتظمت الصفوف، ولم يكن الرجال وحدهم هم الذين نظموا صفوفهم، بل نظمت السيدات صفوفهن من خلف الرجال وقمن معهم بصلاة الجماعة في خشوع وإنابة، واستغفرن بعد الصلاة كما استغفروا، وطلبن عفو الله كما طلبوه.
وخرجت من البهو إلى سطح الباخرة أجتلي في موليات النهار تقلب الموج، وألتمس أشعة القمر الناصع ما تزال متألقة فوقه، وإني لأسير إذ لاقيت رفيقا يمشي الهوينى، فمشيت معه، ولم يكن رفيقي يخفي من آرائه حرصه على حجاب المرأة أو عدم اتصالها بغير ذي رحم محرم من الرجال، ولا يخفي اعتقاده أن في التقاء الجنسين، وإن في مجمع حافل، محرضا على الفساد، ولكنه إذ رأى هذا الاجتماع للصلاة يحضره الرجال والنساء في طهر وإنابة لم يلبث حين سرت معه أن قال: أرأيت هذا الاجتماع الذي ضم الجنسين معا للصلاة؟ إن طهارة القلب والقصد وسمو الغاية كفيلة بأن تزيل كل خوف من اختلاطهما، ولو أن أخلاقنا صلحت وغاياتنا في الحياة سمت لما تمسك بالحجاب أحد.
وأقررت رأيه ولم أذكر له أن إقبال السيدات المصريات على الاشتراك في صلاة الجماعة على الباخرة، إنما شجعهن عليه ما نلن في السنوات الأخيرة من حرية طوعت لهن الاتصال بالرجال في تجارة الحياة، وأنهن لو بقين كما كن رهن خدورهن، يراهن الرجال عورة، ويولين من منظر الرجال فرارا، لما تركت إحداهن مخدعها، ولا تناولت طعامها بالباخرة في غرفة المائدة لا يفصل بينها وبين الرجال إلا ستار رقيق، ولظللن حبيسات المخادع حتى يخرجن من الباخرة محمولات إلى مركباتهن، ثم إلى محفات الطواف والسعي.
أقبل المساء وبدأ الركب يتحدثون في وصول الباخرة بكرة الصباح إلى جدة، ويتساءلون: أيتيح لهم الحظ فرصة النزول إلى الشاطئ والذهاب إلى مكة لإدراك صلاة الجمعة في الحرم، ولأداء طواف العمرة وسعيها بعد الصلاة كيما يحلوا إحرامهم إحلال التمتع ليحرموا بعد ذلك للحج، واشتركت وإياهم في هذا الحديث، فلما خلوت إلى نفسي عجبت لهذا الإحرام الذي لا يدوم يوما كاملا، والذي يتحدث أصحابه في التحلل منه بعد سويعات من ارتدائهم إياه، فما بين رابغ وجدة أقل من اثنتي عشرة ساعة في الباخرة، وبين جدة ومكة ساعتان أو نحوهما في السيارة، وما بين ذلك من إجراءات النزول إلى جدة وما بعده من الطواف والسعي لا يستغرق أكثر من أربع ساعات أو خمس، أين إذن أسوة المسلمين بالرسول وأصحابه في هذه الفريضة؟
إن ما بين المدينة ومكة على الإبل ليستغرق عشرة أيام أو أكثر يظل الحجيج محرمين أثناءها ملتزمين ما فرض القرآن أن لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وهذه الأيام المتوالية لها أثرها في رياضة النفس الروحية وفي تهذيبها هذا التهذيب الراقي السامي، وإنما فرض الإحرام - في رأيي - لهذا التهذيب وهذه الرياضة؛ ولذلك يلتزم الإنسان أثناءه آدابا في التلبية، وفي التوجه لله، وفي الرغبة عن أهواء الحياة الدنيا، فكيف تتم هذه الحكمة بالتجرد أربعا وعشرين ساعة لا يمتنع الإنسان خلالها إلا عن القليل من عاداته! إن رياضة هذا كل أمدها غير جديرة بأن تترك في النفس أثرا يذكر.
وأفضيت بخاطري هذا إلى بعض إخواني بالباخرة، فكان جواب أحدهم: الدين يسر لا عسر، والميقات مكان لا زمان، ولو أنك أحرمت من رابغ ثم طرت إلى مكة في ساعة أو دونها لكنت قد أديت الواجب الديني المفروض عليك، فأما الرياضة الروحية فليس الإحرام بممهد لها، ولا التحلل بمانع منها من أرادها.
ردني هذا الجواب إلى التفكير فيما حسبته من حكمة الإحرام، وتساءلت: فيم إذن هذا التجرد من المخيط إذا لم تكن له حكمة تسوغه؟ أولا يكفي أن يتساوى الناس سويعة في مظهرهم وهم يعلمون ما بينهم من عظيم التفاوت؟ ولم أرد أن أمعن في هذا الحوار مخافة أن يكون الاعتراض على رأي الغير أو التفكير في قيمته جدالا فيه، «ولا جدال في الحج»، وأنا جد حريص على رياضة نفسي هذه الرياضة السامية التي وردت في القرآن.
وأوينا إلى مضاجعنا وكلنا الشغف أن يطالعنا الصبح بشاطئ جدة بعد سفر بالغ البحر أثناءه في اللطف بنا، حتى لوددنا لو نظل وإياه أياما لولا شغفنا ببلوغ البيت العتيق، وتنفس الصبح عن جو صاف ونسيم عذب ويقظة للوجود مستبشرة ضاحكة، وقمنا إلى متاعنا نعده للنزول، وأخوف ما نخافه أن تضيق بنا السويعة الباقية عن إتمام إعداده، وأزفت الساعة السابعة صباحا، وتبدى الشاطئ بشيرا بأم القرى، وإنا لنفكر في النزول إلى جدة وفي الرحيل منها وفي إدراك الجمعة بالحرم إذا «كوثر» تهتز هزة عنيفة وكأنما زلزلت زلزالها، هزة رجت منها مفاصلها جميعا، واضطرب لها كل وجودها، وبعد هنيهة من هذه الهزة التي لم تتسع لأي تفكير منا في أمرها وقفت الباخرة لا حراك بها وكأنها جسد هامد، وفي أثر وقوفها سرت إلى مخدعي من بهوها أصوات المسافرين ترتفع مرتلة: «باسم الله، الله أكبر، ولله الحمد»، فملبية في حماسة فيها إيمان وتقوى.
ما هذه الهزة العنيفة يعقبها وقوف مفاجئ؟! لم يدر بخلدي أن في الأمر ما أخشاه، وما عسى أن أخشى وهذا الشاطئ على مقربة منا قد رأيناه رأي العين؟ وكل ما توهمته أن ربان الباخرة أدارها نحو الشاطئ في عنف نشأت عنه هذه الهزة، ثم وقف بها انتظارا لشرطة المرفأ ورجال الصحة به، وآية ذلك هو الحمد لله من جانب المسافرين، وازددت انهماكا في إعداد متاعي كيما أسبق غيري إلى الزوارق فأسبقهم إلى الشاطئ، وضغطت الجرس أبتغي فنجانا من الشاي أتناوله قبل أن يبغتني الوقت، فلما أجاب الخادم جرسي طلبت إليه الشاي، وسألته عن هزة الباخرة ما كانت؟ فأجاب: لقد شحطت على جزيرة من الرمل ، وعما قريب تعود سيرتها إلى جدة.
شحطت على جزيرة من الرمل؟! لم تكن هذه الهزة المزعجة إذن لفتة من الربان فيها عنف، بل كانت صدمة بجزيرة من جزر البحر وشعب من شعابه، الأمر أجل إذن من أن أقف عند متاعي وإعداده، فلأذهب لأتبين جليته، وتناولت الشاي دراكا وأسرعت إلى بهو الباخرة في لباس إحرامي، فألفيت المسافرين مجتمعين كأنهم يتداولون، وخلوت بأحدهم وسألته فقال: لقد اصطدمنا بشعب من شعاب البحر الأحمر الناتئة بجدة، هذه الشعاب المعروفة للملاحين جميعا؛ لذلك لا أدري كيف دفع الربان السفينة إليه في يقظة النهار وضوء الشمس، وقد قيل لنا: إن الربان بعث رجاله فامتحنوا موضع التصادم من قاع الباخرة، واطمأنوا إلى أنه لا خطر على الباخرة ولا خطر علينا، ولست أدري ما الله صانع بنا من بعد ونحن في وسط البحر بين صخوره وشعابه؟
واشترك معنا في الحديث زميل حاج من رجال التلغراف اللاسلكي، فقال: لقد صعدت إلى الربان ساعة حدثت الصدمة؛ لأنني أعرف في هذا المكان شعبا يدعوه أهل جدة «شعب السامري»، وتثبته الخرائط الأوروبية باسم «شعب سانت ماري»، ولم تدر بخاطري ريبة منذ حدثت الهزة في أننا اصطدمنا به، وذكرت للربان أنني من رجال اللاسلكي الرسميين، وعرضت عليه خدمتي، فشكرني وذكر لي أن عنده رجل اللاسلكي الذي يعمل بالباخرة وأنه لا يخشى خطرا.
وساد الباخرة صمت رهيب بعد ضجة التكبير والتهليل التي أعقبت الصدمة، فقد نسي المسافرون الإحرام والتلبية، ووقف تفكيرهم عند هذا الحادث وأثره، وكان جل تساؤلهم عن مبلغ الخطر وهل يوشك أن يدهمنا؟ ولم تهدأ وساوسنا بعض الشيء إلا بعد ان علمنا أن الشعب الذي ارتطمت به الباخرة شعب أملس يميل متدحرجا في هون إلى الارتفاع، وأن ميله وملوسته وتدرجه طوعت لها أن تزحف عليه وأن تستقر فوقه، ولولا ذلك لتحطمت عليه، ولكنا منذ وقوع الحادث بين يدي الموت يرحم من شاء ويختار من شاء، وقال الذي نقل إلينا هذا التفصيل: لعلكم علمتم أن الماء دخل من نوافذ الحجرات الواقعة عند مؤخر الباخرة ، واضطر رجالها إلى إقفال الأبواب الحديدية المتصلة بهذه الحجرات، ذلك أن الباخرة حينما زحفت فوق الشعب ارتفع مقدمها وانحدر المؤخر، فهوت نوافذ حجرتها فحاذت الماء فتسرب جانب منه إليها قبل أن يحكم إقفالها، ولولا أن وقفت الباخرة حيث وقفت بعد أن تقدمت في زحفها بضعة أمتار، لجرها مؤخرها إلى الماء فابتلعها وابتلعنا معها.
انطلق المسافرون يعلقون على هذا الحديث كل بما عن له، ولم يأب توثب الخيال على بعضهم أن يذكر أن الربان تعمد وقوع الحادث، وكيف لا يكون تعمده - في تصورهم - وهو قد وقع في وضح النهار وفي مكان يعرف كل من مارس البحر الأحمر ما به من شعاب، ولم يعدل هؤلاء عن تصورهم أن أبسط منطق للعقل يأباه، فلا مصلحة للربان الإيطالي في وقوعه، وأيسر نتائجه يؤذيه أبلغ الأذى، والعقل يأبى أن يعرض إنسان نفسه للأذى بلا فائدة ولا مقابل، لكن منطق العقل ليس المنفرد بالسلطان علينا، وكثيرا ما يغلب خيالنا منطقنا بتسلط تصورنا على حسنا، ولقد كنت أشد الناس اقتناعا بهذا المنطق وحرصا على إقناع المسافرين به، مع ذلك ذكرني وقوع الحادث وخوض الناس في تفاصيله بما كان من حديثنا عن الربان في غرفة المائدة قبيل السفر، وقول حكمدار السويس الإنكليزي: قد تكون الحوادث أحيانا أقوى من كل ما نقسم به.
وعدت وعاد المحرمون إلى الخوض في الحادث وكيف وقع، هذا الحادث الذي لم أحسبه أول الأمر ذا بال، وها هو ذا يتجسم الآن خطره، ويزداد جسامة رويدا رويدا في نظري ونظر المسافرين جميعا، فلما أدركنا جسامة الخطر على حقيقتها ازددنا شكرا لله أن وقفت الباخرة حيث هي، يمسكها الشعب وإن مالت إلى جانبها بعض الميل، وامتلأت نفوسنا بالشكر وفاض عنها، فترجمنا عن فيضه بالإمعان في التلبية مكررة قوية صادرة من قلوب زادها تصور الخطر إخلاصا وإيمانا، إن صح أن تزداد قلوب قصدت إلى بيت الله ملبية نداء ربها إخلاصا وإيمانا.
وكان رجال الباخرة الرسميون في مثل ارتباك المسافرين للحادث، حتى لقد اختفوا عن الأنظار، ولم يقف منهم إلى جانب المسافرين من يهون الأمر عليهم أو يبعث الطمأنينة إلى نفوسهم، ولم يعادوهم من الطمأنينة ما يذكرهم واجبهم إلا بعد أربع ساعات من الحادث، إذ ذاك أصدروا بلاغا قيل فيه: إنه لا خطر منه، والحمد لله على «كوثر» وركابها، وإن الباخرة «زمزم» الراسية بمرفأ جدة ستجيء لمعاونتها.
تلقى المسافرون هذا البلاغ بنوع من الاطمئنان لم يكن منه مفر، وزادهم طمأنينة سكينة البحر وصفاء الجو ورقة النسيم من حولنا، والشمس ساطعة يبعث ضياؤها إلى الأفئدة دفئا ينعشها ويزيل كل مخاوفها أن يصيبها من غدر البحر سوء، وهل يغدر البحر بمن أتوا إلى بيت الله حاجين معتمرين؟
وتناولنا غداءنا ولم تكن «زمزم» قد ظهرت في الأفق، ومع لطف الله في قضائه لم تطاوع أحدنا نفسه أن ينزل إلى حجرته يقيل بها، بل بقينا نحدق إلى ناحية الأفق منتظرين الباخرة المنقذة، وقبيل الساعة الثالثة بعد الظهر - أي: بعد ثمان ساعات من الحادث - تبدت «زمزم» مقبلة، فشدت إليها أبصارنا وبقيت معلقة بها حتى وقفت على مقربة منا تختار مكانا يهيئ لها القيام بالمهمة التي ندبت لها حتى يتم انتقالنا إليها بسلام لإيصالنا إلى المرفأ، ذلك ما جاء في بلاغ رجال «كوثر»، وهو ما دار بخاطرنا، لكنا بقينا ساعة كاملة ننتظر هذا الانتقال، ثم لم نر من بوادر التهيؤ له ما يبشر به، وسألنا في ذلك، فقيل لنا: إن التفكير منصرف إلى أن تسحب «زمزم» «كوثر» من مكانها إن أمكن لتدخل الباخرتان جدة معا، فيسدل ذلك على الحادث ستارا ينسى من علم بأمره في مصر وفي غير مصر أنه وقع.
أقر كثيرون هذا الرأي حرصا منهم ألا تشوب سفرة «كوثر» شائبة، وكاد هذا الرأي يسود لولا أن قال أحد الحاضرين: فإذا فرض أن بكوثر عيبا يستره التحامها بالشعب ويبديه سحبها فتتعرض بسببه حياتنا للخطر، فما عسى أن يكون الرأي؟ أليس الأحكم أن ننتقل أولا إلى زمزم، ثم تجر «زمزم» «كوثر»، فإن سحبتها من الشعب وعادتا معا إلى جدة تحقق الأثر الذي تبتغيه الشركة ولم يتعرض المسافرون لخطر، وإلا عادت «زمزم» بنا إلى جدة قبل أن تضيع علينا فرصة الحج، ولم يبق على الوقوف بعرفات إلا ثلاثة أيام؟!
وسمعت السيدات هذا الحديث وكن منتحيات جانب البهو المقابل للرجال، فلما بدا لهن خوف الخطر إذا سحبت «زمزم» «كوثر» ونحن بها تقابلت نظراتهن في لمح البصر، ولم تلبث إحداهن أن اندفعت معبرة عن شعورهن جميعا تقول: لن تتحرك «كوثر» ونحن بها، فلينقلونا أولا إلى «زمزم»؛ لنكون بمأمن على ظهرها ثم ليفعلوا ما شاءوا، وإذا وجب علينا - لأننا مصريون - أن نحرص على نجاة «كوثر» وسلامتها، فواجب على الشركة أن تكون أشد حرصا على أرواحنا، كذلك قالت، ثم حدقت بنا معشر الرجال بنظرة الآمر، وأضافت: هذا رأينا، وعليكم - معشر الرجال - أن تتشاركوا فيه وأن يبلغ للمختصين من رجال الشركة.
ألقيت هذه الكلمة في حزم تجلت فيه كل مظاهر الإرادة الصلبة التي لا تلين، وأيدت السيدات قول زميلتهن في حزم كحزمها، وكان الرأي ظاهر السداد، فلم يكن إلى التردد في تنفيذه سبيل، وأجابنا ممثل الشركة بأن الأمر استقر كما أردنا، وأن تنفيذه يبدأ من فجر الغد، فقد أرخى الليل سدوله وسادت دولة الظلام.
شهدت ثورة السيدات قبل اليوم غير مرة وفي غير بلد، شهدتها في إنجلترا، وفي فرنسا، وفي مصر، لكنها كانت في هذه المرات كلها متصلة بمطالب سياسية أو قومية، فكانت العاطفة التي تدفع إليها تشوب قوتها رقة ويشوب عنفها فن يتصل بها اتصال الرقة بسجية الأنوثة، أما هذه الثورة التي بدت في أعين السيدات مذ شعرن بالخطر يهدد حياتهن وحياة بعولتهن أو ذويهن، فلم تشبها رقة ولم يسر فيها شيء من روح الفن، بل كانت كلها عنفا وقوة وحزما وصلابة، وهذا طبيعي، فالثورة القومية أو السياسية يمكن أن تنتهي إلى صلح - إن لم يحقق أغراضها - كان فيه شيء من حفظ الكرامة، أما ثورة من يدفع الخطر عن حياته وحياة من يعز من ذويه فلا صلح فيها إلا بالتسليم والنزول على إرادة هؤلاء الثائرات حفاظا على كيانهن وكيان ذويهن، وكذلك كان.
اطمأنت النفوس إلى الانتظار في «كوثر» حتى الصباح، وزاد في طمأنينتها أن بقي الجو في صفوه والنسيم في رقته، فلم نكن نخشى عاقبة تتأثر الباخرة بها وهي مائلة فوق الشعب تأثرا بالغ بعضهم أثناء النهار تقدير نتائجه، وجاء إلى «كوثر» قنصل مصر في جدة وطبيب القنصلية بها ورجال الحكومة العربية السعودية منتقلين من «زمزم» إليها مع رجال شركة مصر للملاحة، فشعرنا لوجودهم بيننا؛ كي يشاركونا مصيرنا، كأن الباخرة رست، وكأننا وإياهم في أرض جدة، وتناولوا وإيانا طعام العشاء، واتصل بيننا وبينهم حديث فيمن سبقونا إلى موسم الحج، وفي هذا الحادث ولطف الله بنا في قضائه، وفي حسن حظنا بوجود «زمزم» بجدة لتيسر انتقالنا فلا يفوتنا الحج، بهذا كله سكنت أعصابنا، وأتيح لنا أن ننال بعض الراحة بالنوم في أمن من انزلاق الباخرة إلى قاع اللج، ممتلئين أملا أن ندرك مكة قبل مغيب شمس الغد.
وابتدأ انتقال المسافرين إلى «زمزم» في بكرة الصباح، وكان الانتقال بطيئا لعدم التعاون بين المسئولين عن سرعة إنجازه، ولولا اندفاع المسافرين وانتقال طائفة كبيرة منهم في زوارق النجاة لما تم طيلة اليوم، وكمل المسافرون بزمزم في الساعة الثالثة من بعد الظهر، فتحركت بهن على هون حتى قاربت مرفأ جدة والنهار يولي، وبينما كان المسافرون في ابتهاجهم بقرب نزولهم إذا قرار السلطات المحلية في هذا الأمر يحيل ابتهاجهم تجهما؛ فقد خشيت هذه السلطات أن يصيب «السنابك» التي تنقل المسافرين من الباخرة إلى الشاطئ ما أصاب «كوثر» حين مرور هذه السنابك بين الشعاب في ظلمة الليل، فقررت مبيت المسافرين بزمزم، ولم يستثن من هذا القرار إلا الأميرة خديجة حليم وحاشيتها، واستثنيت أنا منه لكوني ضيف وزير المالية العربية الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان، فتركنا الباخرة مع رسوله إلي ونزلت ومن معي إلى «اللنش» لينقلنا إلى الشاطئ.
وانطلق «اللنش» مخلفا وراءه «زمزم» ومن بها، وإني ليتنازعني ساعة انطلاقه عاملان: عامل الأسف لمقام إخواني على الماء ليلة أخرى، وعامل الغبطة لإدراك مكة والبيت الحرام ولقضاء العمرة طوافا وسعيا، ولقد تنازع هذان العاملان نفسي مذ علمت أني مغادر «زمزم» قبل إخواني، وكان عزيزا علي أن أفارقهم أو أتقدمهم وقد قضينا سفرا نعمت معهم فيه بخير رفقة، لكنهم رأوا الأميرة وحاشيتها يسبقونهم فشجعني بعضهم على النزول، وكأنما رأوا فيه مظهر مساواة بين الطوائف، أو شبهة مساواة على الأقل.
وجرى بنا «اللنش» بين الشعاب قاصدا إلى الشاطئ والشمس وراء ظهورنا تنحدر إلى مغيبها، واتشحت اللجة الزرقاء الأديم بوشاح المغيب، فلم نأبه لها، وقد شغلنا عنها باستعجال غايتنا، ومررنا بباخرة محطمة غرقت في الماء فليس يبدو منها إلا أعلاها، تلك هي الباخرة الفرنسية «آسيا» التي احترقت منذ سنوات أثناء وقوفها حيث هي اليوم من غير أن تصطدم بشعب أو يصادفها غير الأجل الذي سلط ألسن النار عليها، وسرى إلينا نسيم المغيب فوق لجة الماء فأنعشنا وأنسانا بعض وصب النهار، وتلوى الزروق في انطلاقه متيامنا حينا متياسرا حينا، محاذرا الشعاب، مطمئنا إلى مهارة سائقه وإلى معرفته ما تحت الموج إلى قاع اللج معرفة يأمن معها الاصطدام بالسامري أو غير السامري من هذه الشعاب.
اقتربنا من جدة وبدت لناظرنا دورها وعماراتها، وازدادت وضوحا على رغم نزول الظلام، وكان مظهرها يغري بالظن أنها خططت تخطيطا جميلا وبنيت على الطراز الحديث، وذلك الشأن في كل ما يبدو للمقبل في البحر من مظاهر اليابسة، فإذا اقتحمناه كنا كالجراح إذ يقتحم بمشرطه جسدا جميلا، وشاهد «نابولي» أو «مرسيليا» أو «بيروت» قبل أن ترسو الباخرة بها يرى جمالا أدنى إلى جمال المرأة في ثياب زينتها، وأحسب الذين لم يعرفوا من ذلك ما عرفت قد خدعوا بمظهر جدة، وكان من حقهم أن يخدعوا بهذه المباني التي تمتد أمامهم على الشاطئ أميالا عدة في نظام زاده البعد اتساقا وجمالا.
وأرسى «اللنش» على درج صعدنا منه إلى الشاطئ، ولم يثر إحرامنا تطلع أحد؛ إذ كان الإحرام لباس عشرات الألوف الذين يفدون إلى جدة كل عام حاجين، وتناول رسول وزير المالية جوازات سفرنا، وتخطينا بناء الجمرك ولا يكاد يرى الإنسان أثناءه طريقه لضآلة نور المصابيح المعلقة إلى جدرانه، وتفضل رسول مضيفنا فأمر من تقدمنا بمصباح ذي نور أبيض، وأفضى بنا الجمرك إلى ميدان فسيح لولا نور القمر لتعذر علينا أن نصل منه إلى جانب وقفت السيارات فيه، وقد أعدت إحداها لتقلنا إلى أم القرى.
الله أكبر! ها أنا ذا بالأراضي المقدسة، بلاد النبي العربي محمد - عليه الصلاة والسلام، وبعد سويعة سأكون في الطريق إلى مكة، ما أكرمك ربي وما أعظم رحمتك ورضاك! قضيت أن نحج بيتك ويسرت لنا سبيله، فتقبل ربنا حجتنا وعمرتنا، وهيئ لنا من أمرنا رشدا.
العمرة بمكة
تخطينا جمرك جدة إلى الميدان الفسيح أمامه، ووقفنا إلى جانب سيارتنا ننتظر مرور متاعنا بتفتيش الجمرك، ولم يطل انتظارنا، بل أكاد أقول: إنا لم ننتظر؛ فلم يكن بالجمرك ما يشغل رجاله عنا غير متاع الأميرة خديجة حليم وحاشيتها، ولم يتناول التفتيش هذا المتاع ولم يتناول متاعنا، فمتاع الأميرة لا يفتش لأنه متاع الأميرة، ومتاعنا لم يفتش لأننا ضيوف وزير المالية.
ولعل متاع الحجاج لا يفتش بوجه عام إلا لشبهة قوية اعتمادا على أن من جاء بيت الله حاجا لا يذكر ما يقرره عن متاعه إلا صادقا.
وإنما أوفد وزير المالية رسوله إلينا وكنت ضيفه لمناسبة أذكرها، فقد كنت عائدا من بيروت إلى مصر في 19 سبتمبر سنة 1935 على الباخرة الإيطالية «أوزونيا»، وكان وزير المالية قادما يومئذ على هذه الباخرة من مصر إلى لبنان، وتقابلنا بها حين رست ببيروت، وجاء ذكر كتابي «حياة محمد»، وسألني أحد من حضروا المجلس: هل تعتزم زيارة الحجاز؟ ولما أجبت أن ذلك بعض ما يدور بخاطري منذ أعوام، طلب وزير المالية أن أكتب إليه متى صح عزمي على السفر، وكتبت إليه قبيل سفري، فأوفد إلي رسوله في مياه جدة يبلغني أنني في ضيافته.
وكان أول مظهر لهذه الضيافة أن أقلتنا السيارة بأمر الرسول إلى فندق جدة لتناول طعام العشاء فيه قبل ذهابنا إلى مكة، والفندق للحكومة أعدته لراحة الحجاج والمسافرين من أهل البلاد؛ لذلك كان التقشف في عمارته وفي أثاثه وكل ما فيه.
ولم يطل مقامنا به، فما فرغنا من طعامنا حتى نزل إلى السيارة نركبها إلى مكة، وكذلك كان الفندق كل ما رأيت من جدة، وانطلقت السيارة متمهلة في طرق هذا البلد حتى وقفت عند مخفر الشرطة، ونزل السائق منها في ردائه البدوي الخشن يؤشر من المخفر على «الكوشان»، والكوشان جواز السفر المحلي، فليس يجوز لأحد أن ينتقل داخل الحجاز من مدينة إلى مدينة بغير جواز خاص.
وتابعت السيارة طريقها إلى خارج جدة وإلى ما وراءها من فضاء، وكان الليل قد اشتمل هذه الأرجاء جميعا في صمته ورقة نسيمه، وأجلت بصري فيما حولي وجعلت ألتمس صورة بلاد العرب المرتسمة في دخيلة نفسي، فإذا ضوء القمر يسعد الليل بلجته ويرسل تحية عذبة إلى صمت هذه الأودية قامت كثبان الرمل عن جانبيها، وارتفعت جبال يحجب سقف السيارة عنا قننها، ولم يعصمني لباس الإحرام من البرد فاتقيته متلفعا بردائي ولم ألبس مخيطا، وكأنما انتقلت إلينا عدوى الصمت المحيط بنا فأمعنا في الصمت، فلم تنفرج شفاهنا عن ألفاظ غير ألفاظ التلبية.
وبعدت السيارة عن جدة منطلقة في البيداء وحيدة لا يسعدها أنيس، على أنا لم نلبث أن مررنا بقافلة من الجمال تسير على هون متجهة إلى حيث نتجه، وخلفناها وراءنا، ثم أدركنا قافلة من الحمر أسرع منها سيرا، وتخطينا قافلة الحمر، ثم إذا بنا نسمع صوتا يقترب منا ويردد الليل صداه في خضوع وإكبار؛ أولئك جماعة من الذين لم يجدوا دابة تحملهم فساروا على أقدامهم متوجهين إلى بيت الله بقلوبهم، وإلى رب البيت بدعائهم: «لبيك اللهم لبيك»، ومررنا بهؤلاء وصوتهم يدخل إلى قلوبنا بغير استئذان فيملؤها رهبة ومهابة، وكلما فتنا واحدة من هذه القوافل أدركنا أخرى، وكلهم في إحرامهم يشتملهم ضوء القمر في لجته فيزيد بياضهم نصوعا، والأودية تحيط بها كثبان الرمل وتحجبها الجبال عما وراءها تردد تلبية الملبين من أهل هذه القوافل، وقد اتشحت من جلال هذا النداء المنبعث من قلوب كلها الإيمان والإذعان بما ملأها خضوعا وإذعانا.
كم سمعت هذه الطبيعة المحيطة بي من أصوات هذا النداء خلال مئات سنين خلت منذ بعث الله محمدا نبيا وهاديا ورسولا، أصوات لا يحصيها العد ولا يتناولها الحصر، وما يحدث في الطبيعة لا ينمحي أثره، إذن فقد ارتسمت هذه الأصوات ها هنا ونقشت على سفوح هذه الجبال، ولو أن لدينا إبرة تظهرها كما تظهر إبرة «الفونوغراف» الأصوات المسجلة على أسطواناتها لسمعنا عجبا: تلبية الملايين وألوف الملايين مرتفعة إلى بارئها في إيمان يدك الجبال، ويزعزع الرواسي ويخر له كل ما في الوجود ساجدا؛ لأنه أسمى من كل ما في الوجود برهبوت جلاله وقوة عظمته، واتصاله بمالك الملك ذي الجلال والإكرام.
كانت أم السلم أول محلة مررنا بها بعد جدة، وقد وقفت السيارة عند مخفر الشرطة وقدم السائق إليه «الكوشان» كيما يتابع سيره، ومخفر الشرطة بدوي في بنائه، لا شيء فيه من مظاهر نظام العمارة، ولا يلفت النظر منه غير بدويته الساذجة، وليس حوله مظهر عمران إلا بعض مبان من نوعه، وبعض عرائش من فروع الشجر اليابسة يستريح من شاء من الحجاج إلى ظلها، ويجد فيها فنجانا من الشاي الذي يقدم في كل مكان، أما القهوة فدون الشاي حظا، وإن كنت تجد النجدية منها إلى جانب الشاي إن أردتها.
وعاودنا سيرنا نمر بمثل القوافل التي مررنا بها، فنجتازها مسرعين حيث كان الطريق صالحا، مبطئين كلما أمسكت الرمال عجلات السيارة، فحالت بينها وبين الإسراع، وبلغ من إمساك الرمال السيارة في بعض الأحايين أن كانت تقفها عن الحركة، وذلك حين تبتلع عجلاتها وتجعل دورانها عبثا لا طائل وراءه، ولطالما وجدنا في هذه الحالات عونا من رجال القوافل، إذ كانوا يسارعون إلى تلبية رجائنا فيرفعون السيارة ويدفعونها لتعاود سيرها.
لم تكن هذه المعونة تقتضي أكثر الأمر غير فترة وجيزة لا يكاد سائقنا ورجال القوافل يتبادلون أثناءها حديثا، لكنها كانت تطول حين يغوص بطن السيارة مع العجلات في الرمل الناعم، وحين يتعذر لذلك رفع السيارة إلا بتكرير الجهد، فإذا استراح القوم هنيهة تبادلوا الحديث ترويحا عن أنفسهم ، وكان الحديث كله يدور حول الحج والقادمين له، سأل السائق أحدهم عن قافلته فأجاب أنهم من الجاوة، وأن زميلا له يسير بقافلة من أهل فلسطين، أما الذين أعانونا من السائرين رجالا فقد بدا على وجه أحدهم أنه صيني، ولم نستطع أن نعرف جنسية آخر، لا من سحنته، ولا من لهجة حديثه، وكذلك كانت هذه الجموع المحرمة كلها، المتوجهة كلها حاجة بيت الله، تجمع بين المسلمين من مختلف أقطار الأرض ممن استطاعوا إلى الحج سبيلا، فجاءوا يحدوهم إيمان بالله تذوب دونه المتاعب وتصبح المشاق في سبيله يسرا ومثوبة، ومن عليا السموات أرسل القمر على هؤلاء السعداء بأداء الفريضة - فما ينفكون ينادون ربهم لبيك لبيك - أشعة رطبة ندية تهون على الدواب السير، وتبعث إلى نفوس المشاة في إحرامهم أشعة أعظم منها ضياء؛ تلك أشعة الأمل الصادق في وجه الله وفي مثوبته وغفرانه، أمل يتردد فيما يتبادلونه من حديث الطواف والسعي والصلاة في الحرم والشرب من ماء زمزم.
طبع هذا المنظر أعمق الأثر في نفسي، فهذه القوافل من المشاة والركبان تقصد إلى غاية واحدة وترجو في ربها الرجاء الأسمى، وهم جميعا سواسية في اتجاههم، سواسية في إيمانهم، سواسية في تفكيرهم، وهم جميعا قد نسوا كل شيء إلا هذه الغاية الروحية السامية التي تندفع نحوها جسومهم، وتطير إليها جوانحهم، وتزداد امتلاء بها أفئدتهم وقلوبهم، كلما ازدادوا قربا من مهبط الوحي ومن بيت الله، ليس يذكر أحدهم ما له من ثروة أو جاه أو ولد، وإنما يذكر أنه وهؤلاء المسافرين معه أخوة في الله، وأنهم جميعا قد أتوا قاصدين بيته، ملبين داعيه؛ ليشهدوه على أنفسهم؛ وليطهروا بين يديه مما قدمت أيديهم؛ وليبدءوا بذلك حياة جديدة يبتغون فيما آتاهم الله الدار الآخرة، ولا ينسون نصيبهم من الدنيا، ويحسنون كما أحسن الله إليهم، ولا يبغون الفساد في الأرض؛ لهذا جاءوا من كل فج عميق؛ ولهذا ركبوا البر والبحر واستهانوا بالمشقة ونسوا كل شيء إلا الله؛ ولهذا أحرموا آية إخائهم ومساواتهم، إيذانا بأن أقربهم إلى الله أتقاهم، ومظهرا لميلادهم الروحي الجديد؛ ليتخذوا من هذا الميلاد عدتهم لحياة جديدة؛ ولهذا تتصل قلوبهم وإن اختلفت أجناسهم وألوانهم ولهجاتهم، وهم يعبرون عن هذا الشعور بالتلبية تنفرج عنها شفاههم في حبور وغبطة مطمئنين إلى رحمة الله ومغفرته، إنه يغفر الذنوب جميعا، لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء.
وبلغ من عمق هذا الأثر في نفسي أن ازددت نسيانا لنفسي وفناء في الله وفي إخوتي هؤلاء، وقد قصدنا جميعا وجهه مخلصين له الدين حنفاء، نعم! نحن جميعا إخوة، وأقربنا إلى الله أشدنا بهذه الأخوة شعورا، فأنا المصري أخ لهذا العربي ولهذا الجاوي ولهذا الصيني وللمؤمنين جميعا رجالا ونساء شبانا وشيبا وأطفالا، وأنا الذي نلت حظا من العلم أخ في الإيمان لمن نال من العلم أضعاف ما نلت، أخ لمن لم ينل من العلم أي حظ، أخ للبائس والمحروم إخائي للغني وصاحب الجاه والسلطان، والبائس والمحروم من الجاه والسلطان والعلم أدنى إلى قلبي؛ لأنهم أحوج إلى محبتي وإخائي، ذلك وحي هذه الساعة الفذة من ساعات حياتي، والتي اتصلت فيها لأول مرة بمكان خطت فيه قدما محمد النبي العربي، أكبر من دعا إلى المحبة والإخاء، وأكبر من دعا إلى السعي والجهاد.
وفاض بي هذا الشعور فتندت عيني، وخفق قلبي، وانفرجت شفتاي عن آي الحمد والشكر: لبيك اللهم لبيك لبيك ... وسمعت أذناي الأودية والجبال والقوافل السارية بينها جميعا يدوي فيها هذا النداء، فازداد شعوري فيضا، وقلبي خفقانا، وازددت لله شكرا وبه إيمانا.
وقفت بنا السيارة عند بحرة، وبحرة هي المحلة الثانية في طريق مكة، وهي تلفت النظر بالأضواء الكثيرة البيضاء المنتشرة فيها دلالة استعداد مقاهيها البدوية لاستقبال القوافل بها؛ ذلك أن قوافل الإبل تقطع الطريق بين جدة ومكة عندها تقضي ساعات الراحة بالنهار أو الليل فيها، أما السيارات فتجتازها كما تجتاز أم السلم بعد وقفة عند مخفر الشرطة يطلع رجاله أثناءها على «الكوشان»، وقد لا يأبى بعض راكبي السيارات أن يتناولوا فنجانا من الشاي بها.
آخر محلة قبل مكة الشميسي، وكنت أعرف من قبل أن الشميسي اليوم هي الحديبية على عهد رسول الله؛ وكنت لذلك أرجو أن أقف عندها لأتبين مواقع المسلمين الذين جاءوا حاجين فصدتهم قريش، وكادت الحرب تنشب بينها وبينهم لولا حكمة الرسول وأناته وجنوحه إلى السلم وحسن سياسته مما انتهى بينه وبين أهل مكة إلى عهد الحديبية، وإلى إقرار قريش أن يزور المسلمون مكة معتمرين عامهم المقبل، ولكن أنى لي أن أنزل المكان والليل قد انتصف وقد هدنا الجهد وشاقنا الوصول إلى مكة! ولم أطلب إلى السائق أن يقف، ولم أزد على أن سألته عما بقي بيننا وبين أم القرى، وظل هو في انطلاقه يسرع كلما ساعفه الطريق، ويبطئ أو يقف إذا أبطأه غوص العجلات في الرمال أو وقفه.
وجعلت في السويعة الباقية على دخولنا مكة أرسم في ذهني صورة أم القرى كما عهدتها على الخرائط، لكن القمر لم يجل أمامي الصورة التي خلت، ولو أن الشمس كانت ساطعة لما زادت الصورة أمامي جلاء، فكيف يحيط النظر المحدود بما حوله من وهاد وجبال بكل ما هو مرسوم على الخريطة من مجموع هذه الوهاد والجبال؟ وكذلك تخطت السيارة بابا فسيحا قيل: إنه باب مكة، ووقعت العين على مبان قيل: إنها مبانيها، فلم نجد في شيء من ذلك ما يلفت النظر إليه، وإن أيقنا أننا صرنا في حدود مناسك الله.
وكان دخولنا مكة منتصف الليل، دخلناها متعبين مما مر بنا في يومنا ويوم أمس، وكانت ساعتئذ متشحة برداء الليل وموليات ضوء القمر، فازدادت قداسة ومهابة. والسيارة تجري في طريق لا ينيرها غير هذه البقية من ضوء ساهر السموات، وإنا لكذلك إذ نجمت أنوار كثيرة من الكهرباء لدار عند منعطف من الطريق؛ تلك الدار بيت وزير المالية، وتخطينا هذه الأنوار إلى بقية ضوء القمر حتى كنا أمام أضواء ناصعة لمصابيح معلقة في مكان وقفت السيارة عنده، ذلك مقهى من مقاهي مكة، ونادى صاحبي من السيارة: يا شيخ إبراهيم، فجاء المطوف وصحبنا إلى بيت مضيفنا أمين العاصمة الشيخ عباس قطان، حيث كانت تسطع أنوار الكهرباء سطوعها عند بيت وزير المالية.
كان الرجل في انتظارنا، فلما صحبنا إلى الطابق الأول من داره أبلغنا تحية وزير المالية وسؤاله المتكرر عنا منذ تركنا جدة، وجيء بالشاي فشربنا، وبالقهوة فتناولناها برغم انقضاء هزيع من الليل، وسألني الرجل: أأوثر أداء شعائر العمرة لفوري أم أرجئها للصباح كيما أنال بعض الراحة من مشقة السفر؟ أما أنا فآثرت الأداء ولم تمل نفسي إلى الإرجاء، ولعله الهوى إلى بيت الله وإلى حرمه، وإلى الصفا والمروة حيث سعت «هاجر» المصرية سبعا تلتمس الماء لابنها إسماعيل هو الذي دفعني؛ كي أسارع إلى أداء هذه الشعائر رغم الجهد والمشقة، وسألت: أيوجد إلى إتمام الطواف والسعي في هذه الساعة المتأخرة من الليل سبيل؟ فقيل لي: إن الحرم مفتوح ليل نهار، وإن الناس يطوفون ويسعون في كل ساعة منهما، وخرجت في لباس إحرامي مع المطوف، وأقلتنا السيارة التي جاءت بنا من جدة إلى باب الحرم في دقيقة أو نحوها.
وما لبثت حين تخطيت الباب والمكان المسقوف من المسجد بعده حتى تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد، وقد انسدل على جدرانها لباسها الأسود المطرز بوشي الذهب، تبدت لي دون أن يلفتني أحد إليها، وتبدت وكأني عرفتها وطفت بها قبل ذلك مرات، وما لي لا أعرفها وقد رأيت كسوتها يطاف بها في القاهرة منذ طفولتي؟! وقد تبعت هذه الكسوة مرات عدة في سنوات متعاقبة حين كانت تنقل من القلعة إلى بيت القاضي مارة بالمشهد الحسيني وسط الجموع التي كانت تسير مثلي وراءها في هذا المشهد الديني الحافل الرهيب.
تبدت لي الكعبة قائمة وسط المسجد، فشد إليها بصري، وطفر نحوها قلبي، ولم يجد فؤادي عنها منصرفا، ولقد شعرت لمرآها بهزة تملأ كل وجودي، وتحركت قدماي نحوها وكلي الخشوع والرهبة، وقلت إذ وقع نظري عليها ما ألقى المطوف علينا أن نقوله: اللهم أنت السلام ومنك السلام، حينا ربنا بالسلام، فزادني تحرك شفتي بهذه الألفاظ مهابة ورهبة، وأراد مطوفي ونحن نتخطى إليها أن يحدثني في تاريخ المسجد وأبوابه وما أضيف إليه من عهد الرسول، ثم أمسك حين لم يجد مني إقبالا على سماعه، وكيف لي في هذه الساعة بالاستماع إلى حديث وقد ملك البيت علي نفسي وجذبني لأسرع إليه فأطوف به وأذكر الله عنده.
وارتسمت صورة البيت أمام بصيرتي منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده مثابة للناس وأمنا يقيمون الصلاة ويذكرون الله عنده، وبلغت بابا قائما وسط صحن المسجد، قال مطوفي: إنه موضع بابه في عهد الرسول؛ فأجلت طرفي بين هذا الباب والبيت العتيق، وذكرت ما حدث قبل مبعث محمد حين كانت قريش تجدد بناء الكعبة، ثم اختلفت قبائلها أيها يضع الحجر الأسود مكانه، وبلغ منها الخلاف أن كادت الحرب الأهلية تنشب بينها، ثم أشار عليهم أبو أمية بن المغيرة المخزومي أن يجعلوا الحكم في خلافهم أول من يدخل من باب الصفا، وكان محمد أول من دخل منه، فارتضوا حكمه، فجعل الحجر على ثوب رفعه رؤساء القبائل جميعا من أطرافه، ثم أخذه هو فوضعه مكانه، كان البيت يومئذ كما هو اليوم، إلا أن كسوته لم تكن سوداء مطرزة بوشي الذهب، أما المسجد فكان ضيقا لا يبلغ العشر مما هو اليوم.
وها أنا ذا أتقدم نحو البيت الذي أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، والذي وضع محمد قبل مبعثه حجره الأسود في مكانه؛ والذي طاف به الأنبياء وطاف به الملوك والأمراء على كر الدهور وهم في مثل ما أنا فيه من خشوع ومهابة، وهم سواسية أمام الله مع من يرعونهم من عباد الله، وقلوبهم تفيض ندما وتوبة واستغفارا، والذي طاف به ملايين المسلمين، وربما كان أشدهم فقرا من هو أكرم عند الله من هؤلاء الملوك والأمراء؛ لأنه أتقى منهم وأعظم بالله إيمانا، ها أنا ذا أتقدم اليوم نحو البيت أطوف به طواف العمرة، وقد اجتمع هذا الماضي كله المهابة والجلال أمام بصيرتي، فزادني شعورا بما بيني وبين الذين أقاموا قواعد البيت والذين تطوفوا به من صلة يمحي أمامها الزمان والمكان، وتتبدى من خلالها وحدة الكون التي لا تعرف الزمان ولا المكان.
وسرت إلى جانب المطوف مأخوذا ، حتى إذا بلغت الكعبة اندمجت في المئين الذين يطوفون بها وهم مثلي في لباس الإحرام، وأعلنت نية الطواف ببيت الله المكرم سبعة أشواط طواف العمرة، وكان المطوف قد سبقني إلى تلاوة صيغة النية، فلما حاذيت الركن اليماني وقف المطوف هنيهة فوقفت لوقوفه وقلت على أثره: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واندفعت في حماسة أسير مع السائرين وأعيد بعد المطوف قوله - تعالى:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
ثم وقفت كما وقف قبالة الحجر الأسود لأقول كرة أخرى: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد، واندفعت بعد ذلك أتم الشوط الأول وأنا أتلو في حماسة صادقة أدعية الاستغفار والتوبة التي يلقي المطوف علي تلاوتها، وبلغت الركن اليماني فوقف المطوف ووقفت ورفعت مثله اليد اليمنى وكبرت كما كبر وتلوت:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وحاذينا الحجر الأسود فرفعنا أيماننا وكبرنا ثانية، واندفعت أستغفر وأطلب إلى الله الهداية على النحو الذي يلقى إلي وإلى غيري من الطائفين، وكذلك كنت أفعل كلما حاذيت الركن اليماني أو الحجر الأسود، وأتممت الأشواط السبعة وأنا أكبر الله وأحمده وأدعوه وأستغفره، وأنا مأخوذ بجلال هذا البيت العتيق، ممتلئ النفس خشوعا أمام تاريخه الروحي الرهيب، يفيض قلبي إيمانا بالله الذي جمع في هذه البقعة الضيقة من الأرض كل هذا الجلال وكل هذه المهابة، والمئون من حولي يطوفون كما أطوف، ويتلون من الأدعية ما أتلو، وإن لم يذكر أحدهم ما أذكر من أمر إبراهيم وإسماعيل ومن تجديد بناء البيت قبيل مبعث محمد، ومن طوافه به في عمرة القضاء وحجة الوداع.
ودلفت بعد الأشواط السبعة إلى مقام إبراهيم أصلي فيه ركعتين، ومقام إبراهيم يقابل باب الكعبة ويقابل الحجر الأسود، وقد قام إلى جانب باب عمده وعقده من الرخام، والذين يطلبون المقام عنده قليلون؛ لذلك أتممت عنده ركعتين واستغفرت ربي لي ولأهلي ولمن دخل بيتي مؤمنا وللمؤمنين والمؤمنات، ثم انتقلت إلى حجر إسماعيل، والحجر يقع قبالة جدار البيت الموازي للجدار الممتد بين الركن اليماني والحجر الأسود، ويحيط به سور في شكل نصف دائرة من الرخام، والمصلون فيه يزحم بعضهم بعضا حتى لا يكاد الإنسان يجد بينهم مكانا؛ وذلك لما يذكر المؤرخون من أن الحجر يقع داخل رقعة الكعبة كما أقام إبراهيم وإسماعيل قواعدها، فثواب الصلاة فيه كثواب الصلاة داخل بيت الله.
وأقحمت نفسي بين اثنين يصليان ورفعت يدي أنوي الصلاة، إذ وقع بصري على رجال أشداء أقاموا في إحرامهم، ورفعوا أيديهم إلى أعلى السجف من أستار الكعبة فتعلقوا بها متشبثين لا يتركونها وقد ألقوا برءوسهم إلى وراء، فشخصت أبصارهم إلى السماء تستغفر الغفور الرحيم، وذكرت إذ رأيتهم ما كان العرب يفعلونه من ذلك قبل الإسلام، فيكون ذلك مجيرا لهم من عدوهم، وذكرت يوم الفتح حين عفا محمد عن أهل مكة جميعا إلا أشخاصا بأعيانهم أمر أن يؤخذوا وإن وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، وأقمت هنيهة أنظر إلى هؤلاء المتعلقين أسائل نفسي عما صنعوا ليكون ذلك موقفهم منه، وأنا معجب بإيمانهم، إذ لا يجدون ملجئا من الله إلا إليه، ولا يجدون ملجئا إليه خيرا من التعلق بأستار بيته المحرم، ونويت الصلاة وأتممتها، ورفعت طرفي فألفيتهم ما يزالون في تعلقهم بأستار البيت، وما تزال أبصارهم شاخصة إلى السماء تلتمس من رب البيت المغفرة، وأقمت مكاني في الحجر فإذا من حولي فيه لا يكاد أحدهم يتركه حتى يحل غيره محله، وكأنما نسوا أن الليل انقضى ثلثاه أو أكثر من ثلثيه، وبقيت زمنا في مثل نسيانهم مأخوذا بما حولي مقدسا إياه، ملقيا وراء ظهري ما عودنا التفكير الحديث من تعلق بالحاضر المحسوس وحده، ومن مبالغة في هذا التعلق إلى إنكار ما وراء المحسوس من معنى ينتظم الوجود ويسمو على الزمان والمكان، وزادني موقفي توجها إلى الله، فدعوته راجيا أن يستجيب، واستلهمته الهدى إلى الحق والخير والفضل، وتبت إليه من الآثام، وأشهدته على نفسي إنه هو رب التقوى ورب المغفرة.
وفاض بي هذا الشعور، فصرت من دعاء ربي إلى التسبيح بحمده والتقديس له، وإلى إكبار هذه الأخوة التي تصل بيني وبين المؤمنين به جميعا في مختلف أقطار الأرض، أخوة شعارها السلام، ودعامتها السلام، وغايتها السلام، وظللت كذلك حتى جاء المطوف ينبهني إلى ضرورة مغادرتنا المسجد لنسعى بين الصفا والمروة كيما تتم شعائر العمرة، وما كنت أحسبني مطيعا إياه لولا حرصي على إتمام هذه الشعائر، وخرجنا من المسجد نبتغي المسعى، وسرت إلى جانبه والنفس ممتلئة مهابة وتقديسا للواجب الذي أقوم به ويقوم به معي عشرات الألوف من إخواني المسلمين على اختلاف ألوانهم ولغاتهم وأجناسهم، والذهن شغل لذلك عن إطالة التنقيب فيما ينطوي عليه اجتماع المسلمين كل عام في هذه البقعة المباركة منذ مئات السنين من غايات روحية واجتماعية وسياسية سامية.
ولعل ما أصابني من الجهد في اليومين الأخيرين فمنعني حقي من السكينة والنوم، ولعل مجهود الانتقال توا بعد ذلك إلى مكة ودخولها في ساعة متأخرة من الليل، ثم لعل المجهود الروحي الذي اقتضانيه الطواف، ولعل هذا الجهد والمجهود قد زادا في توجهي الآلي وراء المطوف لإتمام شعائر العمرة، وكيف لي أن أصنع غير هذا وقدماي تسيران في مكان لما تعهداه وإن ألفيته مرتسما في نفسي، وكأن لي به كل العهد من قبل أن أولد؟ أم أن هذا العهد كان مبعث التقديس الذي امتلأت به نفسي؛ لأنه ميراث الأجيال التي سلفت من أهلي وآبائي؟ نعم! لعل هذا أدنى إلى الحق؛ فلقد سار ها هنا آبائي وأجدادي وأمهاتي وجداتي حقبة بعد حقبة، وجيلا بعد جيل، ولقد طافوا جميعا بالبيت كما طفت، وسعوا كما أريد أن أسعى، وتلوا بعد المطوف ما تلوت وما سأتلو، ولقد رأيت الكثيرين منهم وشاركت منذ طفولتي في الاحتفال بخروجهم إلى الحج، وعودتهم منه احتفالا كانت علائم الغبطة ترتسم أثناءها على أسارير الذين يودعون من حج، ويلقون من عاد من هؤلاء الآباء والأجداد، فلا جرم قد انطبع في نفسي هذا الميراث المتنقل على الأجيال، وجعلني أخطو خلال المسجد وإلى المسعى بقدم مطمئنة كما أخطو في بيتي وبيت أهلي، ثم كان لهذا الميراث التليد من عمق الأثر في نفسي ما زادني حرصا على الدقة في أداء شعائره.
خرجنا من المسجد وأقلتنا السيارة إلى المسعى، ثم مال بنا المطوف إلى ربوة الصفا وتخطى بنا نحو درجها خلال الذين سبقونا إلى السعي محرمين، وتخطينا خلال هذه المئين من الناس يسير بعضهم فرادى، ويسير آخرون جماعات متشابكة الأيدي، وقد ارتفعت في جوف الليل أصواتهم جميعا مستغفرين في ضراعة وإنابة، وعلونا بعض درج الصفا ثم استقبلنا المسعى ورفعنا أيدينا، وأعلنا نيتنا السعي سبعا بين الصفا والمروة سعي العمرة، ثم هبطنا الدرج وسرنا ونحن نتلو كما يتلو المطوف:
إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم .
وانتقلنا من الصفا إلى المروة ونحن ندعو بما يدعو به مطوفنا ونستغفر كما يستغفر، والمئون من الساعين يدعون كذلك ويستغفرون، وبلغنا المروة واقتحمنا صفوف الساعين إلى درجها، واستقبلنا المسعى وسعينا وكبرنا وعدنا إلى الصفا ندعو ونستغفر، والناس من حولنا يصنعون صنيعنا يدعون ويستغفرون، ولقد كنت تسمعهم رافعي أصواتهم في لهجات مختلفة، منها البدوي النجدي الذي يعلو بنفسه عن أن يتخذ من مطوف إماما، ومنها ما تشوبه عجمة تدل على أن العربية ليست لسان أصحابه الأصيل، ومنها المتضرع في انكسار وخشية، ومنها هذا البدوي الذي لا يعرف الخضوع حتى في خطابه ذا الجلال والإكرام، فلما أتممت أشواط السعي السبعة وقف بي المطوف عند حلاق في حانوت من الحوانيت التي تزحم المسعى قص لي بعض شعرات من جانب رأسي الأيمن، وبارك علي أن أتممت عمرتي، وبذلك آن لي أن أعود إلى منزلي وأن أحل إحرامي إحلال التمتع، كيما أعود إليه بعد يومين حين أؤدي فريضة الحج الأكبر.
وأويت إلى مضجعي في الثلث الأخير من الليل ألتمس فيه الراحة إن لم أسعد فيه بالنوم، وأطبقت أجفاني، وذهبت على عادتي أستعيد ما حدث منذ الصباح، فإذا بي لا أذكر منها إلا غبطتي بالطواف والسعي وتمام العمرة، وإذا بي أشعر بيد محسنة يسري إلي من مسها جسمي سعادة لم أعرف من قبل سعادة مثلها، سعادة تنسيني كل شيء إلا ما كنت فيه من توجه إلى الله بالتوبة والاستغفار، ومن رجاء في أن يتقبل توبتي واستغفاري، وانفرجت شفتاي في ظلمة الليل عن ابتسامة طمأنينة ورضا استراح إليهما وجودي كله، وبقيت في غبطتي بهما مسلما كل تفكيري وإحساسي وعقلي وقلبي لمشيئة الله التواب الغفور الرحيم، ودخلت بهذه الطمأنينة في عالم النوم ممتلئ النفس رجاء وأملا، صادق الإحساس أن قد زالت عني أوزار الماضي وأنني أصبحت قريبا من ربي، ونمت سويعات استيقظت على أثرها وقد زالت عن صدري أحمال لم أدر ما هي، وأغرتني بكرة الصباح بالنزول إلى مكة أجوس خلالها، لكني لم أجد دليلا يرشدني فآثرت أن أنتظر مضيفي وأن أنتظر مطوفي ليرسما لي خطة يومي ويعاوناني في إنفاذها.
وأتممت صلاة الإصباح، ورحت أنتقل في حجر ضيافتي أتمشى فيها طولا وعرضا، وأستوحي ذاكرتي صورة هذه الدار الفخمة التي نزلت بها، والطريق التي أدت بي أثناء مكة إليها، فلا تسعفني الذاكرة بنافع، وما عسى أن تسعفني الذاكرة به وقد تخطيت أم القرى بليل، فلم أر من الطرق التي اجتزتها إلا القليل، ولقد اجتزنا إلى دار مضيفنا أزقة ضيقة لم أتبين منها شيئا، وبرزت السيارة من أحد هذه الأزقة إلى فناء فسيح بالقياس إليها هو أشبه الأشياء بصحن دار كبيرة تحيط به جدرانها الأربعة، ويخرج منه زقاقان غير الذي برزت السيارة منه، ويضيء هذا الفناء نور كهربي ينحدر من مصباحين معلقين على ناحيتين من جدرانه، ومن هذا الفناء وقفت السيارة أمام دار يتخطى النظر بابها إلى دهليز طويل تضيئه الكهرباء، ونزلنا وصعدت بنظري إلى باب الدار فألفيته رفيعا معقودا أعلاه بالحجر، ويصعد الإنسان إليه بضع درجات تعلو به وبالبيت كله عن الطريق، وأقبل علينا حين وقفت السيارة رجل تطوق ثغره ابتسامة رقيقة، وصافحنا بشوق ومودة، وسألنا عن سبب تأخرنا وما نكون قد لقينا من مشقة الطريق، هذا مضيفنا الشيخ عباس قطان أمين العاصمة صاحب هذه الدار التي تبدو الفخامة على ظاهرها.
لقد أقام بداره ينتظرنا، فلما استقبلنا وتلطف بنا ما تلطف، أنبأني أن الشيخ عبد الله السليمان وزير المالية قد سأله بالتليفون غير مرة عن مقدمنا بعد أن علموا من جدة أننا نزلنا من الباخرة إليها وغادرناها إلى مكة، وصعد وإيانا إلى الطابق الأول من الدار على درج أعاد إلى ذاكرتي منازل إيطاليا، فهو محصور بين جدارين يصعدان إلى السقف، فإذا استدار الإنسان إلى يمينه وإلى يساره عند منتصف الطابق ألفى نفسه من جديد بين جدارين يصعد الدرج أثناءهما إلى غرف الطابق الأول، ودخلنا إلى بهو عظيم فيه ومعنا مضيفنا ومطوفنا، ولم نلبث حين جلسنا على مقاعد من طراز هذا العصر الحديث حتى جيء لنا بالشاي - أو الشاهي بلغة أهل مكة - فكان لنا نعم الدفء بعد برد الطريق، وتحدثنا إلى مضيفنا وتحدث إلينا، وسرعان ما ذكرني أني تقابلت وإياه بالقاهرة، وأننا تمنينا لو نلتقي بمكة في هذه الدار، وبعد قليل قمنا إلى المسجد الحرام فأتممنا طواف العمرة وسعيها.
هذا ما وعت الذاكرة مما رأيت بمكة حين دخلتها أثناء الليل، وها أنا ذا الآن أنتقل من غرفة النوم إلى البهو وأعود من البهو إليها، وقد اتصلت بها دورة المياه فاصلة بينها وبين غرفة الطعام، لشد ما يثير هذا البهو وهذه الغرف في النفس صورة البناء في العهود العربية القديمة! ولشد ما يثير أثاثها معاني النعمة والترف في تلك العهود! فهذا البهو الفسيح تكاد مساحته تبلغ ستة أمتار في العرض وعشرة في الطول، تضيئه في النهار وتهويه طيلة اليوم نوافذ تمتد من أقصى جدار عرض البهو إلى أقصاه، وكذلك الأمر في غرفة النوم المحاذية له، وهما الآن يضاءان أثناء الليل كما تضاء الدار كلها بالكهرباء، تولدها «ماكينة» خاصة بالدار؛ لأن مكة لا تزال إلى اليوم محرومة من نور الكهرباء، ولا يضاء فيها على حساب الدولة إلا الحرم الشريف، وإضاءة الدار بالكهرباء لا ترجع إلى أيام بنيت؛ ولذلك يتدلى من سقف غرفها نجف فيه لعشرات الشموع منازل مختلفة الألوان، والسجاجيد التي تفرش أرض البهو وغرف النوم ثمينة قيمة، جميلة الرقم، كثيفة الخمل، وإحدى غرفتي النوم كبيرة تصلح لأن تكون بهوا عند الحاجة، والجدار المقابل لبابها نوافذ كله كجدار البهو الكبير، وقد أقيم إلى جانب هذا الجدار، كما أقيم على الجدار العمودي عليه، مصطبة متصلة فرشت بالمراتب المغطاة بأغطية موشاة بالقصب، ومتكآت مغطاة بوشي القصب كذلك، تريح الجالس عليها والمتكئ إليها غاية الراحة، وفي الجدار الرابع دولاب يبدو منه بابه المطعم بالسن تطعيما دقيقا كتطعيم سقف الغرفة، أما غرفة النوم الأخرى فقد أعدت للنوم ولا تصلح إلا له؛ وهي متصلة بهذه الغرفة التي تصلح لأن تكون بهوا، بل هي مدخلها، مفروشة كفرشها؛ وبها «بوريه» مطعم كله بالصدف المختلف النقوش والألوان، والذي تبهرك حقا دقته.
فأما غرفة الطعام فيقابل بابها باب الغرفة الأخيرة، وتفصل بينهما دورة مياه لا تزال على الطراز العتيق، يتلوها درج يهبط الإنسان على سلمتيه ليرقى مثلها قبل أن يدخل هذه الغرفة، وهي أكثر من البهو ومن غرف النوم بساطة في أثاثها؛ لأنه أدنى إلى طراز عشرين أو ثلاثين سنة مضت من عصرنا الحديث منه إلى أثاث العرب أيام ترفهم، مع اتساق بنائها مع بناء الغرف الأخرى من حيث النوافذ التي تتصل من أقصى الجدار إلى أقصاه، والسقف المطعم بالصدف أو المموه بما يشبهه، والمصطبة القائمة إلى جانب النوافذ.
كان النهار ضحى حين جاء المطوف يسألني عما أريد، وهبطنا المسجد الحرام لأرى منه في وضح النهار ما أخفاه الليل وما شغلني الطواف عنه، والمسجد الحرام يشبه صحن الأزهر من حيث إنه فناء مكشوف تحيط به من جوانبه الأربعة قباب قائمة على عمد كالقباب المحيطة بصحن الأزهر، وتنتهي إلى جدرانه، لكن فناء المسجد الحرام فسيح جدا، يزيد على بضع عشرات من ألوف الأمتار المربعة، وهو ليس مفروشا كله بالبلاط كصحن الأزهر، بل مقسم أقساما تتعاقب بعضها إثر بعض، بعضها مفروش بالبلاط، وبعضها مفروش بالحصباء، على تعبير أهل مكة، وفي وسط هذا الفناء الفسيح تقوم الكعبة بيت الله الحرام وقبلة المسلمين جميعا في صلواتهم ، ويتصل بالكعبة حجر إسماعيل، ويقوم على مقربة منها مقام إبراهيم، ومن حول الكعبة مبلغات أربع - ومكبريات أربع على تعبير المكيين - لكل مذهب من المذاهب الأربعة واحدة منها، وعلى مقربة من هذه المبلغات ومن الحجر والمقام والبيت، يقوم بناء فوق بئر زمزم، وقد شيدت هذه المباني القائمة وسط فناء المسجد من أحجار متينة صلبة جيء بها من الجبال المجاورة لمكة، كما جيء من هذه الجبال بالأحجار التي شيدت منها عمد المسجد وقبابه، وما وراء العمد والقباب من جدران ومبان يسمونها مدارس؛ لأنها كانت كذلك بالفعل يوم شيدت، لكن الكثير منها يتخذ اليوم مأوى لبعض الطوائف، ولا يتخذ أماكن للدراسة، وقباب المسجد وجدرانه بسيطة، وفيها مع ذلك فن يتفق مع هذه البساطة، أما أبواب المسجد المؤدية إلى الطرق المحيطة به فأقل من قبابه فنا وأكثر منها بساطة، خلا باب علي، وجدران المسجد من الخارج لا فن فيها، بل تزور عين رجل الفن عن بعض جوانبها ازورارا.
وخرجنا من المسجد إلى المسعى، وهو يقع على مقربة من باب الصفا، وكان المسعى إلى صدر الإسلام طريقا مستقيما ينقص طوله عن الميلين، ويصل بين ربوتي الصفا والمروة، وكان متصلا بما حوله من فسيح الصحراء، تطل عليه الجبال المحيطة بمكة؛ أما اليوم ومنذ بضع مئات من السنين قد أحيط بالمباني والعمارة التي طغت عليه، وقد أحيل كل من الربوتين إلى درج أقيمت حوله جدران تحجب بين الساعين وفسحة الجو وبهاء السماء، وقد بلغ من طغيان المباني أن اعوج المسعى اعوجاجا يحول دون رؤية الصفا من المروة أو المروة من الصفا، وتخترق المسعى طرق تسير فيها الإبل والدواب والعربات والسيارات، وقد كان هذا الطريق إلى سنوات مضت كله الرمال؛ أما الآن فقد رصف بالحجر رصفا غير منتظم.
عدت إلى الدار بعد هذه الزيارة القصيرة، فقابلني مضيفي يخبرني أن وزير المالية ينتظرني بداره قبيل الظهر، وأن السيارة ستذهب بي وإياه إلى هذا الموعد، وذهبنا نخترق الطرق إلى ظاهر مكة حتى بلغنا غايتنا ونزلنا عند باب الدار، وليس يبالغ من يسمي هذه الدار قصرا؛ فهي فسيحة وإن لم يكن لبنائها طراز ينسب إليه، فخيمة وإن لم يسعد الفن فخامتها بتأنق أو روعة، تخطينا بابها الضيق إلى درج يؤدي إلى ممر من ناحية، وإلى فضاء به زرع من ناحية أخرى، واستدرنا في الممر إلى حجرة تخطيناها إلى دهليز، فغرفة أخرى، ثم غرفة ثالثة هي التي كان وزير المالية ينتظرنا بها، وهي غرفته الخاصة، وأحسبني لو تركت لأعود وحدي إلى ظاهر الدار من خلال هذه الغرف والممرات لتعذر ذلك علي.
والشيخ عبد الله بن السليمان الحمدان رجل بدوي نجدي بكل معاني البدوية والنجدية، نحيف القوام معتدله، أسمر البشرة، حاد النظر، تلمح في عينيه ذكاء وغضبا ممتزجين، يدعو امتزاجهما في حالة سكونه ودعته إلى مهابته والتفكير فيما وراء نظرته؛ وهو إلى ذلك حلو الحديث رقيق النبرة مبتسم اللقيا، تبادلنا التحيات، ثم ذكرت له ما دار بخاطري منذ غادرت مصر أن تكون مكة مقرا لعصبة الأمم الإسلامية، كما أن «جنيف» مقر عصبة الأمم الأوروبية، ووافقني هو في الرأي على أن نمحصه بعد انتهاء فرائض الحج واشتغال الحكومة بها.
وبعد الحديث والقهوة تركت الدار وآثرت أن أقوم بجولة بالسيارة أجتلي بها صورة من بعض نواحي مكة، وما دمنا بجرول عند مدخل مكة من ناحية الشميسي - أو من ناحية الحديبية إن شئت - فلأذهب إلى ناحية غير هذه التي دخلت منها حين مجيئي أمس من جدة؛ ولأتبع في تجوالي هوى نفسي وإرشاد مضيفي، فأما هوى نفسي فقد كان إلى فندق مصر التابع لشركة مصر للملاحة البحرية، وهل تهوى النفس شيئا هواها لما له بالوطن اتصال؟! وأما مضيفي فذكر أن على مقربة من فندق مصر فندقا للحكومة الحجازية، وأن مدير هذا الفندق هو مواطني المصري الشيخ عبد السلام غالي.
وزرت فندق مصر لماما، ومررنا بفندق مكة فلم نجد مديره ولم نقف عنده، وفندق مصر دار عربية فخيمة المدخل، حاول مديره أن يدخل إلى دورات مياهه شيئا من النظام الحديث.
وعدنا إلى المنزل وفي نفسي بعد هذه الجولة صورة مبهمة من مكة، كل دلالتها أن مكة اليوم هي مكة منذ مئات السنين، لم يطرأ عليها تقدم إلا في منازل بعض الأفراد الذين آثرهم الله ببسطة في الرزق، وهو تقدم نسبي لا صلة بينه وبين تقدم فن العمارة الحديث.
وحال قرب المسجد من منزل مضيفي دون توغلي بمكة منذ اليوم الأول، كما حال دونه ما أكرمني به أهل مكة وزوارها من زياراتهم إياي حيث نزلت، وقد تبادلت مع هؤلاء وأولئك أحاديث شتى عن البلاد المقدسة كان لها أثر في تكوين فكرتي عن العلاقة التي يجب أن تصل بينها وبين العالم الإسلامي.
غدنا اليوم الثامن من ذي الحجة، يوم التروية، ويوم يصعد الحجيج إلى منى وعرفات لقضاء فريضة الحج، وفي غد أغادر مكة بعد يومين اثنين من مقامي بها قضيت أثناءهما شعائر العمرة، ولم أر خلالهما من نظامها وحياتها وآثارها شيئا مذكورا، فمتى أرى ذلك كله؟ ... بعد الفراغ من شعائر الحج، فلأنتظر إذن، إن الله مع الصابرين.
وقفة عرفات
أصبحت يوم الإثنين الثامن من ذي الحجة، يوم التروية، أفكر في عرفات والذهاب إليها محرما والمبيت بها، وقضاء ما يجب من شعائر الحج فيها والنزول عنها إلى المشعر الحرام بالمزدلفة، وإلى الصخرات بمنى لأتمم بعد ذلك طواف الحج حول الكعبة وسعيه بين الصفا والمروة، فأكون قد قضيت الفرض الخامس من فرائض الدين الحنيف، ولا يفكر الناس اليوم في التروية، وهي جلب الماء معهم إلى عرفة ليستقوا منه يوم وقوفهم بها، وهم لا يفكرون في التروية منذ يسرت عين زبيدة لهم من الماء ما يريدون.
وشتان بين ما اشتملني أثناء التفكير في الإحرام لعرفات من نعيم وغبطة، وما كنت أخافه قبل مغادرة مصر من أثر الإحرام وقضاء المناسك على صحتي، لقد اشتملني من فجر ذلك اليوم رضا عن الحياة وعن نفسي، وشعرت بروحي فرحة وبقلبي مطمئنا، أقبلت منذ بكرة الصباح أعد لباس الإحرام وما يقتضيه المبيت تحت الخيام، منشرح الصدر لكل ما أصنع من ذلك، عميق الإحساس بجلال هذه الفريضة التي يسر الله لي أداءها، موقنا أني سأشهد أثناءها من آيات حكمته فيها ما يزيد كل مؤمن إيمانا وتثبيتا، وصورت أمام ذهني هذا الجبل المقدس وقمته الفسيحة واجتماع عشرات الألوف من المسلمين فوقه مهللين ملبين، متوجهين إلى الله بقلوب طهرها صدق الإخلاص من ماضي حوباتها، وهداها الاجتماع المقدس بإخوانها المؤمنين سبيل الخير، وفتح أمامها أبواب حياة جديدة تسمو خلالها بفضل إيمانها، وصدق توجهها إلى الدرجات العلا من مراتب الإنسانية السامية، مراتب البررة والمقربين والأتقياء الصالحين الذين يخشون الله ولا يخشون غيره، ولا يخافون في الحق والخير والبر لومة لائم.
بقيت في إعداد متاعي إلى ما قبيل الظهر، ثم انحدرت من الدار إلى قصر الملك لموعد ألقى فيه جلالته، وقصر الملك يقع خارج مكة من الناحية الشمالية الشرقية عند مبدأ الطريق الذاهب إلى منى، وهو قصر بني حديثا ليقيم ابن السعود به ما أقام بمكة قبل الحج وبعده، وهو فسيح الجنبات، بسيط المظاهر، يجمع بين أبهة الملك وطراز العروبة القريب من البداوة، تلقاك أول ما تتخطى بابه حديقة فيها نباتات صغيرة، ثم تتخطى دهاليز فرشت بالحصباء إلى أبهاء بسيطة في أثاثها وعمارتها على رغم سعتها وكثرة نوافذها، ويقابل القصر جبل زرود الواقع على مقربة من حراء، أو جبل النور كما يسمونه اليوم، ذكرا لنور الوحي الأول الذي هبط على النبي
صلى الله عليه وسلم
وهو بالغار عند قمته، وتقوم فوق زرود قلعة تحمي مقر الملك أثناء مقامه بأم القرى.
ولقد لقيت في ذهابي إلى قصر الملك وعودتي منه مشقة لم ألقها في طريق مكة حين تجولي بها في اليوم الذي سبق؛ فالطريق إلى قصر الملك هو كما قدمت طريق منى، وهذا اليوم هو يوم التروية، فيه يصعد الحجيج جميعا إلى منى وإلى عرفات من هذا الطريق، وأكثرهم يصعدون على الإبل؛ لأنها أيسر نفقة على الأكثرين، ولأن الصعود عليها أكثر مشقة من الصعود بالسيارات؛ وهو لذلك أعظم عند الله أجرا في رأي طائفة من المسلمين؛ لذلك امتلأت طرق مكة يومئذ بقوافل الإبل، حملت من ركبوها في ألوان مختلفة الطراز والوشي من الهوادج والشقادف، وبعضها يسير إلى جانب بعض إذا انفسح الطريق، ويتلو بعضها بعضا في الطرق الضيقة.
وطرق مكة ضيقة كلها إلا قليلا؛ لذلك كانت السيارة تقف في الطرق ذات السعة أمام هذه الإبل المتراصة حتى تفسح لها طريقا؛ أما في الطرق الضيقة فكانت تضطر أحيانا إلى التراجع لتقف في مكان يتسع لوقوفها ومرور القافلة بها بعيرا بعد بعير، وتضطر أحيانا أخرى إلى الانزواء في طريق غير طريقها حتى تمر القافلة بها، والقافلة تمر بخطى الإبل المتئدة، لا سبيل لها إلى أن تسرع في هذه الأزقة الملتوية في ارتفاع وانخفاض، وتمر القافلة وتسير السيارة بضعة أمتار ثم إذا قافلة أو بضعة جمال أخرى تضطرها لتلتمس مكانا تقف فيه أو زقاقا تحتمي به، ولقد اقتضانا خوض هذا البحر اللجي من الإبل وسائقيها أضعافا مضاعفة من الوقت الذي كنا نقطع فيه الطريق لو أننا كنا نسير في غير يوم التروية أو أيام الحج.
وتناولت طعام الظهيرة، واتفقت ومضيفي على أن نستقل السيارة إلى عرفات بعد صلاة العصر، وتطهرت لإحرام الحج ولبست لباسه بعد أن نويته، وصليت ركعتين سنته، فلما صليت العصر أقمت أنتظر السيارة، لكن المغرب اقتربت ولم تكن قد جاءت؛ وخشي مضيفي أن أضيق بتأخرها ذرعا، فهبطنا إلى حديقة صغيرة خلف الدار وفي حرمها نستمتع بما فيها من خضرة النبات وبهاء الأزهار، وإنا لكذلك إذ بدأ الرذاذ يتساقط، واحتملناه زمنا فرحين آملين أن ينقطع بعد قليل، لكنه استمر ثم هتن وابلا لا سبيل معه إلى البقاء في الحديقة؛ واحتمينا بإيوان متصل بها، وجلست بمقعد عند بابه أشهد منه عبث المطر بالزهر والشجر، وفكر بعض الحاضرين في الترويح عني بذكر سيول الحجاز التي تنهمر سويعة انهمارا يحسب الإنسان معه أنه لن يكف، ثم إذا السماء أمسكت وعاد إليها صفوها، وإذا رمال الأرض ابتلعت مياهها، وإذا الجو أكثر صفاء ورقة، والمطر يهتن والبرق يخطف والرعد يقصف والرجاء في مجيء السيارة يذوي في نفسي، فأسائل مضيفي: أللصعود إلى عرفات في هذا الوقت سبيل ...؟ ويجيبني مضيفي مطمئنا: إن الأمر لله، والحج فرض الله، ولا بد أن ييسر الله للناس فرضه.
وبينا نحن في حديثنا أمسكت السماء فجأة، وذهبت الريح بما فيها من سحب، وصفا الجو، وعادت إلى الثغور ابتسامتها، وأقبل الخادم ينبئنا بأن السيارة بالباب تنتظر، وركبناها وشققنا بها طرق مكة الضيقة وهي تسير الهوينى تتخطى الإبل وهوادجها وشقادفها التي قاربت بنا قصر الملك، هنالك انفسح الطريق، وعظم أملنا في الوصول عما قليل إلى عرفات، على أن السيارة وقفت هنيهة ليملأها سائقها بنزينا، وفي هذه اللحظة رفعت بصري إلى السماء فألفيتها صفوا لم يبق لسحابة فيها أثر، وألفيت القمر لما يكتمل بدرا قد بعث إلى أرجائها من ضوئه الندي ما زاد في صفاء صفحتها بهجة ونورا، وسرحت الطرف عن يميني وعن يساري وفيما أمامي فإذا لجة القمر تغمر سلاسل الجبال القائمة في هذه الأرجاء جميعا متتابعة في اتصال لا يدع للناظر من خلالها فرجة تشف عن شيء مما وراءها، وبدت هذه السلاسل في لجة الضوء أشباحا ضخمة رهيبة جديرة بأن تبعث إلى النفس الخشية منها، ومما يستكن فيها لولا تجرد النفس في هذه الآونة من كل خشية إلا خشية الله، ولولا سمو النفس فوق كل ما في الحياة من آمال وآلام ومخاوف إلا عن الرجاء في رضا الله عمن لبوا نداءه، ومن جاءوا من كل فج عميق رجالا وعلى كل ضامر ليطوفوا بيته ويتموا مناسك حجه.
وانطلقت السيارة في طريق منى تسايرنا جبال العقبة عن يسارنا وطلائع «ثبير» عن يميننا، وفي لحظة غابت الإبل ولم يبق يزحمنا منها قافلة ولا بعير؛ ذلك أنا خرجنا عن طريقنا إلى طريق آخر استحدثته الحكومة القائمة، وخصت به السيارات تنفيسا عن القوافل وعن السيارات جميعا، والقمر في كبد السماء الندية الزرقة بضيائه يلقي على الهضاب الممتدة عن يمننا وعن يسارنا ضوءا يبعثها إلى يقظة الحياة في هجعة الليل، أما فيما أمامنا فقد غلب ضوء السيارة الباهر ضوء القمر الرطب الندي، وجعلنا نصعد فوق السفوح على هون، حتى طالعتنا أضواء كثيرة منتشرة عن يسارنا، تلك أضواء سوق منى يتأهب أصحابها لإفاضة الناس من عرفات بعد غد إليها، ثم مررنا بعد قليل بضوء أقل من ضوء منى دلنا على أنا إزاء المزدلفة، وتابعنا التصعيد في الجبل على هون بين هضاب ورمال انبسطت عنها أشعة اللجين من ساهر السموات، وحاذينا بناء، ذكر أهل مكة أنه مسجد نمرة، بدت بعده أضواء قيل: إنها سوق عرفات، ثم انطلقت السيارة فإذا بنا أمام سهل فسيح ضربت فيه مئات القباب وألوفها، وتلألأت فيه مصابيح النور الأبيض، تلك بطحاء عرفات، وهنا مكان الحج وملتقى الألوف من المسلمين الذين فرضوه على أنفسهم.
وقفت السيارة، وسأل مضيفنا عن مضارب خيامنا، ومن لك بالذاكرة التي تحيط بمكان كل قبة من هذه المضارب التي يخطئها العد في هذه الساعة من الليل؟! بل من لك بهذه الذاكرة في أشد ساعات النهار وضحا؟! وبدأ الغضب يأخذ من المضيف حين لم يسارع أتباعه إلى إجابة سؤاله، لكن جلال الموقف وعذوبة الهواء وصفوه ورقته هدأت من حدة طبعه، وانفتل شاب من ذويه من السيارة يلتمس منازلنا كي يهدينا إليها؛ ولم يطل عنا غيابه.
وألفيت الخيمة التي أعدت لنا قد فرشت ببساط من السجاد، فألفيت عليه فراش النوم، وخرجت أسرح البصر فيما حولي، خرجت في لباس إحرامي خفيفا فرحا، نشيط النفس، ممتلئ الفؤاد حبورا وجذلا، يا لرقة هذا الهواء! وجمال هذا القمر! وبهاء هذه الساعة الفذة التي سقطت فيها عن الروح كل الحجب، وتجلى فيها أمام البصيرة نور الخالق العظيم! لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك ... أولا يجمل بي أن أتقدم بين هذه المضارب لأرى ألوف المحرمين مثلي فأزداد برؤيتهم حبورا، وأتحدث إليهم فيزيدني حديثهم جذلا، وألبي وإياهم فتتجاوب هذه الوهاد بأصداء عشرات الألوف من أصوات الملبين ترتفع على موج النسيم وأشعة القمر إلى عليا السموات!
وأنى لي أهتدي إلى مضربي إذا أنا ضللت بين هذه الخيام، وليس لي من العلم بالمكان ما لأبناء مكة الذين يؤمونه كل عام؟ ولكن أيضل ها هنا أحد وها هنا موضع الهدى وملاذ الملبي نداء ربه، اللاجئ إلى فيء رحمته؟ وتقدمت خطوات إلى موضع توسط الخيام، فتموجت أشعة القمر أمام نظري على رماله، ثم وقفت وأطلت الوقوف، وبقيت محدقا بالسماء، مأخوذا بصفو أديمها، شارد اللب في جلال هذا الكون المحيط بي وعظمته، أناجيه وقد نضوت عني زينة الحياة الدنيا، فأحس به أبهى جلالا وأجل عظمة، كم طالت بي هذه النجوى؟ لا أدري، وأرادت قدماي أن تتقدما بي لأتصل بمن أسمع هسيسهم من إخواني المؤمنين، فتلفت أتعرف قبتي كيما أتخذ منها منارا أهتدي به في سيري، فلم أعرفها بين الخيام القريبة مني، إذ ذاك آثرت العودة للبحث عنها والاحتماء بها من ضلة الليل، فلما اهتديت إليها وقفت عند بابها، ولم تطاوعني نفسي على أن أتخذ منها حجابا بيني وبين السماء وقمرها الباسم الضياء، وبيني وبين هذا العالم الروحي العظيم الذي اجتمع هاهنا في هذه البقعة من بقاع الأرض، والذي يجتمع فيها في هذه الساعة من كل عام، ناسيا كل شيء من زخرف الدنيا متوجها إلى الله أن يتم على الأرض كلمة الهدى ويوطد فيها الحق والعدل والسلام.
وجلست مكاني على سجادة صلاة سحبتها من داخل القبة، وتركت لتصوري عنانه، وقد ارتسم كل ما تشتمله السموات والأرض حولي في دخيلة نفسي، وانتقلت بهذا التصور في هنيهة من بيئة المكان إلى بيئة الزمن، وطويت القرون القهقرى إلى أكثر من ثلاثمائة وألف سنة مضت، وامتثلت النبي العربي محمدا ها هنا فوق عرفات في حجة وداعه، محرما كإحرامنا، ملبيا كتلبيتنا، مستغفرا كاستغفارنا، خاضعا لله خضوعنا، عبدا لله كعبوديتنا له، امتثلت هذا النبي العربي وقد تخطى السنين، وقد فتح الله له فتحا مبينا، وقد أسلم لدينه أهل مكة الذين حاربوه وأصحابه وأخرجوهم من ديارهم، وقد آن أن يكمل الله للمؤمنين دينهم ويتم عليهم نعمته، امتثلته واقفا في هذا المكان على رأس مائة ألف من المسلمين بعد أن قطع إليه الطريق من يثرب إلى مكة محرما طوال هذه الطريق، سائقا هديه معه، مقيما على إحرامه أسبوعين كاملين، ملبيا والمسلمون من ورائه كل نهاره وطرفا من الليل، مسلما كل أمره إلى الله لا إله إلا هو، إليه يرجع الأمر كله، وإليه تصير الأمور.
كم أقمت أذكر فنفعتني الذكرى؛ ثلثي الليل أو نصفه أو زدت عليه أو نقصت منه؟! علم ذلك عند ربي، وشعرت بالسكون يمد رواقه حولي، حتى لم يبق مما كنت أسمع نبأة أو همسا، عند ذلك دخلت إلى قبتي وأطبقت أجفاني ألتمس النوم.
أفنمت حقا؟ وكم نمت؟ كل ما أذكره أنني كنت سعيدا وكنت ممتلئا نشاطا حين طرق أذني صوت المؤذن لصلاة الفجر، طرق هذا الصوت أذني فابتهج له قلبي وطرب له فؤادي طربه لأغنية عذبة ترتلها ملائكة السموات، وفتحت عيني فرأيت بشائر الضوء تسري من فرجات القبة، فقمت إلى الماء أتوضأ، فإذا الحياة تسري فيما حولي من المضارب، وإذا الذين يلتمسون الماء لغيرهم ينتشرون ها هنا وهناك، وإذا النداء للصلاة الأولى تتجاوب أصوات المنادين به في مختلف أنحاء البطحاء، وكلهم يلقي في آذان الخليقة التي بدأت يقظتها: «الصلاة خير من النوم»، وفي نواح مختلفة من البطيح المترامي الأطراف سمعنا الذين قاموا يؤمون من معهم للصلاة، ينادون: الله أكبر، وكلما أتم جماعة صلاتهم علت بالتلبية أصواتهم، وأقام الناس على ذلك حتى ذر قرن الشمس فوق الجبال إلى ناحية الشرق، عندئذ بدءوا يتسللون من خيامهم يرون بأعين النهار ما لم تسعفهم عين الليل على رؤيته من مكان الحج المقدس، فلما علت الشمس بدأت حياة النهار ضجتها وتجارتها، وبدأ الناس يلقون بعضهم بعضا بالتحية والتبريك، ثم ينتقلون بحديثهم إلى مألوف ما في الحياة.
وتجارة الحياة في عرفات تتصل بالحج وبالصدقات التي تهوي بها أفئدة الحجيج إلى الفقراء والمساكين ممن يطوفون بهم، الحجيج تهوي أفئدتهم إلى إطعام الجائع والبر بالمحروم؛ لذلك يسير الأعراب بقطعان من الغنم يبيعونها من يذبحونها لساعتهم ويتصدقون بها على ذوي الحاجة من إخوانهم المؤمنين، ومنهم من جاء لأداء الفريضة من أقصى الأرض وهو لا يجد قوت يومه، وآخرون اتخذوا من البقاع المقدسة مقاما ومن الصدقة مرتزقا، هؤلاء يطوفون بالمضارب يبتغون من ذوي الميسرة بعض ما رزقهم الله، ثم لا يكفيهم ما ينالونه فيعودون يسألون الناس إلحافا يستغلون بذلك إحسان من لا يمسكون أيديهم في يوم الحج عن الإحسان.
وخرجت من قبتي أتعرف ما حولي، وأشهد صنيع الناس يومهم هذا وقد جاءوا إلى الله حاجين متجردين، وإني لأتلفت يمنة ويسرة إذ وقع بصري على رجل لا شيء في سيماه يدل على أنه من أبناء الشرق، بل هو أدنى إلى أن يكون من أبناء الشمال في أوروبا بطول قامته النحيفة، وببشرته البيضاء المشربة حمرة وعينيه الزرقاوين وشعره الأصفر، وأخبرني بعض أهل مكة ممن حوله أنه هولندي «مسلماني» يقيم بجاوة، وأنه جاء يؤدي فريضته ودلفت إليه وألقيت عليه التحية بالفرنسية، وتحدثت إليه بها، فدلتني لهجته على أنه ليس من أهل هذه اللغة وأن أغلب أمره أن يكون إنكليزيا، وسألته عن جنسيته فعلمت أنه أيرلندي وأنه يقيم «بسرواك» في بورنيو، أكبر الجزر البريطانية في أرخبيل الملايا، وأنه أسلم من سنوات خمس، وأنه جاء ليؤدي الفريضة، فأقام بجدة سبعة أسابيع حتى أيقن رجال الحكومة العربية من حسن إسلامه، وسمحوا له بما يسمح للمسلمين، دون غيرهم، من دخول مكة ومن أداء فروض الحج ومناسكه.
واتصل بيني وبينه بالإنكليزية حديث طويل، ومع ذلك لم تطاوعني نفسي على سؤاله عن سبب إسلامه، وعلى رغم ذلك أخبرني أنه في إقامته بسرواك بين المسلمين منذ أكثر من خمس عشرة سنة لم تطب نفسه بما دون التعمق في درس حالهم الاجتماعية والأخلاقية، والبحث، بوصف كونه أيرلنديا، عن الأسباب التي أدت بهم إلى الخضوع لغيرهم، وكانت عقيدتهم الدينية بعض ما عني بدراسته، ولم يلبث حين بدأ هذه الدراسة أن شعر بحافز قوي يحفزه للإمعان فيها ولقراءة ما كتب في اللغات المختلفة عنها وللتزيد من ذلك ولطول التفكير فيه، ولقد أخذت بساطة العقيدة الإسلامية بمجامع قلبه، ووصلت من تفكيره إلى أعماقه وجعلته يؤمن بحقيقة هذا الدين الذي نزل على النبي العربي وبحضارة الأخوة والإباء التي يدعو إليها، ويؤمن بأن الحضارة التي تنشر أوروبا اليوم لواءها في العالم باسم العلم ليست من العلم في شيء، وإنما هي اللعنة التي صبها الله على العالم.
فهذه الحضارة تتلخص عنده في إخراج الناس من بساطتهم الفطرية التي تكفل لهم سلامة التفكير وسمو الغاية، ليخضعوا لأهوائهم وشهواتهم المادية فتضعف نفوسهم ويذلوا، وأية صلة بين سعادة الرجل أو المرأة وبين منسوجات «لانكشير» أو حرائر «ليون» أو عطور «باريس»، أو ما إلى ذلك من مواد الزينة والترف، وهذه مع ذلك هي مظاهرة الحضارة الأوروبية وهي السبب الحقيقي الذي تغزو أوروبا العالم من أجله، إنما الصلة الحقيقية بين هذه المنسوجات والحرائر والعطور، وبين الأموال التي تريد أوروبا استنزافها من الشعوب هي إقناعها كذبا بأن الحضارة في الرداء والترف والزينة، أما الإسلام فيدعو إلى معنى هو أسمى المعاني، إلى نبذ كل عبودية لغير الله، وإلى الاستهانة بالموت في سبيل الله وإلى البر والتقوى وإلى الرحمة والمغفرة، وهو يدعو إلى ذلك كله في بساطة وقوة لا حاجة بهما إلى منسوجات أو حرائر أو عطور، ولو أن أهل سرواك وغيرهم من المسلمين أدركوا سر الإسلام إدراكا عميقا لهان عندهم ما يعرضه الغرب عليهم، ولما خضعوا لحكم الغرب ولا ذلوا لسلطانه؛ فدينهم يربأ بمن يؤمن به عن الخضوع لغير الله، ويجعل الموت في سبيل التخلص من هذا الخضوع موتا في سبيل الله يجزى صاحبه الجزاء الأوفى.
وأعجبت بحديث صاحبي «المسلماني» أيما إعجاب؛ لأنه صادف موضع العقيدة مني، فسألته عما جاء به إلى الحجاز وعن رأيه في حكمة الحج، وكان جوابه على سؤالي كحديثه الأول حصافة ودقة، قال: إنما فرض الإسلام الحج ليشهد المسلم الله على نفسه أمام ملأ إخوانه المؤمنين جميعا أنه نبذ ما اختلط بحياته قبل الحج من ذنوب وأوزار، والله يغفر له ما صدق التوبة؛ ليولد ميلادا روحيا جديدا يكون بعده خيرا مما كان قبله من علم وبصيرة.
وخشينا أثر الشمس فصرنا نقصد مضاربنا، ولم نبتعد إلا خطوات وإذا صاحبي يدعوني أن أدخل معه إلى خيمته؛ لنشرب فنجانا من الشاي معا فدخلت الخيمة معه، فألفيت بها سريرين من أسرة الميدان جعلهما مضجع الليل ومتكأ النهار له ولزوجه، وزوجه امرأة مسلمة من أهل سرواك، عرفها وأحبها، فلما أسلم تزوجها وجاء بها لتؤدي فريضة الحج معه، وكانت ساعة دخولنا جالسة إلى جانب من الخيمة وحولها رجال من أهل وطنها، وهي وسيمة غير بارعة، تبدو في جلستها أدنى إلى القصر منها إلى الطول، قمحية اللون، عريضة الأكتاف، ممتلئة في غير سمنة، اشتركت في الحديث بلغة أهل وطنها فبدا صوتها عريضا عرضا لعله يؤذن بجماله في الغناء، ولم تناولنا أقداح الشاي على عادة الأوروبيين، بل ناولنا إياها أحد الجالسين حولها، وأعجبني هذا الحفاظ على العادات الشرقية، كما أعجبني الدقة الغربية في إحضار أسرة الميدان، واعتبرتها بعض العدة الواجبة للمسافر إلى الحج، والتي تغنيه عن كثير مما يضيق به ذرعا حين لا يجد بمكة السرير الذي يستريح إليه، ولا يجد بعرفات ولا بمنى بديلا منها يغني عنها، ويريح الحاج كما تريحه.
وعدنا إلى حديث طويل تكلم أثناءه صاحبي عن المسلمين، وعدم إدراكهم قوتهم العظيمة بسبب ما تخدعهم به مزاعم الغرب، فهؤلاء المسلمون يزيدون في آسيا وحدها على مائتي مليون، ولو أنهم أدركوا مبلغ قوتهم وأدركوا قيمة حياتهم الروحية وعظمتها لاستطاعوا تجديد نشاط الإنسانية، لكنهم متروكون إلى جهالاتهم ليسهل خداعهم واستغلالهم، قانعين لذلك بضعفهم وراضين عن هوانهم.
وعدت إلى قبتي، واستقبلت كثيرين من الأصحاب جاءوا يزورونني ويشاركونني الحديث في الحج وما يجب لنظامه، وأذن الظهر وجمع الناس بين صلاة الظهر والعصر، وقاموا يلبون حين قيل لهم: إن الخطيب قائم عند مسجد الصخيرات على بعيره يخطب الناس، لكن زحمة عرفات لم تدع لأحد أن يذهب لسماع الخطيب عند مسجد الصخيرات وفي مسجد نمرة، ثم إن مثل هذه الخطب قد صارت خطبا تقليدية كخطب الجمعة في مساجد مصر، ألفت الآذان سماع ألفاظها ومعانيها التي أصبحت لا تتفق وروح العصر ، ولا تتفق كذلك وطبيعة الإسلام الداعية دائما إلى التجدد في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه.
وكان الناس يفدون طيلة النهار إلى عرفات ليؤدوا حجهم؛ فالحج عرفة، وساعة الاجتماع والخطبة هي الساعة التي يتم فيها فرض عرفة؛ لذلك اكتمل جمعهم قبيلها، فلما انتهت بدءوا يفكرون في الإفاضة إلى المزدلفة ليذكروا الله عند المشعر الحرام، ثم يؤمون منى ليقيموا بها ثلاثة أيام النحر، يرمون فيها الجمرات، أو يرجمون فيها الشياطين الثلاثة على حد تعبير أهل الحجاز.
وإن الناس لفي تفكيرهم وتأهبهم، مغتبطين بصحو الجو، وجمال الهواء، إذ اكفهر الوجود فجأة وهبت الريح عاصفة، وثار النقع وتعالى الغبار في الجو، وخطف البرق وهزم الرعد، وبلغ من شدة ذلك كله أن نسي الناس أهبتهم وتفكيرهم واتجهوا بأبصارهم إلى مضارب الخيام يرون ما الريح صانعة بها، واقتلعت الريح بعض الخيام، فأسرع أهلها إليها يطوونها خشية أن يمزقها الإعصار العاصف، فأما النساء والضعفاء والأطفال فلجئوا إلى ما آنسوا فيه قوة المقاومة من الخيام واحتموا بها، وبلغ من هزيم الريح أن كان يسمع لها شهيق وزفير يدويان في آذان اللاجئ إلى الخيام أكثر مما يدويان في آذان الفار منها، ولقد لجأت إلى خيمتي لحظة ثم تركتها حين رأيتها تميل في مهب الريح وتهدد من فيها بالسقوط عليهم، ووقفت ومعارفي من أهل مكة وتوجهنا إلى الله أن يصرف عنا وعن الناس السوء والبأساء، مع ذلك.
ومع ما كنا وكان الناس فيه من هذه الشدة، لم تزايل القلوب غبطتها، ولا برح الأفئدة ابتهاجها، بل بقيت ابتسامة الرضا تطوق ثغور أصحابي وبقيت ضاحك السن أرى فيما حولي بعض ما رآه الرسول - عليه السلام - في خسوف الشمس يوم موت ابنه إبراهيم، آية من آيات الله - جل شأنه، لا يغير سنته، ويجب علينا أن نرى في هذه الآيات مظهر قوته، وأن نتوجه إليه تعالت أسماؤه بالابتهال والدعاء إكبارا وإعظاما وخضوعا وإسلاما، كذلك فعلت وفعل أصحابي، فانطلقنا نلبي ونكبر.
وإنا لكذلك إذ تفتحت أبواب السماء بماء منهمر، همى غير منذر برشاش أو مؤذن برذاذ، أين أين المفر؟! طار أحد أصحابنا إلى حيث النساء والأطفال، فألفاهم أحكموا أمرهم إذ لجئوا إلى سيارة كبيرة من سيارات «اللوري»، ونشروا فوقهم قماشا من الخيمة التي سقطت أثناء احتمائهم بها، فوقاهم المطر والريح، أما أنا فكنت أسعد حظا؛ إذ آويت إلى السيارة التي جاءت بي إلى عرفات، وكانت (ليموزين) محكمة الأقفال، وأوى إليها معي من وسعته، والوابل هتون، والرياح عاصفة تضرب زجاج السيارة كأنها سياط تهوي على جسم فيشتد منها أنينه، وكان زجاج السيارة ساعة اجتمعنا بها يحجب ما وراءها لكثافة ما علق به من الغبار، أما بعد هذه السياط فقد شف عما في لون الجو المكفهر القاتم من بقية الضياء.
وأقمنا زمنا نرجو أن ينقطع المطر، بعد أن زال ما أثارته الريح من غبار ونحن في مثل ما كنا فيه من رضا النفس وضحك السن، فلما هدأ هتنه ثم انقطع عاد الناس إلى خيامهم المطوية، فنشروها وضربوا منها ما يكفيهم السويعات الباقية على انحدارهم إلى المزدلفة ثم إلى منى، ودلفت إلى خيمتي واستلقيت على بساطها، وبقيت هنيهة مستجما أمد بصري تارة من خصاص بابها إلى ضوء القمر المنبسط على الرمال، وأغمض أجفاني طورا فأسعد بالنسيم الرقيق العذب الذي خلف العاصفة، فأنعش نفوسنا وزادنا طمأنينة ورضا، ثم عدت أفكر فيما كنا فيه وفي رضانا عنه واغتباطنا به، ولو كنا في غير هذه الحال لثار سخطنا عليه، واشتد برمنا به، ولفررنا من ثورة الطبيعة مولين الأدبار لا نعقب، وابتسمت لهذه الموازنة بين حالين نفسيتين ما أبعد البون بينهما! ثم سألت نفسي: ما سبب تباينهما؟ وأيهما أدنى إلى الحكمة وإلى موجب العقل؟
وسبب تباينهما بدهي واضح؛ فنحن اليوم في تجردنا من الحياة وزينتها وفي توجهنا إلى الله تسمو أرواحنا عن أن نأسى لشيء من أمره، والطبيعة وظاهراتها جميعا بعض أمره، وماذا بين ثورتها وصفوها، وبين قطوبها وابتسامها؟ وما لنا لا نستمتع بثورتها وقطوبها استمتاعنا بصفوها وابتسامها، إنا لنستمتع بالليل مثلما نستمتع بالنهار، وهما نقيضان فيما يبدو لنا ، وليس لنا اليوم ونحن في إحرامنا ما نخافه من ثورة الطبيعة، فلن تحول هذه الثورة دون مصلحة من مصالحنا، ونحن لا نفكر فيها، ولن يصيبنا منها أذى؛ لأن حياتنا اليوم روحية سامية فوق المادة واعتباراتها، ولو أننا سمونا أبدا بالروح فوق المادة لما ابتأسنا لشيء، ولكنا أبدا من الصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، إنما نبتئس ونضيق ذرعا بثورة الطبيعة حين تخضع أرواحنا لمظاهر الحياة التي تتأثر بهذه الثورة، وحين نجعل سعادتنا وشقاءنا ونعيمنا وبؤسنا رهنا بهذه الظواهر المحيطة بنا غير مستمدة من دخيلة نفوسنا وأعماق أرواحنا، فنحن نخشى المطر؛ لأن ملابسنا تبتل منه فيفسد ابتلالها هندامنا؛ ولأننا نخاف أن يتسرب من ابتلالها إلينا ما يسوء أثره في صحتنا، ولو أن ملبسنا كان في مثل بساطة الإحرام لما خشينا على هندامنا ولا على صحتنا، ونحن نخاف الزوابع أن تحول بيننا وبين مواعيد ضربناها لقضاء مصالحنا، ولو لم نكن أسرى هذه المصالح إلى حد الخوف عليها دون الخوف من الموت لوجدنا في ثورة الطبيعة متاعا نفسيا يعدل هذه المنافع أو يزيد عليها.
والحق أن الناس إنما يشقون بالحياة حين يذلون لمادتها بدل السمو بروحهم عليها، ولو أنهم عالجوا هذا السمو وأدركوه لآمنوا بالمبادئ الإنسانية العليا، وامتدت عدوى الإيمان منهم إلى غيرهم، ولسمت الإنسانية بذلك إلى مقام غير مقامها الوضيع الحاضر.
فأما موجب العقل والحكمة في الحالين فأشد من سبب تباينهما وضوحا، ألسنا جميعا نبتغي السعادة ونطمع في بلوغ درجاتها؟ ولا سعادة في الخضوع لغير ما توجبه الروح الفاضلة، والإيمان بالمادة خضوع، فأما الإيمان بالروح فسلطان، ولو أننا آمنا بالروح وازدرينا المادة لعنت لنا المادة وأقبلت علينا تلتمس رضانا طائعة صاغرة، فأما ما خضعنا للمادة عن إيمان بها، فنحن البائسون الأذلاء بحكمها، يقتلنا الطمع فيها ونحن نحسب جهلا أننا نحيا به.
وأرخى الليل سدوله، وظللت في تفكيري حتى نبهني الأذان للعشاء منه، فصلينا وتناولنا طعامنا وأخذنا أهبتنا للإفاضة من عرفات إلى المشعر الحرام ... وطال بنا الحديث والناس من حولنا يفيضون؛ فقد كان أصحابي يؤثرون مذهب مالك من أن المقام بالمزدلفة وذكر الله عند المشعر الحرام يكفي فيه مقدار حط الرحال، على أن يصل الإنسان إلى المشعر قبل أن ينتصف الليل، وتناول حديث أصحابي الحج ومناسكه وحكمة هذه المناسك، وأصحابي كما قدمت مكيون يحجون في كل عام، ولعل أكثرهم يعتمرون في كل عام غير مرة، وهم لذلك مطمئنون إلى مغفرة الله لهم، جريئون بذلك على تناول الحديث في الأمور المقدسة ومناقشتها بحرية قد تصل بهم إلى ما يعتبره غيرهم إثما وتجديفا، قال أحدهم: إنما الحج ومناسكه أمور تعبدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها، والمسلمون يتمونها؛ لأنها فرض فرضه الله عليهم، فما عرفات وما المشعر وما الجمرات إلا أماكن كغيرها جعلها الله للمسلمين مناسك لحكمة لا يعلمها إلا هو، ويجب أن نؤمن بها وإن لم نفهم شيئا عن حقيقتها وسرها.
وقال آخر: بل الحج وسيلة تهوي بها أفئدة من الناس إلى وادينا الذي لا زرع فيه، تلك حكمة الله، وآية ذلك ما جعل على من عجز عن أدائه أيا من مناسك الحج من فدية الدم ليطعم الفقراء مما رزق الله الناس من بهيمة الأنعام، وقال ثالث: ليس هذا كل حكمة الحج؛ وإنما حكمته الأولى اجتماع المسلمين وتعارفهم وتعاونهم؛ ليشهدوا منافع لهم وليذكروا اسم الله، ومن يلبي دعوة التعارف والتعاون جدير بأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه؛ لأنه آثر أخوة المؤمنين على نفسه وطمأنينتها، فاحتمل مشقة المجيء إلى بيت الله يلقاهم عنده، وعاد الأول إلى الحديث فقال: هذه أقوال تسوغون بها أمر الله في الإسلام، فما مسوغه أيام كان حج البيت فرضا قبل الإسلام، ويوم لم يكن من أديان العرب دين نزل للناس كافة؛ ليكون في المجيء إلى بيت الله من تجشم المشقة ابتغاء الاجتماع بالمسلمين ما يساوي مغفرة الذنوب؟ ولم يكن يحج البيت قبل الإسلام إلا أهل جزيرة العرب، وهم ليسوا أكثر من أهل هذا الوادي يسارا، فلم يكن في هوي أفئدتهم إلى بنيه ذلك الخير الذي نرتجيه اليوم ممن يحجون إلينا.
عجبت لهذا الحديث ولم آخذ في شيء منه بنصيب، وكيف أشترك فيه وإن كثيرين ليحسبونه «هرطقة» يستعيذون بالله منها ويلعنون أصحابها، وينصرفون عن السماع لهم؟ ولست أخفي أنني دهشت لتناولهم إياه، لم تنههم عنه حرمة المكان ولم يردهم عنه إحرامهم لله وتلبيتهم نداءه، وكأنما نسوا قوله تعالى:
ولا جدال في الحج ، والتمست سبب جرأتهم هذه، فوجدت الجواب حاضرا؛ إنهم يصعدون إلى عرفات كل عام، وهم يغشونه في غير أشهر الحج، فلا يرون منه إلا السطح الأجرد لسلاسل الجبال القريبة منهم بمكة، ويرون هذا السطح صفصفا ليس يعمره إلا بعض البدو في أوبارهم، ولطول ما ترددوا عليه اختلطت صورته المادية بالمعنى الروحي السامي لفريضة الحج، وذلك شأنهم في إدراك المناسك بالمزدلفة وبمنى، وإذا اختلطت الصورة المادية لموضع ما بالمعنى الروحي لأية فكرة سامية تتصل به، طغت الصورة على المعنى، إلا أن يكون المؤمن به بالغا من الإيمان غايته، أو كان من المهذبين المثقفين الذين يستطيعون التفريق الدقيق بين مظاهر المادة الدائمة المور، المختلفة الأطوار، وبين الروح المتصل الخالد الذي لا تحده المادة، ولا يعرف حدودا للزمان ولا للمكان.
ولقد كان الكهنة الأقدمون في اليونان وفي مصر أشد الناس سخرا من إيمان المؤمنين بالأصنام، وإن لم ينل هؤلاء الكهنة من التهذيب حظا يطوع لهم إقناع الناس بوحدة الله، وبأن الروح من أمره، وبأنه سام فوق المادة غير محدود بحدودها، ونقص تهذيبهم وما يؤدي إليه هذا النقص من ضعف إيمانهم هو الذي كان يجعلهم يقصون على الناس ما يزعمونه معجزات الأصنام؛ ليفيدوا من أعطيات هؤلاء الناس ما ينفعهم في حياتهم المادية، ولو أن إخواني المكيين هؤلاء كانوا مع جماعة غير مثقفين لما تحدثوا حديثهم الذي قدمت؛ أو لنزعوا فيه - أغلب الظن - إلى ناحية أخرى، لكنهم أردوا أن يظهروا لي مبلغ حريتهم في التفكير لما يعلمونه من شدة حرصي على الحرية وإيماني بأنها السبيل إلى الإيمان الحق، ولعلهم أرادوا أن أشاركهم في حديثهم وأن أقص عليهم من رأيي ما لعله ينفعهم ، فلما رأوني ممسكا عن القول مكتفيا بالإنصات لهم، أثار أحدهم جدلا في مناسك الحج، فقال: لم يرد في القرآن عن الحج وفرضه غير قوله - تعالى:
ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ، والبيت هو الكعبة، فأين في غير سنة الرسول ما يفرض الصعود إلى عرفات والقيام بما سواه من مناسك الحج؟ ولقد ورد في القرآن من تفصيل فرائض الوضوء والصلاة والصوم ما لم يرد في مثله في الحج إلا ما جاء عن البيت والطواف به.
وأجاب أحد الحاضرين بقوله: من المأثور عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «الحج عرفة»، ولقد ورد في القرآن ذكر عرفات والإفاضة منه بعد الوقوف به، والمشعر الحرام وذكر الله عنده؛ فالقول: بأن فرائض الحج لم ترد في القرآن فيه تجاوز غير جائز.
وأدى هذا القول إلى التساؤل عن الجبل الذي نحن عليه ما اسمه الصحيح: أهو عرفة أم عرفات؟ فالحديث أن الحج عرفة، والقرآن يقول:
فإذا أفضتم من عرفات ، ولجأ القوم في تفسير ذلك إلى قواعد البلاغة العربية في إطلاق الجمع وإرادة المفرد وإطلاق المفرد وإرادة الجمع، واطرد حديث القوم والليل ينساب إلى ناحية منتصفه، وجعلت أنوار المضارب في البطحاء تخبو شيئا فشيئا، ثم طويت الخيام وتحمل القوم مفيضين، فلما كان من منتصف الليل على ساعتين أو نحو ذلك كانت بطحاء عرفات قد خلت من الناس إلا قليلا، وكان ضوء القمر وحده هو الذي يمد على رمالها بساطه الوضاء، وما أجمل ضوء القمر منبسطا على الرمال الممتدة إلى حيث لا يعرف النظر غير الأفق حدا! وما كان أجمله في تلك الساعة! بلغ صفو السماء وصفو الجو فيها من أثر المطر ما زاد ساهر السموات بهاء ونورا.
وقمنا يسعدنا النسيم الرقيق إلى سيارتنا لنفيض كما أفاض الناس، وانطلقت بنا السيارة نحو المشعر الحرام، وإن في نفسي إلى عرفات لهوى يدعوني إلى العودة إليه والمبيت في مضاربه والوقوف به ملبيا شاكرا، داعيا مستغفرا، ذلك موقف لم أعرف مثله في حياتي كلها روعة وسموا بالنفس في صدق وإخلاص إلى الله - جل شأنه، ولم أعرف مثله في حياتي كلها دعوة إلى إخاء المؤمنين ليتحابوا بنور الله بينهم.
أيام التشريق
يقف الناس إذ يفيضون من عرفات عند المشعر الحرام يذكرون الله عنده، ثم ينحدرون إلى منى ليقيموا بها أيام النحر ثلاثة أو أربعة يرمون أثناءها الجمرات، وكان العرب قبل الإسلام يسمون أيام النحر هذه أيام التشريق، ولم يمح الإسلام هذا الاسم وإن غلب عليه أيام النحر، وفي المعجمات أسباب مختلفة لتسمية التشريق هذه، فبعضهم يذهب إلى أنها تطلق؛ لأن الضحايا تنحر بعد شروق الشمس؛ ويذهب آخرون إلى أنها سميت كذلك من تشريق لحم النحور، أي: تجفيفه، ومهما يكن السبب في إطلاق اسم التشريق على هذه الأيام فقد بقي هذا الاسم لم يمحه الإسلام؛ فما تزال كتب السيرة على اختلافها تذكر أن بيعة العقبة الثانية وقعت في أوسط أيام التشريق، وقد وقعت هذه البيعة بعد ثلاثة عشر عاما من بعث الرسول، أي: قبيل هجرة المسلمين إلى يثرب.
وبيعة العقبة الثانية، بل بيعتا العقبة الأولى والثانية، علم مضيء في تاريخ الإسلام كغزوة بدر الكبرى، أما وكتب السيرة تجمع على أنهما - أو كبراهما - وقعتا في أيام التشريق فإني أوثر أن أحتفظ بهذا الاسم، وأن أطلقه على أيام النحر في منى، وأن أجعله لذلك عنوان هذا الفصل من الكتاب.
أفضنا إذن قبيل منتصف الليل من عرفات يسعدنا النسيم الرقيق، ويضيء لنا ساهر السموات ما حولنا ويبهر نور السيارة الطريق، وبلغنا المشعر الحرام، فنزلنا وذكرنا الله عنده، ثم جمعنا جمارنا؛ كي نرجم بها الصخرات بمنى، ورأيت على مقربة منا أنوارا عرفت أنها بعض المقاهي القريبة منا، وأن الحجيج الذين أفاضوا أول الليل يقضون ليلهم بالعراء عندها؛ ليكونوا على أبواب منى قبيل الفجر، أما نحن فقد انتظرتنا سيارتنا حتى أتممنا ذكر الله وجمع الجمار، فلما كنا في النصف الأخير من الليل أقلتنا إلى منى فكنا على أبوابها قبيل الفجر.
ولمنى أبواب كالتي نعرفها في الحضر، فهي ليست بطحاء جرداء كعرفات، وليست مسجدا قائما في عزلة كالمشعر الحرام، إنما منى قرية بها مبان ومنازل، ألا يكن أكثرها عامرا في غير أيام الحج، فبعضها مملوك لفخذ من قريش يقيمون به طوال عامهم، ويؤجرونه أيام الحج لمن يأوي إليه، وبعضها مملوك لجماعة من أهل مكة يقيمون به أيام النحر، أو يؤجرونه لمن شاء من الحجاج أن يستأجره.
وقابلنا عند أبواب منى مخفرا للشرطة وقفنا عنده، وقدم إليه سائقنا جواز مرورنا، فلما جاوزناه في طريق فسيح تقوم المنازل على جانبيه قابلتنا صيحات عالية فيها ترتيل يسترعي السمع، تلك صيحات الباعة الذين قضوا ليلهم في انتظار الحجيج بعد إفاضتهم؛ كي يعرضوا عليهم سلعهم من طعام وفاكهة، ومن سبح وما إليها مما يتبرك به قصاد الأماكن المقدسة، ومرت السيارة بنا خلالهم حتى وقفت عند جمرة العقبة الكبرى، هنالك نزلنا فرجمناها، ثم عدنا إلى منزلنا بمنى، وقد آن لنا أن نتحلل التحلل الأصغر، على أنني آثرت بعد أن فكرت مليا أن أبقى محرما حتى أطوف وأسعى وأتحلل التحلل الأكبر، وسحبت من متاعي سجادة صلاة فرشتها، وألقيت بنفسي إليها ألتمس إغفاءة تعدني لإتمام مناسكي.
وما أحسب أحدا من الحجيج زار النوم أجفانه تلك الليلة إلا لماما؛ فقد أقام الباعة يصيحون حتى ارتفعت الشمس فوق الجبال، ولعل الذين أووا إلى مضارب في صحراء منى لم يكونوا أسعد بالنوم حظا، وإن كانوا عن صياح الباعة أكثر بعدا، فقد نال أكثرهم إغفاءته بالمزدلفة، فلما بلغوا منى وأتموا شعيرة التحلل الأصغر كان النهار قد نشر في الأرجاء نوره، وأنى لإنسان أن ينام في قبة يسري الضوء في فرجاتها؟! وأنى له أن ينام هذا اليوم، يوم النحر والعيد الأكبر! وقد بلغ منى ليصلي الفجر وليصلي العيد وهو في غبطته ونشاط نفسه لقضاء الفريضة في عرفات، وذكر الله عند المشعر الحرام؟
ومر بي مضيفي كيما أعد نفسي لنهبط إلى مكة نطوف ونسعى، وكان رجاؤنا أن ندرك ابن السعود في طوافه وسعيه، وأقلتنا السيارة وانطلقت بنا على هون بين قوافل الإبل، فرأيت هذا الطريق من منى إلى مكة لأول مرة في ضوء النهار، ولم أستبن منه كثيرا ونحن في زحمة من هبطوا يقصدون إلى ما نقصد إليه من الطواف والمسعى، وإن حرص مضيفي على أن يذكر لي أنه طريق جديد شقته الحكومة القائمة في الجبال، وأقامت إلى جانب قسم طويل منه سورا يمنع السيول أن تطغى عليه، ولم يطل بنا السير حتى كنا على مقربة من مكة، إذ ذاك اجتمع هذا الطريق بطريق الإبل، ولم يكن للسيارة بد من التمهل والوقوف أحيانا، فلما بلغنا قصر الملك لفت مضيفي نظري إلى الجبل القائم عن يميننا بين جبال عدة وكأنه منها في عزلة الناسك، وقال: هذا جبل النور، وصادف لفته نظري وقوف السيارة لمرور قافلة أمامها، فتوجهت ببصري إلى هذا الجبل الذي اختاره النبي العربي ليتعبد فوقه قبل أن يبعثه الله نبيا، توجهت ببصري إليه فاسترعى كل انتباهي بهذه العزلة التي تفرد بها عما حوله من الجبال، وبهذه الاستقامة المخروطية في انطلاقه إلى السماء استقامة تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان لغاية خاصة، منه إلى جبل قائم بين عشرات من الجبال حوله، لا يميزه عنها إلا الحادث الفذ الذي جعله القدر نصيبه، حادث هبوط الوحي الأول على رسول الله فوقه.
ودخلنا مكة وقصد مضيفي إلى دار أحد معارفه لنتوضأ قبل أن نطوف ونسعى، وكانت الدار في طريق يجاور المسعى، فلم يكن بد من أن نخترق صفوف الساعين إليها، وأجلت بصري أتفرس في وجوه هؤلاء وأتحرى أمر هذا المكان الذي يؤدي المؤمنون اليوم فيه منسكا كان إخوانهم يؤدونه فيه منذ مئات وألوف من السنين خلت، ولقد كنت في حاجة إلى الدقة في تعرفه؛ فلم ترتسم منه لدي صورة حين سعيت فيه سعي العمرة قبيل الفجر أول ما حللت مكة؛ لأنني كنت في شغل بالسعي والدعاء؛ ولم أقف صبح الغد من ذلك اليوم على كل ما أردت منه، وألفيت وجوه الساعين في هذا الصباح من يوم النحر أكثر طمأنينة، وأصواتهم في الدعاء أدنى إلى السكينة، وكأنما شعروا بعد أن أتموا فرض الله بعرفة أنهم أدنى إليه، فدعاؤهم إياه أدنى أن يستجاب، ويحصرهم هذا المكان الظليل بسقفه المهلهل وبالمباني الرفيعة القائمة على جانبيه في غير انتظام رغم فخامة بعضها، فلا يرون ما كان يراه أسلافهم من زرقة السماء وفسيح الصحراء، وهم يهرولون أول سعيهم أثناءه ثم ينبعثون سائره بخطى مطمئنة، ولا يفترون أثناء ذلك عن ذكر الله ولا عن التلاوة والدعاء.
وانعطفت وراء مضيفي في زقاق ضيق قذر متصل بالمسعى، ثم صعدنا بعد خطوات فيه درجا يشهد بأن الدور تقوم على ربوة قديمة، ودق مضيفي بابا فتحه أهله واستقبلونا بالتحية والترحيب رغم مجيئنا على غير انتظار، وتناولنا القهوة وتوضأنا وصلينا، ثم قصدنا إلى المسجد الحرام نطوف طواف الحج؛ لنسعى من بعد ذلك سعيه، ودخلنا المسجد فعلمنا أن الملك سبقنا إليه فطاف وسعى من بكرة الصباح، وألقيت بنظري أول ما دخلت من ناحية الكعبة فألفيتها نصف عارية من كسوتها، وألفيت القسم الذي لا يزال مكسوا منها عليه ثياب بيض وضعت قبيل يوم عرفة إيذانا بإحرام البيت العتيق، واليوم، يوم عيد النحر تنزع عن الكعبة ثياب العام الذي ودعنا لتوضع مكانها ثياب العام الذي نستقبله.
وأبدى عريها أحجار الجرانيت الأسود الذي بنيت منه دالة على صلابة وقوة على الزمان، والناس يطوفون بها، ومنهم من حل إحرامه في منى، ومنهم من لا يزال محرما، وانبسطت أشعة شمس الصباح في صحن المسجد الفسيح وأضاءت بنورها كل أرجائه، والموكلون بإلباس الكعبة كسوتها ينزعون عنها الثياب البيض، ثياب الإحرام، وينزعون كسوة العام الماضي ليسدلوا مكانها كسوة هذا العام، ويفرغ الناس من طوافهم فينحرفون إلى مقام إبراهيم وإلى حجر إسماعيل يصلون فيهما، ثم يقصدون إلى البناء القائم فوق زمزم يلتمسون عنده شربة من مياه بئر إسماعيل، أما نحن فقد يممنا زمزم منذ دخلنا المسجد، ودق مضيفي باب مقامها ففتحه لنا الموكولون بها، فتوضأنا من مائها ولبسنا خفافا وخرجنا نطوف بالكعبة، ولم يكن معي في هذه المرة مطوف أتلو من بعده ما يتلو من الأدعية؛ لذلك تركت نفسي على سجيتها تتجه إلى الله كما أفهم أنا كيف يجب أن يتوجه الإنسان إلى الله، فإذا مررنا بالركن اليماني سمينا الله وكبرنا وتلونا قوله - تعالى:
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وعدنا إلى تسمية الله وتكبيره قبالة الحجر الأسود، وانطلقنا بعده نتم الطواف ونحن ندعو ونستغفر، والطائفون طواف الحج يسيرون سيرتنا، يسمون الله كما نسميه، ويكبرونه كما نكبره، ويتلون من الأدعية ما يلقيه المطوف عليهم أو ما تجيش به خواطرهم وما يريدون الاستعانة عليه بالله في أمرهم وفي أمر من يحبون من ذويهم وأهلهم.
وأتممنا الطواف وصلينا في مقام إبراهيم وفي حجر إسماعيل، ثم انتحينا إلى فيء قباب المسجد، فجلسنا وتناولنا شربة من زمزم وصلينا، وأقمت مكاني هنيهة محدقا ببيت الله وبالطائفين به وبالركع السجود، وإني لكذلك إذ مرت بخاطري صورة الرسول الكريم - عليه السلام - في عمرة القضاء، يومئذ ظنت قريش به الظنون، وحسبته وأصحابه في عسرة وجهد أوهناهم وضعضعا من عزمهم، ألم يجيئوا ليعتمروا قبل عام من ذلك اليوم فلما صدتهم قريش عن مكة وحالت بينهم وبين البيت كفى محمدا أن يعقد معها عهد الحديبية وأن ينصرف إلى يثرب؟! ولولا العسرة والجهد لما فعل، ولما ارتضى أن يؤجل عمرته وعمرة المسلمين عاما كاملا، ذلك ما خيل يومئذ إلى قريش.
فلما انقضى العام وأقبل المسلمون إلى مكة ومحمد على رأسهم، وانصرفت قريش عنها إلى الجبال المحيطة بها، أراد الرسول أن يريهم كيف وهموا فيما ظنوا من ضعف المسلمين ووهنهم، فلم يلبث حين دخل المسجد ونادى بنية الطواف أن أخرج ذراعه اليمنى من ردائه، وأن صاح بأصحابه: «رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة!» ثم استلم الركن عند الحجر الأسود وهرول، وهرول أصحابه من ورائه، حتى بلغ الركن اليماني، هنالك مشى إلى الحجر الأسود مسبحا الله مكبرا إياه، ثم هرول من جديد وأصحابه يهرولون حتى أتمو ثلاثة الأشواط الأولى ومشوا سائر الأشواط السبعة، ورأى المشركون من قريش كذب أوهامهم؛ إذ رأوا محمدا والألفين من المسلمين معه أقوياء لم يصبهم نصب ولا لغوب، والمسلمون لا يزالون إلى اليوم يهرولون في الثلاثة الأشواط الأولى اتباعا لسنة الرسول، وإن لم يعرف أكثرهم حكمة هذه الهرولة، وإن لم يدر بخاطر أكثرهم ما يدل عليه هذا المظهر من أن الإسلام دين بأس وقوة ونظام.
والمسلمون اليوم يطوفون لا يؤمهم أحد؛ وهم لذلك تختلف أثناء الطواف صفوفهم، لا يهرولون في نظام، ولا يتئد سيرهم في نظام، وشتان في ذلك ما بينهم وبين المسلمين الأولين، شتان ما أرى اليوم وما كان في عمرة القضاء أو حجة الوداع، كان محمد يؤم ألفين في عمرة القضاء، ومائة ألف في حجة الوداع، يسيرون كلهم سيره، ويتبعونه، في نظام أدق نظام، هرولة ومشيا واستلاما للركن أو للحجر الأسود، وهذا النظام المتصل بروح الإسلام سبب من أسباب القوة، بل هو مصدرها وملاكها، وهذه الإمامة يقوم بها رجل مطهر يؤمن أصحابه بصدقه هي روح هذه القوة وقوامها، ولو عاد المسلمون إلى الإمامة والنظام في الحج وفي غير الحج، ولو أنهم واءموا كما يوائم دينهم بين حرية تامة أساسها الإيمان بالله وحده وإباء الخضوع لكل من سواه، وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، وبين هذا النظام الكفيل بحرية الجماعة وحياتها - إذن لاستطاعوا أن يؤدوا في العالم رسالة الإسلام كرة أخرى، ولسعد العالم بهذا الدين كما يجب أن يسعد به.
مرت هذه الخواطر بنفسي وأنا في مكاني من فيء المسجد، فانطلق ذهني على أثرها يفكر فيما يجب أن تكون الإمامة والنظام في العالم الإسلامي الحاضر، وكيف يجب أن يكونا في الطواف والسعي وسائر فراض الحج ومناسكه، وإني لفي تفكيري إذ نبهني مضيفي إلى القيام لنسعى، وأتممنا السعي بين جماعة الساعين، يزحمنا هذا، ويدفعنا ذلك، ويعترضنا بين آن وآخر صف من النجديين شبكوا أيديهم بعضهم ببعض، فإذا صادفهم ساع صاحوا به: طريق! طريق! وانطلقوا في سعيهم ينادون ربهم بلغتهم: «رب اغفر، حتما تغفر، إن لم تغفر من ذا يغفر؟!» وذكر بعض أصحابي أنه سمعهم يقولون: «رب اغفر، حتما تغفر، إن لم تغفر جنتك تصفر »، ويمر بين هذه الصفوف كما يمر بين صفوف الطائفين بالبيت ما بين حين وحين جماعة يحملون محفة عليها شيخ أو عجوز أو مريض لم تستطع قدماه حمله ليطوف ويسعى، فطاف به هؤلاء وسعوا، والمطوف يسير إلى جانبهم يدعو والمحمول في المحفة يدعو معه.
وكما يسعى الناس رجالا وفي المحفات يسعى بعضهم ممتطين جيادا أو مستقلين السيارات، وهؤلاء يرون أن لا جناح عليهم وقد سعى رسول الله في عمرة القضاء راكبا بين الصفا والمروة، وإن رأى بعض الفقهاء في السعي على الأقدام مزيدا في المثوبة، وكان الشيخ عبد الله بن بليهد عالم نجد يسعى ممتطيا جوادا، ولقد كان يحدثنا ساعة نزلنا معا من منى أنه يريد السعي في سيارة؛ لأنه لا يطيق السعي ماشيا، ولا يحب السعي في محفة؛ ولهذا العالم النجدي عذره، فهو عالم تقدمت به السن فتضعضعت صحته بعد أن لوح وجهه هواء الصحراء في أسفاره بين نجد والحجاز، فهو أشعث أغبر، وهو رجل ناحل الجسم، يعلو عنقه الدقيق رأس عريض الجبين، ذكي النظرة، تلمع عيناه ببريق لم تطفئه السنون ويدل على حيلة واسعة وبصيرة نافذة، وهذا الرجل خليفة محمد بن عبد الوهاب الحنبلي مجدد المذهب في نجد، والذي خلع اسمه على الوهابيين الذي اقتدوا به في اتباع ابن حنبل، وابن بليهد هو لذلك روح الحركة الوهابية في هذا الدور الحديث من أدوار حياتها، وهو موضع التبجيل والاحترام من النجديين جميعا، من مليكهم عبد العزيز بن سعود إلى أصغر صغير فيهم، وهو مع ذلك وعلى ما رأيته، من أشد الناس زهدا في الدنيا وزخرفها وغرور متاعها.
وأتممنا السعي سبعا، وآن لنا أن ننصرف وأن نتحلل التحلل الأكبر، على أني وقفت هنيهة قبل منصرفنا أمام مقهى من المقاهي القائمة وسط المسعى وقلت لصاحبي: أفيليق أن تقوم أمثال هذه المقاهي والحوانيت على حافة هذا المكان المقدس؟! قال: إنها ليست على حافته، بل هي قائمة داخل حرمه، والذين أقاموها لم يتقوا الله ولم يرعوا حقه، بل اعتدوا عليه عدوانا مبينا، والعجب أن منهم من اجترح هذا العدوان تبركا بأرض هذا المنسك، ناسيا أنه يؤثر بها نفسه ويحرم منها ملايين المسلمين على تعاقب الأجيال.
ولقد ثارت نفسي حقا لمنظر هذه المقاهي وهذه الحوانيت التي تتجر في السبح والمنسوجات وما إليها مما يتبرك الحجيج به، وزاد نفسي ثورة منظر صيارفة النقود الذي يصكون الآذان بصرير ريالاتهم السعودية إعلانا بها عن أنفسهم، ما لهذا المكان الذي يتوجه فيه الناس إلى الله بالتوبة والاستغفار وصرف النقود والجلوس إلى المقاهي وتبادل التجار؟ وما لهذا المكان الذي ينسى الناس فيه تجارة الحياة؛ ليتصلوا فيه ببارئهم وهذه الحماقات من تجارة الحياة؟! أليس من الخير أن تظل لهذا المكان حرمته كاملة وأن تكون الحوانيت في طريق غيره قريب منه، إن لم يكن بد من أن ينصرف الناس بعد استغفار ربهم إلى شرب القهوة وشراء السبحة والمكحلة وإلى صرف النقود للتبادل؟
وليس ذلك كل ما يثير النفس لحال المسعى، فقد بلغ من إهمال شأنه وهو منسك من مناسك المسلمين حدا بعيدا، واجتياز بعض الطرق إياه، ومرور الدواب والعربات والسيارات في هذا الطريق بين الساعين بعض مظاهر هذا الإهمال، فإذا أنت تحدثت في ذلك قيل لك: وما عساك كنت تقول من عهد قريب، وقبل أن ترعى الحكومة الحاضرة هذا المنسك بعنايتها؟ فقد كان حرما للكلاب تقيم في ظلاله نهارها وليلها لا يزعجها من مرقدها أحد وكأنها حمام الحمى.
لقد كان المسعى إلى صدر الإسلام طريقا مستقيما يصل بين ربوتي الصفا والمروة، متصلا بما حوله من فسيح الصحراء وهضابها، وتطل عليه الجبال المحيطة بمكة، أما منذ مئات السنين فقد بلغ من طغيان الدور التي أقيمت في حرمه أن اعوج اعوجاجا يحول دون رؤية الصفا من المروة أو رؤية المروة من الصفا، كما حال سقفه بين الساعين وفسحة الجو وبهاء السماء، وأحيلت كل من الربوتين درجا أحيطت جوانبه الثلاثة بالجدران؛ أما أرضه فقد رصفت بالحجر رصفا غير منتظم.
تثور النفس لهذه الحال التي عليها المسعى، ولولا أن الناس يحسبونه كذلك منذ وجد، ولولا أنهم إذ يرونه يشغلهم السعي عما سواه، لقام بينهم من يدعوهم إلى الثورة لإصلاحه، ولإزالة هذا المساس بحرمة مكان يجب أن يحاط بكل تقديس وإجلال، ذلك كان شعوري ساعة منصرفي من المسعى، وما زال هذا الشعور يحز في نفسي، فلعلني أجد من يشاركني في دعوة المسلمين إلى إصلاح منسك من شعائر الله، ولعلني أجد من الحكومات الإسلامية استباقا للخيرات وإجابة لهذه الدعوة.
انصرفت من المسعى إلى الدار بمكة، فحللت إحرامي ولبست العقال والعباءة العربية - أو المشلح، كما يسمونها - وأقلتني السيارة عائدة إلى منى، ولا يكاد من يراني يشك في أني عربي من أهل البلاد، فلما حاذت السيارة حراء استوقفت سائقها لأمتع النظر بهذا الجبل كرة أخرى، فلقد شعرت له في نفسي بهوى أي هوى، ووددت لو استطعت أن أحيط خبرا بكل ما جل أو دق من أمره.
وبلغنا منى قرابة الظهر، وأويت إلى الدار فيها، ودور منى غاية في البساطة، وليس بها من الأثاث إلا ما يحمله الحاج من مكة إليها؛ لذلك كان سرير الميدان من نوع ما رأيت عند صاحبي «المسلماني» بعرفات ذا فائدة بها أكبر الفائدة، وهذه الدور بعد معدودة لا تسع من الحجيج إلا عددا محدودا، وهي تقع بين سلسلتي الجبال المتحاذيتين المارتين بمنى، ويمر من بينهما الطريق الرئيسي إلى مكة، فإذا كنت مقيما بإحداها رأيت من نافذة الدار المطلة على الطريق كل ما في منى من حياة أيام التشريق، ورأيت الدور المقابلة لدارك مطمئنة في أحضان الجبل الشامخ عليها، ثم رأيت من النافذة الخلفية سلسلة الجبال الأخرى تحد نظرك عن تبين ما وراءها كما تحده سلسلة الجبال الأولى.
وقد خلع أهل الحجاز على جبال منى من بهاء الأساطير ما لا يكاد يترك حجرا منها إلا جعل له قصة من الأقاصيص المتصلة بحياة الأنبياء، فهذا الطريق الصاعد في الجبل هناك والذي نراه قبالتنا من نافذة الدار، هو مجر الكبش الذي ذبحه إبراهيم الخليل فداء لابنه إسماعيل، وهذا الحجر الناتئ في الجبل المقابل له هو طاقية النبي حين اختفى يوما من قريش أو غير قريش فلاذ بهذا المكان، والطاقية هي هذه الفجوة التي دخل فيها رأس النبي إذ لان حجر الجبل لاختفائه فيها، وهناك هناك في موضع لا يحدده العرافون من الجبل مكان أرادت الشياطين فيه أن تعبث بنبي من الأنبياء فانتهرها، وأكثر هذه الأساطير لا سند له في كتب السيرة أو كتب التاريخ المحترمة، وأهل مكة يقرون بذلك لمن سألهم عنه، والأذكياء منهم لا يسلمون بصحة ما يقصونه، مع ذلك يتبرك أكثر الحجاج من الأقطار الإسلامية المختلفة بهذه المواضع ويروون ظمأهم الروحي بمشاهدتها، وما لهم لا يفعلون وكثير من هذه الأساطير مدون في كتب متأخرة أراد أصاحبها بها سحر الجماهير السريعة إلى تصديق الخوارق، والتي لا تعنى من الروايات إلا بما يتفق مع هواها.
تقع دور منى على جانبي الطريق الفسيح المؤدي إلى مكة، وتقوم في هذا الطريق الصخرات الثلاث التي يحصبها الحجيج بجمارهم؛ ولذلك صارت تسمى الجمار الثلاث، كبراها جمرة العقبة، وعلى مقربة منها الجمرتان الوسطى والصغرى، وهذه الصخرات أو الجمرات هي اليوم قوائم من الحجر ناتئة من الأرض إلى ما فوق قامة الرجل الفارع الطول، أحيط كل قائم منها بسور من الحجر يقف الناس عنده ويحصبون هذه الأحجار قضاء لمنسك منى، والجمار لا تلقى يوم النحر، إنما يحصب الحاج جمرة العقبة أول بلوغه من بعد الإفاضة من عرفات ليتحلل التحلل الأصغر، أما الجمرتان الوسطى والصغرى فترجمان في اليومين التاليين ليوم النحر، فإذا تم هذا المنسك تم الحج، وهبط الناس إلى مكة ليعودوا منها بعد طواف الوداع إلى أوطانهم؛ أو ليذهبوا لزيارة مدينة الرسول، وأكثر الناس يهبطون إلى مكة ثالث أيام النحر، ويهبط بعضهم رابعها.
ويطلق أهل الحجاز على هذه الصخرات اسم الشياطين، فإذا أراد أحدهم أن يدلك على منزل شخص معين من منى قال: إنه إلى جانب الشيطان الكبير، أو على مقربة من الشيطان الصغير، أو بين شيطانين معينين من الثلاثة، وترجع هذه التسمية إلى ما ترويه بعض الكتب عن إبراهيم الخليل - عليه السلام، وأن الله بعث ملكا يريه مناسك الحج حين أمره أن يؤذن في الناس به، وطاف الملك معه بالبيت، وسعى به بين الصفا والمروة، ثم صعد وإياه متجها إلى الجبل، فلما كانا بمنى تبدى الشيطان لإبراهيم يغويه فحذفه إبراهيم بالحصى فولى هاربا، ثم تبدى له كرة أخرى فحذفه فولى، ولما حذفه للمرة الثالثة ولى مدبرا ولم يعقب، وتذهب الرواية إلى أن الشيطان تبدى في كل من هذه المرات الثلاث عند صخرة من هذه الصخرات الثلاث؛ ولهذا أطلق أهل الحجاز اسم الشياطين عليها، وانطلق الملك بإبراهيم من منى إلى المشعر الحرام وسار وإياه حتى بلغا عرفة، هنالك قال له: الآن عرفت مناسكك، وسمي هذا الجبل عرفة أو عرفات؛ لأن إبراهيم عرف عنده مناسك حجه.
والجمرات مناسك منى، والناس يرجمونها؛ لأنها تتقمص الشياطين فيما يقول أهل الحجاز؛ وهم لذلك يرجمونها ناقمين عليها أشد النقمة، ولقد بلغ من نقمة أحدهم أن قذفها بحذائه، وأطلق بعضهم على أحدها «مسدسه» آملا أن يقتل الشيطان بقذيفته، أما وهذه عقيدة الناس فيها فليس طبيعيا أن يلتمسوا البركة منها، إنما يتلمسون البركة من منازل الأنبياء والقديسين فيما ترويه الكتب، كما أنهم يذكرون الله ويتلمسون مغفرته وثوابه في مساجده.
وبمنى مسجدان يقعان في سفح ثبير، وأحدهما أقرب إلى طريق مكة من الآخر، فأما الأول فمسجد الكوثر، وهو مسجد صغير يقوم في مكان يروى أن النبي - عليه السلام - كان به حين أوحى الله إليه سورة الكوثر، والناس يتبركون لذلك بهذا المسجد، ويؤمه كثيرون من الزمنى يتمرغون في ترابه ثقة منهم بأنه يشفيهم من أمراضهم، أما الآخر فمسجد الخيف، وهو أكبر مسجد بين مكة وعرفات بعد المسجد الحرام، وكان أكبر من المسجد الحرام في الصدر الأول من الإسلام.
ومسجد الخيف قديم العهد، حتى لتروي بعض كتب التاريخ أن أربعين أو خمسة وأربعين نبيا صلوا فيه، ويذكر بعضهم حديثا عن الرسول - عليه السلام - أن هذا المسجد هو الذي تبايعت فيه الأحزاب من العرب واليهود على قتال محمد والمسلمين بالمدينة، وأن الأحزاب خرجوا منه لغزوة الخندق ، وبمسجد الخيف صلى رسول الله في حجة الوداع حين مقامه بمنى أيام التشريق، ولا يزال المسلمون يصلون به يوم النحر وأيام الجمرات، فهو وحده الذي يتسع لعشرات الألوف منهم إذ يجتمعون للعبادة والتعارف.
وقل أن يصلي بمسجد الخيف أحد في غير أيام الحج حين تكون الصلاة به سنة يجتمع لها ألوف المسلمين وعشرات ألوفهم؛ وهو لذلك البساطة كل البساطة في عمارته التي لا تزيد على جدران أربعة تحيط بمساحة فسيحة من الأرض، تتوسطها مبلغة - أو «مكبرية» - لصلاة الجمعة أو الجماعة، على أن الجانب المتصل منه بجدران القبلة مسقوف بقباب قائمة على عمد متينة البناء، وبابه الكبير معقود على عمد أربعة عقدا قويا يبعث في الذهن صورة الآثار القديمة، وللمسجد أبواب أخرى يسلك المصلون أثناء الحج طريقهم إليها؛ لأن الباب الكبير لا يتسع وحده في هذه الفرصة لألوفهم الكثيرة.
وإن بمنى لمكانا يثير الذكرى ويستوقف النظر، وإن لم يكن في فسحة مسجد الخيف ولم تكن له عمارة كعمارته، والمسلمون يؤمون هذا المكان أول إفاضتهم من عرفات، وقل من يذكر منهم حين وقوفه أمامه أكثر من أنه منسك من مناسك الحج تؤدى شعائره، ذلك مكان العقبة الكبرى حيث تقوم الجمرة التي يلقيها المسلمون ليتحللوا التحلل الأصغر، هذه الجمرة وعلى مقربة منها مسجد العقبة يثيران في النفس ذكرى البيعتين اللتين تمتا بين أهل يثرب ورسول الله، فمهدتا لهجرته، وكانت بذلك مبدأ الفوز وأذانا من الله بأن يفتح لرسوله وينصره نصرا مبينا.
قل من المسلمين من يذكر هاتين البيعتين حين يلقي الجمرات على صخرة العقبة، أما أنا فوقفت عند العقبة وعدت إليها من بعد كما عدت إلى مسجد البيعة، ووقفت عنده طويلا باحثا عن الشعب الذي احتمى الرسول والمسلمون من أهل المدينة به حين بايعوه، وإن من الواجب أن يذكر المسلمون يوم إفاضتهم وحين وقوفهم أمام جمرة العقبة هذا الموقف الفذ في التاريخ من مواقف النبي العربي، فهو من المواقف التي وجهت التاريخ وجهة جديدة، والتي وجهت الإنسانية كلها إلى النور والهدى.
لا يؤدي الناس أية شعيرة من شعائر الحج بمنى طول يوم النحر ولا صبح غداته؛ إنما يتزاورون يهنئ بعضهم بعضا بالعيد، ويفضي بعضهم إلى بعض بخلجات نفسه، ويذهب كثيرون منهم في صحوة الصباح من ثاني أيام النحر ليشتركوا في تشريفة الملك ابن السعود وفي تشريفة كل من ولديه سعود ولي عهده، وفيصل نائب الملك بالحجاز ووزير خارجية المملكة العربية وأمير مكة.
ولقد ذهبت مع جماعة من أصحابي نحضر هذه التشريفة للملك وولديه، وتشريفة الملك تقع في قصر أقيم له بمنى منذ سنوات قليلة، وفي نعت هذا المكان بالقصر شيء غير قليل من التجوز، فهو أبسط في أثاثه وفي بنائه من أن يسمى قصرا وإن اتسعت أرجاء غرفه، والذين يذهبون لحضور التشريفة ينتظرون قبل الدخول على الملك في خيام أقيمت أمام القصر، وليس في هذه الخيام دفاتر يكتب الناس أسماءهم فيها، ولا يسأل أحد من الجند ولا من حاشية الملك أحدا من الذين قصدوا إلى التشريفة عن اسمه أو جنسه أو أي شيء من أمره، ويقوم الناس من الخيام فوجا بعد فوج دون اعتبار للطوائف أو لغير الطوائف، فإذا بلغوا القصر ارتقوا أربع درجات تؤدي إلى باب هو باب الغرفة التي يستقبل الملك فيها، ويمر الناس به ويحيونه، فيدعو ذوي المكانة منهم إلى الجلوس في المقاعد المجاورة له.
ولم يكن يرضى أول ملكه على الحجاز عن تقبيل أحد يده؛ لما في ذلك من مخالفة عقيدته الوهابية، ومن مخالفة قواعد الإباء والشمم العربية، على أن أهل الحجاز أصروا على تقبيل هذه اليد، فصار في السنوات الأخيرة لا يحول بينهم وبينها، أما النجديون فلا يزالون كما كانوا يهزون يد عاهلهم ويسمونه باسمه ويحيونه بتحية الإسلام، فيقول له أحدهم: كيف حالك يا عبد العزيز؟ فإذا أرادوا المبالغة في التحية أطلقوا عليه لقب «طويل العمر»، ويمر المهنئون بالملك، ويشرب المقربون قهوته النجدية، ويلقي بعضهم أمامه القصائد والخطب، كل ذلك في بساطة بدوية تطأطئ أمامها الديمقراطية إكبارا وإجلالا.
أما سعود وفيصل فيستقبل كل منهما في خيمة فسيحة لا مقاعد فيها، ويجلس كل منهما على فراش بسيط، فإذا دعا أحدهما بعض ذوي المكانة للجلوس إلى جانبه جلسوا على البساط المفروش في الخيمة.
خرجت بعد التشريفة أطوف بمنى لأرى بعض الصحاب وزملاء الحج، وخيمتا سعود وفيصل تتصلان بمضارب الخيام القائمة في مسيل الوادي الفسيح بين جبلي منى، وهذه المضارب أشد من مضارب عرفات تشابكا؛ لأن بطحاء عرفات أكثر فسحة، وحبال الخيام تلتقي وتشتبك بعضها ببعض حتى ليتعذر على الإنسان أن ينتقل بينها دون مشقة، وما أدري كيف يهتدي إليها أصحابها ولا كيف يعلمونها، على أن لإخواننا المصريين من اليسر في ذلك ما ليس لغيرهم، فهم يتخذون مضاربهم إلى جانب السبيل المصري أو على مقربة منه، فلا يتعذر عليهم أن يجعلوا من هذا السبيل منارا للاهتداء به.
والسبيل المصري هو وحده الواحة الباسمة وسط هذه الجبال والرمال العابسة الجرداء، بنته مصر في عهد الملك فؤاد الأول بناء أنيقا على الطراز العربي، كبناء مساجد القاهرة أو دار الكتب المصرية، تراه من بعيد فيتعلق به نظرك، وتسير إليه فيلقاك سور محيط بحديقة فسيحة أمام البناء، تتخطى الباب فإذا أنت بين خضرة باسمة ونبات وزهر، وإذا عن يمينك مجلس صفت على بسطه وسائد يستند إليها الجالسون فيه، ويستقبل الموظفون المصريون كل مسلم قصد إلى السبيل في أي من أيام العيد بكل إكرام وتجلة، هذا وإن وجد أولئك القاصدون سبيل مصر في المياه الصالحة التي يشربونها به غاية ما يطمعون فيه.
دلفت بعد التشريفة إلى السبيل، فكان لنفسي مسرة أي مسرة، إنه فلذة من وطني قامت في هذه البقعة المقدسة فتحدثت عن وطني خير حديث، إنه مصر تنتظر أبناءها الذين جاءوا ملبين ربهم ليكون مثابتهم للقاء إخوانهم المسلمين ممن ينظرون إلى مصر نظرة تقدير ومحبة وإخلاص، إنه المأوى لمن شاء أن يتخذ من الحج فرصة اجتماع للتحدث في شئون المسلمين كافة، كان به ساعة دخلته طائفة من بني وطني ومعهم مسلمون أحدهم هولندي وآخر صيني من أقصى الشرق، وبين هذا وذاك من مختلف الأمم ألوان شتى، ولم يطل بي المقام ولا الحديث حتى رأيتنا جميعا نحس إحساسا واحدا وتحركنا عاطفة واحدة هي عاطفة الأخوة الإسلامية الصادقة، فالهولندي الجالس إلى جانبي، والمغربي الجالس قبالتي، والجاوي الذي يجاورني، نحن جميعا عباد رب واحد لا إله إلا هو، لا نعبد إلا إياه، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دونه، فأرض الله أرضنا جميعا، وسماؤه سماؤنا جميعا، وما خلق - جل شأنه - في السموات والأرض هو لنا جميعا، والله - جل شأنه - يورث ذلك من يشاء من عباده الصالحين.
سمعنا جميعا في خشوع وإنابة إلى قارئ يرتل القرآن ترتيلا حسنا بصوت جميل، ثم تناول حديثنا الحج وشئون المسملين في مشارق الأرض ومغاربها، عند ذلك ذكرت قول رسول الله: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، فازداد شعوري بإخاء المسلمين في أقطار الأرض جميعا عمقا وقوة، وجعلت أنصت إلى حديث المجتمعين معي بهذا السبيل المصري وأنا أشد ما أكون تعلقا بهم ومودة لهم.
وتركت السبيل أبتغي زيارة بعض معارفي في الخيام المتصلة به، وبعد لأي في السير بين خيام يقصر الطرف دونها ألفيت أصحابي جلوسا بها تحت سقوف واطئة يتلظون بحر الشمس وما نزال في الشتاء، ترى ما حال أمثالهم إذا استدارت أشهر الحج إلى أيام القيظ، وأرسلت الشمس من أشعتها شواظا ولهبا! أولا يجمل بأهل البلاد وبحكومتها أن يقيموا بدل الخيام مساكن قليلة النفقة يجد الحاج فيها من طمأنينة الحياة ما لا يجده في الخيام؟ وأفضيت بهذا السؤال إلى بعضهم، فعجب منه وظن فيه تيسيرا لمشقة الحج يذهب بالكثير من ثوابه؛ لأن الأجر على قدر المشقة، وعجبت لما قاله صاحبي وسألته: أفلا يشجع التيسير الناس على أداء الفريضة فيزداد عدد الذين يؤدونها وينالون ثوابها آلافا مؤلفة؟
وأويت إلى الدار ممتلئ القلب بقوله
صلى الله عليه وسلم : «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، وشغل ذهني أمر المنازل في منى حين الحج، أوليس حقا على الذين آتاهم الله من فضله أن يعملوا لمزيد من الطمأنينة لإخوانهم الذين يحجون البيت، كما يفكرون في طمأنينة أنفسهم؟ لقد كان النبي وأصحابه يقيمون بالخيام أيام منى؛ لأن الخيام كانت منازل ذلك العصر في شبه الجزيرة، فلم يكن أحد من أهلها ليضيق بالخيام ذرعا، أما اليوم فهذا عاهل شبه الجزيرة ابن السعود، وهو بدوي شديد الولع بالبداوة، وهؤلاء أبناؤه وأهله ووزراؤه وذوو اليسار من عشيرته، يقيمون في منى بمنازل توفر من الطمأنينة ما لا توفر الخيام، وإن كانت البساطة كل البساطة ولم يكن فيها من الترف شيء، فمن الحق علينا لكمال إيماننا أن نوفر مثل هذه الطمأنينة لكل من نستطيع أن نوفرها لهم ممن يفرضون الحج ويجيئون إليه من أقصى الأرض.
عدت غداة يوم النحر من رجم الجمرة الوسطى ومعي صاحب يسألني عن رجم الجمار ما حكمته وأية مثوبة فيه؟ وتمثل لي وأنا أسمع لقوله صاحب عرفات إذ يقول: إن مناسك الحج فروض نؤديها ولا نعرف حكمتها، كما ذكرت ما يقوله أهل الحجاز من أنهم إنما يرجمون الشيطان بالجمرات حتى لا يعود فيوسوس إليهم ليردهم إلى المعصية والإثم، لكن صاحبي لا يقتنع بهذا القول ولا بذاك، وإنما يريد أن يعرف رأي المجددين من مفكري المسلمين، قلت له: إن هؤلاء العلماء يرون في إلقاء الجمار إعلان المشيئة على طرح ما في النفس من زيف، وصدق الإرادة لدوام طهرها بعد أن غفر الله بالحج ماضي حوباتها، وإشهاد ملأ المسلمين على ذلك كله، قال صاحبي: «هذا كلام أدنى إلى تصور العقل، وإن يكن كلام أهل الحجاز أكثر اتفاقا مع ما يقصه الرواة الأقدمون في بطون الكتب، لكني أحسب حكمة الله أبلغ من هذا ومن ذاك.»
وتداولنا الحديث في الأمر، وانتهينا إلى رأي لعله أكثر اتفاقا مع ما جاء في القرآن من حكمة الحج، فأول اجتماع للمسلمين في الحج بعرفات، وهم يومئذ يجتمعون محرمين ملبين مستغفرين ربهم مستمعين إلى خطاب أمير المؤمنين أو من ينوب عنه، وفي ذلك كله ما يشغلهم عن التعرف والتشاور وشهود المنفعة المشتركة التي تربطهم بعضهم ببعض؛ لذلك وجب عليهم ، متى أفاضوا من عرفات ونزلوا منى، أن يجتمعوا وأن يتعارفوا وأن يشهدوا منافع لهم، واجتماع ألوفهم المؤلفة ساعات معدودة لا يحقق هذا الغرض؛ لذلك فرضت أيام النحر الثلاثة ليحسنوا التعارف والتشاور وشهود المنافع، ولإتمام ذلك بما يتفق وروح الإسلام وجلال موقف الحج سنت لهم مناسك يؤدونها إلى الله لتظل نفوسهم نقية وأرواحهم طاهرة، وأي منسك خير من أن يشهدوا العقبة التي شهدها الرسول - عليه الصلاة والسلام، وأن يلقوا بسواعدهم جمرات يعلنون بإلقائها أنهم على عهده في بيعة العقبة، ينفع بعضهم بعضا، ويذود بعضهم عن عقيدة بعض، ويكفل الكل بذلك حرية العقيدة الإسلامية وحرية الدعوة إليها، ويشهدون على أنفسهم إذ يلقونها أنهم على استعداد لإلقاء مثلها في وجه عدوهم إذا حاول فتنتهم عن دينهم أو حاول إخضاعهم وقهرهم؟
لعل هذا الرأي أدنى من غيره إلى روح الإسلام وحكمة الله فيه، فهذا الدين كله البأس والقوة على الحياة، وكله النظام الذي يضاعف هذه القوة أضعافا مضاعفة، ولقد جمع الإسلام بين النظام والحرية ما لم يجمع بينهما دين غيره، هو يصل بالحرية إلى غاية حدودها، وبالنظام إلى غاية حدوده، فلا عبادة إلا لله، والأمير ورجل البادية سواسية في التزام حدود الله، ومن يتعد منهم حدود الله فقد ارتكب إثما وبهتانا عظيما، هم في هذا سواء وإن تفاوتوا في الثروة وفي الجاه وفي كل مظاهر هذه الحياة الدنيا، والحرية أعز ما يحب الإنسان لنفسه، ويجب أن تكون أعز ما يحب لأخيه إذا أراد أن يكمل إيمانه. وحرية الفرد ملاكها قوة الجماعة، ولا قوة لجماعة إلا بالنظام يبلغ من دقته أن يكون كنظام جسم الفرد في تألف ذراته وفي اتساق عملها جميعا تمام الاتساق، كل اضطراب في هذا الاتساق يفسد حياة الفرد ويجعله عرضة للأمراض والعلل، وكل اضطراب في نظام الجماعة يضعفها ويجعلها عرضة لتسلط الغير عليها ولتحكمه فيها.
ومظهر النظام في الإسلام بالغ غاية الدقة من غير أن يجني مع ذلك على الحرية أو أن يمسها، وهو يقوم على أساس من المساواة الصحيحة والتعاون الصادق ، ذلك شأنه في أركان الإسلام جميعا، في صلاة الجماعة، وفي الصوم، وفي الحج، ومظهره في الحج أوضح جلالا وأعمق في النفس أثرا، واجتماع المسلمين بمنى وإلقاؤهم الجمرات ختام شعائر الحج بعد الوقوف بعرفة والطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، أما وغاية الحج اشتراك المسلمين من أقطار الأرض في التفاهم على منافعهم واشتراكهم في ذكر الله، فيجب لنجاح هذه الغاية أن يبلغ نظامهم أثناء الحج غاية الدقة، ويجب لذلك أن يكون إلقاء الجمرات والتعارف والتشاور خيرا مما هي اليوم نظاما.
والمسلمون يشعرون اليوم بواجبهم في تحقيق هذه الغاية أكثر مما كانوا يشعرون به من قبل، دعا الشباب العربي السعودي ذوي المكانة من الذين جاءوا يؤدون فريضة الحج من أهل الأمم المختلفة إلى اجتماع بمنى للتعارف والتشاور، وقد اجتمعنا في الموعد المضروب، وجاء مجلسي بين هندي وتونسي، وبادل الداعون ضيوفهم التحيات، وأحدثوا بينهم من التعارف ما يستطاع إحداثه في مثل هذه الحفلة، ثم دعوا بعضهم ليتحدثوا إليهم، وكم تمنيت لو كان بين من يؤدون فريضة الحج من أهل المكانة والرأي والكلمة المسموعة في بلادهم من يحضر مثل هذا الاجتماع؛ لتتم حكمة الحج؛ ولتكون مكة مقرا لعصبة الأمم الإسلامية تسمع كلمة أهلها، ويكون لهم في العالم رأي معدود. لكن ذوي الكلمة المسموعة ممن حضروا لم يكونوا يمثلون من العالم الإسلامي إلا أقله، ولم يكونوا يقصدون باجتماعهم إلى غاية وراء الاجتماع؛ لذلك ضعف الرجاء في أثر ما ألقوا في هذا الاجتماع من أقوال لم تتعد الدعوة العامة إلى إخاء المسلمين وتحابهم، ولو اجتمع ذوو الكلمة المسموعة لغاية يريدون تحقيقها لكان لاجتماعهم أثر يدوي في العالم كله.
أزمعت الانصراف عن منى عصر اليوم الثالث من أيام النحر، ومررنا بالجمرات فرجمناها، ثم أقلتنا السيارة تؤم مكة، واسترعى «حراء» نظرنا ساعة مررنا به، وأذكرني تحنث النبي العربي فوقه، ونزول أول الوحي وأول الرسالة عليه بعد سنوات من تحنثه، فلما أويت إلى الدار واشتملني مخدعي بها جعلت أفكر: لقد أتم الله لي فريضة الحج، وها أنا ذا الآن بمكة مسقط رأس محمد، أفأغادرها إلى المدينة لأزور قبره ثم أعود إلى وطني؟! ... وأطرقت هنيهة إذ تمثل لي حراء، وامتثلت محمدا فوقه في عزلته، ثم امتثلته يوم الوحي الأول عائدا إلى خديجة يقول: «زملوني زملوني»، ولما تمثل لي في حياته كلها آليت على نفسي أن أبقى لأسير حيث سار؛ ولأتبع خطواته قبل هجرته من مكة وبعد عوده إليها فاتحا، علي أتزود من ذلك بما ينفعني قبل أوبتي إلى قومي، فإذا عدت إليهم عدت وفي يدي قبضة من أثر الرسول.
الكتاب الثاني
البلد الحرام
مكة الحديثة
أشرت لماما إلى ما رأيت بمكة أول نزولي بها، وذكرت دار مضيفي ودار وزير المالية وقصر الملك وصورة عمارتها، ولقد حاولت أن أجد فيها، وفي المنازل التي دعيت أثناء مقامي بمكة لزيارتها، والمنازل التي نزلت بها بضواحي مكة، ما أستشف منه روح عصرنا الحاضر في العمارة أو في نظام الحياة، فعدت من محاولتي مقتنعا بأن مكة القديمة الخالدة ما تزال بريئة من هذا الروح، وإن لم يبق فيها كذلك شيء من الروح العربي القديم مما تحدثنا به تواريخ مكة من عدة قرون.
وغاية ما يستشفه الإنسان من خلال الحياة في أم القرى اليوم، فذلك أن شبابها يصبو بكل وجدانه إلى الحياة الحديثة، وأن هذه الصبوة لم تقم بنفسه إلا بعد أن انفصل الحجاز عن دولة الخلافة بالثورة التي أعلنها الحسين بن علي، والتي يسمون ما تلاها عهد النهضة؛ لذلك لم يبلغ الشباب من أمانيهم شيئا مذكورا، بل بقيت تمثل حياتها خليطا من حياة البلاد الإسلامية المختلفة في المراتب البدائية من هذه الحياة، ولا عجب! فأهلها اليوم هم على الحقيقة خليط من أبناء البلاد الإسلامية قصدوا المدينة المقدسة حاجين، ثم جذبتهم قدسيتها فأقاموا بها، ومنهم من تيسرت له أسباب العيش، ومنهم من ظلوا يعتمدون في عيشهم على الصدقات وعلى معاونة الحاجين في أداء الشعائر.
وصبوة شباب مكة للحياة الحديثة قوية آخذة بنفوسهم تدفعم إلى تتبع ما يكتب ويقال عن هذه الحياة، وإلى التعلق بما يظنونه من صورها وأمثالها، ويبلغ اندفاع بعضهم في هذا السبيل حدا يكاد ينكره ماضي البلد الحرام في العصور القريبة، بل يكاد ينكره حاضره ممثلا في الجيل الذي تخطى الشباب إلى الكهولة، فهذا الجيل ما يزال يفكر تفكير الآباء: يبالغ في تصوير الإسلام لله مبالغة تنعدم معها الإرادة الإنسانية، وينعدم معها الفكر الإنساني، ولا يرى في غير ما قاله السلف شيئا يحترم أو يعار التفاتة، بل يرى في العلوم والفنون الحديثة أفانين من لهو الخيال لا تتصل بالحق أي اتصال جدير بأن يثير عناية الذهن.
كان الشيخ حافظ وهبة - ممثل الحكومة العربية السعودية لدى بلاط لندن الآن - مديرا للتعليم بالحجاز إلى سنة 1930، وقد أراد أن يصلح التعليم بإدخال علوم الجغرافيا والرسم واللغة الأجنبية في المدارس الابتدائية الموجودة دون سواها بالحجاز، لكن العلماء وكبار المشايخ من أهل نجد ما لبثوا حين سمعوا بأمر هذا الإصلاح أن ثارت ثائرتهم واحتجوا لدى الملك ابن السعود على هذا البدع المنكر، واتصل الشيخ حافظ بهم وحاول إقناعهم بأن لا بدعة فيما صنع، فأجابوه بأنهم أبدوا للإمام عبد العزيز الحجج التي لا تنقض عما يترتب على هذه العلوم من فساد، فالرسم هو التصوير وهو محرم قطعا، واللغات ذريعة للوقوف على عقائد الكفار وعلومهم الفاسدة، وفي ذلك الخطر على الأخلاق والعقائد، وأما الجغرافيا ففيها كروية الأرض ودورانها والكلام على النجوم والكواكب مما أخذ به علماء اليونان وأنكره علماء السلف، ولقد استطاع الشيخ حافظ أن يتغلب على عناد كبار المشايخ، لا من طريق إقناعهم، ولكن من طريق تأييد الملك إياه.
وهذا الذي يقول به علماء نجد هو ما يقول به أهل الحجاز ممن سوى الشباب، ولا عجب في ذلك وقد بقي التعليم مهملا في بلاد العرب إلى عصرنا الحاضر، يقول الشيخ حافظ في كتابه «جزيرة العرب في القرن العشرين»:
الأمية تكاد تكون سائدة في جزيرة العرب، وربما كانت أول محاولة لتثقيف العقول والقضاء على شيء من الأمية كانت من جانب السيد محمد على زين الرضا في الحجاز، فإنه في سنة 1326 هجرية وما بعدها قام بإنشاء مدرستين، إحداهما في جدة والأخرى في مكة، ومع ما وضع في طريقه من العقبات وما أحيط به مشروعه من الشكوك من الأتراك والأشراف، فإن هذه المدارس قد قامت بنصيب وافر في الحجاز، وربما كانت الشبيبة الموجودة في الحجاز اليوم هي من غرس هذه المدارس، وإن كانت تسير في التعليم على الطريقة القديمة العتيقة التي تعتمد على الحفظ لا على التفكير، كانت المدارس الوحيدة في الحجاز، على أننا لا ننسى هنا بعض المعاهد التي أسسها الهنود في مكة والمدينة، فإنها قامت أيضا بنصيب يذكر، وكل ما كان في الحجاز هو حلقات الدروس في المسجد الحرام على نظام التدريس في الأزهر قديما، ولم يكن العلماء يلمون إلا ببعض العلوم الشرعية واللغوية.
هذه الشبيبة التي يذكرها الشيخ حافظ هي التي تصبو بوجدانها للحياة الحديثة، ويتعلق خيالها بما تظنه صورها وأمثالها، وشبيبة ذلك مبلغها من العلم لا تستطيع أن تحدث في حياة بلد مقدس كمكة انقلابا في نوع العيش أو في تفكير أهله؛ لذلك ما يزال الأمر في التفكير إلى الأقدمين، وإن كان النشاط العملي لهذه الشبيبة المتحركة المترامية المطامع والآمال، والتفكير هو الذي يصوغ الأشياء على غراره، فبيتك الذي تقيم به، وغرفتك التي تكتب فيها، ومكتبك وتنظيم الكتب عليه، كل ذلك مظهر من مظاهر تفكيرك، وتخطيط المدن والعناية بالميادين فيها وتنظيم عمارتها هو كذلك مظهر لتفكير أهل المدينة، أما وتفكير أهل مكة ما يزال محافظا على قديم لا هو بالعربي الصرف ولا هو بالإسلامي الصرف، ولكنه خليط مما قدمنا، فإن عمارتها وطرقها ومسالكها هي كذلك من هذا النوع، لما يغزها التغير ولما تعمل فيها أيدي التجديد والبناء.
ولو جازت المقارنة لعدت إلى كلمة الشيخ حافظ من أن التعليم في الحجاز كان على نظام التدريس في الأزهر قديما، وحسبك أن ترجع إلى كتاب من كتب الأزهر القديمة وإلى نظام وضعه لترى صورة الحياة بمكة حتى في التنظيم والعمارة، فأنت ترى المتن في كتب الأزهر منثورا خلال الشرح محاطا بالحاشية وعليه إلى جانب ذلك التقرير، مما يجعل هذا وذاك متداخلا بعضه في بعض وما لا يدع في فراغ الصحيفة بياضا قط، القراءة في هذه الكتب تطبع التفكير بطابع صورتها، وتطبع الحياة بطابع هذه الصورة كذلك، وهذا ما لا تزال تراه بمكة، وما كنت تراه إلى عصر قريب جدا في الأحياء المحيطة بالأزهر، وقد أزيل جانب عظيم من هذه الأحياء في العهد الأخير من حياة مصر، لكنك إذ ترى ما بقي من آثار حين تخترق الأحياء التي ما تزال باقية على حالها - كحي الكحكيين وما جاورها - ترى فيها الأثر الواضح لهذا النوع من التفكير.
وإنما حدث هذا التجديد بالقاهرة وببعض مدن الشرق الإسلامي في عهود متأخرة، أما إلى أوائل هذا القرن العشرين فقد كانت هذه المدن مخططة تخطيط مكة اليوم، ويسودها تفكير كتفكير كهول مكة في هذا الزمن الحاضر، بل لقد كانت مكة أسبق إلى التقدم في كثير من العصور في عمارتها وفي لون الحياة عند أهلها، وهي من أقدم مدن الأرض برواية التاريخ الإسلامي، وقد ذكر أبو التاريخ «هيرودوتس» بيتها الذي تعظمه العرب، وهيرودوتس عاش بين سنة 484 وسنة 425 قبل الميلاد، أي: منذ أكثر من ألفين وأربعمائة سنة، لكن بيتها المعظم أحاطها بجلال جعل منها مثابة الرائح والغادي في كل العصور، وجعل أحدث ألوان التفكير والحياة ترد إليها لا على أنها أجنبية عنها غازية إياها، بل على أنها مقبلة من إجلال وإكبار إلى دار السلام مقر الحقيقة في أسمى صورها، وأكبر ظني أن يكون ذلك شأنها من حياتنا الحديثة في زمن غير بعيد.
ولقد زارها الرحالة السويسري «بورخارت» الذي أعلن إسلامه وتسمى باسم الحاج عبد الله في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي - سنة 1815 - وكتب عنها طويلا في مؤلفه «جولات في بلاد العرب»، ومراجعة ما كتبه تؤيد أنها كانت موضع تجديد دائم يتم في رفق وعلى هون، ولا تبدو فيه مظاهر الثورة التي لا تتفق ومهابة البلد الحرام ووقاره، يقول «بورخارت» في وصفه ما ترجمته:
الميدان العام الوحيد في قلب البلد هو مربع المسجد الفسيح، وليس ثمة أشجار أو حدائق تبهج النظر، وإنما تدب الحياة إلى مكة أثناء الحج بما يملأ الحوانيت الكثيرة المنتشرة في كل أنحائها من ألوان التجارة، وفيما خلا أربعة منازل أو خمسة يملكها الشريف، ومدرستين صارتا مخازن للغلال، والمسجد بما حوله من المباني والمدارس، فلا فخر لمكة بأية عمائر عامة تقوم بها، وربما كان نقصها في هذه الناحية أشد وضوحا من مثله في أي بلد شرقي آخر في حجمها، فليس بها «خانات» لنزول السائحين بها أو إيداع البضائع إياها، ولا ترى فيها قصورا للعظماء، ولا مساجد كالتي تزين كل حي من أحياء بلاد الشرق الأخرى، وقد يكون السر في عدم وجود عمارات فخمة بها تقديس أهلها معبدهم تقديسا يحول دون إقامة بناء يخشى أن ينافسه.
وطريقة البناء عندهم شبيهة بطريقة البناء في جدة، مضافا إليها نوافذ مطلة على الطريق يبرز الكثير منها من الجدار ويحيط به إطار متقن الحفر أو دقيق التلوين، وتتدلى أمام النوافذ أستار من عيدان دقيقة تمنع الذباب والبعوض وتدخل الهواء النقي، ولكل بيت سطح مرصوف بالحجر في ميل لطيف تنزلق عليه مياه المطر إلى ميازيب تلقي بها في الطريق، فأمطار مكة ليست منتظمة السيلان، ولا يتيسر لذلك جمع مياهها في خزانات، كما يفعلون في سوريا، وتحجب الأسطح عن الأبصار بجدر قصيرة؛ ذلك لأنهم في الشرق يرون الظهور على السطح غير لائق بالرجل حتى لا يتهم بالنظر إلى النساء في الدور المجاورة، فالنساء يقضين كثيرا من الوقت على الأسطح مشتغلات بأعمال منزلية شتى، كتنشيف الغلال، أو تجفيف الملابس، وما إلى ذلك.
وفيما خلا منزل السراة وذوي الرياسة تبنى منازل أهل مكة لراحة النازلين بها، فتقسم إلى شقق في كل منها غرفة للجلوس ومطبخ لتكون صالحة لنزول الحاجين بها.
والطرق كلها غير مرصوفة؛ ولذلك يشتد أذى الرمل والتراب صيفا، كما يشتد أذى الوحل في الفصل المطير؛ إذ يتعذر المرور بها بعد نزول المطر، ويبقى ذلك شأنها حتى يجف الماء منها، وربما عزي إقفار مكة من المباني القديمة إلى انهمار السيول المخربة؛ فهي تنهمر بقوة وغزارة، وإن كانت أقصر أمدا من مثلها في البلاد الحارة الأخرى، وقد أصاب المسجد نفسه من هذه الأمطار ما قضى بإصلاحه غير مرة على عهود سلاطين مختلفين، حتى ليسمى لذلك بناء حديثا، أما المنازل فلا أحسب أقدمها ترجع عمارته إلى أكثر من أربعة قرون، من ثم لن تكن مكة موضع بحث السائح عن ألوان العمارة القديمة التي تسترعي النظر، أو عن بقايا المباني العربية الجميلة مما يثير الإعجاب في سوريا ومصر وبلاد المغرب وأسبانيا، وإن أصغر مدن سوريا ومصر لتستبق في هذا المضمار مكة القديمة الذائعة الصيت.
ومكة متأخرة من حيث نظام الشرطة المعروف في مدن الشرق: طرقها حالكة الظلام في الليل لا يضاء بها مصباح، وأحياؤها لا أبواب لها، فهي بذلك تختلف عن أكثر بلاد الشرق؛ إذ يقفل كل حي فيها بعناية تامة كل ليلة عقب الصلاة الأخيرة، وتلقى بقايا منازلها في الطرقات لتصير ترابا أو وحلا يختلط بما فيها على اختلاف فصول السنة.
والماء - وهو أهم ما يطلب الآسيويون وموضع سؤالهم الأول - ليس خيرا في مكة منه في جدة، فالصهاريج التي تجمع مياه المطر قليلة جدا، ومياه الآبار غير صالحة للشرب - وإن شربتها في موسم الحج طبقات الحجاج الدنيا - وبئر زمزم المشهور بالمسجد الحرام تكفي بالفعل حاجات البلد، لكن مياهها عسيرة الهضم غير مقبولة الطعم على قداستها، مع ذلك تمنع الطبقات الفقيرة من أن تنال منها بغيتها، وخير ماء بمكة هو المجلوب من عرفات على ست ساعات أو سبع من البلد الحرام، وهو مجلوب في مجار مبنية بالحجر لا تنظف، ولقد سمعت أن لها اليوم خمسين سنة لم تمسها يد التطهير؛ وهذا ماء عين زبيدة.
هذا الوصف يرسم أمام الذهن صورة بلد شرقي في أوائل هذا القرن، ويدل بذلك على أن مكة كانت دائمة التطور في حياتها إلى ما تتطور إليه المدن الإسلامية الأخرى، وما يذكره الشيخ حافظ وهبة من تفشي الجهل بها، وما يصوره «بورخارت» منها منذ قرن وربع قرن ، لا يردها عن مصاف البلاد الشرقية المتقدمة، على أن طابعها الخاص يجعل تطورها غير متأثر بعقلية أهلها أو خاضع لتفكير ذاتي نستطيع أن نسميه التفكير العربي أو التفكير المكي.
فمكة اليوم ليست بلدا عربيا، ولم تكن بلدا عربيا منذ زمان طويل مضى، إنما هي كعبة المسلمين، فهي بلد الإسلام على اختلاف أجناس أهله ولغاتهم، وأنت تراها كذلك اليوم، وكذلك رآها «البتانوني» ورآها «بورخارت» قبله، كما رآها كذلك كل الذين زاروها في حقب الزمن المختلفة، وأنت إذا ذكرت أن الملك لم يبق عربيا صرفا بعد الأمويين، بل دخلت العجمة بطانته منذ العباسيين، وتقلبت عليه من هذه العجمة الأشكال والألوان، أدركت السر في أن يستدرج بلد المسلمين جميعا هذه الأشكال والألوان إليه، فإذا علمت أن أغنياء المسلمين من مختلف الأصقاع يجرون الصدقات والأعطيات على كثيرين ممن يقيمون بمكة، وأن منهم من يجريها على قوم بالذات من المغرب أو من الجاوة أو من الهند أو الأتراك أو الأفغان أو التكارنة، لم يبق لديك موضع لعجب أن تجمع مكة شتيتا من هؤلاء جميعا، ترفع الأقدار بعضهم إلى مكان الرياسة، وتمسك آخرين عن مجرى الأرزاق ليعيشوا من حسنات المسلمين.
خرج الملك من مكة منذ فتحها النبي العربي، ولم يعد بعد ذلك إليها، وإن بقيت عاصمة الحجاز من عهد الأمويين، فقد استأثرت المدينة بالسلطان من يوم فتح الرسول مكة إلى أن انتهى عهد الخلفاء الراشدين، ثم انتقل الملك من بعد ذلك إلى دمشق وإلى بغداد وإلى القاهرة وإلى الآستانة، واتصلت الخلافة بالملك في هذه البلاد جميعا، أما البلد الأمين فقد انحلت عنه السلطة الزمنية، وإن بقي له بالبيت الحرام كل الجلال الروحي، ولما قام الحسين بن علي الهاشمي فأعلن الثورة على الأتراك وانضم إلى الحلفاء في سنة 1915، حاول أن يجعل من مكة عاصمة العرب لا عاصمة الحجاز وحده، فكان هذا بدء الخلاف بينه وبين ابن السعود في نجد، وكان المقدمة التي انتهت إلى جلاء الحسين وأبنائه عن الحجاز، واستئثار آل سعود بأمره، وكذلك عادت مكة عاصمة الحجاز وحده كما كانت منذ زمن الأمويين.
وكانت مكة على حقب العصور ميدان صدام بين المذاهب الإسلامية التي تنازعت الملك، وهي اليوم ميدان صدام بين المذهب الوهابي وسائر السنيين من المسلمين، فالنجديون الحاكمون يتبعون مذهب ابن عبد الوهاب، وهو مذهب أحمد بن حنبل؛ وهم يتبعونه في شدة وغلو كانا أوضح أثرا أول تسلطهم على الحجاز في سنة 1926، ويقر كثيرون بأن الوهابية طهرت البلد الحرام من مفاسد كثيرة كانت تجري فيه.
يذكر «بورخارت» أنه رأى حوانيت قائمة بالمسعى بين الصفا والمروة تبيع الخمر، وإن كانت لا تعرضها للبيع إلا ليلا، وكانت زمر المسلمين من أخلاط الأمم ترخي لشهواتها أعنتها، فتشهد مكة من مختلف ألوانها ما لا يجتمع في بلد واحد، أما اليوم فلا شيء من ذلك فيها، وإذا بلي أحدهم بشيء منه استتر، وإنما يشكو الناس من الإغراق في المنع، وإن كانوا يعترفون بأنه خف اليوم، فلم يعد شيئا إلى جانب ما كان منذ سنوات، إذ كانت جماعات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من النجديين تطوف بأنحاء مكة فتردع وتزجر وتوقع العقاب بالناس لما تراه هي منكرا، وإن لم يكن منكرا في رأي أكثر المسلمين، كان الرجل الذي لا يرخي لحيته عرضة للأذى، وكان من يدخن معرضا من صرامة هذه الجماعات لما لا يحب ولا يرضى، أما اليوم فقد بطل عمل هذه الجماعات وإن بقي أثره، وإن بقي من هذا الأثر أن صار الناس يرون الكبيرة كبيرة حقا، تستحق الازدراء والتعزير لا التسامح والإغضاء.
على أية صورة تكون صبوة شباب مكة إلى الحياة الحديثة في هذه البيئة المحيطة بهم؟ وما هي هذه الحياة الحديثة في نظرهم؟ أهي حياة الفكر الحر كما يصور الغرب الفكر الحر؟ أهي حياة العلم والبحث العلمي كما نراها نحن في مصر أو كما يراها أهل أوروبا؟ أهي حياة الصناعة وتسلطها على قوى الطبيعة وإخضاعها إياها لإرادة الإنسان؟ أم أنها ليست هذا كله؛ لأن هذا كله لا يتفق وحياة مكة وتفكير أهلها وقدسية ما فيها، وإنما هي نوع آخر أدنى إلى ما يسمونه أدب القوة وأكثر إيمانا بأن الأمم الأخلاق؟ الحقيقة أنك لا تستطيع أن تعرف، وشباب مكة أنفسهم لا يعرفون أية ناحية من هذه الحياة الحديثة يأخذون؟ وأية ناحية منها يدعون؟
هم يرون بلادهم ضعيفة، ويرون لغيرهم السلطان عليها، ويرون من آثار مصر وما تنقله من ثمرات الغرب الأدبية والعلمية ما يعجبهم؛ فهم يريدون أن تكون لهم مثل هذه الآثار؛ ليكون لهم من الحياة حظ كهذا الحظ الذي يتصورونه منها لأهل مصر ولأهل الغرب، دون أن يكون لذلك أثر لا تحمد مغبته في حياة مدينتهم، ومنهم من يتصور في محاكاة حياة الغرب الوسيلة لذلك، ومنهم من يرى العلم وحده الوسيلة إليه، وهم بين هذا وذاك يعملون تاركين للزمن أن ينضج من ثمرات عملهم ما يرجون أن تطمئن به نفوسهم، وأن يصل بهم إلى هذه الحياة الحديثة التي يصبون إليها بوجدانهم.
تفضل غير واحد من رجال الحكم في مكة فدعانا إلى تناول الطعام عنده، وأفضل الطعام عند أهل مكة اللحم والثريد، وهم يتناولونه عادة كما كان يتناوله أجدادنا، يسلق الضأن أو يشوى ويثرد الثريد ويوضع في قصعة على خوان من تحته السماط، ثم يتناول كل من الثريد واللحم بيده إلى شبعه، ولقد تناولت الطعام وإياهم على هذا النحو بعرفات ومكة وحيثما ذهبت من بلاد العرب، وكنت أجد في ذلك من ذكر أيام الصبا الأول ما أسعد به، لكن أولئك الذين تفضلوا بدعوتي مع من جاءوا مكة من المسلمين أولي المكانة لم يروا أن نأكل وإياهم على طريقتهم، بل آثروا الطريقة الحديثة، طريقة الغرب، وما ألفه من ألوان الطعام العديدة والصحاف التي يدور بها الخدم لينال كل منها لنفسه في صحنه، وليأكل بالشوكة والسكين بدل أن يأكل بيده، وإنهم ليؤثرون اليوم أن يجلسوا على الكراسي بدل الجلوس على المصاطب أو على السجادة فوق الأرض، وهم يرون في هذا من محاكاة المدنية ما يسر ضيوفهم من ناحية، وما يقربهم من الحضارة الحديثة من ناحية أخرى.
كان ذلك شأننا حين تناولنا طعام العشاء عند الشيخ عبد الله السليمان الحمدان وزير المالية، وعند السيد محمد سرور الصبان وكيل المواصلات والمشرف على حركة النقل بالسيارات، على أنا كنا نعود بعد تناول الطعام إلى غرف الاستقبال الوثيرة وكلنا مرتدون الملابس العربية، فننتقل بذلك من جو لا تتلاءم فيه هذه الملابس مع أدوات الطعام إلى جو آخر أكثر انسجاما مع حياة العروبة، فغرف الاستقبال على ما بها من مقاعد وثيرة تحتفظ بالطابع الشرقي القديم، ما خلا إضاءتها بالكهرباء المجلوبة إلى هذه المنازل دون سواها من منازل مكة، ثم إنهم ليحرصون على عادة انتقلت إليهم مع النجديين هي التبخر والاجتمار بالعود، فما تكاد غرفة الاستقبال تحتوي الناس حتى يدور عليهم الخدم بالشاي وبالقهوة وبمجامر يحرق فيها عود ذكي الرائحة يستنشق كل عبقه ويحتبسه في أردانه تحت المشلح وبينه وبين الصمادة، وأدوار القهوة والشاي والعود لا تكاد تنقطع ما بقي الناس في سمرهم.
وقد دعينا إلى عشاء من هذا النوع بدار مضيفي أمين العاصمة الشيخ عباس قطان، وعلى أنه كان عشاء على الطريقة الغربية في تقديم الألوان في الصحون، لقد رأينا يومئذ ما أعاد إلى الذاكرة صورة ليلة من ليالي كتاب ألف ليلة وليلة، كمل عقد اجتماعنا قبل تناول الطعام في بهو فسيح بالطابق الأعلى فوق البهو المجاور لغرفة نومي، والذي كنت أقضي به الكثير من وقتي، وكان البهو مفروشا كله بالسجاد العجمي، وثير المقاعد، تضيئه ثريات من الكهرباء ساطعة النور، فلما آن لنا أن ننتقل إلى الموائد ألفيناها مدت في هواء الأسطح الطلق وقد أنارتها ثريات الكهرباء القائمة بين الفاكهة وصحاف الحلوى، ولما طعمنا هبطنا إلى الإيوان الذي أويت إليه أتقي المطر يوم أزمعت الصعود إلى عرفات، لكنه أضيء ليلة هذا العشاء على طريقة جعلته جديرا ببعض ليالي هارون الرشيد، لولا أننا لم تغننا القيان، ولم يدر علينا فيه غير الشاي والقهوة ومباخر العود، ولقد قرأ القرآن حجازي بإيقاع غير مألوف في مصر، غير أن الإيقاع المصري في القراءة قد طغى حتى على أهل الحجاز ، فصار قارئوهم يتأثرونه وينحون نحوه.
هذا الجمع بين طريقة الطعام في الغرب وبين الحياة الشرقية الأصيلة هي صورة هذه الصبوة في نفس الشباب المكي إلى الحياة الحديثة، فهم يرغبون في اجتناء ثمراتها، لكنهم يرغبون في ذلك على استحياء، ومع الحرص أشد الحرص على طابع البلد الأمين وتقاليده، وهم يعجبون بالأدب الحديث ويأخذون بحظ منه في صحافتهم، لكنهم يقفون منه عند بعض الصور، فأما الروح في أعماقها فعربية أدنى إلى البداوة المحيطة بهم؛ ولذلك تذر أعمق الأثر حتى في نفوس من نزحوا إلى مكة من غير العرب الذين أقاموا بها وأصبحوا فيها بعيدين كل البعد عن موطنهم الأصلي، وهم يفكرون في نظام سياسي كهذه النظم الديمقراطية التي نقلها الشرق عن الغرب ولما «تتأقلم» فيه، لكن تفكيرهم لا يخرج بهم عن حدود أهل الرأي ومن تكون منهم الشورى - كما كانت في العهد الأول للمسلمين - وهم يودون لو تكون لهم حياة اقتصادية كحياة غيرهم من الأمم، لكنهم لا يتصورون هذه المذاهب الاقتصادية السائدة في الغرب، التي تتنافى في جوهرها مع الفكرة الإسلامية الاقتصادية؛ وهم لذلك ما يزالون يقفون من تعلقهم بالحياة الحديثة عند نقد ما هم عليه في بلادهم، دون أن يتصوروا اللون الجديد للحياة التي توائم مزاجهم والتي لا ينكرها تفكيرهم.
ذلك ما بدا لي واضحا أثناء الأحاديث الكثيرة التي دارت بيني وبين شبان مكة الذين شرفوني بزيارتهم منذ اليوم الأول لنزولي بينهم، والذين ما فتئوا يزورونني طول إقامتي ببلدهم، إنهم جميعا يشعرون بحاجة بلادهم إلى التعليم، وهم يتحدثون في ذلك بلهجة صادقة، ويصلون منه في بعض الأحايين إلى عيب الحكومة بأنها تنفق الطائل من الأموال على السيارات واقتنائها وإصلاحها في حين تضن بالتعليم وما يجب أن ينفق عليه، لكنك إذ تسألهم عن نوع التعليم الذي يرونه صالحا لذويهم وأبنائهم وعن الفكرة التي يجب أن يقوم هذا التعليم على أساسها، تراهم يضطربون ولا يكادون يحيرون جوابا، قد يكون ذلك راجعا إلى تأخر العلم عندهم، وإلى أن الحظ الذي نالوه منه لا يكفي لإبداء الرأي في مثل هذه المسألة العويصة، لكن ثمة أمرا آخر يزيد في حيرتهم، ذلك تعلقهم بمكانة مكة المقدسة وحرصهم عليها، فكل علم يزيد هذه المكانة سموا محبب إليهم، وكل علم لا يجعل منها موضع عنايته كلها، أو لا يضعها في المكان السامي، أو يراها أمرا لا يدخل في نطاق العلم، مزهود فيه مرغوب عنه، فإذا حدثتهم في حرية العلم وفي حرية الأدب رأوا ذلك أدخل في باب الجدل النظري ورأوه لذلك لا غناء فيه.
قد يكون غلوا مطالبة شباب مكة بتصوير الحياة الجديدة التي يصبون إليها صورة واضحة الحدود، وحظ بلادهم من العلم ما رأيت، بل إننا في مصر وفي بلاد الشرق العربي المختلفة ما نزال في دور النقد لم نتعده إلى دور التصوير والتصميم، على ما اتصلنا بالغرب وما وقفنا على علمه وأدبه، لكننا خطونا بحكم الحوادث خطوات إيجابية لا تعاون أحوال مكة، ولا أحوال الحجاز على مثلها، ومما دفعنا إلى هذه الخطوات وجود الأجانب بيننا وتمتعهم مدى أزمان طويلة بامتيازات طوعت لهم أن يعيشوا كما يعيشون في بلادهم، لا يغير أحدهم زيه ولا طريقة طعامه أو حياته في شيء، كما طوعت لهم إنشاء مدارس تنشر بيننا ثقافتهم وتعليمهم، ومن ذلك نفوذ الدول الأجنبية الذي تغلغل في الولايات العثمانية المختلفة - خلا البلاد المقدسة - منذ زمان بعيد، فقد ظلت مكة وداخلية بلاد العرب - وما تزال - حراما على غير المسلمين، والأجانب الذين يريدون دخولها يضطرون قبل حضورهم إلى معقل الإسلام أن يظهروا إسلامهم وأن يدرسوا العربية، وأن يتقنوا التزيي بلباس العرب والعيش على مثالهم، فإن لم يفعلوا لم يكن اجتيازهم الساحل إلى داخل البلاد ميسورا، وإن فعلوا حرصوا على إخفاء طواياهم ومظاهرهم ما استطاعوا؛ ومن ثم لم يكن لوجودهم بين العرب أثر المثل الذي يحتذى، فيحدث احتذاؤه النتائج الإيجابية التي حدثت في مصر والشرق.
وقد صدت هذه الأسباب عن هجرة الأجانب إلى شبه الجزيرة، كما صد عنها قلة الأمل في الربح المادي بسبب شدة الأحوال الاقتصادية بمكة والحجاز كله، والذين غامروا في اجتياز هذه البلاد من أبناء الغرب قليل عددهم حتى ليحصون فردا فردا، وينظر إليهم نظرة إعجاب لمغامرتهم، ولقد رأيت بضعة رجال منهم أثناء مقامي بمكة.
وأكثر هؤلاء ذيوع صوت بين الناس الحاج عبد الله «فلبي» كما يعرفه المسلمون، أو «سنت جون فلبي» كما يعرفه الإنكليز، وقد سعيت إلى معرفته ولقيته غير مرة، لقيته مرتين أو ثلاثا في التكية المصرية، وزرته مرة في بيته، وهناك أهدى إلي خرائط من صنعه عن الطريق من مكة إلى الطائف وإلى المدينة.
وهو رجل عجيب على ما يصفه أبناء وطنه، فهو يعيش عيش البدو من النجديين ويحتمل احتمالهم، طعامه كطعامهم، وسكنه كسكنهم، وهو موضع الثقة عند الملك ابن السعود، كما أنه شديد الملازمة لمجلسه، ولقد جاس خلال شبه الجزيرة من كل أطرافها ونواحيها، ووضع لها الخرائط ووصفها أدق الوصف، وكتابه «الربع الخالي» يصف شيئا من مجهوده الشاق في ارتياد الصحاري، ومن عمله الدقيق في وضع الخرائط المفصلة التي تطبعها له وزارة الحربية البريطانية، لكن حياته العلمية حياة عزلة تامة، فالبدو الذين يصحبونه في رحلاته لا يفهمون من أعماله شيئا، وهو لا يطالعهم بشيء من هذه الأعمال التي لا يفهمونها وإن اهتدى بهم في كل ما يحققه منها؛ لهذا، ولأنه يعيش عيش البدو، لا يوحي وجوده في بلاد العرب إلى أهلها جديدا في تصورهم للحياة الجديدة التي يصبون إليها، ذلك شأنه وشأن غيره من الأجانب الذين تثير بلاد البداوة خيالهم وتدعوهم للإقامة بها ما أطاقوا هذه الأقامة.
هذه كانت حالة الرحالين الغربيين في بلاد العرب منذ قرون مضت، وإن بعضهم ليظن أنها وشيكة أن تتغير فيما سوى المدينتين المقدستين مكة والمدينة، بعد أن أعطت الحكومة العربية السعودية امتياز استخراج الذهب إلى شركة «توتشل» الإنكليزية الأمريكية، وامتياز استخراج البترول من الأحساء إلى شركة أجنبية أخرى، فإذا تغيرت أسرعت الحياة الغربية إلى البلاد العربية، ويذهب القائلون بهذا الرأي إلى أن غزو الحضارة الأوروبية الشرق إنما تم عن طريق الصناعة والتجارة، وعن طريق التدخل السلمي أكثر مما تم عن طريق الفتح الحربي والغزو بقوة السلاح، والهند التي تحرص بريطانيا اليوم أشد الحرص عليها باعتبارها أكبر مستعمرة للتاج البريطاني، إنما بدأ غزو بريطانيا إياها من هذا الطريق حين تألفت بها شركة الهند الشرقية، وقد اهتدت شركة «توتشل» إلى مهد الذهب في بلاد العرب على ثماني ساعات من المدينة المنورة، وهي تمهد الآن طرق تصديره إلى الخارج.
فإذا لم يكن في استقرار هذه الشركة وفي قيام شركات مثلها ما يثير المخاوف أن يصيب بلاد العرب ما أصاب الهند، فأيسر ما فيه تمهيد لتغلغل الحضارة الغربية من ناحيتها الصناعية، ومن ناحية ظواهر العيش والحياة في هذه البلاد التي ظلت محتفظة حتى اليوم بطابعها العربي، ولا عجب يومئذ أن نرى هذا اللباس العربي يتوارى ليحل الزي الغربي محله، وأن نرى لون الحياة العربية الذي يوحي الطمأنينة إلى زائري البلاد المقدسة جميعا من المسلمين يحول إلى لون غربي، شأنه فيها شأنه في مصر وغير مصر من بلاد الشرق، وهنالك يسرع التجدد إلى مكة، وتصبح جديرة باسم مكة الحديثة حقا، ويومئذ يعود شباب مكة يفكرون: أسعدوا وسعدت مدينتهم بهذا التغيير الذي تصبو اليوم إليه نفوسهم؟ أم أن بلادهم فقدت به طابعها السحري، كما فقدت بوسائل النقل الحديثة شيئا كثيرا من روعتها الشعرية؟
وعلى رغم بقاء الأجانب إلى اليوم مبعدين عن بلاد العرب - خلا مدن الشاطئ - لقد تحولت أسباب المواصلات فيها بقدر عظيم من الجمل؛ سفينة الصحراء، إلى السيارات بأنواعها المختلفة، ومن البريد إلى البرق وإلى التليفون وإلى آخر محدثات الصناعة، والسيارة سريعة مريحة عظيمة الفائدة في إنجاز الأعمال، وقد أفادت أمانة العاصمة منها أن اتخذتها وسيلة الكنس والرش وإطفاء الحريق، وأن اقتنت سيارات لهذه الأغراض التي لم تكن تعتبر ذات بال من قبل، لكن السيارة هدامة لوحي الصحراء مضيعة لشعر البادية، وأنى لراكبها أن يتأمل البادية وما فيها وهي تقطعها في لمح البصر؟! فما يكاد البصر يستقر منها على شيء يتأمله.
والبرق والتليفون شأنهما في ذلك شأن السيارة، لا يدعان للذهن أن يستقر ، ولا للخيال أن يفتن في التعبير لمن نكتب إليهم عن عواطفنا وآمالنا وآلامنا، ولقد كان من العرب من يرغب عن هذه الوسائل أول دخولها بلاد العرب، وكان منهم من يراها حراما، أما اليوم فقد ألفوها، وصار بعضهم يستغني بها عما ألف من الوسائل من قبل، ولهذا - لا ريب - أثره في التفكير، وله عند شباب مكة من الدلالة على عدم صلاح أسباب الحياة القديمة لهذا العصر الحاضر ما يجعلهم أشد صبوة إلى الحديث في كل شيء، لكن هذا كله لم يصل بعد من موضع التفكير إلى تصوير الحياة صورة غير التي عرفوها عن السلف؛ بل هو يجاور هذه الصورة في الذهن العربي جوارا يتعذر على الإنسان أن يتنبأ بآثاره.
وتجارة الغرب ذات رواج اليوم في أسواق مكة، فلا يكاد الإنسان يجد من صناعة مكة أو صناعة بلاد العرب فيها شيئا، وإذا قلت: الغرب قلت: اليابان أيضا، فالمصنوعات اليابانية منتشرة بأثمان زهيدة تدعو إلى أشد الرغبة فيها، ولقد بلغ من حذق الصناعة أن صارت اليابان وصار الغرب يبعث إلى مكة بالأشياء التي يبتاعها المسلمون للتبرك بها على أنها من البلد الأمين، فالسبح والعطور تصدر من مصر مصنوعة في خان الخليلي والتربيعة، خلا ما يصنع من مرجان إيطاليا، والمباخر ورشاشات العطر والمكاتل تصنع في الخارج، وقل منها ما يصنع في بلاد العرب، وهذا كله تجده في سوق المسعى بين الصفا والمروة، وتجده في السويقة - أو السوق الصغيرة كما يسمونها - معروضا مع الأقمشة المختلفة، يقبل عليه المسلمون من شتى أقطار الأرض ويصيبون منه ما يعودون به إلى أهلهم في هذه الأقطار؛ ليكون عندهم بركة يحافظون عليها ويحتفظون بها.
ولا تختلف مكة الحديثة في استيراد تجارتها من الخارج عن مكة القديمة العربية الصميمة، وقد كانت مكانة مكة التجارية قبيل الإسلام وفي عهده الأول عدل مكانتها الدينية، وكانت ملتقى تجارة الغرب والشرق، وإنما الفرق بين يوم مكة وأمسها أنها كانت أمس طريق التجارة، فكان أهلها يذهبون في رحلة الشتاء إلى اليمن يجيئون منها ببضاعة الجنوب ليتجروا بها في الشمال، وبتجارة الشرق ينقلونها في رحلة الصيف إلى الغرب وإلى الشام يصرفون فيها ما جاءوا به من اليمن ويجيئون بألوان أخرى من التجارة مكانه.
أما اليوم فالتجارة تجيء إلى مكة وتوزع على الحجاج في أسواقها من غير أن يكون لمكة في ذلك أي نشاط إيجابي؛ بل تنقل البواخر التجارة من أقصى الأرض من اليابان أو أوروبا إلى جدة، وتنقلها السيارات من جدة إلى مكة ليتولى أهل مكة بيعها للذين فرضوا حج بيت الله الحرام بربح هو مصدر حياة أهلها، إلى جانب ما يتبرع به المحسنون للبلد الحرام من أرزاق، وقد أصبح الكثير من مواد التغذية نفسها، كالفاكهة والأطعمة المصنوعة - من «بسكويت» وجبن وما إليها - يرد إلى مكة من الخارج كما يرد غيره من البضائع، أما المواد الطازجة فترد من وادي فاطمة ومن الطائف.
وهؤلاء الألوف وعشرات الألوف من المسلمين الذين يفرضون الحج إلى البيت كل عام هم اليوم - كما كانوا في كل عصر - عامل التطور في مكة نحو حياة العصر، فهم يجيئون إليها ويقيمون بها زمنا ليس بالقليل، ولهم عقائد وعادات يراها أهل مكة ويدرسونها بعناية فطرية ليجيبوا مطالب هؤلاء الغرباء؛ وليكفلوا لهم خير قسط من الراحة يحبب إليهم الإنفاق، ويجعل منهم بعد عودهم إلى بلادهم دعاية صالحة لمكة وحج بيت الله فيها، ومما لوحظ في السنين الأخيرة أن عددا من أثرياء المسلمين وأولي الرأي فيهم يقصدون إلى الحج أكثر مما كان يفعل أمثالهم من قبل، وأنهم يلتقون بأهل مكة وبأولي الأمر في الحجاز ويبدون لهم من العناية الواجبة على العالم الإسلامي كله بالأماكن المقدسة ما يزيد أهل مكة وذويها تفكيرا في التماس أسباب الراحة لهؤلاء الأثرياء وأولي الرأي.
ولقد كان من ذلك أن فكرت الحكومة الحاضرة في إنشاء حي بضاحية الشهداء من ضواحي مكة تراعى فيه حاجات الحياة الحديثة في النظام الصحي والماء والإنارة تشجيعا لأمثالهم على الحج؛ ذلك بأن الأماكن الصالحة لنزولهم بمكة قليلة جدا، والكثيرون منهم يلقون أشد العنت في توفير المسكن الصالح لهم، فإذا نظمت لهم ضاحية مهيأة بأسباب العيش الذي ألفوا كان ذلك خير دعاية لأم القرى، وكان خطوة فسيحة نحو التطور إلى حياة العصر، وفي سبيل التقريب بين المسلمين ذوي الرأي من أهل البلاد المختلفة.
يدل على ما لهذه المنشآت من فضل التطور ما كان للتكية المصرية بمكة، وما يزال لها من أثر في حياتها، والتكية من الآثار الجليلة التي أنشأها محمد علي الكبير جد الأسرة المالكة بمصر بعد أن استقر له الأمر بالحجاز، وقد بقيت التكية على عمارته في سنة 1238 هجرية حتى جددها الخديو عباس حلمي الثاني سنة 1319 هجرية، وهي تقع بشارع أجياد من شوارع مكة، ويقابل بابها باب المسجد الحرام الذي سمي باسم باب التكية لشهرتها، وكانت تجرى فيها الأرزاق على الفقراء فيما مضى، فكانت تطعم في أشهر الحج نحو أربعة آلاف منهم كل يوم، وكانت تطعم أربعمائة فقير كل يوم في غير أشهر الحج، لكن الخلاف الذي حدث بين مصر والحكومة العربية بعد دخول الوهابيين مكة في سنة 1926، وما أدى هذا الخلاف إليه من انقطاع سفر المحمل ومن حبس أوقاف الحرمين، حال دون استمرار التكية في إجراء هذه الأرزاق، وأكبر الظن أن يعود الأمر إلى نظام جديد بعد أن استتبت العلاقات المصرية الحجازية من جديد.
لكن الذي لا ريب فيه أن وجود التكية المصرية في مكة منذ أكثر من قرن من الزمان كان له أثره في تطور الحياة في مكة، فالتكية لا يقف أمرها عند هذه الأرزاق وصرفها، بل إن بها طبيبا يعالج المرضى الذين يقصدون إليه أيا كانت جنسيتهم ويصرف لهم الدواء من عنده، ولعل ما قامت وتقوم به التكية من ذلك كان أول ما عرفه أهل مكة وأهل بلاد العرب بوجه عام عن العلاج بالطريقة الحديثة، بعد أن كان العرب لا يعرفون من وسائل العلاج إلا ما يعرفه أهل البادية، وبعد أن كانوا يؤمنون بأن آخر الداء العياء الكي ... هذا إلى أن التكية صورة من الحياة المصرية بمكة، إليها يقصد المصريون جميعا أثناء أشهر الحج، فهي بهذه المثابة مثل يشهد العرب ما يجري في بلاد أقرب منهم إلى الحضارة وأعظم اتصالا بها.
ثم إن أهل مكة أنفسهم، ورجال الحكم في بلاد العرب جميعا، يتصلون اليوم بالبلاد الإسلامية المختلفة، بعد أن يسرت أسباب المواصلات الحديثة سبل الانتقال وقربت بين أجزاء العالم، مما يجعلهم أكثر استعدادا لقبول التجديد في مدينتهم، وإن منهم من يزور أوروبا، ويقف على أساليب الحياة فيها، هذا إلى أن كثيرين من موظفي الحكومة العربية ينتسبون إلى مصر وإلى سوريا وإلى بلاد إسلامية شتى، صحيح أن الماضي يحول دون الطفرة في دعوة هؤلاء إلى الإصلاح كما تحول الأحوال الاقتصادية دونها، لكن هذا العامل له قيمته - لا ريب - في تجديد صورة الحياة بمكة، وله أثره في تفكير الشباب من أبنائها.
وهذا الماضي الذي يثقل خطا دعاة الإصلاح يجد في ناحية من نواحي الحياة بمكة ما يشد من أزره إزاء المحاولات التي تبذل للتغلب عليه، هذه الناحية هي التفكير القديم الذي أشرت في أول هذا الفصل إليه، والذي يجعل فكرة التوكل قائمة على التواكل والكسل وعدم السعي في الحياة والقناعة في الرزق بما يجيء من غير مشقة أو عمل، وإن ألوفا وعشرات الألوف من المقيمين بمكة ليرون حقا لهم أن يعيشوا من الصدقات التي تجرى عليهم، ولا يفكر أحدهم في مزاولة عمل يقيم أوده وأود أهله.
وهذا الروح هو الذي يجعل التسول منتشرا بمكة، وخاصة أثناء الحج، انتشارا مروعا، فأنت كلما ذهبت إلى المسجد الحرام للصلاة وجدت على كل باب من أبوابه الكثيرة العدد - وهي تبلغ ستة وعشرين بابا - عشرات من الصبية والنساء يتكففون الناس ويسألونهم إلحافا، ويرى كثيرون من الحجاج، وكثيرات منهم بنوع أخص، فرضا عليهم أن يعطوا هؤلاء، فهم ينفقون في ذلك العطاء الرخيص الشيء الكثير مؤمنين بأنهم يعطون الفقير مما أعطاهم الله من فضله، فلهم مثوبة ذلك عند ربهم، وكثيرون من هؤلاء المتسولين أقوياء البنية، أصحاء الأجسام، قادرون على العمل، وكثيرا ما رأيت منهم من لو وجد في أحياء القاهرة أو في أرياف مصر لأنذر بالتشرد ولشددت الشرطة عليه الخناق، لكنهم في المدينة الإسلامية المقدسة يجدون عطفا عليهم من حجاج المسلمين، وتسامحا معهم من جانب الحكومة.
ولعلك لو سألت في ذلك لقيل: إنهم من ذرية إسماعيل، وإنهم تنطبق عليهم الآية:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم ، وإن ما يبذله الناس من هذه الصدقات إنما هو هذا الهوي من أفئدة الناس إلى ساكني البلد الأمين، هذا وإن لم يكن بين سكان البلد الحرام من ذرية إسماعيل اليوم إلا القليل، أما الأكثرون فخليط من أبناء البلاد الإسلامية في آسيا وإفريقيا.
ولقد ذكرني مشهد هؤلاء المتسولين بما تقرره مذاهب عصرنا الحاضر من حق العمل للأفراد كي يعيشوا منه، وذكرت دعوة القرآن الناس ليمشوا في مناكب الأرض ويأكلوا من رزق الله، وحاولت أن أجد مسوغا لانتشار التسول بمكة، فلم أجده إلا في سوء التأويل للفكرة الإسلامية، ذهبت إليه طائفة أرادت استغلال العواطف لفائدة قوم كسالى لا يعملون، وهم على العمل قادرون، وهذا التأويل الفاسد لا يقره مذهب سليم، فالدعوة الإسلامية أساسها العمل في الحياة والجهاد للرزق فيها، ولقد كان المسلمون الأولون من أهل مكة من أكثر الناس سعيا ودأبا، فلما هاجروا مع الرسول إلى المدينة وأراد الأنصار أن يشاطروهم أموالهم أبوا ذلك على أنفسهم - على رغم حاجتهم إليه - وذهب يعمل في التجارة منهم من تؤهله مواهبه للتجارة، ويعمل في الزراعة من يفضل العمل في الزراعة، ولم تكن الأرزاق يومئذ تجرى إلا على العاجزين عن الكسب، شأنهم في ذلك شأن أمثالهم اليوم، في أرقى الأمم حضارة، فأما القادر على الكسب فلا حق له في الحياة ما لم يعمل، والعمل للقادر عليه عبادة لها مثوبتها عند الله، ولها كرامتها واحترامها عند الناس.
ولو أن الألوف التي تعيش اليوم بمكة من الصدقات زاولت من الأعمال ما تستطيعه لتغير وجه الحياة في مكة، ولو أن ما يخرجه المسلمون من مالهم صدقات للمتسولين جمع وأنفق في أعمال يقوم على استغلالها هؤلاء لكان أعود عليهم وعلى مكة بالفائدة، ثم لتغيرت هذه العقلية المريضة، عقلية التواكل والكسل المزري العجيب، ولتغير تبعا لذلك تفكير الناس تغيرا يدفع مكة إلى ناحية الحياة الحديثة، لست أجهل ما في ذلك التغير من عسر وأهل مكة لا تجمع بينهم رابطة الجنس، ولهذه الرابطة أثرها القوي في تكوين الحياة القومية.
ولقد كنت أتحدث يوما إلى مكي صميم في حرب الأشراف النجديين، وكنا نفرض الأسباب التي أدت إلى دخول الإخوان مكة من الطائف موفورين، ومما اتفقنا عليه من هذه الأسباب تكوين أهل مكة من خليط من أجناس المسلمين في أنحاء الأرض جميعا، فماذا يعني المغربي أو الجاوي أو الأفغاني أو الهندي أن يكون حاكمه عربيا قرشيا أو بدويا نجديا ما دام هذا وذاك مسلما، وما دام كل منهما يدع له من أسباب الرزق بلا سعي ولا عمل ما اعتاد منذ قرون خلت؟ أما وذلك شأنه فليس يعنيه أن يشترك في نزاع على حكم مكة أو حكم الحجاز، وليس يصيبه من تغيير الحاكم خير ولا أذى، ولو أن أهل مكة كانت تجمع بينهم رابطة الجنس لتغير وجه تفكيرهم في الدفاع عن مدينتهم، ولرأوا هذا الدفاع واجبا عليهم متصلا بكرامتهم؛ لأنه الدفاع عن الوطن، ثم لرأوا على كل فرد من أبناء الوطن أن يعمل لخير الوطن، وألا يعيش عالة عليه ما دام قادرا على العمل.
ولقد أدركت الحكومات العثمانية هذا السر في الماضي فلم تعمل لتغيير عقلية التواكل في مكة وفي الحجاز كله، بل عملت على تثبيت قواعدها وتعميق جذورها بإجراء الأرزاق على هؤلاء الأغراب الذين نزحوا إلى مكة واستوطنوها، وتشجيع ذوي اليسار على حبس الأوقاف لإجرائها عليهم، بذلك توطد روح التواكل والقعود بالبلد الحرام، وانتشر منه إلى ما حوله من بلاد الحجاز، وبذلك تعذر القيام فيه بأي حظ من الإصلاح، فإذا فكر أحد في إصلاح شوه مقصده، ونعت بأنه يريد إخراج الناس من طمأنينتهم السعيدة التي أرادها الله لهم، والزج بهم إلى حظيرة العمل الشاق والأفكار الضارة المارقة.
لست أقصد مما سبق إلى أن الطبيعة قضت ببقاء فكرة التواكل سائدة أهل البلد الأمين ممتدة منهم إلى ربوع البلاد العربية المختلفة، وإنما أقصد إلى أن التغيير لا يتم سراعا كما يتم في بلد تربط وحدة الجنس بين أبنائه، لكن تمامه أمر لا مفر منه، كما أسلفت؛ لتزايد أسباب الاتصال بين بلاد العرب والعالم الخارجي، هذا الاتصال يسرع بألوان التفكير الحديث إلى مكة على أيدي المسلمين الذين يحجون البيت من مختلف الأقطار، كما يسرع به إليها ما بين الحكومة العربية والحكومات الإسلامية الأخرى من أسباب التفاهم.
ومن أسباب الانهيار في تفكير التواكل ما تم الاتفاق عليه بين حكومة مصر والحكومة العربية السعودية في أمر الأرزاق التي تجرى من مصر إلى الحجاز غلة لأوقاف الحرمين، وفي أمر الأموال التي ترسلها حكومة مصر إلى الحجاز، فقد كانت هذه الأرزاق والأموال توزع فيما قبل الاتفاق صدقات ضئيلة القيمة على أهل مكة وعلى أهل المدينة، أما بعد الاتفاق الذي تم عام 1936 فقد أصبحت هذه الأرزاق تجمع لتنفق في أعمال ذات فائدة عامة، كتعبيد الطرق، وتعمير المنشآت الإسلامية في البلاد المقدسة، وقد كان الناس هناك يكتفون بالصدقات عن مزاولة الأعمال لإقامة حياتهم، فإذا انقطعت هذه الصدقات أو قلت فصارت لا تكفي حاجات العيش، اضطر أهل البلاد للعمل، وحلوا بذلك محل العمال المصريين وغير المصريين ممن يجاء بهم لإتمام هذه الأعمال.
وسيكون الاتفاق الذي تم بين مصر والحكومة العربية مثلا لغير مصر من الأمم الإسلامية التي تجري الأرزاق إلى الأماكن الإسلامية المقدسة؛ ومن ثم لا يبقى أمام هؤلاء الكسالى إلا أن يعملوا، غير مكتفين بما يصلهم من صدقات الحجاج، وأغلب ظني أن الحكومة العربية ستنظم هذه الصدقات كذلك وتضرب على أيدي المتسولين، وتعمل جهدها للقضاء على حالة محزنة تثير اليوم إشفاق الكثيرين، ولكنها تثير إلى جانب إشفاقهم الزراية بمن يقيمون في موطن الرسول العربي أعظم داع للسعي والعمل، وللإخاء في السعي والعمل، هنالك تتغلغل فكرة العمل في حياة مكة وحياة الحجاز، على أنها الفكرة الإسلامية الصحيحة، بعد أن كانت تعتبر مخالفة لروح الإسلام وتعاليمه.
هذه لمحات سريعة تشف عن العوامل التي تدفع مكة نحو الحياة الحديثة، وثمة عامل آخر لا يظهر له أثر وإن كان يجول بأخلاد الكثيرين، كنت أتحدث إلى طائفة من أهل مكة فيما يستطيع المسلمون القيام به من إصلاح الأماكن المقدسة كتعبيد الطرق بين جدة ومكة، وبين مكة وعرفات، وبين جدة والمدينة، وتنظيم المياه الصالحة للشرب في مناسك الحج جميعا، وتنظيم المضارب لنزول الحجاج بها، فأشار واحد من ذوي الرأي من أهل مكة بالرجاء أن يتناول الإصلاح إنشاء جامعة بالطائف يتعلم فيها أبناء البلاد العلوم الحديثة، وقد اختار الطائف للتخلص من اعتراض المعترضين على تعليم العلوم الحديثة بمكة، وفي رأي هؤلاء أن تكون مقارنة المذاهب الإسلامية بعض ما يدرس في هذه الجامعة.
وهذا روح علمي حر لمحته في محادثاتي مع كثيرين، فإذا تحقق هذا الأمل وأنشئت هذه الجامعة بالطائف أو بمكة - وأفضل أن يكون إنشاؤها بالحل من ظاهر مكة - وإذا ساهم علماء المسلمين من مختلف الأقطار بنصيب في تفقيه أبناء البلاد، فسيكون ذلك إيذانا بإسراع التطور نحو الحياة الحديثة في صورة من هذه الحياة تتصل بماضي بلاد العرب وتتصل اتصالا وثيقا بروح الإسلام الصحيح، وتجعل من مكة مقصد العلماء وذوي الرأي، وموضع الأفكار التوفيقية المستندة على أصول ثابتة من الكتاب والسنة، ومن العقل والمنطق، والقمينة بأن تحدث في أنفس أربعمائة مليون من المسلمين وفي حياتهم العقلية والروحية من الأثر ما لم يحدث مثله منذ مئات السنين.
لست أدري متى يتحقق هذا الأمل، ورجائي أن يكون هذا الكتاب باعثا على الدعوة إلى تحقيقه، على أن قيامه في نفوس الذين يعملون لتطور الحياة العربية ويدعون إلى اتصالها بحياة العصر هو لذاته عامل من العوامل الكثيرة التي تهيئ لهذا التطور، والتي تجعل مكة اليوم على أبواب نهضة علمية استجنت فكرتها في نفوس بنيها عشر سنين أو نحوها، قد آن لها أن تؤتي ثمراتها وأن يبدأ بتحقيق أغراضها.
واعتقادي أن ليس بين المسلمين من ذوي الرأي أحد إلا يرجو أن يرى هذا التطور يسرع إلى هذه البلاد المقدسة، وما أظن الأمر يقف منهم عند الرجاء، بل أحسبهم جميعا على استعداد لمد يد المعونة والعمل لنشر الدعوة كي تتسع دائرة هذه المعونة.
يوم تمتد أيدي المسلمين متصافحة من مختلف أقطار الأرض للتضافر على هذا العمل العظيم بصدق وإخلاص، يومئذ تتهيأ مكة كرة أخرى لتضيء العالم بنور الحق الذي أشرقت منها شمسه يوم بعث الله نبيه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وما أشد تعطش العالم اليوم إلى هذا النور العظيم!
يومئذ تصبح سنتنا جميعا سنة النبي العربي، وتوحيدنا الله كتوحيده، وسنة النبي تجتمع في هذا الأثر: المعرفة رأس مالي، والعقل أصل ديني، والحب أساسي، والشوق مركبي، وذكر الله أنيسي، والثقة كنزي، والحزن رفيقي، والعلم سلاحي، والصبر ردائي، والرضا غنيمتي، والفقر فخري، والزهد حرفتي، واليقين قوتي، والصدق شفيعي، والطاعة حسبي، والجهاد خلقي، وقرة عيني في الصلاة.
والتوحيد الحق ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به، ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله.
إذا اجتمعت هذه السنة إلى هذا التوحيد، وانبعث نورهما كرة أخرى من منزل الوحي الأول، فقد آن لمنطق العقل وإيمان القلب أن يلتقيا في الله وفي سنته التي لا تبديل لها، وآن للعلم - بأحدث ما اهتدت إليه بصائرنا - أن يكون سلاحنا إلى الحقيقة، وآن للمعرفة وتوق النفس الدائم للتزيد منها، أن تزيد آفاق العلم سعة وقواعد الإيمان تثبيتا، وآن للإنسانية أن تسير في ظل التسامح والإخاء إلى الكمال الذي تنشده من أقدم العصور فلا تهتدي إليه؛ لتنازع العقل والقلب على تولي زمامها وتوجيهها الوجهة التي يحسب كل منهما أنها أدنى إلى هذا الكمال.
يومئذ تعود مكة الحديثة المكان الذي تشخص إليه القلوب والأبصار وتتعلق به تعلق جهاد في سبيل الحق، متخذة إليه من العلم سلاحها، ومن العقل أصل دينها، ومن الزهد فيما سوى الحق حرفتها، ومن الرضا بالحق غنيمتها.
ويومئذ يرضى الله عن الإنسانية وترضى عنه، وتؤمن بأنها اهتدت الهدى الحق إلى سبيل الكمال.
ابن السعود بمكة
كنت أسمع اسم ابن السعود عاهل العرب منذ زمان طويل، فلما بدأ يغزو الأشراف، وعلى رأسهم الحسين بن علي ملك الحجاز، كنت أتتبع أنباء النزاع بين الملكين العربيين دون أن أقف طويلا عندها، فلما انتهى الأمر إلى فرار الحسين وإلى قيام علي ابنه مقامه، ثم إلى استقرار السلطان في الحجاز لابن السعود، بدأ الحديث عن هذا الفاتح النجدي لبلاد العرب يتردد في صحف الغرب والشرق، وقد لقيت إذ ذاك غير واحد من الصحفيين المشهود لهم بالاتزان وبدقة الحكم على الأشياء والأشخاص، فما كان أشد عجبي حين سمعت من أحدهم «فون فيزل» الألماني المعروف، مبالغة في الثناء على ابن السعود إلى حد نعته إياه بأنه «بسمرك الشرق».
هذا وكان «فون فيزل» قد لقي ابن السعود، وتحدث إليه وعرف مرامي سياسته، فلما اختلفت مصر والحجاز بسبب حادث المحمل في سنة 1926، حين اضطر أمير الحج المصري أن يأمر بإطلاق الرصاص دفاعا عن نفسه - فيما قيل يوم ذاك - بدأت الأنباء ترد بأن ابن السعود ورجاله يقيمون بالحجاز نوعا من الحكم لا يطيقه أهل السنة ولا غيرهم من المسلمين، وأن حكم الوهابيين بالحجاز سينتهي لذلك بعدول الأكثرين عن الحج، وأن حكومة الحجاز ستلقى من جراء ذلك شدة أي شدة.
لكن الحج استمر، وبدأت أنباء جديدة تغالب الأنباء القديمة وتتغلب عليها، فالحجاز قد أصبح مضرب المثل في الأمن بعد أن كان مضرب المثل في الفوضى، وبعد أن كان الحاج لا يأمن فيه على نفسه وأهله ولا يأمن على ماله، وطرق الحج قد بدأت تمهد وتجري فيها السيارات بما يكفل راحة الحجاج وطمأنينتهم، وقد أصبح الحج بسبب الأمن وإصلاح الطرق ميسورا قليل المشقة بعد أن كان المشقة والعسر، وقد دعت حكومة الحجاز الصحفيين في شتاء سنة 1930 إلى حفل تتويج الملك عبد العزيز، فعادوا يلهجون كلهم بالثناء على الأمن والنظام هناك، وسئلوا عن شدة الوهابيين في معاملة من لا يرخون لحاهم ومن يدخنون، فهونوا الأمر غاية التهوين، وكذلك اختفت الأنباء القديمة وجعل قصاد الحجاز يصورون الملك عبد العزيز بن السعود صورة خلابة تحببه إلى النفس وتدعو إلى الإعجاب به.
وقد ذهبت إلى قصره يوم دعيت لمقابلته غداة وصولي مكة، وفي نفسي منه صورة غير واضحة المعالم، لا تستبين فيها قسمات محياه ولا جلسته أو وقفته، ونزلت من السيارة أمام باب القصر، فتخطيته إلى حديقة غرست فيها نباتات صغيرة وأزهار، ورفعت طرفي فإذا أمامي درج فسيح لم أكد أثبت نظرتي فيه حتى التفت الذي يتقدمني إلى اليمين، وسرت وراءه، فتخطينا بابا استدرت عنده في دهليز فرش بالحصباء، ثم ألفيت إيوانا أشار مضيفي إلي أن أدخله، وتلقاني وزير المالية على بابه، وأردت أن أسرح بصري في المكان المفروش بالسجاد كي أجتلي منه صورة كاملة، لكن وزير المالية التفت إلى الناحية المقبلة للباب، فالتفت معه فألفيت رجلا ضخم الجلسة على مصطبة مفروشة بالسجاد وقد لبس عباءة - أو مشلحا على التعبير الحجازي - من الصوف البني اللون، واعتجر بصمادة مخططة بالأحمر والأبيض من فوقها عقال مذهب، وتقدم الشيخ عبد الله السليمان فأسر له شيئا، وتقدم من ورائه الشيخ عباس قطان، ثم تأخرا وتقدمت، فوقف عاهل العرب ومد إلي يده الضخمة فحياني، وأشار إلى مقعد بجانبه فجلس وجلست، وانصرف الرجلان، وبدأ جلالته الحديث بقوله: لم أقابلك من قبل ولكني أعرفك.
واغتبطت لهذه التحية الرقيقة التي لم تكن تتفق مع ما يبدو على وجه الرجل في هذه اللحظة من اشتغال باله، وأجبت: جئت أقدم التحية وأعرض الرجاء في تعاون المسلمين لرفعة هذه الأماكن المقدسة.
وكأن لم ينس الرجل ما كان بينه وبين مصر خلال السنوات العشر الأخيرة من خلاف، ولم ينس النزاع الذي استحال حربا بينه وبين إمام اليمن من سنتين، ولم ينس المناوشات التي كانت تقع على حدود العراق، ولم ينس هذه الخصومات تثور بين الأمم العربية والأمم الإسلامية آنا بعد آن؛ لذلك أسرع في الجواب على ما أبديت من رجاء بقوله: نحن لا نبتغي من الدول الإسلامية غير امتناع أذاها، ويكفينا صدق مودتها معنا، ونحن ها هنا في هذه البلاد - بفضل الله لا بإرادتنا نحن - القرآن في رقابنا، وسيوفنا في جنوبنا، وأكبر ما نغتبط له أن تجتمع كلمة المسلمين، فالمسلمون أكثرهم عرب، بل كلهم عرب، واجتماع الكلمة هو أول واجب على الدول الإسلامية.
لما رأيت هذا التحفظ من جانب الرجل، وذكرت إلى ذلك أنه سيذهب إلى منى على ركاب بعد ظهر ذلك اليوم، يوم التروية، أي: بعد ساعة أو نحوها، آثرت أن أقتحم الحديث إلى غايتي دون تمهيد لها فقلت: ونحن المسلمين نحرص على أن تكون مكة من الدول الإسلامية كجنيف من الدول الأوروبية، وأن نتعاون جميعا لرفعة هذه الأماكن المقدسة.
وأجاب وما يزال في تحفظه: لقد عرفت رأيك في مكة وما يجب أن تكون عليه، وهذه الحكومة تشاطرك الرجاء في أن تكون مكة مقر عصبة الأمم الإسلامية، ومكان الإصلاح بين المسلمين إذا اختلفوا، أما من أراد إحسانا إلى حجاج بيت الله فله أجره عند الله وله شكرنا، ونحن نعلم أن الشعوب الإسلامية تؤيدنا بعواطفها، فأما الدول الكبرى كلها فتبغي رضانا.
سرني أن أفضى وزير المالية إلى الملك بالحديث الذي دار بيني وبينه عن مكة، وأن أبدى جلالته موافقته على رأيي، ودار بخاطري أن أوضحه، لكني حرصت على وقته فقلت: وفق الله الحكومة لإعلاء شأن العرب.
وكان جوابه: نحن قد جئنا هنا فوجدنا أمنا مضطربا فوطدناه، ووجدنا شيوخا لهم عاداتهم وشبانا لا سلطان لهم، فعالجنا أمر الشيوخ لننزع بالحسنى ما خالف الدين من العادات، وأتحنا للشباب الفرصة لتأييد الفكر الإسلامية الصحيحة.
وأمسك الرجل من القول عند هذا الحد على سعة الموضوع الذي استفتحه، إذ ذاك قلت: أخشى أن تحول مشاغلكم الكثيرة بسبب الحج دون طول الحديث، وتحرك الرجل إلى ناحيتي حين سمع مني هذا القول وقال مبتسما: أرجو أن نلتقي بعد الحج.
وودعني فانصرفت، وشغلت منذ وصلت الدار بالتهيؤ لعرفات وصعوده، ولكني بقيت بعد ذلك أعود إلى التفكير في هذا الرجل المديد القامة، المفتول العضل، القوي الساعدين، الحاد النظرة، الضخم في كل شيء، وأفكر في هذا الذي قاله أثناء حديثنا وفي شدة تحفظه ، فلما ذهبت ثاني يوم العيد إلى تشريفته بمنى وألفيته يقابل الناس جميعا، من عرف منهم ومن لم يعرف، ويقابلهم ببساطة بدوية لا شيء من التكلف فيها، ازددت عجبا منه وإعجابا به، وأفضيت بخواطري عنه إلى بعض السوريين من موظفي الحكومة العربية وإلى بعض الشباب العربي من أهل مكة، راجيا أن أجد في حديثهم ما تكمل به في نفسي صورته، لقد فهمت منهم أنه رجل محب للإصلاح، ميال بكل نفسه إليه، وأنه - وهو السياسي العليم بشدة قومه - يحاول ما استطاع التوفيق بين مذهبه في الدين وبين الأمر الواقع، ويحاول هذا التوفيق بمقدرة وذكاء يبدو بهما طبيعيا موفقا.
لما اشتد رجاله النجديون في تحريم التدخين على المقيمين بمكة جميعا، سواء منهم أهل البلد ومن جاءوا إليها حاجين البيت، بدأت إيرادات المكوس «الجمارك» من الدخان تهوي سريعا وتهبط هبوطا تأثرت به ميزانية الدولة التي تعتمد على المكوس بقدر عظيم، وتحدث إليه رجاله في هذا الأمر من ناحيته المالية، ومن ناحية الدعاية به ضد حكومته بالحجاز بأنها تغلو في تحريم ما لا تحرمه أكثر المذاهب الإسلامية، إذ ذاك أسرعت الحكومة بموافقته فنادت في الناس أن لا إكراه في الدين، وأن الذين يجيئون للحج من أهل المذاهب المختلفة لا جناح عليهم أن يدخنوا أو أن يحفوا لحاهم أو أن يفعلوا ما تبيحه لهم مذاهبهم ما دام لا يحل ما حرم الله في كتابه، والتمست الحكومة الفتوى بذلك عند عالم نجد الشيخ عبد الله بن بليهد، فأفتى بأن الدخان لا يسكر كثيره ولا قليله فهو غير محرم وإن كان مكروها، وبذلك أبيح التدخين لمن شاءه من الحجيج، وعادت موارد المكوس منه إلى مثل ما كانت من قبل تحريمه.
وكان النجديون أشد الناس طعنا على «التليفون» و«الراديو»، وكانوا يزعمون أن الشياطين هي التي تتكلم فيهما، فكانوا لذلك يحرمون استعمالهما، ولما كانت الحاجة إلى هذه المنشآت ماسة ولم يكن الاستغناء عنها ممكنا، فقد دعا ابن السعود كبار المشايخ وسألهم: أتستطيع الشياطين أن تتلو القرآن؟ فلما أنكروا ذلك طلب إليهم أن ينصتوا لما في سماعة التليفون فإذا هو قرآن يتلوه قارئ جميل الصوت، فلم يبق لديهم ريب في حله، وكان ذلك شأنهم أمام الراديو، وكل ما استطاع غلاتهم بعد ذلك أن يقولوه: إن هذه الآلات تصلح لنقل السيئ من الأخبار ولإذاعة المحرم من الغناء وأسباب الطرب، لكن الرد على هذا القول كان ميسورا، فكل ما أحل الله قد يكون ذريعة لأمر محرم، الخمر بنت الكرم، ومن كروم الطائف كان بعضهم يصنع الخمر في البلد الحرام، فلم يكن عملهم سببا لتحريم زرع العنب أو غيره من الفاكهة التي يصير عصيرها خمرا إذا عتق، وأدوات القتل هي بذاتها أدوات الصيد وأدوات الدفاع عن النفس وأدوات صد المغير على الوطن، وإنما الإرادة والتمييز عند الإنسان هما اللذان يفرقان بين الخير والشر، يبيحان الحلال ويحرمان الحرام.
قص علي من تحدثت إليهم بعض هذه الأنباء ومثلها، مما دلني على حيلة الرجل وسعتها، وعلى دقة إدراكه لعقلية أهل بلاده والسبيل التي يسلكها لإقناعهم وتوجيههم نحو ما يراه الخير والحق، وإن قوما من أهل الحجاز لا يحبونه قد أرادوا يوما أن يدلوا على مبلغ قسوته، فكان ما ذكروا دليلا على دقة الإدراك والقدرة على التفريق بين المبادئ الواجبة الاتباع والضرورات التي تبيح المحظورات، سمعني هؤلاء أذكر ابن السعود وحكومته وأقول: لو لم يكن من أثرهم إلا أنهم أقروا الأمن في ربوع الحجاز بعد الذي كان من فساده واضطرابه لكفاهم فخرا، قال أحدهم: لو عرفت أنهم لم يبلغوا ذلك إلا بمظالم ارتكبت لما أضفيت عليهم كل هذا الفخر، فلقد كانوا يأخذون البريء بجريرة المذنب، ويلقون تبعة جريمة تقع على قبيلة بأسرها فيستأصلون القبيلة استئصالا، ولولا ذلك ما تم لهم ما يفاخرون به من أمن مستتب يرى الناس اليوم استتبابه ولا يذكرون كيف كان الاستتباب ولا الأرواح التي أزهقت في سبيله.
قلت: وكم من القبائل استؤصلوا أخذا للبريء بجريرة المذنب؟
وأجاب محدثي: المعروف عندنا قبيلة واحدة، لكني لا أستطيع ولا يستطيع غيري أن يجزم بأن غيرها من القبائل لم تستأصل كذلك، وما تزال الشدة ديدن الحكام النجديين، وإنك لتسمع اليوم عن أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم ما يدل عليها، وستراه وستقف من أخباره حين تزور المدينة على ما يقطع عندك بصحة هذا القول.
قلت: والقبيلة أو القبائل التي عوقبت؛ لأن أفرادا منها كانوا يعيثون في الأرض فسادا، ألم تكن على علم بما يجترحه هؤلاء الأفراد؟ أو لم يكونوا هم يشعرون بحمايتها إياهم؟
وسكت محدثي هنيهة ثم قال: الحق أنهم كانوا يشعرون بهذه الحماية، وقبائلهم كانت تعرف أمرهم، لكنهم لا يزيدون في ذلك على شقي من أبناء الأسر الكريمة يجد في جاه أسرته الحماية مما يأتيه من أعمال شقاوته، أفعدل أن تؤخذ الأسرة بذنبه؟! إن الله - تعالى - يقول:
ولا تزر وازرة وزر أخرى ،
ولتجزى كل نفس بما كسبت .
قلت: فإذا تعدت شقاوة الشقي إلى الغير، فأنذر الأسرة أن تنزع منه حمايتها فلم تفعل، وظل يأتي المنكر وهو لها جار، أفليس من حق الغير أن يحمل الأسرة وزره وأن ينزل بها عقابه؟
لم يجد محدثي ما يحيب به عن سؤالي، وأردفت: إن كثيرا من الأمم لتصنع ما صنع ابن السعود هنا، فحماية الأمن واجبة على الأفراد وجوبها على الحكومة، ونحن جميعا مطالبون بأن نعاون أولي الأمر عليها، فإن لم نفعل ثم لم نقف عند التقصير، بل شعر الجاني بحمايتنا إياه، حق لصاحب الأمر أن يؤاخذنا بتقصيرنا، وأن يؤاخذنا أضعافا مضاعفة بحماية هذا الجاني، وهذه شدة واجبة ما تعلق الأمر بالسكينة التي يجب أن يفيد الجميع منها، وإذا جاز لصاحب الأمر أن يتسامح في انتفاض سياسي يوم ينتصر على خصومه، فليس من حقه أن يتسامح في العبث بالأمن مع من يريدون كسب المال حراما كما يفعل أولئك الذين يعتدون على حجاج البيت، فالحاج ضيف الله، وأولى الضيف بالكرامة ضيف الله، ذلك كان الشأن في الجاهلية، وكذلك كان يقول جد النبي، أفلم يكن من الواجب على المسلمين من أهل هذه البلاد أن يكرموا الضيف ما كان يكرمه العرب في الجاهلية ؟ فإن لم يفعلوا وعاقب ابن السعود جناتهم وحماة الجناة فلا تثريب عليه، بل ذلك واجبه؛ ولذلك يشكر المسلمون جميعا في مختلف أقطار الأرض هذا الذي جعل الطريق إلى البلد الأمين أمنا وإلى بيت الله مهاد سكينة وسلام.
ولقد صدقت أحاديثي مع ابن السعود هذا الذي سمعت من حصافته وحسن رأيه، لما تم الحج وعدنا إلى مكة اجتمع قوم من بلاد مختلفة يتحدثون فيما يجب لهذه الأماكن المقدسة على المسلمين - وكنا من مصر ومن العراق ومن سوريا ومن فلسطين ومن إيران - ووضع القوم قرارات لتمهيد طرق الحج وجلب الماء إلى منى أيام الفريضة وغير ذلك مما شعرنا جميعا بضرورته حين أداء الشعائر، ووكل القوم إلى جماعة منا أن يقابلوا ابن السعود وأن يحدثوه فيما اجتمع عليه رأي الذين تحدثوا في الأمر، وأفضينا إلى فؤاد بك حمزة وكيل الخارجية بما حدث؛ كي يضرب لمقابلتنا الملك موعدا، وقابلناه مساء ذلك اليوم وقرأ أحدنا ما وقعه المجتمعون، وشرحت ما دار في الاجتماع.
فلما أتممنا حديثنا استوى الرجل في مجلسه وكان في غرفة القصر العليا، وقال: إنني شاكر لكم تفكيركم في أمر هذه الأماكن المقدسة، مقتنع بأن اجتماعكم ستكون له نتيجة متى عدتم إلى بلادكم، وغاية رجائي أن يبقى اتصالكم بعضكم ببعض من بعد ليتيسر الاستمرار في القيام بشيء مما فكرتم في القيام به، ورجائي الأجل من هذا أن تكون هيئتكم أكثر تمثيلا للشعوب الإسلامية، فأنتم - على ما فهمت - تمثلون أربعة شعوب أو خمسة، ومن الشعوب الإسلامية من ليس ممثلا معكم، ومن له من المكانة ومن الآثار في هذه البلاد في الماضي ما لا ينساه أحد، فالهند مثلا لم يمثلها في اجتماعكم أحد، ولم يمثل أحد المغرب الأقصى ولا الصين، ثم إن في كل أمة من الأمم الإسلامية، وبينها أممكم، رجالا سبقت منهم إلى الحجاز وإلى الأماكن المقدسة فيه أياد وأعمال بر، وخير أن ينوب هؤلاء عن بلادهم، فأسماؤهم اللامعة في هذا الموضوع مدعاة للنجاح، وأذكر بنوع خاص طلعت حرب باشا في مصر، لقد عمل هذا الرجل لتيسير الحج ما استطاع، وهو على رأس مؤسسات كثيرة ذائعة الصيت في البلاد الإسلامية كلها، فلا إخالكم إلا تريدون أن تجعلوه في مقدمة الذين يشاركون في هذا العمل، والحكومة هنا ترحب بكل إصلاح يريد المسلمون القيام به لخير المسلمين جميعا ولخير أهل هذه البلاد.
وخرجنا بعد تحيات بادلنا ابن السعود مثلها، وسألني بعض إخواني رأيي فيما حاز مشروعهم لدى الملك من القبول، فأجبت بكلمات مطمئنة، لكني كنت أعلم أن الأمر ليس هينا بمقدار ما ظنوا، ولقد لفت نظرهم ونحن في اجتماعنا قبل أن نلقى الملك إلى أن إصلاحا يراد إشراك العالم الإسلامي فيه، لا بد لنجاحه من تحديد أعماله ونفقاته ووسيلة تحصيل هذه النفقات واليد الأمينة التي تتولى الإنفاق منها، لكنهم كانوا متأثرين بروح الحج ولما يمض على إتمامهم فرضه غير أيام، فلم يأبهوا طويلا للاعتبارات العملية، وحسب بعضهم أن الأمر لا يزيد على أن يكتتب بقدر من المال تتولى حكومة الحجاز إنفاقه في الإصلاح، ناسيا أن اكتتابا يتم في وقت كوقت الحج من غير أن يوضع نظام إنفاقه، لا يمكن أن يؤدي إلى الأغراض التي يقصد إليها منه، أو يزيد على صدقات تعطى وتتولى الحكومة توزيعها في حدود المبالغ المكتتب بها توزيعا لا يتصل بالإصلاح في شيء.
ولم يكن ما لفت نظرهم إليه وليد تفكيري أو ملاحظتي وحدي، فقد اتصلت قبل سفري إلى الحجاز بأشخاص لهم تجارب في الأمر، وتحدثت إليهم فيه واقتنعت وإياهم بما أسلفت، وكان هذا اقتناع حكومة الحجاز من جانبها هي كذلك، فقد تقابلت بعد يومين من حديث الملك وإيانا مع بعض رجال الحكم من الوزراء وغيرهم وتحدثنا، فأنبئوني بأن مثل هذا الاجتماع يقع في كل عام على أثر الحج، ثم تقدم مثل هذه الاقتراحات إلى الحكومة، وينصرف الناس بعد ذلك إلى بلادهم، فتنسيهم مشاغل الحياة ما اجتمعوا فيه، وتنسيهم ما تحتاج إليه البلاد المقدسة من إصلاح، على أن هؤلاء من رجال الحكم الذين حدثوني كانوا مع ذلك كبيري الرجاء في قيام حركة الإصلاح من ناحية مصر بعد الذي أبدته حكومتها، والذي أبداه طلعت باشا حرب - كما أبداه غير واحد من رجالها - من صادق الحرص على إتمام أعمال لا مفر من إتمامها لخير المسلمين جميعا في هذه الأماكن التي يقصد المسلمون جميعا إليها.
مع ما أبداه ابن السعود من الحصافة في مقابلة هذا الوفد الذي ذهب إليه، فإنني لم أفز منه بصورة أقدر بها مبلغ ذكائه ودهائه، وإنما فزت منه بهذه الصورة عشية سفري من مكة إلى المدينة، فقد استأذنت في مقابلته لأشكر له ولحكومته ما لقيته من معاونتهم إياي في بحوثي أثناء مقامي بمكة وبالطائف، ولأستأذن في مغادرة مكة إلى المدينة لأعود بعد زيارتها إلى ينبع فمصر، وكان ذلك في يوم السبت 21 مارس، وقد أخبرني مضيفي أمين العاصمة أن وزير المالية سيكون في انتظارنا بداره بجرول في الساعة الثانية والربع بالحساب العربي، أي: نحو الثامنة والربع مساء، وأننا سنذهب من هناك إلى قصر الملك كي أقابله في الموعد الذي حدده، وذهبنا إلى دار وزير المالية، فأقمنا بها ريثما تناولنا الشاي والقهوة، ثم غادرناها إلى قصر الملك فبلغناه قبيل الساعة الثالثة.
وسأل ابن السليمان فقيل له: إن القراءة انتهت، ذلك أن الإمام الذي يصلي بابن السعود يقرأ له بعد العشاء من كل مساء شيئا من تفسير القرآن في تفسير ابن كثير، أو شيئا من الحديث في ابن كثير كذلك، ويشترك الحاضرون في تبادل الرأي فيما يستمعون، وكثيرا ما يشارك الملك في الحوار ابتغاء الحقيقة، فهذا كتاب الله وهذه سنة رسول الله، لكل مسلم منهما حظ ونصيب، فيهما هدى لكل مسلم، وهما سبيله إلى الله، فالكل متساوون أمامهما لا تفاوت بينهم بسبب مناصبهم أو جاههم أو مالهم، ويحضر الحاج عبد الله فلبي - أو سانت جون فلبي إن شئت - هذه الجلسات، وقد يأخذ في الحديث بنصيب، فهو قد درس أمور الإسلام دراسة دقيقة، وبلغ منها مبلغا جعله يفضلها، باعتبار أنها نظام يسمو على الديمقراطية وغير الديمقراطية من نظم الاجتماع المعروفة اليوم، كذلك ذكر لي حين زرته بداره بظاهر مكة، فإذا تمت القراءة انسحب الملك إلى مخادعه وانصرف الحاضرون الذين يجتمعون في كل مساء حوله يصلون معه ويشاركون القارئ الرأي فيما يقرأ.
أما في هذه الليلة فقد جعل الملك موعدي بعد تمام القراءة ليخلو لنا الجو، وقد دخلت عليه في هذا البهو السماوي الكبير الذي كان فيه حين قابله الوفد من أيام، فلقيني هشا بشا من غير تحفظ، وسقانا الخادم القهوة ثم انسحب، وبقيت أتحدث وأستمع ساعة شعرت أثناءها أنني انتقلت على الزمن إلى عهود العرب الأقدمين، لولا ما كان يتناوله الحديث من شئون متصلة بحياة العالم الحاضر.
ولقد غادرت الرجل بعد هذه الساعة شاكرا رقة عواطفه مقدرا هذه الثقة التي انعقدت بيننا أواصرها بعد الذي كان من تحفظه أول ما لقيته يوم التروية، راجيا أن تحقق الحوادث ظني فتزيل ما بين مصر وبينه من جفاء، فلقد كنت لقيت رئيس الوزارة المصرية قبيل سفري، وأفضيت إليه بما يتردد في خاطري من الأسف للجفوة بين مصر وحكومة البلاد الإسلامية المقدسة، ولما بادلني علي ماهر باشا الرجاء أن تزول هذه الجفوة، على رغم ما في نفس الملك فؤاد من الاعتقاد بعدم صراحة هؤلاء العرب وصدق إخلاصهم فيما يقولون، تحدثت في ذلك إلى وزير المالية السعودية وإلى وكيل الخارجية فؤاد بك حمزة، كما أفضيت به إلى رجال القنصلية المصرية بجدة، ولقد ترك الحديث الذي دار بيني وبين ابن السعود تقديرا للرجل في نفسي أكتفي عن بيانه برواية ما وقع تاركا لمن شاء أن يبدي فيه من الرأي ما يشاء.
بدأت حديثي بشكر جلالته وشكر حكومته على معاونتهم إياي في بحوثي، وأبديت له عظيم إعجابي لما تم في الحجاز، وخاصة في أمر الأمن، ورجوت له ولحكومته دوام التوفيق فيما أخذوا أنفسهم به من إصلاح هذه الأماكن المقدسة، وما يعتزمون فيها من مشروعات لخير أهلها وخير المسلمين الذين يقصدونها جميعا، هنالك قال جلالته: نحن لا فضل لنا في شيء من هذا، وإنما الفضل كله لله، وأنا لم أفكر يوم تركت نجدا إلى هذه البلاد في حكمها أو في الإقامة بها، ولقد بقيت معتزما العود إلى بلادي متى تم لي مقصدي من تأمين حدود نجد والحصول للنجديين على حرية المجيء إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، لكن إرادة الله كانت غالبة فلم يكن بد من نفاذها ومن أداء ما فرض الله علي أداءه.
لما فكرت منذ خمس وثلاثين سنة في القيام ضد ابن الرشيد؛ كي أسترد منه حقوق آبائي لم يكن حولي يومئذ من يؤازرني، ولقد عمل آبائي منذ عشرات السنين ليقروا التوحيد الصحيح وحكم الكتاب الكريم في هذه الربوع التي انبعث منها نور التوحيد، فرأيت هذه الدعوة خير ما أقوم به وما أقيم على أساسه جهادي، وعاهدت أربعين رجلا من أهلي فأقسموا لينصرنني فيما أريد أو نموت جميعا، وخرجنا نبغي «الرياض» وسيوفنا معنا واعتمادنا على الله، وغامرنا مخاطرين، والظفر يحالفنا حينا وتدور علينا الدائرة حينا آخر، ثم استقر لنا الأمر بالرياض، والتف حولنا من العشائر ما كان ملتفا حول أجدادنا، ولما استتب لنا الأمر في نجد رأيت الشريف وأبناءه من حولي، ورأيت الملك حسينا في الحجاز يحاول أن يصد قومي عن بيت الله ويأبى أن يتصالح وإيانا في مؤتمر الكويت، عند ذلك طلبت إلى رجالي أن يذهبوا إلى الطائف وأن يحتلوها، وأن يقفوا عندها حتى أعرف ما يئول إليه الأمر من بعد.
ولقد قدرت يومئذ أن إنجلترا لا يرضيها أن نتقدم في الحجاز، وأنها ستقف منا ما وقفت من قبل صديقة وحامية للملك حسين، وكنت حريصا على استبقاء ما بيني وبين الإنجليز من علاقات المودة، ولكني رأيت حسينا ينقض كل عهوده معنا ومع غيرنا ولا يعبأ بعلاقات الصداقة يربط بها بينه وبين الأمم الإسلامية المختلفة، فلم أر بدا من إقناعه بضرورة الاعتدال، واحتلال الطائف خير وسيلة لهذا الإقناع، وأقام رجالي ببادية الطائف زمنا، انهزم أثناءه رجال الحسين وتضعضعت قوتهم، وعز على الملك حسين أن يتصالح وإيانا وقد كان يحسب في مؤتمر الكويت أنه قدير أن يفرض علينا إرادته، فآثر الانسحاب من مكة إلى جدة والنزول عن الأمر لابنه علي.
وتوسطت إنجلترا أثناء ذلك تريد الصلح، على أن حادثا وقع دعاها أن تترك الأمر في الجزيرة لمن يتم له الغلب، ذلك حين طرد الأتراك الخليفة العثماني من بلادهم وتلقته إنجلترا حامية إياه، فقد ارتج العالم الإسلامي لهذا الحادث، إذ قامت جمعية الخلافة في الهند تنادي بأن الخلافة من أمر المسلمين دون سواهم، وتنادى الناس من البلاد المختلفة أن أمر المسلمين في شئونهم الدينية يجب ألا تتدخل فيه دولة مسيحية، من أجل ذلك آثرت إنجلترا أن تترك المسلمين يفعلون ما يشاءون، حتى لا تتهم بأنها تنصر فريقا منهم على فريق لأغراضها السياسية، وشجعني ما حدث بعد ذلك على التقدم، فحاصرت جدة ونقلت ميدان جهادنا إليها، كما ذهبت قوات نجدية إلى المدينة.
إلى يومئذ لم يكن حكم الحجاز قد دار بخلدي، وكل ما كنت أبتغيه أن أجلي عنه جماعة الأشراف فأخلصه بذلك من مظالمهم ومن عبثهم، فإذا فرغت منهم جعلت الأمر فيه للمسلمين كافة يرون في أمره رأيهم، ولقد أذعت على العالم الإسلامي كله رسالة صارحته فيها بهذا العهد أن يكون الأمر له في مصير الأماكن المقدسة، وكنت كلما تحدثت إلي إنجلترا أو تحدث إلي غيرها في الصلح كان هذا العهد جوابي لهم، وهذا العهد هو ما كاشفت به الأستاذ الشيخ المراغي حين جاء في سنة 1925 مع عبد الوهاب بك طلعت موفدين من قبل جلالة ملك مصر للبحث في أمر الحجاز، ولقد زدت عليه أنني لا أبتغي ملكا ولا خلافة، وأنني أرحب بملك مصر ملكا للحجاز برضا أهله، وكان عزمي متجها إلى عقد مؤتمر لتنظيم شئون الحجاز بمشورة ذوي الرأي في العالم الإسلامي يكون له اختيار ولي الأمر فيه، وأذعت منشورا بذلك على أهل الحجاز كي يخلدوا إلى السكينة حتى ينعقد المؤتمر لينظر في مستقبل الحجاز ومصالحه.
لم أكد أذيع هذا المنشور حتى جاء إلي وجوه أهل الحجاز، وجاء إلي رؤساء العشائر من نجد، وكلهم غاضب يحتج على هذا المصير الذي أريده لهم، قال أهل الحجاز : كيف يقرر المسلمون من مختلف أقطار الأرض مصيرنا وطريقة الحكم في بلادنا؟! والحجاز لنا ونحن أهله وأولى الناس بالرأي في أمره وباختيار الحاكم الذي يتولى شئونه، وليس للمسلمين أن يشاركونا في غير الحج وما يتصل منه بشأن مكة والمدينة، وقال رؤساء العشائر من أهل نجد: نحن فتحنا هذه البلاد وطهرناها من الأشراف واخترناك قائدا لنا وأميرا علينا، فإن شئت أن تنزل عن القيادة والإمارة فإنما يعود أمرها لنا لا للمسلمين من الهند والجاوة والصين ممن لا يعرفون من شئون هذه البلاد شيئا، وقال أهل الحجاز: إنك هنا منذ سنين عرفناك أثناءها وعرفنا أغراضك وطريقة حكمك، فنحن نختارك ملكا علينا، وقال رؤساء العشائر من أهل نجد: أنت أميرنا المختار ما لم تنزل - على رغمنا - عن هذه الإمارة، وألح هؤلاء وأولئك وأعادوا القول في أيام متعاقبة؛ فلم يكن لي بد من النزول على إرادتهم بعد أن رأيت الشعوب الإسلامية لا تبدي بأمر المؤتمر الذي دعوت إليه أية عناية، وكذلك بايعني أهل الحجاز ملكا عليهم.
قلت: لعل هذا ما أحفظ ملك مصر، فقد فهم من حديثكم مع الأستاذ المراغي أنكم جعلتم أمر الحجاز له، وأنكم كنتم على أهبة معاونته في تحقيق هذا الغرض، فلما بايعكم أهل الحجاز ملكا عليهم عد الملك فؤاد هذا الأمر نقضا لعهد عاهدتموه عليه.
هذا ما لم يخف علي يومئذ، ولقد فكرت طويلا في كلام أهل الحجاز ورءوس العشائر من نجد قبل أن أقدم على قبول ملك الحجاز مخافة ما قيل، لكن الأمر كان قد تحرج؛ إذ بلغ القلق من نفوس أهل الحجاز على مصيرهم ما خشيت معه اضطراب الأمر إن لم أقم بعمل حاسم، ولم يكن العمل الحاسم ممكنا بقوة السيف وقد كان موقف رؤساء العشائر من نجد ما شرحت لك، ولو أنني حاولت يومئذ شيئا من ذلك لازداد الأمر اضطرابا، ولقامت الفتنة بين عشائر نجد، وانقلب الأمر إلى نقيض ما أبغي ويبغي كل مسلم محب لهذه البلاد.
ولقد دعوت إلى المؤتمر، واجتمع ها هنا بمكة بعد ذلك الحادث بأشهر، ووضع قرارات لم ينفذ منها شيء؛ لأن المطامع في ملك الحجاز انكمشت فلم تحرك المؤتمرين عاطفة لها في نفوسهم سلطان هذه المطامع، على أنني بقيت عند رأيي من أنني لا مطمع لي في الخلافة، ولقد دعا جلالة الملك فؤاد بمصر إلى مؤتمر للنظر في مسألة الخلافة بعد أن انفض مؤتمر مكة، وكان من رجالي من دعي إليه، وقد بعثت يومئذ إلى جلالة الملك برسالة رقيقة ذكرت فيها مؤتمر الخلافة ودعوة رجالي إليه، وقلت: إنني أول من يبايع بها إذا بايع أهل مصر بها مليكهم، وأبديت الأسف ألا يستطيع رجالي الذين دعوا إلى المؤتمر أن يشتركوا فيه؛ لأنهم لم يدعوا عن طريق حكومتهم، وأنهم وقد بايعوني ملكا عليهم، يبايعون معي بالخلافة من يبايعه أهل مصر بها.
مع ذلك ظلت الحكومة المصرية حانقة علينا، ولما جاء المحمل في تلك السنة التي كان فيها مؤتمر الخلافة لم يحفل رجاله بعقائد أهل نجد الدينية، ومع أننا رجوناهم أن يحتاطوا لكي لا يقع احتكاك بسبب هذه العقائد، وعملنا جهدنا لضبط عواطف رجالنا، فقد حدث ما تعرفونه من إطلاق حامية المحمل نيران المدافع على المسلمين من النجديين، وقمت بنفسي أول ما بلغني الخبر وقام معي أبنائي، فعملنا جهدنا حتى حصرنا الشر في أضيق حدوده، ولم أرد أن أكبر من شأن الحادث، فلم أذع أنه قتل فيه خمسة وستون رجلا وخمس وثلاثون امرأة من عشائر نجد، وإنما فعلت ذلك إبقاء على ما رجوت بقاءه من علاقات المودة بيني وبين مصر، لكن حكومة مصر عاملتنا معاملة أدى بنا الحذر إلى توقعها، وإن لم يجر بخاطرنا أن تبلغ ما بلغت، فقد أبدت حكومة مصر أنها سترسل كسوة الكعبة أيا كان الرأي في المحمل وإرساله، وبقينا ننتظر مجيء هذه الكسوة إلى أواخر ذي القعدة، إذ جاء النبأ بأن حكومة مصر لن ترسلها، وهذه مسألة لا ضرر منها، فنحن قادرون على القيام بها، ولكنك تقرني على أنها مسألة تغيظ، فأمرت رجال حكومتي فعملوا ليلا ونهارا حتى كسونا الكعبة في العاشر من ذي الحجة على سابق العادة، ومن يومئذ أنشأنا دار الكسوة بمكة، فأنشأنا بذلك صناعة لم تكن متداولة في هذه البلاد من قبل.
قلت: إنني أعتقد أن الوقت قد حان لحل المسائل المعلقة بين مصر والحجاز جميعا؛ فقد أثبت الزمن أن لا خير لأيهما في بقائها من غير حل، وما بذل من المجهود في هذا السبيل أثناء السنوات الماضية كان يعترضه قرب العهد بهذه الحوادث التي تركت من الأثر في النفوس ما لم يتيسر التغلب عليه، ولقد فهمت قبل حضوري إلى هنا من حديث جرى بيني وبين رئيس الوزارة المصرية أنهم يرحبون بإعادة النظر في كل اقتراح مقبول يعرض عليهم، وفهمت من محادثاتي مع رجال حكومتكم هنا أنهم حريصون - من جانبهم - على حل هذه المسائل، خصوصا وقد حل الزمن غير واحدة منها كمسألة الجنسية، هذا وعواطف الشعب المصري إزاء الحجاز عواطف مودة صادقة، وشعب الحجاز يبادل هذه العواطف بمثلها فيما رأيت، وهذا - في نظري - خير عربون لتسوية حالة معلقة يود الجميع تسويتها.
قال جلالته: لقد جاءني قنصلكم حافظ عامر من خمس سنوات يحدثني مثل هذا الحديث، وقلت له يومئذ: اسمع يا حافظ! إنكم تقولون: إنكم أكثر منا حضارة وعلما، وإننا قوم من البدو، وبيننا وبينكم في ذلك مراحل، وأنا أوافقكم على هذا، إذا كان ذلك شأنكم وكنتم ترون أننا نطمع في مسألة صغيرة كالاعتراف بنا؛ كي تكون مقدمة لتسوية مسائل ترون في تسويتها خيرا لكم وللمسلمين وللبلاد المقدسة، فلم لا ترضوننا بهذه المسألة الصغيرة؛ مسألة الاعتراف؛ لتأخذونا في كنفكم وتحت جناحكم؟! إن عدم اعترافكم بملكي على الحجاز لن ينزع هذا الملك عني بعد أن اعترفت به إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وكل الدول العظمى، فالملك أمر واقع لا ينزعه إلا أمر واقع يتغلب عليه، وما بيننا وبينكم من المصالح قد اقتضاكم إنشاء قنصلية لكم بجدة، واقتضانا أن يكون لنا وكيل لديكم بالقاهرة، يرعى هذا وذاك ما لا سبيل إلى إنكاره من هذه المصالح، أليس عجيبا أن يكون ذلك واقعا، ثم نتجاهله وتتجاهلونه؟!
ولقد أبدى حافظ عامر اقتناعه بأقوالي وما عرضه فؤاد حمزة عليه من حلول للمسائل التي بيننا وبين مصر، ووعد أن يقنع الحكومة المصرية برأيه، لكنه لم يعد بعد ذلك إلى الحديث في هذه المسائل.
ولم يفتني في وقت من الأوقات أن أعمل ما استطعت لتقريب مسافة الخلف بين هذه البلاد ومصر، فقد أرسلت حافظ وهبة في سنة 1928 إلى مصر فعرض حلولا كثيرة، ولكنه لم يجد استعدادا من لدن مصر لقبول ما عرضه، وإنني لسعيد بما ذكرته من حسن استعداد الحكومة المصرية الآن؛ فإنني أكن لجلالة الملك فؤاد كل احترام ومحبة، وأعتبره في منزلة والدي عبد الرحمن.
وأرجوك متى عدت إلى مصر أن تبلغه عواطف مودتي الصادقة ورجائي في أن تكون علاقات مصر والبلاد العربية علاقات مودة وإخاء إسلامي صادق.
1
شكرت لجلالته هذه العواطف نحو مصر ومليكها، وشعرت بأنني استنفدت غير قليل من وقته، فقلت: لقد سعدت بما اتصل بين جلالتكم وبلاد العراق من حسن العلاقة، وسعدت كذلك بما كان من ترحيبكم بوساطة المسلمين بينكم وبين إمام اليمن، ويسعدني أن يتصل هذا العمل في توثيق أواصر المودة بين هذه البلاد العربية والإسلامية المتجاورة، وإني أستأذن جلالتكم في مغادرة مكة شاكرا، راجيا لكم ولرجال حكومتكم كل التوفيق.
وحسبت الرجل يتحرك فيأذن لي بالانصراف؛ لكني رأيته استدار قليلا إلى ناحيتي وتوجه إلي أكثر من ذي قبل وقال: اسمع يا أخي! إن هذا الكلام الذي تقوله حسن، وهذه البلاد العربية والإسلامية المتجاورة ترتبط منذ مئات السنين بروابط قوية إذا تعهدها من يعنيه أمرها ازدادت متانة وقوة، وليس أحب إلي من أن تتحد هذه البلاد كلها في أغراضها مع بقاء كل منها محتفظا بكيان سياسي له وحده الخيار في تغييره، لكنني أقول لك: إن الدعوة إلى هذه الوحدة لا يجوز الاعتماد فيها علينا معشر الملوك، ولا يجوز الاعتماد فيها على الحكومات؛ فنحن مرتبطون مع أسلافنا بماض له فينا أثر لا نستطيع الفكاك منه، ونحن مرتبطون كذلك باعتبارات سياسية لها عندنا وزنها، ثم إن للملوك مطامع تجعلهم يحيدون، حرصا على تحقيقها، عن الفكرة التي لا يضطر أمثالك أن يحيدوا عنها لمثل هذه الاعتبارات، والحكومات خاضعة للأحوال المحيطة بها، مضطرة لمجاراة ظروفها، ويوم علمت أن سعد زغلول قبل تولي الوزارة في مصر لم يخامرني ريب في أنه سيضطر إلى النزول على حكم الظروف في أمر الغرض الذي ندب نفسه كي يحققه لبلاده، فأما الرجال الذين يؤمنون بفكرة ويهبون لها حياتهم، لا يبتغون من ورائها حكما ولا سلطانا، وإنما يريدون لها أن تتحقق، فأكثر أمرهم أن يصلوا إلى غايتهم، وفكرة الإخاء الإسلامي فكرة سامية بلا ريب من غير حاجة إلى سند لها من وحدة سياسية تؤازرها، وإني لأرجو لك ولأمثالك ممن يدعون إليها التوفيق والنجاح.
واعتدل ابن السعود ووقف بقامته الطويلة ومد إلي يده الضخمة وصافحني بحرارة، ورجا لي الخير قائلا: اعتمد علي يا أخي واعلم أنني دائما أخوك. فشكرت له هذه العواطف وودعته راجيا أن أراه من بعد بالحجاز وبنجد حين أعود إلى هذه البلاد.
خرجت من عنده وهبطت الدرج يتقدمني حاجبه، وألفيت وزير المالية وأمين العاصمة بالطابق الأول، فلما رأياني ذكرا لي والغبطة بادية عليهما أنني قضيت مع الملك ساعة كاملة، وبادلني وزير المالية التحية، وعدت مع مضيفي أمين العاصمة إلى داره وأنا أفكر في هذا الملك البدوي وحديثه، وأذكر ما قاله لي أولئك الصحفيون الغربيون الذين أعجبوا بذكائه ومقدرته على كسب محدثه، وأذكر حديث أولئك الحجازيين الذين كانوا خصومه أول دخول النجديين مكة، والذين بلغت خصومتهم أن هجر أكثرهم بلاده، فذهب منهم إلى الهند من ذهب، وذهب إلى جاوة من ذهب، ثم عادوا بدعوة منه وأصبحوا اليوم في مقدمة العاملين مع رجال حكومته من أهل نجد.
من هؤلاء شاعره اليوم الأستاذ إبراهيم الغزاوي، فقد هجر هذا المكي الحجاز وذهب إلى الهند وأقام بها، واحتمل لفراق أهله وذويه أشد الألم، ثم لم يعد إلا بدعوة من ابن السعود وإلحاح من أهله أن يرجع إليهم ليرى بعينه أن الأحوال بالحجاز صارت إلى خير مما كانت عليه في كل عهد سلف، ومنهم الشيخ طاهر الدباغ الذي يتولى اليوم إدارة المعارف، والذي سافر مع الغزاوي إلى الهند وظل مقيما بها إلى ما بعد عودة الغزاوي منها، وغير هذين كثيرون كانوا كلهم يتمنون أن تكون حكومة الحجاز للحجازيين، وأن يكون ملك الحجاز رجلا من أهل الحجاز، لكنهم جميعا يقرون بأن أحوال الحجاز اليوم خير مما كانت في أي عهد عرفوه.
ولقد أقر هذا القول كثيرون من غير أهل الحجاز، ومنهم جماعة من بني وطننا المصريين، فقد تحدثت إليهم وسألتهم فيما يشكو بعض شبان الحجاز منه من إنفاق أموال الدولة في أمور ليست جليلة الخطر في حياة الدولة، ومن إسناد أعمالها إلى غير أبنائها، فقيل لي: إن كثيرا من الأمور في حاجة إلى الإصلاح هنا، ومن المستطاع أن توزع ميزانية الدولة على نحو أكثر فائدة وجدوى مما يحدث اليوم، فأما ما لا مرية فيه فهو أن الحجاز لم يتمتع منذ مئات السنين بما يتمتع به اليوم من أمن، وأن الأخلاق العامة في المدن أرقى كثيرا مما كانت، وأن ما ينفق في التعليم وما إليه من مرافق الإصلاح أكثر مما كان ينفق في العهود السالفة جميعا، قال لي طبيب مصري أقام بمكة سنوات طويلة: «إنني لم أر فيما رأيت أو سمعت عهدا كهذا العهد بالنسبة للحجاز، وحسبي أن أذكر لك أن أم القرى هذه كانت مثلا في الاستهتار الخلقي قبل حكم النجديين، حتى لقد كان الرجل لا يأبى أن يسير وفي صحبته غلام يعرف الكل صلته به، وأن كل شيء فيها كان مباحا في رأي أهلها؛ لأن الحج إليها مصدر المغفرة، أما اليوم فلا يقع شيء من ذلك في العلن، وما يتصل أمره بأولي الشأن مما يقع خفية يعافه الناس فلا يجد مشجعا عليه، ولو أن الحكومة وجدت أموالا أكثر مما تجد، ورجالا أقدر وأكثر كفاية ممن عندها اليوم، لاستطاعت أن تقوم بأضعاف ما قامت به من إصلاح.»
ولقد أبدى مثل ملاحظة الطبيب المصري بعض رجال الحكومة العربية السعودية حين ذكروا أن ابن السعود قد شغل منذ فتح الحجاز بحروب خارجية، وثورات داخلية استنفدت الكثير من جهده ومن مال الدولة، ولولا ذلك لكان الإصلاح أشمل وأوضح. ويرجع بعض الثورات إلى أن قوما من رءوس العشائر الذين أخلصوا للدعوة الوهابية ما أخلص ابن السعود، كانوا يبالغون في إخلاصهم، حتى ليعتبرون غيرهم من المسلمين كفارا ومشركين؛ لذلك لم يرضهم أن يتصالح ابن السعود مع غيره من المسلمين على المذهب، أو يتهاون فيما يرون التهاون فيه إقرارا للكفر، ومن ثم لم يستطع ابن السعود أن يوجه من الجهود إلى الإصلاح غاية ما يرجو؛ لأن الاستقرار الواجب للقيام بالإصلاح ما يزال معرضا لهزات الثورات، والحروب تستنفد من أموال الدولة أكثرها.
أما عن الرجال وكفايتهم فلابن السعود فيهم رأي لم يضن علي به أثناء هذا الحديث الذي رويته، قال: لقد فكرت في الاستعانة برجال من المشهود لهم بالقدرة والكفاية من أهل البلاد الإسلامية المختلفة، لكنني قدرت أن يكون لهؤلاء الرجال من المطالب في الإصلاح ما قد تنوء به موارد هذه البلاد، فإن أن أجبتهم إلى إصلاح لا أشك في فائدته اضطررت إلى اقتضاء أموال لا يهون على الناس دفعها فتعرضت لامتعاضهم، وإن أنا لم أجبهم إلى ما يطلبون من هذا الإصلاح خلقت لنفسي منهم خصوما، وما أشد حاجتي إليهم أعوانا ومؤازرين! لذلك أكتفي بما تطيقه موارد البلاد وما يطيقه أهلها من تدرج بطيء، وقديما قالوا: «في الأناة السلامة.»
لست أريد في ختام هذا الفصل أن أحكم لابن السعود أو عليه، وحسبي ما قصصت من هذا الحديث الذي رويته عنه، وهذه الأنباء التي يقصها الناس عن آثار حكمه، وإنما أضيف إلى ما سبق أن الرجل خرج بنجد من عزلة كانت فيها بعيدة عن العالم، وأتاح لهؤلاء البدو أن يتصلوا من طريق المخترعات الحديثة بعالمنا السريع التغير والتطور، فهذا النجدي الذي كان لا يعرف غير بعيره أو جواده من عشر سنوات مضت قد ألف السيارة والطيارة والإذاعة اللاسلكية، وأدرك أنها من عمل الإنسان، وكان يحسبها من قبل من عمل الشيطان، وهو اليوم يفيد من مزاياها ما يقربه من العصر وأهله وما يعده لتطور سريع لعلنا نراه بأعيننا قريبا.
روى بعضهم حديثا لطبيب أوروبي يقيم بالأحساء أو بالكويت يدعى الدكتور «ديم» قال في أثنائه: «لقد غزا أهل نجد الحجاز بقوة سواعدهم وثابت يقينهم، ولم يجد الأعرابي القليل الحاجات والمطامع مشقة في الانتصار على ابن الحجاز الذي ألف رخاء العيش وطمأنينته، لكن أهل الحجاز غزوا نجدا في حياة أهلها وفي عاداتهم غزوا أعمق أثرا، فهذه الصمادة الحجازية البيضاء النظيفة قد بدأت تحل عند النجديين محل صماداتهم ذات المربعات الحمراء، وأهل نجد يشربون الشاي اليوم أكثر مما يشربه أهل الحجاز، وكانوا قبل الغزو لا يعرفونه ولا يعرفون القهوة، ومن طريق العيش ورخائه بدأت أخلاق أهل نجد تعرف الهوادة والتسامح، وكانت من قبل متعصبة لا يطيق أحدهم أن يضع يده في يد من لا يدين بمذهبه ولا يعتقد عقيدته.»
مدلول هذه العبارة من كلام الدكتور «ديم» أن تبادل الغزو بين أبناء نجد وأبناء الحجاز قد مهد الطريق لوحدة في شبه الجزيرة أدنى إلى الاتصال بحياة العالم الحاضر، وأدنى كذلك إلى انتشار قوة جديدة في حياة هذا العالم لم تكن معروفة من قبل.
وابن السعود هو الذي مهد لهذه الوحدة، وهو الذي لفت أنظار المسلمين في مختلف أنحاء العالم إلى البلاد العربية وأهلها، ولم يكن يفكر أحد فيها من قبل إلا من جهة أنها البلاد المقدسة.
ترى هل لهذا البعث من مغزى في حياة العالم الإسلامي؟ لا يزال الجواب عن هذا السؤال مطويا في ضمير الأيام.
الجمعة في الحرم
المسجد الحرام مثابة المسلمين الذين يفدون إلى مكة من أقطار الأرض جميعا في أشهر الحج؛ وهو مثابتهم ما أقاموا بأم القرى؛ يفدون إليه لصلاة الفجر وعند الظهيرة، ويعودون إليه لصلواتهم الأخرى، وللطواف بالبيت كلما هوت نفوسهم إلى التطوف به، وهم يقضون فيه الساعات الطوال يتحدثون أثناء النهار، ويستمعون إلى جماعة من الفقهاء يحدثونهم في الإسلام ويفقهونهم في الدين قطعا من الليل، وإن منهم لمن يقضي فيه يومه يجاور البيت، ومنهم من ينصرف نهاره إلى شئون الحياة، فإذا أقبل الظلام قضى بالمسجد ليله يقوم إلا قليلا، يذكر الله كثيرا، ولا ينال من النوم إلا القدر الذي يكفيه لسعي النهار وتهجد الليل.
لذلك قل أن يصلي بغير المسجد الحرام أحد من المقيمين بمكة على كثرة مساجدها، وما رأيت أحدا قام بهذه المساجد مصليا على كثرة مروري بها ووقوفي عندها، ولا تقام بها صلاة الجمعة مطلقا، ومن ذا الذي تطاوعه نفسه وهو بمكة على أن يصلي بمسجد غير المسجد الحرام والإجماع منعقد على أن مثوبة الصلاة به تزيد على مثوبة الصلاة بغيره أضعافا مضاعفة؟ وهذا الإجماع صحيح أساسه، فالإسلام دين جماعة ودعوة للجماعة، ولا شيء يمقته الإسلام كالخروج على الجماعة في غير حق، ولا تجد الجماعة بمكة مكانا كالمسجد الحرام مقام بيت الله لتقوم بفروض الله فيه.
وصلاة الجمعة بالحرم من أروع مظاهر الإيمان في الجماعة الإسلامية، هذا الإيمان القوي في بساطته، البالغ في قوته، الذي يجمع بين الحرية والنظام جمعا لم أقف على ما يقرب من رفعته في أي من الملل والنحل الحديثة أو القديمة التي اطلعت عليها، ولقد رأيت في أسفاري الكثيرة ببلاد يدين أهلها بغير الإسلام من شعائر العبادة ومن نظم الجماعة ما فيه مهابة ورهبة ونظام، ولقد حضرت صلاة الجمعة في بلاد إسلامية شتى، ولكني لم أر في شيء من ذلك ما قد يقرب في جلال مظهره وقوة روعته، وفي جمعه بين الحرية والنظام، وبين الاعتداد بالذات والإسلام لله، مما رأيت في صلاة الجمعة بالمسجد الحرام، ولم يطبع شيء من ذلك كله من الأثر العميق في نفسي ما طبعته صلاة الجمعة بالمسجد الحرام من أثر بالغ في عمقه، فما أفتأ كلما أذكره أشعر به متغلغلا في أطواء روحي، يسمو بها إلى ذروة الإيمان، ويرقى بها إلى ما فوق مستوى الإنسانية الذي نألفه.
قصدت إلى المسجد ومعي صاحبي، ودخلنا وما يزال بيننا وبين أذان الظهر فسحة من الوقت تزيد على ربع الساعة، مع ذلك وجدنا الأماكن الظليلة حينما دخلنا صحن المسجد قد اكتظت بالذين سبقونا إليها، وبقي صحن المسجد خاليا إلا من حمام الحمى، وسرنا نتخطى الصفوف نلتمس لنا فرجة للصلاة، فلا تقع العين بين الجالسين على موضع لواقف، ثم رأيت صاحبي وقف على قوم وتحدث إليهم، ثم أشار إلي فدنوت منه، فتفسح القوم حتى استطعت أن أقف بينهم، وانطلق هو بين الصفوف يلتمس لنفسه مكانا آخر، وصليت ركعتين ثم جلست ما استطعت أن أجلس، وسرحت الطرف فيما حولي، وأسرع إلي جار يميني وجار يساري فمد كل منهما يده مسلما علي، بعد أن أتممت ركعتي، سلام تحية فيه مودة وفيه إخاء، وتفرست أثناء السلام في وجه كل منهما فلم تهدني سيما أيهما إلى جنسيته، ولا دلتني على شيء إلا أنه ليس من أهل هذه البلاد، وعدت أسرح طرفي ناحية صحن المسجد فإذا الناس يفدون إليه في سيل دافق، يحاول السابقون منهم أن يكون مجلسهم أدنى إلى منبر الخطيب أو إلى أحد المكبريات حول الكعبة، وامتلأ الصحن في دقائق حتى لم يبق موضع لواقف، وجعل الوافدون إليه يتخطون صفوفه يلتمسون لهم مكانا كما كنا نتخطى الصفوف في ظلال القباب نلتمس لنا مكانا، ومنهم من إذا تهيأ له المكان جلس فيه، ومنهم من يؤدي للمسجد تحيته بصلاة ركعتين، ولما لم يبق بالمسجد موضع أقام الناس خارجه يأتمون لصلاة الجمعة بإمامه، مكتفين بصلاة الجماعة وثوابها، وإن لم يكن لهم ولا لكثيرين ممن وصلوا المسجد رجاء في سماع خطبة الإمام.
وعلا صوت المؤذن بالنداء للصلاة: الله أكبر، لا إله إلا الله، محمد رسول الله، حي على الصلاة، حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، ما أجمل هذا النداء وأعظم وقعه في النفس! إنها لتهتز له وتفيض حين سماعه إكبارا وتقديسا، والقلب والروح وكل جارحة وكل عضو تتجاوب لسماعه وتردد صداه في إيمان وإسلام، وكلما ألقى المؤذن مقطعا منه دوى المسجد بالجواب عليه صادرا من عاطفة قوية في صدق إيمانها بالله؛ فلا يكاد المؤذن ينادي : «الله أكبر، الله أكبر»، حتى يجيبه المسجد كله كتلة واحدة: «الله أعظم والعزة لله»، ولا يكاد ينتهي من ندائه: «حي على الصلاة، حي على الفلاح» حتى يدوي المسجد كله مجيبا: «لا حول ولا قوة إلا بالله»، ويربط هذا النداء وتربط هذه الإجابة بين قلوب المصلين برابطة تزيد إخاءهم في الله قوة على قوة، فتنهار الفوارق بينهم، ولا يبقى منهم قوي وضعيف، ولا غني وفقير، بل يصبحون رجلا واحدا وقلبا واحدا كله الإيمان بالله، والتوجه إلى جنابه - جل شأنه - توجه صدق وإخلاص.
وأتم المؤذن أذانه، فقام من شاء يصلي ركعتين لله تعالى، وأقام القوم بألوفهم المؤلفة ينتظرون خطبة الخطيب ليؤمهم بعد ذلك في صلاة الجمعة، وسكن كل من في المسجد وما فيه حين بدأ الخطيب يتكلم، أما نحن البعيدين عنه فلم نسمع مما قال شيئا، وما أحسب الأكثرين من الحاضرين كانوا خيرا منا في ذلك حظا، أنى لصوت رجل ينطلق في الفضاء فلا يحجزه جدار أن يصل إلى هؤلاء الذين جلسوا في مئات متلاصقة من الصفوف وكلهم متوجه إلى ناحية الكعبة من جهاتها الأربع؟ قلت في نفسي: أليس من الخير أن يستعين الخطيب بمكبر للصوت ينقل خطبته إلى جميع المصلين في المسجد وفيما وراء جدرانه؟ إن خطبة الجمعة ركن من أركانها، والغرض من خطبة الجمعة إرشاد الناس إلى ما يجب عليهم في أمر دينهم ودنياهم حسب الأحوال المحيطة بهم، وهي تتكرر في كل أسبوع؛ لأن الحوادث تتلاحق بما يحتاج الناس معه إلى من يرشدهم إلى الخير يسلكون سبيله، وأي رشد إذا لم يسمع الناس لقول المرشد؟ وما أحرى هذا المرشد أن يهون عليه أمر خطبته إذا علم أن الناس لا يسمعونها! وما أحراه أن يعيرها كل عناية متى علم أنهم جميعا يسمعونها ويفيدون منها! ولقد رأيت خطباء ذوي رأي وبصيرة يوجهون الناس في بعض مساجد القرى توجيها ينتظم حياة القرية كلها، فما أجدر خطيب المسجد الحرام أيام الحج أن يحيط خبرا بأمر المسلمين كافة، وأن يصل إلى المصلين صوته؛ ليكون لهم هداية ورشدا.
وفهمت أن الخطبة تمت حين نودي للصلاة من فوق المبلغات - أو المكبريات إن شئت، وقام الناس جميعا من أقصى المسجد إلى أقصاه يأتمون للصلاة، وكان كل يكبر بعد نية الصلاة ثم يقف خاشعا مطرقا ذاكرا قوله - تعالى:
وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا ، وإن لم يستمع إلى قراءة الإمام إلا الذين كانوا على مقربة منه، ساد هذه الألوف المؤلفة صمت خشوع كله جلال ورهبة؛ جلال النظام ورهبة الإيمان، فهم جميعا يستمعون إلى الإمام يتلو «الفاتحة» في صمتهم المهيب كأنهم في ساعة الحشر إكبارا وتقديسا، فلما أتم الإمام تلاوته انفرجت الصدور كلها عن «آمين» قيلت في خشوع وصوت خافض، ودوى المسجد بها فازدادت القلوب والمشاعر رهبة واهتزازا، ثم انطلق كل يتلو الفاتحة، وصمت الإمام، فلما أتموها تلا هو ما تيسر من القرآن، ثم كبر وكبر المبلغون على أثره، وركع هذا الجمع الحافل كله يسبح بالله العظيم، وكبر المبلغون، فاعتدل الناس؛ ثم كبروا فسجدوا يسبحون باسم ربهم الأعلى، وكبروا للركعة الثانية، فتلا الإمام الفاتحة ودوى المسجد من بعده ب «آمين»، وكبر الناس وركعوا، وكبروا وسجدوا وتلوا التحيات ثم ختموا صلاتهم بتحية الختام: «السلام عليكم ورحمة الله» لافتين رءوسهم ناحية اليمين فاليسار.
لم تترك صلاة لجماعة ولا تركت صلاة لجمعة في نفسي من الأثر ما تركته هذه الصلاة في الحرم، ولطالما وازنت بين صلاة الجماعة يقوم بها المسلمون في مساجدهم وما رأيت من صلوات في الكنائس المختلفة، فألفيت صلاة المسلمين أعظم في النفس أثرا؛ لأنها توجه لله الأحد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، ولأن المسلم هو الذي يصلي بنفسه، ويتصل بالله بقلبه، ويستغفر الله عن ذنبه، ليس للإمام عليه سلطان، بل يقف عمل الإمام عند تنظيم صلاة الجماعة، بلا قيد لحرية الفرد في صلته بربه إلا عمله وتقواه، أما صلاة الجمعة في الحرم فقد اهتز لها كل وجودي، وقد أثارت أمام ذهني صورة مجسمة من المعاني السامية كنت أقدسها من قبل ولكني لم أكن ألمسها لمسا ماديا ، ولم أكن أراها بارزة بالوضوح الذي رأيتها به أثناء هذه الصلاة ولا إثرها، ولقد جلست مكاني والناس ينصرفون من المسجد أفكر فيما رأيت فلا أجد من مزيد التفكير فيه إلا مزيدا في تأثري به وإكباري له، ولولا أن جاء صاحبي يدعوني لمغادرة المسجد إلى الدار لأقمت حيث كنت مسترسلا في تفكيري ملتمسا العبرة البالغة منه، وما أكبرها عبرة وما أبلغها عظة!
وأبلغ أثر تركته هذه الصلاة في نفسي هذا النظام الكامل لعشرات ألوف يخطئها العد عن إسلام به، وإيمان بوجوبه، وحب إياه، وإقبال عليه، فها هي ذي عشرات الألوف تقف وراء الإمام صامتة خاشعة متجهة بكل قلوبها إلى الله مؤمنة إيمانا كاملا بكل كلمة وكل حرف من هذه السبع المثاني التي يتلوها الإمام إذ يتلو سورة الفاتحة، ثم تتلو هذه السبع المثاني من بعده؛ تحمد الله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، لا تعبد إلا إياه، ولا تستعين إلا إياه، تستهديه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم عليهم فلم يغضب عليهم ولم يضلوا.
وها هي ذي عشرات الألوف من كل الأجناس والألوان واللغات ينتظمها إيمان واحد بهذا الذي تتلو، إيمان لا يتلجلج ولا يكبو، فإذا سمعت التكبير للركوع ركعت جميعا مؤمنة تسبح بحمد ربها العظيم الذي تؤمن به وتقدسه، وإذا سمعت التكبير للسجود سجدت تسبح بحمده كرة أخرى، وها هي ذي تعيد في الركعة الثانية حمدها وتسبيحها واستغفارها ربها وعبادتها إياه واستعانتها به في مثل نظامها في الركعة الأولى، وتتوجه كل هذه الألوف في هذا النظام الذي يأخذ بالقلوب والأفئدة إلى بيت الله من جوانبه الأربعة.
أي جيش جيش الإيمان هذا؟! وأية قوة في العالم تستطيع أن تغلب هذا الجيش لو أنه عرف كيف ينظم الحياة مثل نظام الصلاة الجامعة، وأن يجعل الإيمان قواما لنظام الحياة كما أنه قوام هذه الصلاة، ألا لو أن ذلك كان واجتمع من في الأرض جميعا لم غلب قوما ذلك إيمانهم، وذلك نظامهم، وذلك سموهم إلى الله، وهذه عبادتهم إياه وحده لا شريك له .
الإيمان قوام هذا النظام البالغ في كماله، الذي جمع الأوروبي والإفريقي والآسيوي وأهل الأرض جميعا في صعيد واحد، والإيمان هو الذي جعلهم إخوة متفاهمين على تباين لغاتهم واختلاف أجناسهم، وإيمانهم له كل هذا السلطان؛ لأنه إيمان تجرد من كل ما سوى الفكرة السامية، لا تشوبها شائبة، ولا تندس إليها غاية من غايات هذه الحياة الدنيا؛ الفكرة المجردة من كل مطمع ومن كل هوى إلا رضا الله رضا يستعذب المسلمون التضحية بكل شيء في سبيله، التضحية بالهناءة والطمأنينة، وبالمال والجاه، وبكل ما في الحياة، بل بالحياة نفسها، وهذه الفكرة السامية يؤمن بها عشرات الألوف هؤلاء، ويؤمن بها المسلمون جميعا، تتلخص في كلمتين اثنتين هما أبلغ وأقوى ما عرفت الإنسانية منذ وجدت، ولا يمكن أن تعرف أبلغ ولا أقوى منهما إلى أن يبيد الله الأرض وما عليها: «الله أكبر».
نعم! هاتان الكلمتان هما أبلغ ما عرفت الإنسانية، وما يمكن أن تعرف، هما مظهر السمو الإنساني على ما يتصل به الإنسان من سائر الكائنات، وهما مظهر سمو النفس وقوتها، فلا يعتريها ضعف ولا يزعزع منها سلطان، يكفي أن يحيط الإنسان بمعنى هاتين الكلمتين كاملا، وأن يؤمن به إيمانا صادقا ليتصل بالله اتصالا صحيحا، وليرقى بهذا الاتصال فوق الألم، وفوق الأمل الخادع، وفوق الغرور الكاذب، وفوق كل ما في الحياة الدنيا، إننا - نحن المسلمين - لنسمع هاتين الكلمتين ولنقولهما في كل يوم عشرات المرات؛ نسمعهما مرات ساعة الأذان، ونسمعهما ونقولهما مرات حين الصلاة، ونرددهما في مناسبات كثيرة ونؤمن بهما حقا، لكن الكثيرين منا يؤمنون بهما ولا يحيطون بمعناهما إحاطة إدراك تام وشعور متنبه لهذا المعنى.
فما أعظم سلطان المال وما أكبر حكم أصحابه! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان هذا الملك الحاكم فوق العباد! نعم! لكن الله أكبر، وما كان أعظم سلطان رومية وامتداد إمبراطوريتها! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب الشمس عن أملاكها! نعم! لكن الله أكبر، وما أعظم سلطان أوروبا سلطانا تحكم به الشرق وتتحكم به في مصير العالم كله! نعم! لكن الله أكبر، فإذا أنت اتصلت بالله وحده، وعبدته وحده، واستعنته وحده، لم يكن للمال ولا للملك ولا للإمبراطورية البريطانية ولا لأوروبا ولا لقوة من القوى بالغا ما بلغ كبرها أي سلطان عليك.
وما هذه القوى جميعا وهي لا تساوي عند الله جناح بعوضة؟! وإن من التجديف حين نذكر أن الله أكبر من كل كبير وأعظم من كل عظيم أن نذكر هذه القوى الضئيلة في حياة الكون والتي تبدو اليوم وتختفي غدا، وتقوى اليوم وتضعف غدا، وتوجد اليوم وتنعدم غدا، يبتلع البحر من الأرض ما شاء الله أن يبتلع، ويذهب الأقوياء فلا يبقى لهم بعد ذهابهم إلا ذكر قوتهم، لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء يعيشون ويأكلون وإلى ثراها يرجعون، ما أكبرها! لكن الله أكبر، والشمس ما أكبرها! لكن الله أكبر، والوجود كله من محسوس نشهده وغائب نتوسمه ما أكبره! لكن الله أكبر، وسع كرسيه السموات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم.
وعبادة الله والاستعانة به تقتضيانك علم ما خلق، والسعي في مناكب الأرض، وإدراك أسرار الحياة، وأنت أعظم اتصالا بالله كلما كنت من هذا العلم وهذا السعي وهذا الإدراك أكبر حظا، وإيمانك الحق بهاتين الكلمتين ينقلب إيمانا آليا لا ينفع ولا يضر إذا لم تسع ولم تدرك ولم تتصل بنوره العظيم، إذا علمت هذا وعملت به ودأبت لتدرك عظمة الله في خلقه مما نرى وما لا نرى، وما نحس وما يجاوز إحساسنا؛ إذن فلن يغلبك غالب وأنت فرد، فأما إن علمته أمة وعملت به وآمنت عن إدراك صحيح بأن الله أكبر؛ فقد حق لها أن تتولى هدى العالم إلى الحق في أسمى صوره وأرقى درجاته، هدى يصل بالإنسانية إلى ما تبغي من مجد الإخاء في الله؛ إخاء هو وحده الجدير بالإنسانية حين تبلغ من التقدم درجة حسنى.
ما بال هذه الألوف المؤلفة من المسلمين الذين يصلون الجمعة في الحرم؟! ثم ما بال إخوانهم الملايين من المسلمين المنتشرين في بقاع الأرض جميعا، وهم يؤدون صلاتهم في هذا النظام البالغ ويسمعون هاتين الكلمتين ويكررون في صلاتهم: «الله أكبر» مرات وعشرات المرات؟! ما بالهم فيما هم فيه من ضعف وجمود وخضوع لسلطان الغير وحكمه؟! فكرت في هذا حين أويت إلى الدار واعتكفت في غرفتي، فكرت فيه متألما ثائرا بهؤلاء الذين أوتوا أسباب القوة فضعفوا وهانوا، وأوتوا سبيل العزة فذلوا واستكانوا، وكيف لا تثور النفس حين ترى هذا النظام البالغ ثم ترى ما هم فيه من هوان وفوضى، ومن شأن من ينتظمهم الإيمان السليم به أن يكونوا العزة والقوة؟! ولم ألق عسرا في الوقوف على علتهم، فنظامهم هذا ينقصه الروح؛ ولذلك غاضت حياته، فانقلب آليا، فانقلبت على أهله غايته، وهذا هو السبب فيما هم فيه وما سيظلون فيه، حتى يغيروا ما بأنفسهم ليغير الله ما بهم.
الروح ينقص هذا النظام - لا ريب؛ الروح المستمد من الإيمان الكامل، أليس رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «لا يكمل إيمان أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟ والكثرة من هؤلاء المصلين لا يفكر أحدهم في أخيه ولا يحب إلا نفسه، هو لم يحضر إلى مكة ولم يفرض الحج ولا يستوي مع الناس في صلاة الجماعة بالحرم؛ ليكون لإخوانه المؤمنين كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، بل جاء إلى مكة حاجا وحضر صلاة الجماعة ابتغاء المغفرة لنفسه والثواب لنفسه دون تفكير في المؤمنين ممن حوله، وليس هذا شأن المسلمين اليوم وفي هذا العصر الأخير وكفى، بل هو شأنهم - مع الشيء الكثير من الأسف - منذ مئات السنين التي خلت، منذ انتقل الأمر بينهم من الشورى إلى الاستبداد، ومن الاجتهاد إلى التقليد، ومن الاستهانة بالموت إلى حب الحياة، ومن عبادة الله وحده إلى عبادة المال وأرباب المال، من ذلك اليوم البعيد عنا، حينما كان تاريخ الأمة الإسلامية ما يزال مزدهرا، بدأت الأثرة تبلغ من المسلمين أن صار أحدهم لا يعرف إلا نفسه ولا يحب إلا نفسه، ويحسب مع ذلك أنه يستطيع الوصول إلى رضا الله باعتزال إخوانه المؤمنين وبالانقطاع عن التفكير في أمرهم إلى التفكير في أمر نفسه.
ومن يومئذ نسي المسلم أنه إذ يقول وهو يصلي لله: «إياك نعبد وإياك نستعين»، أنه يتحدث عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين، وكأنما خيل إليه في غروره أنه بهذه الصيغة يعظم نفسه وهو يخاطب ربه، وحيثما بلغت الأثرة من النفوس هذا المبلغ ضعف إيمانها وتزعزع يقينها وتعلقت بالحياة وأذعنت خاضعة لكل سلطان يملك عليها أسباب المادة في الحياة، هنالك تنزوي الروح ويضمحل سلطانها على النفس، وهنالك تتهلهل أواصر الاتصال بين المؤمنين وتضعف أخوتهم فيضعفوا جميعا، وهنالك تصير حياتهم حياة أفراد تنتهي بالموت، لا حياة أمة تتصل على الزمان ولها في شهدائها وفي موتاها أعلام مجد وعزة تتعلق بها وتضحي للاحتفاظ بما شادوا من هذا المجد ولإكباره والمزيد منه.
وذكرت وأنا أفكر في هذا وفي مثله أولئك المسلمين الأولين الذين كانوا يجيئون للصلاة عند الكعبة - كما نجيء نحن للصلاة عندها اليوم - فيصدهم المشركون ويؤذونهم ويبالغون في تعذيبهم، لم يكن يومئذ حول الكعبة مسجد معمور تحيط به هيبة الإسلام شأن المسجد الحرام اليوم، بل لم يكن حولها مكان مسور، إنما كان حرمها متصلا بالطريق ومتصلا بالمساكن اتصال المسعى بين الصفا والمروة في وقتنا الحاضر، مع ذلك كان المسلمون الأولون يذهبون إلى الصلاة متحدين متضامنين، وهم يعلمون أنهم معرضون للأذى وللموت، وأن تحابهم وتضامنهم يجعلانهم أكثر للموت وللأذى تعرضا.
ولقد كثر عدد المسلمين بمكة قبل الهجرة، واعتز الإسلام بحمزة بن عبد المطلب وبعمر بن الخطاب، وجعل عمر يدفع من أذى المشركين للمسلمين ما يستطيع دفعه، مع ذلك ظل المشركون على عداوتهم للنبي وأصحابه وإيذائهم إياهم، وظل المسلمون على تضامنهم وحبهم بعضهم لبعض في الله، وصبرهم على الأذى في سبيل الحق، وإيمانهم بأن النصر لهم ما صبروا، يذهبون إلى حرم الكعبة للصلاة مستهينين بالأذى وبالموت، مؤمنين بأنهم رجل واحد فلا يموتون ما بقي منهم من ينادي مؤمنا: «لا إله إلا الله الله أكبر»، محبا إخوانه في الله، موقنا أنه لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
ولم يكن هذا الحب الصادق الذي يكمل به الإيمان حب عاطفة هوجاء يرى صاحبها في الإلقاء بيده إلى التهلكة استهانة بالموت، بل كان حب تعقل وروية، وحرص على معرفة الحياة وما فيها إلى غاية ما يبلغ المرء من معرفتها في ذلك العهد، كان المسلمون يجتمعون بالرسول في كل يوم يتشاورون، وكانوا يتنطسون أخبار المشركين ليقفوا على دخائل نفوسهم، وكانوا ينافسونهم في العلم بالأمور ليدفعوا حجتهم بالحجة وقوتهم بما يستطيعون من قوة، لم يكن أحدهم يرى في الإسلام لله والتوكل عليه ما يصرفه عن التفكير ليومه وغده، ولشد أزر وليه ودفع عدوه، بل كانوا يرون في الإيمان بالله والإسلام له سموا على كل إذعان لغير الله واستهانة بكل مجهود وكل مشقة لبلوغ هذا السمو؛ وبذلك كانوا حربا على كل ضعف في أنفسهم، كما كانوا حربا على قوة خصومهم؛ من أجل ذلك استلوا من نفوسهم كل سلطان للأثرة عليها، فقوي اعتداد الفرد منهم بنفسه وحبه لإخوانه، وبذلك كانوا الغالبين.
وكان لهذا الاعتداد بالنفس مع إنكار الذات أثره في أولي المواهب، وأهل الزعامة منهم، لم يكن أحد من هؤلاء يرضى إذا آمن بشيء أن يكتم إيمانه مخافة ما يجره إعلان هذا الإيمان عليه من أذى، ولم يكن أحدهم ينتظر حتى يرى أين تكون منفعته ليكيف بوحيها رأيه أو عقيدته، بل كانوا جميعا يؤمنون بأن العقيدة والرأي معا ملك «مشاع» للجماعة، فيجب أن يطالعها الفرد بما يرى، وأن يحاول إقناعها به في صراحة وشجاعة وإيمان؛ لهذا نجم منهم القادة وأولو الرأي، وتوارى من جماعتهم المراءون والمنافقون الذين يريدون أن يتخذوا من كل شيء - حتى من الرأي والإيمان به - مطية أهوائهم ووسيلة منافعهم؛ ولذلك آمنوا بأن الروح من عند الله، وأن الحياة الإنسانية متصلة بكلمة الله، وأن الله خلق الإنسان على صورته؛ فهو - من ثم - روح قبل أن يكون مادة، وحياته - من ثم - فكرة متصلة بالروح، وليست حركة آلية، ولا حركة فطرية كحركة النبات، ولا حركة سليقية كحركة الحيوان.
وحيثما آمن الإنسان بأن الحياة فكرة استهان بالموت في سبيل الفكرة، ومن استهان بالموت عنت له الحياة، وكلما ازدادت الفكرة سموا ازداد صاحبها استهانة بالحياة وسموا لذلك عليها، والجماعة التي تعيش من أجل فكرة إنسانية سامية ولا تخشى الموت في سبيلها، تصل من القوة إلى حيث لايغلبها غالب، كذلك كان شأن الجماعة الإسلامية الأولى، كان الإيمان بالوحدانية يملأ نفوس أهلها، حتى ليصغر كل ما في الحياة إلى جانبه، وكانوا يعلنون إيمانهم هذا ولا يكتمونه؛ لم يكن يصرفهم عنه وعد ولا وعيد، ولم تكن لترد الصادقين منهم تضحية وإن عظمت وإن بلغت التضحية بالحياة؛ وبذلك نصرهم الله وفتح لهم فتحا مبينا.
وإنه ليأخذ مني اليوم العجب حين أرى قوما ينادون بغير هذا الرأي أو يعلمون الناس ما يخالفه، وأعجب هذه التعاليم وأشدها فتكا بالقوى الإنسانية قولهم: إن الإنسان آلة، وأعضاء جسمه كأعضاء الآلة، ووجوده وروحه رهينان بسلامة هذه الأعضاء، رهن حركة الآلة ونشاطها بسلامة أجزائها، فإذا أصاب الإنسان الموت أصبح جثة هامدة كما تصبح الآلة ركاما من أجزائها التي فقدت أسباب الحركة، ويزيد في عجبي ما يزعمه قوم من أن هذه الفكرة الآلية هي أساس الحضارة الغربية التي تحكم العالم اليوم، كأنما تستطيع المادة أو يستطيع شيء غير الفكرة أن يطور الحياة أو ينشئ فيها جديدا.
وهذا القول: بأن حضارة الغرب تقوم على هذه الفكرة الآلية وهم يدل على سوء الفهم لحياة الغرب، فعلماء الغرب ومفكروه يقررون ما عرفته الإنسانية الحية في كل أطوارها من أن الفكرة أساس الحياة وأساس كل نشاط فيها، بل إن حياة العلم في هذا العصر لتستند إلى الكلمة التي قالها «ديكارت» في القرن السابع عشر: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، وليس يصح في الذهن أن يكون التفكير أساس الوجود، وأن يكون الوجود الإنساني آليا لا يساوي الوجود الفطري للنبات والحيوان.
وإنما أدى إلى فكرة الآلية في الحياة الإنسانية أن بلغ بعضهم بالفكرة الروحية مبلغا أخرجها عن حكم العقل، ثم أراد مع ذلك أن يصورها في صور من المادة، فهوت بذلك فكرته فيها إلى درك الجمود والتعصب، وحيثما قام التعصب ناضله تعصب يضيق به ذرعا؛ من ثم قامت الفكرة الآلية لنضال أوهام زعمها أصحابها صادرة عن الفكرة الروحية، فأما الحق في الغرب والشرق وفي كل زمان فإن الحياة الإنسانية روح قبل أن تكون مادة، وفكرة متصلة بالروح، وليست حركة آلية تنتظم حياة الجسم وحدها.
والنضال هو الذي نزل في الغرب بالمثل الأعلى إلى الرغبة عن النظر في الروح وفي اتصال الإنسان بالكون نظرا طريقه العقل، ثم إلى التقيد بالمحسوسات المادية واستنباط سنن الكون منها بمنطق العقل وحده، على أن كثيرين من كبار علماء الغرب ومفكريه لم يلبثوا حين رأوا ما في هذا التقيد بالحس من حد لحرية الفكر، أن دعوا لتحطيم هذا التقيد، وأن عالجوا الظاهرات الروحية على الطريقة العلمية، طريقة الملاحظة والتبويب والاستنباط، آملين أن يصلوا من هذا الطريق إلى نتائج أسمى أثرا من ثمرات النظريات النفعية والمادية في الخلق وفي الحياة، وفي اتصال الإنسان بالوجود وبارئ الوجود، وما يحاول الغرب اليوم من سمو هو ما حققه الإسلام منذ نشأته للذين دانوا به.
لذلك كان الروح أساس ما دعا إليه من نظام ومن حرية؛ ولذلك كان المسلمون الأولون أشد حرصا على حرية أرواحهم منهم على حرية أبدانهم، وكانوا يفتدون حرية الروح للفرد بكل قيد للبدن، ويفتدون نظام الروح للجماعة بما شهدت في صلاة الجمعة بالحرم، لم تكن المظاهر تغريهم عن الحقيقة، ولا كان الغلاف يحجب اللب عن أنظارهم، لم يعنهم أن كان المسجد مما حول الكعبة غير مسور، ولم يروا في بيت الله إلا أنه منارة روحية يتوجه إليها المسلمون جميعا على أنه الجامع لقلوبهم ولإيمانهم وتوحيدهم ربهم، لم يتوجه أحد إلى الكعبة بالعبادة لأنها بيت الله، بل قصروا جميعا عبادتهم على رب البيت، كان عمر بن الخطاب يقول وهو يقبل الحجر الأسود حين طوافه: «والله لولا أني رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك»، وكذلك كان هداهم روحيا في كل شيء، وكانوا يلتمسون هذا الهدى في كل ما يقع عليه الحس ليروا فيه سنة الله لا تبديل لها، وآية الله شهيدة بربوبيته جل شأنه.
ولم يفكر المسلمون في أن يسوروا ما حول الكعبة ليتخذوا من سياجه قدسا لصلواتهم إلى أن اختار الرسول الرفيق الأعلى وطيلة خلافة أبي بكر، وعلى عهد عمر امتد الفتح الإسلامي وكثر الذين يشهدون الحج، وضاق الفضاء المحيط بالبيت بهم حين الصلاة؛ إذ كانوا يدخلون إليه من الأبواب القائمة بين الدور المحدقة به، عند ذلك اشترى عمر دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في حرمها وأحاطها بجدار قصير، ولقد أبى بعضهم يومئذ أن ينزل على إرادة عمر، فأجلاهم عن دورهم ووضع لهم ثمنها في خزانة الكعبة، وقال لهم: إنما نزلتم على الكعبة فهو فناؤها، ولم تنزل الكعبة عليكم، وازدادت رقعة الفتح الإسلامي في زمن عثمان، وازداد الذين يشهدون الحج عددا، فاحتذى عثمان مثال عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها.
كان المسجد الحرام يومئذ محاطا بجدار قصير وكان غير مسقف، وكان الناس يجلسون حول البيت وحول جدران المسجد بالغداة والعشي يتفيئون الظلال، فإذا تقلص الظل تفرقت المجالس، ولم يفكر أحد من خلفاء المسلمين ولا من رجال هذا الصدر الأول في زينة المسجد ولا في فخامته، فبساطة الإسلام الحق تنأى بالمؤمن عن هذا التفكير، وعبادة الله لا تعرف الزخرف ولا تتصل به، إنها ابتهال خالص بالقلب إليه - جل شأنه، وتوجه ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويسمو بالنفس على غرور الحياة الدنيا؛ لذلك لم يزد عمر حين ضم إلى المسجد من المنازل المحيطة به ما ضمه على أن أقام جدارا لا يرتفع إلى قامة الرجل، وكذلك فعل عثمان، ويذكر بعضهم أن عمر وضع على الجدار مصابيح تضيء المكان للذين يصلون العشاء، أما قبل عمر فلم تكن ثمة مصابيح، بل كان الناس يقصدون إلى فناء الكعبة ليصلوا وهم في غير حاجة إلى نور يهتدون به، اكتفاء بنور بصائرهم وهدى قلوبهم.
في هذه الأيام الأولى كانت صلاة الجمعة بالحرم يدعو إليها روح مبعثه الإيمان، ونظام قوامه الأخوة، والإيمان والأخوة يسموان بطبيعتهما على الزينة والزخرف؛ لذلك لم يفكر عمر ولا فكر عثمان في أكثر من توسيع رقعة المسجد ليسع المصلين حين الحج، وإضاءته ليهتدي في أرجائه من لا عهد له به؛ ولم تغر عثمان أموال الفتح التي كانت تتدفق من الأقطار الجديدة التي رفرف عليها العلم الإسلامي، فلم يصنع بالمسجد ما صنع قومه في الجاهلية بالكعبة حين كشف عبد المطلب عن زمزم بعد أن بقيت مطمومة ثلاثة قرون، فلقد أخرج من بئر إسماعيل غزالتين من الذهب كان الجرهمي الذي طمها قد أخفاهما بها، فضربهما في باب البيت الحرام حلية له، لم يصنع عثمان صنع من سلف؛ لأن الإسلام جعل التقوى قربان الإنسان إلى ربه، ولم يجعل من مساجد الله هياكل آلهة تعبد ويتقرب إليها المتقربون بالأموال، كما كانوا يتقربون إلى هبل وإلى غيره من الأصنام قبل أن يطهر النبي الكعبة منها.
ولما انقضى عهد الخلافة وشبت نار الحرب الأهلية بين المسلمين باسم الثأر لعثمان من قتلته، بدأت الشوائب تشوب قلوب طائفة من المسلمين وقد حركتها مطامع هذه الحياة الدنيا، فغشت فيها طهر دين الله وصفاءه، على أن الذين أقاموا إلى جوار بيت الله من عترة النبي كانوا أبعد أن تشوب هذه الشوائب قلوبهم، وكانوا أشد لبيت الله ولحرم البيت إكبارا وتعظيما، أقام عبد الله بن الزبير بالحجاز حفيظا على التقاليد الأولى، فلما كانت سنة أربع وستين من الهجرة اشترى دورا وسع بها المسجد الحرام على نحو ما صنع عمر وعثمان من قبل، ولم يزد على أن أحاط الزيادة بجدار المسجد.
لكن بني أمية كانوا قد اتصلوا في الشام بأهل البلاد التي دخلت في الإسلام بحكم الفتح، ورأوا من عناية النصارى بكنائسهم وعمارتها وزينتها ما جعلهم يفكرون في القيام للمسجد الحرام بشيء من هذا الذي رأوا، وكان عبد الملك بن مروان أول من سن هذه السنة حين حج في السنة الخامسة والسبعين من الهجرة، فهو لم يجد المسجد في حاجة إلى زيادة فيه، فأمر فرفعت جدره، وسقف بخشب الساج الداكن اللون المتين، وجعل في رأس كل أسطوانة خمسين مثقالا من الذهب، وفي ذلك عود لتقاليد الجاهلية، لم يعترضه يومئذ من المسلمين أحد؛ لأن أمير المؤمنين هو الذي أمر به، وزاد الوليد بن عبد الملك في عمل أبيه بعد أن نقضه، فوسع المسجد، وزخرف الساج الذي سقفه به وأزر أسفل جدرانه بالرخام، وجعل له شرفا، ونقل إليه أساطين الرخام وجعل على الذهب في رأسها صفائح من النحاس، وزخرف أعلى أبواب المسجد بالفسيفساء، وإنما صنع الوليد ذلك؛ لأنه كان إذا شيد المساجد زخرفها كما يزخرف النصارى كنائسهم.
ودالت دولة بني أمية، وقام بنو العباس على إمارة المؤمنين، وبنو العباس يمتون إلى بيت النبوة بآصرة قريبة، وقد جعلوا من صلتهم به أساس دعوتهم، فلا عجب أن يتجه نظرهم إلى البيت الحرام وإلى الزيادة فيه وإعظامه، وإن لم يفكر أحد في الرجوع به إلى البساطة الأولى، فلما اطمأن لهم الأمر أصدر ثاني خلفائهم أبو جعفر المنصور أمره إلى زياد بن عبد الله الحارثي واليه على مكة، فزاد في المسجد الحرام وجعله ضعف ما كان عليه، وزينه بالذهب وأنواع النقوش، وبنى مئذنة بني سهم، وأتم ذلك فيما بين سنة سبع وثلاثين ومائة وسنة أربعين ومائة، وفي هذه السنة حج المنصور ورأى حجارة حجر إسماعيل بادية، فأمر زيادا أن يغطيها بالرخام، ونفذ زياد الأمر ليلا، وأصبح المنصور فرآها كما أراد، وزاد المهدي بعد أبيه المنصور ما جعل المسجد قرابة ما هو اليوم.
وكانت الكعبة في جانب من المسجد؛ لأن ما أضافه إليه عمر كان يتجه إلى الناحية التي لا يخشى انحدار السيل إليها؛ وكره المهدي أن تكون الكعبة في ناحية من المسجد وأراد أن تكون في وسطه، وقال المهندسون حين استشارهم: إن وادي مكة له سيول قوية العزم، ونخشى إن حولنا الوادي عن مكانه ألا يتم لنا ما نريد، قال المهدي: لا بد لي من سعة المسجد حتى تكون الكعبة في وسطه ولو أنفقت فيه جميع ما في بيوت المال، وأحكم المهندسون أمرهم، وترك لهم المهدي المال وعاد إلى العراق، واشتط أصحاب الدور التي تدخل في هذه الزيادة في أثمان دورهم، حتى بلغ ثمن الذراع مما دخل المسجد خمسة وعشرين دينارا، أي: اثني عشر جنيها ونصف الجنيه، وأتم المهندسون العمل في عهد الهادي بن المهدي بعد أن جلبت أساطين الرخام لهذه الزيادة من مصر ومن غيرها، وحملت على العجل من جدة إلى مكة.
لم يضف إلى المسجد بعد ذلك غير إضافتين جزئيتين تمتا في عهد الناصر والمقتدر من العباسيين، على أن عمارته جددت مرات من بعد، وكان لملوك مصر وأمرائها حظ من ذلك عظيم، وكانوا لا يقفون من العمارة عند الترميم أو البناء، بل كانوا يضاهون العباسيين في تزيين المسجد وزخرفته، وإن لم يبلغوا من ذلك ما بلغوا في تزيين حرم المدينة وزخرفته مما سنقصه عليك، ومع ما كان من انتقال الخلافة من مصر إلى آل عثمان بالآستانة، ومن عناية آل عثمان بالحرمين، لقد ظلت مصر أشد البلاد الإسلامية حرصا على عمارة الأماكن الإسلامية المقدسة، وأكثرها سخاء في الإنفاق على هذه العمارة.
كان المعلم محمد المصري هو الذي استصحبه شيخ المهندسين أحمد بك المصري لعمارة المسجد الحرام حين أصدر السلطان سليم أمره إلى حاكم مصر سنان باشا للقيام بهذا العمل، وكان لمصر نصيب وافر من النفقة على هذه العمارة التي بلغت خمسة وخمسين ألفا من الجنيهات عدا مائة ألف من الذهب الإبريز، وعدا ما دخل من مصر من مواد العمارة كالخشب والحديد وأهلة القباب المطلية بالذهب، على نحو ما يرى الإنسان بالمسجد إلى يومنا هذا، وفي هذه العمارة عني المهندس بخفض أرض الطريق المنحدر إلى وادي مكة لتنحدر منه السيول إذا دخلت المسجد، وكثيرا ما كانت هذه السيول سببا في توهين بنيان المسجد من قبل.
ليس غرضي مما قدمت تفصيل عمارة المسجد ومن قام بها؛ لذلك لا أقف عند عمارة داخل المسجد من مقام إبراهيم، وحجر إسماعيل، وبئر زمزم، ومقامات الأئمة الأربعة، إنما سقت ما ذكرت لأبين ما أدت إليه صلاة الجمعة في الحرم من توسيع المسجد على مر السنين ليسع المصلين، وعناية خلفاء المسلمين وأمراء المؤمنين بذلك عناية بدأت من عهد عمر واستمرت على القرون بعده، وما أدى إليه تطور التفكير الإسلامي من البساطة القوية الأولى، بساطة الإيمان والنظام للفرد والجماعة، إلى الترف والزخرف في العصور التي سبقت الانحلال في الحضارة الإسلامية، فقد رأيت أن الخلفاء الأولين لم يعنهم من أمر الحرم وتوسيعه إلا أن ينفسح المكان للمسلمين في أيام الحج ليصلوا حول بيت الله، ثم آل الأمر إلى تزيين المسجد وإلى زخرفته شيئا فشيئا حين أصبح الإيمان فنا والنظام حوارا وجدلا، فقد بدأ الإيمان يتزيا في أزياء ويتصور في صور تجعل الإنسان درجات تتفاوت بتفاوت ما يتقرب به صاحبه إلى الله من مادة الحياة بعد أن كان أمره روحيا خالصا، يتصل تفاوته في الدرجات بمبلغ سمو الروح به إلى الله، كان هذا السمو الروحي دأب المسلمين الأولين، وكانوا يقرون لفقراء لا يملكون قوت يومهم أنهم أقرب إلى الله؛ لأنهم أكثر به إيمانا وله إسلاما، وأن من الأغنياء الذين ينفقون في التقرب إلى الله بإقامة المساجد وما إليها من لا يبلغ في الإيمان درجة هؤلاء الفقراء.
فلما شابت السمو الروحي الشوائب خيل إلى الأغنياء وذوي الأمر والسلطان أن من درجات الإيمان ما يبذلون من مال في توسيع الحرم أو زخرفته، ثم تطور أمر الإيمان إلى التقرب إلى الله عن طريق الأولياء والصالحين، ثم ضعف هذا الإيمان وصار إلى ما صار إليه في زماننا تقليديا يكفي صاحبه أن يقول ألفاظ الإيمان وإن لم يؤمن منها بشيء، ثم يحسب بعد ذلك أنه أرضى الله، ولعله لا يعنيه من هذا الرضا أكثر مما يعنيه من حقيقة إيمانه.
هذا التطور وما انتهى إليه هو علة ما قدمنا عن النظام في صلاة الجمعة بالحرم وأن الروح ينقصه، على أن هذا الحرم، حرم الكعبة، كان له في نفوس المسلمين جميعا من التقديس ما حال دون غلبة التطور في بنائه على روح الإسلام القوي ببساطته، فلم يبلغ ما رأيت من جهود الملوك والأمراء أن جعل من هذا الحرم هيكل عبادة على صورة هياكل العبادة في غير الإسلام من الأديان، ولم يبلغ أن جعله على صورة مساجد المسلمين مما تراه في غير مكة من بلاد العالم الإسلامي، بل ظل الحرم تطبعه بساطة تجمع بين الصراحة والمهابة، وتجعلك ترى الفقير المعدم يقف إلى جانب الغني المترف ويصلي وإياه كتفا إلى كتف، وهما يتجاوران في هذا الحرم المقدس تجاور إخاء واتساق، كما تتسق فيه الحصباء إلى جانب الحجر المرصوف به ما يجاورها من صحنه، ويظلهما إيمانهما بالمحبة والسلام وهما يريان في حمام الحمى رمزا يدل على المحبة؛ إذ يجاوره المصلون فلا يطير ولا يخاف؛ لأنه في حمى الله وفي حرم بيت الله.
لم يغلب التطور في بناء الحرم على روح الإسلام القوي ببساطته، لكن هذا التطور كان له أثره في النفسية الإسلامية منذ بدأ الانحلال بعد ازدهار الحضارة إبان العصر العباسي، وقد رأيت مبلغ ما هوت إليه هذه النفسية، حتى نسي المسلم أن إيمانه لا يكمل حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وحتى صار المسلم أثرا لا يعرف إلا نفسه، ولا يفكر إلا في نفسه، يصلي رجاء التوبة لنفسه والمغفرة لذنبه، لا انتهاء عن فحشاء ولا عن منكر، ويقف في صفوف الجماعة وهو لا يفكر إلا أن يعود عليه من ثواب صلاة الجماعة ما يعادل الثواب الذي يعود عليه من صلاته وحيدا أضعافا مضاعفة، وهو يؤدي فريضة الحج ليغفر الله له ذنبه وليعود نقي الصحيفة، وسيان عنده بعد ذلك ما يحل بسواه، حتى البر - وهو عماد التقوى - قد تضاءل في نفسه ما لم تتحقق لديه المثوبة عنه، لم يعد يفكر في أن يخرج من ماله عن حظ معلوم للسائل والمحروم ابتغاء وجه ربه، لا رغبة ولا رهبة، ونسي أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده الصالحين، لا يفكر في دار علم يقيمها، ولا في مكتبة ينشئها، ولا في مستشفى أو مصلى ينفق عليه، غاية همه أن يستغفر عن الخطايا، كأن حياته كلها خطيئة يريد أن يكفر عنها، وكأنما يعجز عن أن يجعل من الحياة عملا صالحا يكون به عند الله راضيا مرضيا.
وإنما هوت النفسية الإسلامية في عصور الانحلال إلى هذه المكانة؛ لأن من المسلمين من اتخذ إلهه هواه، ورفعه تدهور الجماعة إلى مكان الزعامة منهم والحكم فيهم، وقد ألف كثيرون أن يقولوا: «الناس على دين ملوكهم»، فجرت الجماعة مجرى هؤلاء الملوك والحكام، وجعلت إلهها هواها، واقتصرت من عبادة الحق على ما ترى فيه مغفرة وزرها والتخفيف من إثمها، ولم تقصد وجه الحق - جل شأنه - لذاته، إياه تعبد وإياه تستعين، ووقفت عبادتها عند ألفاظ تتلوها، وفاتها أن العمل عبادة، والعلم عبادة، والسعي عبادة، ومعرفة سنة الله في خلقه بالاجتهاد والجد أسمى معاني العبادة.
من لي بأن يدرك المسلمون هذا الذي فاتهم، وأن ينفضوا عنهم جمود الأثرة، وأن يجعل كل منهم إلهه الله لا يشرك به هواه ولا يشرك به أحدا، وأن يذكروا أنهم إخوة، أخوة إيمان وعبادة؟! إن يفعلوا فقد آن للزمن أن يرتفع بهم إلى السماك كما ارتفع بهم من قبل، وأن يجعلهم هداة الإنسانية، ويومئذ يتم وعد ربك فينصر دينه على الدين كله.
ما عسى أن تكون صلاة الجمعة بالحرم يومئذ؟! فيومئذ يؤمه حين الحج أضعاف من يؤمه اليوم من المسلمين، ويومئذ يؤمه أولو الرأي والعلم منهم ومن يريدون أن يشهدوا في الحج منافع للأمم الإسلامية كافة، ويومئذ يؤمونه والروح مبعث إيمانهم وقوام نظامهم، والمحبة الصادقة رباط وثيق بينهم، هؤلاء جميعا إذ يقفون في الحرم منادين: الله أكبر، يحمدون الله، وإياه يستعينون، يكونون قلبا واحدا وجنانا واحدا وقوة واحدة، أية قوة في الأرض لا تحدق إلى هذه القوة مطأطئة إكبارا وإعجابا؟! بل أية قوة في الأرض لا تسير وراء هذه القوة في الخير والحق والجمال والسعادة والسلام؟!
هل لي أن أرى ذلك اليوم؟! لشد ما أسعد به إن رأيته! فإن مت قبله فما أسعد روحي به يوم يتحقق، وما أشد ما تهتف روحي يومئذ: الآن عاد للإسلام مجده!
والمجد لله في العلا، وعلى الأرض السلام.
في جوف الكعبة
منذ فرغت من شعائر الحج وعدت إلى مكة كان الدخول إلى جوف الكعبة في مقدمة أغراضي، لكن كثرة تجوالي بمكة وما حولها، وذهابي أثناء ذلك إلى الطائف، أجل قيامي بهذا الواجب حتى غادر أكثر الحجيج أم القرى، ولقد أجله كذلك أن الحجيج لا يفتئون طيلة مقامهم بالبلد الحرام يلتمسون المثوبة من رب البيت بالدخول إلى جوفه، وهم يدخلون الكعبة زمرا؛ فإذا احتوتهم لم يجد من يكون بينهم فرصة تفكير أو استجمام، فلما خلت مكة من غير أهلها وآن لي أن أغادرها، فكرت في تحقيق غرضي بإتمام هذه الزيارة، وقيل لي يوما: إن سادن الكعبة يفتح بابها بعد صلاة الظهر، فأقمت بالمسجد أنتظره؛ لكنه لم يحضر إلى العصر ولم يفتح الباب لداخل بقية ذلك اليوم، إذ ذاك رجوت مضيفي أمين العاصمة فكتب إلى الشيخ الشيبي ينبئه بما أريد، ورد السادن ردا رقيقا ضرب لنا فيه موعدا ضحى الغد.
وذهبت في الموعد فطفت بالبيت، وصليت بمقام إبراهيم وبحجر إسماعيل، ثم عدت إلى المقام قبالة باب الكعبة أنتظر فتحه، وكان مطوفنا يتنطس أخبار السادن خيفة أن يطول بنا انتظاره، وأقبل الشيخ الشيبي بعد سويعة في لباسه الضافي، وسار خدم الكعبة من ورائه، ورآهم الناس فتفرجوا عند الباب، ووضع الخدم السلم وصعدوا عليه، وفتحوا باب البيت ودخلوا إليه، ولم يؤذن بالدخول لغيرهم، وسألت في ذلك فعلمت أنهم يكنسون الكعبة ويطلقون فيها البخور، ولما أتم القوم واجبهم وقف السادن بالباب وأشار إلي، فتقدمت نحو هذا الدرج الذي يوضع كلما فتحت الكعبة ويرفع بعد تمام زيارتها.
تقدمت ممتلئ النفس خشوعا وإكبارا، أنا أعلم مما قرأته أن الكعبة ليس بداخلها شيء منذ طهرها النبي العربي من الأصنام يوم فتح مكة، ولقد دخلت قبل اليوم هياكل ومحاريب من آثار مصر يرجع تاريخ بنائها إلى بضعة آلاف من السنين، كما دخلت متاحف ومعابد في بلاد أوروبا المختلفة، ولقد كنت أشعر في الكثير من هذه الأماكن بالهيبة والإجلال، لكن شعوري ساعة تقدمت لأصعد إلى الكعبة كان غير هذا الذي شعرت به في هذه الأماكن ، كان شعورا قويا عميقا آخذا بمجامع القلب، صادرا من أعماق الروح، ملك علي كل وجودي فجعلني أتعثر في مشيتي وأنا أخطو إلى الدرج وما أكاد أرفع بصري إلى باب الكعبة، وكيف لا يأخذني الخشوع والإكبار وأنا أصعد إلى بيت الله، وأنا أؤمن بأن الله أكبر من كل كبير في الأرض وفي السماء؟!
وصعدت الدرج ودخلت البيت العتيق، وتلقاني الشيخ الشيبي أول دخولي فحياني هشا بشا، وأشار لي بيمناه إلى علامتين في إزاء الجدار الذي يقابل الباب، وقال: هنا يصلي الإنسان ركعتين في المكان الذي صلى فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فتقدمت نحو المكان أصلي ركعتين، وما أذكر أني شعرت في حياتي بمثل ما شعرت به في هذه اللحظة من غبطة ورضا، تباركت ربي! أأقف أنا الآن حيث كان يقف عبدك ورسولك، وأعبدك مخلصا لك الدين كما كان يعبدك؟! ليتني أستطيع السمو بفضلك إلى هذا الرضا، ولكن غفرانك! أين الروح الذي يستطيع السمو إليك سمو من اصطفيته لرسالتك، ويطمع في أن يبلغ من الصفاء ومن الحب لبني الإنسان ما بلغ نبيك الكريم؟! وأتممت صلاتي، وبقيت في جلستي أستغفر الله وأعبده وأستعينه، ولعل السادن أدرك ما أنا فيه فتركني في استغفاري وادكاري.
نعم! ذكرت وأنا بموقفي هذا كيف صد أهل مكة نبي الله عن بيت الله؟ وكيف فتح محمد مكة دون أن يسفك دما؟ وكيف عفا يومئذ عن أشد خصومه لددا في عداوته، ثم انطوى الزمن أمام بصيرتي فخلتني وأنا أقف حيث وقف الرسول وكأنما أشهد هذا كله، فيزيدني ما أشهد خشوعا وإكبارا.
وقمت فدلني السادن على مواضع صلى فيها الأنبياء والخلفاء قبالة الجدران الأخرى، فصليت حيث صلوا منذ قرون مضت، وتلوت بعد صلواتي ما طلب إلي السادن أن أتلوه، فلما أتممت التلاوة جعلت أسأله عن شئون البيت وكسوته وبنائه، وجعل يجيبني في ظرف ورقة سائغين، ما أجدره بهما وهو من سلالة بني شيبة الذين أقر الرسول فيهم سدانة الكعبة يوم الفتح لا يأخذها منهم إلا ظالم حتى يرث الله الأرض ومن عليها!
والتفت السادن إلى والدتي وجعل لها كل عنايته، يجيبها عما تسأل عنه، وتتلو وإياه ما يطيب به قلبها ويطمئن له روحها، إذ ذاك أدرت بصري في جوانب البيت، ما أشده بساطة! وما أعظمه مع ذلك مهابة! هو غرفة أو - إن شئت - بهو رفيع خال من كل زخرف، وهنا بساطته، وهو هيكل التوحيد في أشد صور التوحيد صفاء وأشدها للشرك إنكارا، وهنا عظمته ومهابته، وهو كذلك اليوم، وكان كذلك منذ أقام إبراهيم وإسماعيل قواعده، تقلبت عليه أجيال أنكرت التوحيد وأشركت بالله وجعلته مثابة أصنامها، وجاءت بعد الإسلام أجيال تنكر له بعض بنيها ولم يعرفوا له حرمته، وها هو ذا هيكل التوحيد اليوم كما كان حين أقيمت قواعده، وهو يزداد كل يوم تعظيما حتى ينصر الله دينه على الدين كله، فيكون قبلة العالم جميعا في مشارق الأرض ومغاربها.
وإني لفي إكباري لبيت الله وفي تعظيمي حرمته إذ رأيتني أردد في دخيلة نفسي:
الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العلي العظيم ، وتمثلت لي عقيدة التوحيد في صفاء جوهرها السامي يتضافر الدين والعلم على إكبارها؛ فعجبت كيف لا تمتثلها النفوس جميعا كما امتثلتها نفسي؟! وكيف لا يدرك الناس جميعا ما في هذه الآيات التي رددتها روحي من حقيقة تراها البصيرة واضحة محسوسة؟! وكيف لا يرى الناس وجه الله أينما ولوا وجوهم؟! كيف لا يرونه مضيئا بنور الحق في خلق السموات والأرض والليل والنهار وما نعلمه نحن وما لا يعلمه إلا هو؟! إذ ذاك ازددت إكبارا لهيكل التوحيد على إكباري إياه، وازددت عجبا لأولئك الذين يملكهم حب الحياة عن أن يروا وجهه الكريم متجليا في كل ما حولنا؛ وهو أشد تجليا في ذات نفوسنا وأعماق قلوبنا وفي كل حس وفي كل جارحة.
الكعبة بهو رفيع خال من كل زينة وزخرف، وسقفها يعتمد اليوم على ثلاثة عمد من الخشب الضارب لونه إلى حمرة تشوبها صفرة، ويرجع العهد بهذه العمد إلى أجيال طويلة خلت، فعبد الله بن الزبير هو الذي وضعها حين جدد بناء الكعبة، ولم يصب هذه العمد فساد على طول العهد بها إلا ما كان منذ خمسين سنة أو نحوها حين تآكل أسفلها فشدت بدوائر من خشب طوقت بها وسمرت عليها، وتعلو هذه الدوائر عن أرض الكعبة ما يزيد قليلا على ثلاث أذرع، وأرضها مفروشة برخام أبيض عادي، قصد منه إلى المتانة ولم يقصد إلى الزخرف.
فأما الجدار فأحيط أسفله برخام ملون مزركش بنقوش لم تعمل فيها يد ذوي الفن ولم تخرج بيت الله عن بساطته.
وغطيت جدران الكعبة بستر من الحرير، قيل: إنه كان أحمر ورديا في زمانه، ثم أحالته السنون إلى ما يشبه الرمادي الضارب إلى الخضرة، ولقد أنبأني السادن أن هذا الستر، الذي شد إلى جدرانها في عهد الخليفة العثماني عبد العزيز منذ ستين سنة أو يزيد، قد أثار قدمه واستحالة لونه العاهل النجدي عبد العزيز بن آل سعود فأمر بصنع غيره ليستبدل به، وهذا الستار القديم قد زركش بالنسيج الأبيض طرزت عليه عبارات وألفاظ توائم روح العصر الإسلامي الذي كتبت فيه من حيث دلالتها، فمنها: «سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم» و«يا حنان يا سلطان، يا منان يا سبحان»، وهذه العبارات الأخيرة مكتوبة داخل دوائر من النسيج الذي طرزت به، ولست أدري أية عبارات طرزت على الستر الذي أمر ابن السعود بصنعه، والذي يكسو اليوم جدار الكعبة في جوفها؛ أهي آيات قرآنية تتصل بالبيت وإقامته، أم بالتوحيد وصفائه وقوته، أم هي أحاديث الرسول في يوم الفتح، أم هي ألفاظ تعبدية كالألفاظ التي كانت على الستر يوم رأيته؟
يختلف الركن الأيمن مما يلي باب الكعبة حين دخولك منه عن سائر جدرها وأركانها؛ ففي هذا الركن يقوم الدرج الصاعد إلى سطح الكعبة، وقد وضع عند باب هذا الدرج ستر أسود مطرز بالقصب الفضي المموه بالذهب من نوع الستر المنسدل على باب الكعبة.
هذا كل ما في الكعبة من داخلها، وهو لا يغير من بساطتها شيئا كما ترى، فهذا الستر الذي يكسو جدارها ليس منها، وهو بعد كل ما فيها من زخرف، أما ما وراءه فالبساطة كل البساطة القوية التي تأخذ بمجامع النفس، البساطة الجديرة بهيكل التوحيد في بداهته وصفائه وقوته.
أما والتوحيد هو العقيدة الأزلية الثابتة جاءت بها الأديان وأثبتها العلم، فقد برع خيال الكتاب والمؤرخين في تصوير نشأة بيت الله الأحد ومبدأ بنائه، وقد تحايلوا لذلك على تفسير ما ورد من آيات القرآن الكريم فيه، فالقرآن صريح في:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين ، وفي أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان رفعا قواعد هذا البيت، مع ذلك رأى بعض المؤرخين أن يجعل الملائكة بناة البيت قبل أن يبرأ الله الأرض ومن عليها، وأن آدم بناها بعد ذلك، وذكر بعضهم أن شيثا أول من بنى الكعبة، فأما المشهور عن أكثر العلماء فهو أن أول من بنى البيت إبراهيم؛ بهذا قال علي بن أبي طالب وجزم به ابن كثير في تفسيره.
والذين يذكرون أن الملائكة بنوا البيت يقصون رواية لها جمال شعري فيه طابع الفن؛ إذ يصورون المعنويات صورة مادية، فهم يروون أن الله غضب على الملائكة حين قال لهم:
إني جاعل في الأرض خليفة
فقالوا:
أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك . وكان مظهر غضبه - جل شأنه - أن أعرض عنهم، فلاذ الملائكة بالعرش ورفعوا رءوسهم وأشاروا بالأصابع يتضرعون ويبكون إشفاقا من هذا الغضب، وطافوا بعرش الله سبعا كما يطوف الناس بالبيت الحرام وهم يقولون: لبيك اللهم لبيك، ربنا معذرة إليك، نستغفرك ونتوب إليك، فنظر إليهم ونزلت الرحمة عليهم، ووضع الله - سبحانه وتعالى - تحت العرش بيتا هو البيت المعمور على أساطين أربع من زبرجد تغشاهن ياقوتة حمراء، وسمي ذلك البيت الضراح، ثم قال الله - تعالى - للملائكة: طوفوا بهذا البيت ودعوا العرش، فكان طوافهم به أيسر من طوافهم بالعرش، ثم أمر الله الملائكة من سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثال البيت المعمور، وأمر من في الارض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور. وفي بعض الروايات أن هذا البيت الذي بني في الأرض هو الذي سمي الضراح، وأن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام فكانوا يحجونه، فلما حجه آدم قالت له الملائكة: بر حجك يا آدم، حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام.
1
وفيما روي عن بناء آدم الكعبة روعة شعرية كروعة بناء الملائكة إياها، فقد قيل: إن آدم سأل ربه بعد أن هبط وزوجه من الجنة: يا رب ما لي لا أسمع أصوات الملائكة ولا أحسهم؟ قال: بخطيئتك يا آدم، ولكن اذهب فابن لي بيتا فطف به واذكرني حوله كنحو ما رأيت الملائكة تصنع حول عرشي، فأقبل آدم يتخطى الأرض حتى بلغ مكة، هنالك ضرب جبريل - عليه السلام - بجناحه في الأرض السفلى، فقذفت فيه الملائكة من الصخر ما لا يطيق حمل الصخرة ثلاثون رجلا، وعلى هذا الأساس بنى آدم البيت متخذا أحجاره من خمسة أجبال: من لبنان، وطور سيناء، وطور زيتا، والجودي، وحراء، وفي رواية تفرد ابن لهيعة في نسبتها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «بعث الله جبريل إلى آدم وحواء فقال لهما: ابنيا لي بيتا، فخط لهما جبريل فجعل آدم يحفر وحواء تنقل، حتى إذا أجابه الماء نودي من تحته حسبك يا آدم، فلما بنيا أوحى الله - تعالى - إليه أن يطوف به، وقيل له: أنت أول الناس وهذا أول بيت، ثم تناسخت القرون حتى رفع إبراهيم القواعد منه.»
ولم يرد في الرواية التي تذهب إلى أن شيثا بنى الكعبة، شيء من التفصيل، وإنما قيل: إن طوفان نوح أغرق البيت وغير مكانه حتى بوأ الله لإبراهيم مكان البيت فأقام قواعده مع ابنه إسماعيل، على ما ورد في الذكر الحكيم.
وهذه الروايات الشعرية عن بناء الملائكة وآدم وأبنائه ممن سبقوا إبراهيم الكعبة يعتبرها أكثر العلماء من الإسرائيليات التي دست على الإسلام، فليس لها في كتاب قديم سبق نزول القرآن سند، والقرآن لا يشير إليها بما يسوغ استنباطها، وما يذهب إليه الذين ذكروها من ألوان التفسير لا يثبت صحتها، والقرائن كلها على أن وادي مكة كان غير ذي زرع حين جاء إبراهيم بهاجر وابنه إسماعيل إليه، فلو أن هيكلا للعبادة، أو أثرا لهذا الهيكل كان قائما به، لأقام في جواره كهان وسدنة ينالون من قاصديه رزقهم، ولقد ظلت هاجر مع ابنها بهذا الوادي إلى أن شب إسماعيل فتزوج من جرهم.
ولقد دس على الإسلام من الإسرائيليات الشيء الكثير، ولم يفتأ بنو إسرائيل مذ كانوا يحاربون النبي بالمدينة يحاولون أن يشوهوا صفاء التوحيد في الإسلام، وأن يحيلوا روحانيته مادية ليضعفوا من نفوس الآخذين به، فليس أدعى إلى ضعف النفس من أن يصبح العالم أمامها مادة بدل أن يكون فكرة معنوية سامية؛ وليبلغوا من ذلك غايتهم دسوا الكثير من الأحاديث، ونسبوها إلى النبي
صلى الله عليه وسلم ، وحركوا الفتن على أساس ما دسوا، بأن جعلوا مطامع المسلمين مادية غايتها الحكم أو المال أو ما إلى ذلك من متاع الغرور الإنساني في هذه الحياة الدنيا، وإن العالم ليعاني اليوم من آثار هذا التفكير في أقطاره الإسلامية والمسيحية جميعا ما ترى مظاهره في هذه المذاهب الاقتصادية المختلفة، وفي الثورات الدامية التي تقوم بسببها فتحرق الأخضر واليابس وتأتي على خير مخلفات الإنسانية من علم وفن بيد التخريب، يحركها الجهل والتعصب والطمع المادي الأحمق الوضيع.
فأما بناء إبراهيم وإسماعيل الكعبة فقد ورد نبؤه في القرآن، ولكنه ورد موجزا في قوله - تعالى:
وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم ، وما روي بعد ذلك من تفصيل فمرجع أكثره أحاديث أفراد أو روايات لا تستند إلى سند تاريخي يقره العلم، فقد ذهبت رواية إلى أن جبريل أمر إبراهيم فصحب هاجر وابنها - وإسماعيل ما يزال طفلا - وركبوا البراق ليبلغوا موضع البيت لبنائه، وكان إبراهيم كلما مر بقرية سأل جبريل: أهي التي اختارها الله لبناء بيته؟ وكذلك ظلوا حتى بلغوا مكة، وذهبت رواية أخرى إلى أن ملكا من الملائكة جاء إلى هاجر أم إسماعيل حين أنزلهما إبراهيم مكة قبل أن يقام البيت فأشار لها إليه، وهو ربوة حمراء مدرة، فقال لها: هذا أول بيت وضع في الأرض، وهو بيت الله العتيق، وأعلمها أن إبراهيم وإسماعيل يرفعانه، وفي رواية ثالثة أن إبراهيم جاء إلى مكة بعد سنوات من مقام إسماعيل وأمه بها، وبعد أن شب إسماعيل وتزوج وقوي ساعده، فوجد إسماعيل يبري نباله تحت دوحة قريبة من زمزم، وتبادلا تحية الأبوة والبنوة، ثم قال إبراهيم لابنه: يا إسماعيل، إن الله أمرني بأمر، قال: فاصنع ما أمر ربك، قال: وتعينني؟ قال: وأعينك، قال: فإن الله أمرني أن أبني هنا بيتا، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها، وعند ذلك رفعا القواعد من البيت، فجعل إسماعيل يجيء بالحجارة وإبراهيم يبني حتى ارتفع البناء.
وهذه الرواية الأخيرة أدنى إلى تصور عقلنا الإنساني، يضاف إليها أن البناء لما ارتفع طلب إبراهيم إلى إسماعيل أن يجيء بحجر، فجيء بالحجر الأسود، والروايات في الحجر الأسود وأصله تختلف قيل: إن إسماعيل ذهب إلى الوادي يطلب حجرا يضعه أبوه في البناء وعاد فألفى عند أبيه حجرا أسود فسأله: من جاءك بهذا الحجر؟ قال إبراهيم: من لم يكلني إليك ولا إلى حجرك، وكان جبريل هو الذي جاء بالحجر الأسود من السماء، إذ كان قد رفع إليها حين أغرق الطوفان الأرض، وقيل: إن جبريل جاء بالحجر الأسود من الهند حيث هبط به آدم من الجنة؛ وكان أبيض ناصعا، فاسود من خطايا الناس، وقيل: بل كان الله - عز وجل - استودعه جبل أبي قبيس حين طوفان نوح، فجاء به جبريل ووضعه في مكانه وبنى إبراهيم عليه، وهو حينئذ يتلألأ نورا حتى لقد أضاء بنوره شرقا وغربا وشمالا ويمينا إلى منتهى أنصاب الحرم من كل ناحية، وإنما سودته أنجاس الجاهلية وأرجاسها.
وذكرت الروايات أن إبراهيم بنى الكعبة من الجبال الخمسة التي ذكرها من تحدثوا عن بناء الملائكة البيت.
يقول مؤلف «تاريخ الكعبة المعظمة»:
فتحصل من عموم ما رويناه عن صفة بناء إبراهيم الخليل
صلى الله عليه وسلم
وابنه إسماعيل - عليه السلام - للكعبة المعظمة، أنه بناه بأمر الله - سبحانه وتعالى، وكان الباني إبراهيم والمساعد له إسماعيل، وأنه بناه بالحجارة، وجعل ارتفاعه إلى اليسار تسع أذرع، وطوله من الشمال إلى الجنوب مما يلي الجهة الشرقية اثنتين وثلاثين ذرعا، ومن الشمال إلى الجنوب مما يلي الجهة الغربية إحدى وثلاثين ذراعا، ومن الشرق إلى الغرب مما يلي الجهة الجنوبية، أي: من الحجر الأسود إلى الركن اليماني عشرين ذراعا، ومن الشرق إلى الغرب أيضا مما يلي الجهة الشمالية أي: من جهة حجر إسماعيل اثنتين وعشرين ذراعا، وجعل له بابين ملاصقين للأرض، أولهما من الجهة الشرقية مما يلي الحجر الأسود، والآخر من الجهة الغربية مما يلي الركن اليماني على سمت الباب الشرقي، وحفر في داخله بئرا تكون خزانة له؛ ولم يجعل عليه سقفا، ولا وضع على بابيه أبوابا تفتح وتغلق. والله أعلم.
رفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، وطهراه للطائفين والعاكفين والركع السجود، وجعلاه مثابة للناس وأمنا، وخلف العمالقة وجرهم إسماعيل على مكة أجيالا بعد ذلك متعاقبة ثلاثمائة سنة، فأعاد هؤلاء ثم أولئك بناءه وزادوا فيه، وأقاموا على تعظيمه والطواف به، ولم يكن أحد يجرؤ أن يأخذ من هدايا البيت المحفوظة بالبئر مخافة ما ينزل به من عقاب رب البيت، على أن السهيلي روى في الروض الأنف: أن سارقا سرق من مال الكعبة في زمن جرهم، وأنه دخل البئر التي فيها كنزها، فسقط عليه حجر فحبسه فيها حتى أخرج منها وانتزع المال منه، ثم بعث الله حية لها رأس كرأس الجدي، بيضاء البطن سوداء المتن، فكانت في بئر الكعبة خمسمائة عام فيما ذكر رزين، ولعل رزينا والسهيلي لم يقف أحد منهما على نقوش قدماء المصريين؛ إذ كانوا يجعلون الحية التمثال الحارس على أبواب المحاريب التي تكون فيها المومياء والنفائس المدفونة معها.
وبناء العمالقة وجرهم الكعبة بعد إبراهيم مختلف عليه، ومنهم من يذكر أن أول من جدد بناء الكعبة بعد إبراهيم قصي بن كلاب الجد الخامس للنبي العربي، وأنه سقفها بخشب الدوم وجريد النخيل، والمعروف أن الكعبة كانت إلى عهد قصي قائمة في الفلاة لا يبني أحد حولها إعظاما لحرمتها، فلما آل إليه أمر مكة أمر الناس فبنوا حول البيت ولم يتركوا إلا قدر المطاف.
ولم تذكر المراجع المختلفة أن أحدا تولى تشييد الكعبة بعد قصي، وقبل أن تبنيها قريش قبيل بعث محمد نبيا، إلا ما رواه تقي الدين الفاسي في كتاب «شفاء الغرام بأخبار المسجد الحرام» أن عبد المطلب جد النبي بناها، ولعله أبدع هذه الرواية ليكسب عبد المطلب بها تشريفا، فإن ما أصاب جدران الكعبة من الوهن بعد موت عبد المطلب بعشرين سنة أو نحوها لا يتفق مع هذا القول.
أما الثابت الذي أجمع عليه المؤرخون وكتاب السيرة، فذلك بناء قريش الكعبة على عهد محمد حين طغى السيل عليها ووهن جدرانها، فلما بلغ القوم مكان الحجر الأسود اختلفوا وكادت تنشب الحرب الأهلية بينهم، ثم احتكموا إلى أول داخل من باب الصفا؛ ودخل محمد من هذا الباب وحكم بينهم بأن وضع الحجر على ثوب رفعه أهل القبائل المختلفة من أطرافه ثم رفع محمد الحجر ووضعه مكانه من البناء.
ذكرت هذا الذي تداولته الروايات المختلفة عن بناء الكعبة وأنا بموقفي في جوفها، فلما بلغت باستعراضي إلى قيام محمد بين قومه مقام الحكم في وضع الحجر الأسود مكانه، تنبهت إلى موقفي وذكرت أن رسالة محمد وما جاء فيها من فرض الحج على الناس هي التي جاءت بي إلى هذا المكان ووقفتني هذا الموقف، واقتربت من باب الكعبة أنظر إلى ما حولها، وخيلت لنفسي صورة هؤلاء الذين رفعوا الثوب والحجر الأسود فوقه، وموقف محمد منهم وهو يقضي بينهم قضاء تطمئن له نفوسهم وتستريح إليه أفئدتهم.
وما لبثت حين ارتسمت هذه الصورة أمامي أن انتقلت فجأة أرى صورة أخرى تنبعث أمامي واضحة المعالم، ممتلئة حياة وقوة، كلها الروعة وكلها الجلال؛ تلك صورة محمد والمسلمون من حوله يوم فتح مكة، فها هو ذا ممتط ناقته القصواء يجيء متجها إلى الكعبة وأصحابه من ورائه، ومن ورائهم عدد من سادة مكة وكبرائها، ويطوف رسول الله بالبيت سبعا، ثم يقف أمام بابه فيدعو السادن ليفتحه له، ويفتح عثمان بن طلحة الباب فيقف محمد فيه وقد تكاثر الناس من حوله، فيخطبهم ويتلو عليهم قوله - تعالى:
يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير ، ويسأل أهل مكة فيقول: يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ فيقولون: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، ويجيبهم: فاذهبوا فأنتم الطلقاء.
ويدور فيلقي ببصره إلى جدران الكعبة وهو واقف من بابها مثل موقفي الساعة فيرى هذا الهيكل الذي أقامه إبراهيم وإسماعيل هيكلا للتوحيد قد انقلب هيكلا للوثنية والشرك، فلم تبق من ثم له بساطته ولا بقيت له مهابته وقوته، عبث الفن بجدرانه وبجوفه، فأنشأ من الصور والتماثيل ما يأخذ النظر إليه والفكر إلى تقدير دقة صنعه عن التفكير في وحدانية الله - جل شأنه - وفي قوته وقدرته، نقشت على الجدران صور الملائكة نساء ذوات جمال، فصارت هذه الأرواح النورانية ذات كيان مادي يطغى على المعنى الروحي فيها، وصور إبراهيم وفي يده الأزلام يستقسم بها، وصور النبيون من حوله في أوضاع مادية كوضعه، وفي جانب وضع تمثال حمامة من عيدان، وقام الصنم هبل في جوف الكعبة تحف به هذه الصور على جدرانها، وهو على صورة الإنسان قد صنع من العقيق إلا ذراعا له كسرت فأبدله القرشيون منها ذراعا من ذهب، وشدت أصنام كثيرة بالرصاص إلى جدر الكعبة، ولبعضها من جمال الفن بعض ما لهبل.
أي متحف هذا المتحف؟! إن صورته لتثير في الذهن صورة قاعة من قاعات المتحف المصري بالقاهرة، أو بهو من أبهاء متاحف العواصم الأوروبية، ولم يكن أهل ذلك العصر ينظرون إلى هذه الصورة والتماثيل كما ننظر نحن اليوم إليها، ولا كانوا يعتبرونها بعض آثار الفن كما نعتبرها ، بل كانوا يبعثون إلى هذه الصور المادية حياة يتوهمونها ثم يكبرونها، ثم يشركون أصحابها في الألوهية، أو يتخذونها إلى الله زلفى؛ لذا كانت الكعبة إلى تلك الساعة حين دخلها محمد هيكل الوثنية والشرك، كما كانت هيكلهما قبل ذلك أجيالا وآجالا، أما والإسلام ينكر الشرك ويدعو إلى التوحيد كما دعا إليه إبراهيم منذ أقام البيت، فليعد بيت الله هيكل التوحيد كما كان؛ لذلك أمر محمد فطمست الصور، وحطمت الأصنام وألقيت إلى ظهورها، وطهرت الكعبة من كل أثر لها، وعادت إليها بساطة التوحيد ومهابته بمعناه الروحي السامي توحيه إلى من يطوف بها ويدخل إلى جوفها فتوجه قلبه إلى الله وحده، له وحده الحمد وله الملك وإليه يرجع الأمر كله.
يا لعظمتها ساعة من ساعات التاريخ تلك التي طهر محمد الكعبة فيها من فنون الشرك وآثامه! لقد تمثلت لي مناظرها جميعا واضحة جلية في بهاء جلالها كأنها تمر أمام باصرتي على شاشة بيضاء، بل كأنها تحيا في عالمنا من جديد كرة أخرى، وجعلت أشهدها وأنا واقف على عتبة باب الكعبة، فتمتلئ بها روحي وتتغذى بها نفسي، فيزيدني ذلك تعظيما لموقفي وإكبارا للرسول الكريم الذي محا آية الضلال، ثم تنفرج شفتاي عن كلمة هي جماع هذه الروحانية العظمى: «لا إله إلا الله، الله أكبر.»
لو أدرك المسلمون ذلك كله إدراكا حل منهم محل اليقين لما نزل بالإسلام ما نزل به، وما اجترأ على بيت الله يوما مجترئ، لكن الفتح الإسلامي أدخل في دين الله أقواما لم تمتثل نفوسهم مبادئ هذا الدين في سمو صفائها، وفي دعوتها إلى الإسلام الصحيح لله، وفي احترامها حرمة بيته احتراما وقر في النفس العربية من قبل الإسلام، ثم زاده الإسلام قوة وتثبيتا؛ لذلك قامت الفتن بعد مقتل عثمان، واستقل بنو أمية بالملك، وجعلوا دمشق عاصمتهم ... فلما آل الأمر إلى يزيد بن معاوية كان عبد الله بن الزبير ما يزال منتقضا على إمارة الأمويين، ثائرا بهم بمكة، ولقد جرد يزيد جيشا لإخضاعه وأمر عليه الحصين بن نمير، فسار إليه وضيق عليه الحصار بمكة، ولم يطق ابن الزبير ورجاله مقاومته، فلجئوا منه إلى الحرم وبنوا حول الكعبة خصاصا من القصب يحتمون بها من حجارة المنجنيق الذي نصبه ابن نمير على جبلي مكة: أبي قبيس وقعيقعان، ولم تمنع هذه الخصاص اللاجئين إليها، فقد أمر الحصين أصحابه أن يرموا الكعبة من المنجنيق بعشرة آلاف حجر، وكانوا يرمون ويرتجزون، وكانت الحجارة تصيب الكعبة حتى تمزقت كسوتها وبدت أحجارها، وأصاب الذين يقيمون بالخصاص والخيام حول الكعبة الفزع، حتى إن أحدهم ليوقد نارا في خيمة قائمة بين ركن الحجر الأسود والركن اليماني، إذ طارت منه شرارة أحرقت الخيام وتعلقت بأستار البيت، ولما كان بناء الكعبة يومئذ مدماكا من حجر ومدماكا من خشب الساج؛ فقد احترق الخشب ووهن البناء كله حتى كان وقوع الحمام على الكعبة كافيا لتناثر حجارتها.
ولقد فزع لذلك أهل مكة وأهل الشام جميعا، وترك ابن الزبير الكعبة ليراها الناس، فيكون مرآها محرضا لهم على أهل الشام، وظل الأمر كذلك، وظل الحصين بن نمير محاصرا للبلد الحرام حتى بلغه نعي يزيد بن معاوية، وتحدث إليه رجال من أهل مكة واتهموا رجاله بأنهم رموا الكعبة بالنفط، وقالوا له: أما وقد توفي أمير المؤمنين فعلى ماذا نقاتل؟ ارجع إلى الشام حتى ترى ما يجتمع عليه رأي صاحبك، يريدون معاوية بن يزيد، ورجع الحصين إلى الشام تاركا الكعبة واهية توشك أن تنقض.
خريطة مكة المكرمة.
وتحدث ابن الزبير إلى أهل مكة: ماذا يصنع بالبيت، أيصلح ما وهى منه؟ أم ينقضه ويعيد بناءه؟ وكان عبد الله بن عباس على رأي المعارضين للهدم وإعادة البناء، قال موجها كلامه لابن الزبير: دعها على ما أقرها رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فإني أخشى أن يأتي بعدك من يهدمها ويبنيها، ثم يأتي بعد ذلك آخر، فلا تزال أبدا تهدم وتبنى فتذهب حرمة هذا البيت من قلوبهم، ولا أحب ذلك، ولكن أرقعها، وأجابه ابن الزبير: والله ما يرضى أحدكم أن يرقع بيت أبيه وأمه، فكيف أرقع بيت الله - سبحانه - وأنا أنظر إليه ينقض من أعلاه إلى أسفله، حتى إن الحمام ليقع عليه فتتناثر حجارته، وأقام أياما يشاور ويستخير، ثم أجمع على هدم الكعبة، وهدمها وأعاد بناءها، وإذ كانت خالته عائشة أم المؤمنين تذكر أن رسول الله قال لها: «يا عائشة، لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه، وألزقته بالأرض، وجعلت له بابا شرقيا وبابا غربيا، فبلغت به أساس إبراهيم»؛ لذلك زاد ابن الزبير في مساحة الكعبة فأدخل فيها حجر إسماعيل بعد أن كشف على أساسها وجعل لها بابين وألصقها بالأرض.
ولما هدم ابن الزبير الكعبة وشرع في إعادة بنائها بعث إليه عبد الله بن عباس يقول: «لا تدع الناس بغير قبلة، انصب لهم حول الكعبة الخشب واجعل عليها الستور حتى يطوف الناس من ورائها ويصلوا إليها»، ونفذ ابن الزبير مشورة ابن عباس، فلما بلغ البناء الركن وآن أن يوضع الحجر الأسود في مكانه أمر ابن الزبير ابنه عباسا وجبير بن شيبة بن عثمان أن يجعلا الحجر في ثوب، وقال لهما: «إذا دخلت في صلاة الظهر فاحملاه واجعلاه في موضعه فأنا أطول الصلاة، فإذا فرغتما فكبرا حتى أخفف صلاتي»، فلما وضع الرجلان الحجر في موضعه وطوقا عليه الركن كبرا، وخفف ابن الزبير صلاته، وغضب رجال من قريش حين لم يحضرهم ابن الزبير، وأعادوا قصة تحكيم أجدادهم أول داخل من باب الصفا، وحكم رسول الله قبل بعثه بينهم، لكنهم كانوا أمام الأمر الواقع، فلم يزيدوا على أن غضبوا ثم رضوا.
ولما تم بناء الكعبة اعتمر ابن الزبير محرما من التنعيم، واعتمر الناس معه، ونحروا، وأقاموا يطعمون ويطعمون شكرا لله على تيسير بناء بيته الحرام، وكان ذلك في السنة الخامسة والستين من الهجرة.
وظلت الكعبة كما بناها ابن الزبير عشر سنوات، فلما كان عهد عبد الملك بن مروان وحاصر الحجاج ابن الزبير وقتله، كتب إلى عبد الملك يخبره أن ابن الزبير زاد في الكعبة ما ليس منها وأحدث فيها بابا آخر، ويستأذنه في رد ذلك إلى ما كان عليه في الجاهلية. وأذن عبد الملك، وغير الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر وسد الباب الغربي ورفع البناء، ورفع باب الكعبة على ما كانت في الجاهلية، وأذن عبد الملك، وغير الحجاج الجدار الذي من جهة الحجر وسد الباب الغربي ورفع البناء ورفع باب الكعبة على ما كانت في الجاهلية، ويذكرون أن عبد الملك ندم على إذنه للحجاج ولعنه وقال: «وددنا أنا تركنا أبا خبيب وما تولى من ذلك.»
وقد اختلف المسلمون من بعد؛ أفيتركون الكعبة كما بناها الحجاج؟ أم يعيدونها إلى بناء ابن الزبير استنادا إلى حديث عائشة، فلما تولى هارون الرشيد الخلافة سأل الإمام مالكا في هدم الكعبة وردها إلى بناء ابن الزبير، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك الرشيد الكعبة كما هي.
وبقي الأمر على بناء ابن الزبير وتعديل الحجاج إياه، لا يزيد المسلمون على أن يشدوا من بناء الكعبة ما قد يعتريه الوهن، فلما كانت سنة 1040 هجرية/1630 ميلادية هطل بمكة مطر عظيم استمر يومين كاملين، فدخل المسجد الحرام ثم ارتفع حتى دخل الكعبة ووهن بناءها، وكان قد انقضى على إقامته قرابة ألف عام، فلما أمسكت السماء وبدأ المطر ينحدر من الكعبة بدأت جدرانها تتساقط، وكان جدارها الشمالي أول جدار سقط، ثم سقط بعض الجدارين الشرقي والغربي، هنالك انزعج الناس وزلزلوا زلزالا شديدا، ونزل أمير مكة إلى المسجد الحرام وأمر بإخراج قناديلها خشية الضياع، وتبلغ هذه القناديل عشرين كلها من الذهب، وأحدها مرصع باللؤلؤ، وجعلت أحجار الكعبة تتساقط لشدة ما أصابها من الوهن، وجعل الناس يزدادون وجلا، ثم تقدم الأمير وجوه مكة وتبعهم الناس ينظفون المسجد وقد جرفت السيول إليه من الرمل والتراب ما تعذر معه التنظيف بغير المساحي والمكاتل، بل أحوج الأمر من بعد إلى إحضار الأبقار من جدة لتحرث أرض المسجد بعد جفافها لإزالة ما بها.
وتشاور الناس في أمر الكعبة وما يصنعون بها، وانعقد رأي الجماعة من علماء مكة وسادتها على المبادرة إلى عمارتها من مال الكعبة، وأن يعرض الأمر على السلطان، وألا يمنع أحد من عمارتها من ماله إذا لم يكن فيه شبهة.
وترامى نبأ الكعبة وما أصابها إلى الأقطار الإسلامية المختلفة، فهاج الناس له واضطربوا، ولم ير والي مصر محمد باشا الألباني أن ينتظر ورود أمر السلطان من الآستانة مخافة أن يزداد التصدع في الكعبة؛ ولأن أشهر الحج كانت قد اقتربت، فأرسل رسوله إلى مكة ليرى في عمارة الكعبة رأيه، وبلغ الرسول مكة في منتصف شوال من تلك السنة.
وانقضت أشهر الحج والسلطان يشاور أصحابه ما يصنع، فلما استقر رأيهم على العمارة بعث رسوله الذي بلغ مكة في ربيع الأول من سنة 1040؛ وكان أول ما صنع هؤلاء جميعا أن أحاطوا الكعبة بسياج من الخشب يطوف الناس به ويتخذونه قبلتهم كما فعل ابن الزبير، ثم إنهم جعلوا يتشاورون ما يصنعون، وإنهم لكذلك إذ سقط مطر هدمت منه بعض أحجار الجدار الغربي، هنالك اتجه الرأي إلى هدم ما بقي من جوانب الكعبة، ولم يقع خلاف إلا على ركن الحجر الأسود، لكن فتوى المهندسين بأن هذا الركن يوشك أن ينقض كذلك أزالت تردد القوم جميعا، فهدموا البيت كله ليقيموا بناءه ثابتا قويا.
واشترك في هذه العمارة جماعة من المهندسين «والمعلمين» المصريين، وأنفق القوم في البناء ستة أشهر وأموالا طائلة، ولم يكونوا يعيدون من الأحجار التي بنى ابن الزبير بها الكعبة إلا ما وجدوه ما يزال صلبا قويا، فأما ما وهن أو ضعف فكانوا يستبدلون به غيره، ولم يجدوا في ذلك مشقة، وقد كان لا يكلفهم إلا تسوية الأحجار ودقة نحتها، لكنهم واجهوا مشكلة ذات خطر حين أرادوا أن يضعوا الحجر الأسود مكانه، فهذا الحجر كان قد أصابه بعض التصدع في عهد ابن الزبير؛ فلم يجد مشقة في شده وتقويته وربطه بسور من الفضة، فلما أراد البناءون وضعه مكانه أثناء هذه العمارة الأخيرة في عهد السلطان مراد ألفوا به شطوبا مستطيلة ورأوا الفتات يتناثر منه، وللحجر الأسود من التقديس ما لا يصح معه أن يسقط من أجزائه كثير أو قليل، أو أن يتناثر منه فتات ولو كان ضئيلا؛ لذلك عالجه المهندسون على هدي فن المعمار، مصطنعين الصبر والأناة، مستهينين بكل مشقة أو تعب، عاملين على ملء ما بين أجزائه بمركب يعيد إليها قوتها ويكفل بقاءها مشدودة في إطار الفضة لا يصيبها سوء.
ولما فرغ القوم من بناء الكعبة وسقفها ووضع عمدها وترميمها، بنوا حجر إسماعيل، وكانوا حريصين على أن يعيدوا من أحجاره ما نقرت فيه أسماء من سبقوا إلى عمارته، على أنهم ألفوا رخامة مفقودة من الجدار الذي تم بناؤه في عهد ملك مصر الملك الأشرف «قانصوه الغوري»، فلم يعنوا أنفسهم بنقش غيرها ليضعوها مكانها، بل وضعوا رخامة ملساء، ولعلهم في ذلك قد أخذوا بإحدى النظريات التي يقرها الفن الحديث للمعمار، إذ يحترم صنع الزمن بالأشياء فلا يحاول ردها إلى أصلها أو إبدال ما يشابهها بها، بل يقوي مكانها مكتفيا بذلك، معتبرا إياه بعض ما يوجب الفن في عمارة الآثار التاريخية.
ولما أتم القوم البناء كتبوا محضرا أرسلوه إلى مصر فيه شهادة المكيين بحسن عمارة البيت المعظم، وفي ذلك اعتراف بما كان لمصر من مجهود في هذه العمارة فاق كل مجهود قامت به أية أمة إسلامية أخرى، ولا عجب في ذلك وقد أرسلت مصر جميع ما يلزم لهذه العمارة، وأنفقت مع ذلك ستة عشر ألفا من الجنيهات لإتمامها.
وهذا البناء الذي شاركت فيه مصر بالحظ الأوفر هو بناء الكعبة القائم اليوم.
أنا الآن أقف إذن من بيت الله الحرام في بناء شاده أجدادي وبنو وطني، هذا البناء ما يزال قويا إلى اليوم، ولن يزال قويا على الزمن ما في طبيعة بناء تشيده الأيدي المصرية أن يقف قويا على وجه الزمن، نعم! أنا أقف حيث وقف إبراهيم وإسماعيل، وحيث وقف النبي العربي - عليه السلام، وحيث وقف ألوف وملايين من الناس كانوا إلى ما قبل العمارة الأخيرة للكعبة يذكرون العرب الذين بنوها أيام قصي وأيام ابن الزبير، وهم اليوم يذكرون العالم الإسلامي كله، ويذكرون مصر درة التاج من هذا العالم الإسلامي كله، ولكن، أفيساورني فخر بمصريتي وأنا هنا في بيت الله، ونحن جميعا عباد الله عبودية لا تعرف وطنا ولا تعرف فخرا ولا غرورا، بل تعرف الحب والأخوة للمؤمنين جميعا فلا يكمل إيمان الإنسان إلا إذا كملا؟!
وخجلت من تفكير شابه الغرور الإنساني، واستغفرت الله منه، وعدت إلى تفكير أكثر سموا، عدت إلى التفكير في موقف الرسول من الكعبة في حجة الوداع؛ في موقف هذا البشير الهادي يحف به مائة ألف أو يزيدون وهم يستغفرون الله جميعا ويتوبون إليه، وهو على رأسهم يعلمهم مناسك حجهم، وهو ليس دونهم استغفارا وخضوعا لله، مع ما يعلمه من أنه رسول ربه، وأنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، واحتمل في سبيل ذلك ما تنوء به العصبة أولو القوة، لكنه يعلم - كذلك - أنا أبدا في حاجة إلى مغفرة الله لنا ورضوانه عنا، وأن الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأنه - جل شأنه - له الأمر وهو العفو الغفور، فكرت في هذا الموقف الأخير للرسول وطوافه بالبيت وطواف مائة ألف من المسلمين وراءه وهو مع ما جاوز الستين يسرع في أشواط الطواف الأولى والمسلمون يسرعون إسراعه، وهو يذكر وهم يذكرون يوم طاف في عمرة القضاء ومعه ألفان، وهو يسرع ويقول لأصحابه: «اللهم ارحم امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة.» والمشركون من أهل مكة ينظرون من أعلى الجبال إلى أولئك الذين زعموهم ضعافا أرهقتهم يثرب وأرهقتهم الحروب، فإذا هم البأس والقوة والعزيمة الصادقة بإذن الله.
كان أهل مكة ينظرون إلى المسلمين في أثناء طوافهم وراء نبيهم في عمرة القضاء، أما في حجة الوداع فكان أهل مكة قد أسلموا وقد أصبحوا مع سائر العرب بنعمة الله إخوانا، وكانوا يطوفون بالبيت مع الطائفين، ويذكرون الله مع الذاكرين، وقد هداهم الله إلى الدين القيم، وأنجاهم من ضلال الشرك ومذلة الوثنية.
ألا إن هذا البيت العتيق لينطوي من أسرار التاريخ وعبره على قدر يعادل ما يستكن في جوفه هيكلا للتوحيد من مهابة وجلال، وإن هذا الجو الذي يبدو صامتا حوله لمليء من أصداء العبادة بما لو انفرج عنه كما تنفرج أسطوانة الحاكي عن الأصوات المسجلة عليها لدوت الأرض كلها مؤمنة مقدسة منادية نداء يسمعه أهلها وأهل السماء جميعا: لا إله إلا الله والله أكبر.
وآن لي أن أهبط من الكعبة إلى المطاف وإلى المسجد، فودعت السادن وودعني بكلمات كلها الرقة والظرف، وقصدت مذ هبطت إلى حجر إسماعيل وإلى مقام إبراهيم فصليت فيهما، وغادرت المسجد الحرام بعد ذلك ممتلئ القلب روعة وإكبارا وتعظيما، وكل ما حولي يدوي في أذني بذكر الله والتسبيح بحمده: ربنا لك الحمد.
آثار مكة
قل من زوار مكة من يعنى بحاضرها، وما يجيش بخاطر أهلها من رجاء في هذا الحاضر وأمل في المستقبل، فهم يقصدون إليها ليحجوا بيت الله كيما يغفر لهم ربهم ذنوبهم ويطهرهم من ماضي حوباتهم، وبيت الله فيها هو لذلك مثابتهم، فإذا أقاموا بها التمسوا مزيدا من المثوبة بزيارة ما بها من آثار النبي وأهل بيته والسلف الصالح عليهم رضوان الله أجمعين؛ من ثم كانت نفوسهم لا تتعلق مما في مكة إلا بما يتصل بالماضي البعيد ابتغاء ثواب المستقبل في الآخرة، فإذا عناهم من أمر مكة غير ذلك شيء فما يبتاعونه منها تبركا به، وحبا في ثواب ينالهم أو ينال من تهدى إليه هذه البركات من ذويهم والمقربين منهم.
ولقد أردت أن أقوم بزيارة هذه الأماكن التي يضفي أهل مكة عليها ثوب التاريخ لعلي أجد فيها من الفائدة العلمية ما يشيد بذكرى الذين شادوا المساجد والذين يرقدون الرقدة الأخيرة في المقابر، وتحدثت في ذلك إلى غير واحد من شبان مكة ومن أولي الرأي فيها، ولشد ما كان عجبي لقولهم: إن هذه الآثار لا تجد سندا ثابا من التاريخ، وإن المؤلفين مختلفون على أكثرها إن لم يكن عليها جميعا ... وبلغ بعضهم في تأكيد رأيه أن قال: إن ما يروى عما سوى الكعبة وما يحيط بها بالمسجد الحرام وعن حراء وثور كله رجم بالغيب، وهو إلى القصة أدنى منه إلى أنباء التاريخ، وأردت أن أمحص قولهم، فرجعت إلى بطون ما استطعت الرجوع إليه من الكتب، فلم أجد فيها ما يطمئن إليه السند العلمي الصحيح، وإن روى بعضهم من الأنباء المتواترة عن بعض هذه الآثار ما يجعل الإنسان يتردد بين صحة النبأ وبطلانه ترددا ينفي الثبوت العلمي، ولكنه لا يثبت النفي العلمي كذلك.
وأفضيت إلى مضيفي بقصدي، فأنبأني أن الشيخ عبد الحميد حديدي خير من يرشدني إلى ما أقصد إليه، والشيخ عبد الحميد حديدي يعمل الآن مع الشيخ عباس قطان في أمانة العاصمة، وكان قبل ذلك قد اشتغل بالتعليم في جدة، وبالقضاء عند أدنى حدود الحجاز من اليمن، كما تثقف بالأسفار إلى الهند وجاوة حين شبت نيران الثورات والحروب بالحجاز في العهد الأخير، ولم أسأله عن سنه، ولكنه يبدو في جوار الخمسين، وهو رجل أسمر اللون كسمرة العرب، مديد القامة نحيفها، لا يلبس العقال بل يكتفي «بالصمادة» على عادة أهل العلم في بلاده، وكانت معرفتي به في هذا اليوم مقدمة صحبة اتصلت طوال إقامتي بالحجاز إلى يوم سفري من ينبع إلى مصر، ولقد أنست إلى هذه الصحبة واطمأننت إليها كل الاطمئنان، وهل كنت أطمع في أكثر مما كان عبد الحميد عليه من سعة الفكر، والبعد عن التعصب، وعدم التقيد إلا بموجب العقل، ومن تبادله الرأي لذلك معي تبادلا حرا في كل ما يعرض لنا حين نقف أمام مشهد نمحص ثبوته التاريخي أو موضعه من أنباء حياة الرسول، وأبدى الرجل من هذا اليوم الأول اغتباطا بصحبته إياي، فشكرته عليه ولن أنساه له.
وكان الشيخ عبد الحميد حديدي يشاطر شبان مكة رأيهم أن ما بمكة من الآثار ليس له من التاريخ سند ثابت على رغم كثرته؛ ولعل ذلك هو الذي جعله لا يبدي كبير اهتمام بزيارتي وإياه هذه الآثار أول الأمر، وخاصة زيارة ما لم يكن منها وثيق الاتصال بحياة محمد، ولعل سببا آخر دعاه إلى ذلك، فلقد كان لكثير من هذه الآثار فيما مضى قيمة فنية بما أقيم عليه من قباب، وما شيد لذكره من مساجد ، أما اليوم - ومذ حكم الوهابيون بلاد العرب - فقد هدمت هذه الآثار الفنية وامحت رسومها، فهم أعداء ألداء لكل ما يحسبونه يورث الشبهة في توحيد الله - جل شأنه، وهم يرون في المقابر وزيارتها وإقامة القباب عليها إشراكا يجب القضاء عليه، وهم يرون فيها - على الأقل - منكرا تجب إزالته.
وما عسى أن تغني مثلي زيارة آثار لم يبق منها اليوم إلا ما يحفظه الناس أو يروونه عنها؟! وأية فائدة في أن أذهب إلى مقابر المعلاة مثلا حيث قبر خديجة وقبور أجداد النبي وأعمامه، وقد سويت هذه القبور بالأرض وأصبح ما يرويه حراس المقابر عنها أشبه شيء بحديث خرافة، ولم يخف عبد الحميد ما ساوره من ذلك، ولم يخف أسفه على زوال القباب الجميلة التي كانت مزارا لعشرات الألوف من الحجاج، والتي كانت تدر لذلك على مكة الخير الوفير، لكنني أبديت من الحرص على زيارة هذه الآثار ما أزال تردده، ولم يلبث حين تبادلنا الحديث بعد زياراتنا في اليوم الأول أن أقبل يضع خطط تجوالنا بهمة لا تعرف الملل.
وكانت مقبرة المعلاة أول ما اتجهت إليه زيارتنا، وإن بي لزيارة المقابر لهوى ملحا؛ فالمقابر مستقر الأعزاء الذين سبقونها إلى دار الخلد، وهي مستقر الإنسانية وموضع سكنها بعد الفراغ من واجب الحياة، والمقابر هي العبرة الباقية تحدثنا عن الوجود وتصور لنا قيمته، أليس القبر هو الإنسانية الماضية كلها، بل الحياة الماضية كلها لهذا الكون؟! وإذا صح ما قيل من أن من مات قامت قيامته فالقبر هو المظهر المادي لصلة الأحياء والأموات، والأموات هم إخواننا وآباؤنا وأبناؤنا الذين سبقونا إلى الرحيل، والذين يتصلون بنا بعد موتهم بما خلفوا لنا من آثارهم، ونتصل بهم نحن اتصالا لا ينقصه إلا تبادل المنافع في الحياة، ألم يخاطب الرسول - عليه السلام - قتلى بدر من المشركين بعد أن دفنهم المسلمون في القليب بقوله: «يا أهل القليب هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإنني وجدت ما وعدني ربي حقا؟!» فلما تحدث المسلمون إليه قائلين: «يا رسول الله أتنادي قوما جيفوا؟!» كان جوابه : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني.»
ومقبرة المعلاة تقع في الشمال الشرقي من مكة، وهي فضاء فسيح محصور بين الجبال من شماله وغربه، وتفصل بينه وبين الجبال من الشرق بعض المساجد والمساكن، ويتصل من الجنوب بمنازل أهل مكة، وهذه المقبرة قديمة ترجع إلى عهد الجاهلية، وهي ما تزال - مع ذلك - مقبرة أهل مكة في هذا الزمن الحاضر، ولعل بقاءها مقبرة حتى اليوم يرجع إلى تقديس المكيين للقبور القديمة التي بها أكثر مما يرجع إلى رغبتهم عن اتخاذ مقبرة لمدينتهم فيما وراء الجبال التي تحصرها.
وقبور المعلاة مسواة بالأرض اليوم، وهي لم تكن كذلك قبل أن يدخل الوهابيون الحجاز، ويفصل بينها وبين الطريق منحدر من الأرض يسمو بها وبما تحويه من ذكريات إلى سفح الجبل، وإنك لترى بها على رءوس قبور شواهد نقشت عليها بالخط الكوفي أو بالخط الثلث الجميل آيات قرآنية في أغلب الأمر، وأسماء ساكني هذه القبور في بعض الأحيان، ولقد صحبنا حارس المقبرة في مسيرنا يهدينا أثناءها إلى مقابر بعض الصحابة والتابعين.
وتقدمنا غير بعيد، ثم وقف يشير بإصبعه إلى قبر ذكر أنه قبر عبد الله بن الزبير صاحب الجهاد المشهور في مقاومة بني أمية، والذي أقام بناء الكعبة في السنة الرابعة والستين من الهجرة بعد أن رماها الحصين بن نمير قائد جيوش يزيد بالمنجنيق، وإلى جانب قبر ابن الزبير أشار الحارس إلى قبر آخر ذكر أنه قبر أمه أسماء بنت أبي بكر، ومد الحارس بصره إلى ناحية الجبل من الشمال ومددنا البصر معه، فأشار إلى جدار قائم في سفح الجبل يحجب ما وراءه ولم ينبس ببنت شفة، أما الشيخ عبد الحميد حديدي فقد أخبرني أن الإخوان الوهابيين شادوا هذا الجدار ليستروا به قبر خديجة أم المؤمنين وقبور بني هاشم من أجداد الرسول عن الأعين؛ وليحولوا بين الحجاج وزيارتها للتبرك لها؛ لأنهم يرون في الزيارة والتبرك إثما، هو إثم الشرك بالله، أو اتخاذ هذه القبور زلفى إليه، وهذا أو ذاك يخالف عقيدتهم الإسلامية ويجعلهم يرمون من يقدم عليه بالمروق والكفر.
وتقدمنا الشيخ عبد الحميد إلى ناحية هذا الجدار متخطيا المقبرة التي كنا بها إلى فضاء يعترض السبيل إليه عارض من خشب سد به الطريق، وطأطأنا رءوسنا واجتزنا هذا العارض، وتسلقنا السفح حتى كنا عند باب قديم قائم في الجدار الذي بصرنا إليه، ودق عبد الحميد الباب بيده، وشعرنا بحركة وراءه، ذلك حارس هذه المقبرة المحرمة يزيل الأحجار التي أوصد بها الباب حتى لا يقتحمه مقتحم، وفتح الحارس المصراع، ودخلنا فحيانا بتحية من يعرف الشيخ عبد الحميد ومن كان معنا من ذوي قرابة أمين العاصمة، وبعد هنيهة أشار إلى قبر على يسار الداخل قال: إنه قبر خديجة بنت خويلد أم المؤمنين، وجدة جميع المنتسبين إلى الرسول بأنهم من أبناء ابنته فاطمة وابن عمه علي بن أبي طالب، وقد سوي هذا القبر بالأرض كما سويت سائر القبور بأمر الوهابيين، وتقدمنا خطوتين بعد ذلك إلى قبور قال الحارس: إنها قبور جدي الرسول: عبد المطلب وعبد مناف وعمه أبي طالب، ثم أشار إلى قبر ذكر أنه قبر أمه آمنة، ولم يدهشني ما ذكره عن قبر آمنة مع علمي أنها توفيت ودفنت بالأبواء بعد الذي ذكره أهل مكة عن هذه الآثار وقيمة سندها من التاريخ، فالقول: بوجود قبر آمنة في هذا المكان إنما كان يقصد به إلى الاستزادة مما يدفعه الحجاج أثناء زيارتهم هذه القبور للتبرك.
وعدت أدراجي خطوات، ووقفت مستقبلا قبر خديجة، هنا إذن يرقد جد النبي وعمه اللذان احتضناه طفلا أيام يتمه! وترقد زوجه الوفية التي وهبته مالها وقلبها وحبها وروحها أيام شبابه وبعد بعثه! في هذه البقعة يثوي أولئك الذين شب محمد بينهم واستظل ببرهم ورعايتهم من يوم ولد إلى أن جاءهم الموت لسنوات بعد رسالته تعرض أثناءها للسوء والأذى والهلاك، عبد المطلب! أبو طالب! خديجة! ما أجل هذه الأسماء وأبقاها على الدهر مذكورة بالتعظيم والإكبار! وإنما بقاؤها واحترامها في اتصالها بهذا الاسم الأكبر؛ اسم محمد النبي العربي الذي استعذب العذاب في سبيل الحق وهداية الناس أداء لرسالة ربه.
فعبد المطلب الجد البار العطوف هو الذي كان يجلس كل يوم إلى جوار الكعبة مثابة عبادة العرب جميعا، فإذا جاء حفيده الطفل اليتيم أدناه منه وأجلسه معه على فراشه وربت على كتفه وغمره بحبه وإعزازه، وأبناؤه أعمام هذا الطفل جلوس من حول الفراش ما يدنو منهم أحد كما يدنو هذا الطفل، ولا العباس الذي كان ضريب محمد في سنه وطفولته.
وأبو طالب العم المسن هو الذي احتضن محمدا من يوم مات عبد المطلب ومحمد ما يزال في الثامنة من عمره، والذي بقي يوليه من العناية والرعاية أكثر مما كان يولي أبناءه إلى أن شب عن الطوق وتزوج خديجة، والذي أظله بحمايته حين دعا إلى دين الله، ووقف دونه مخافة أن يناله من قريش أذى، ولئن ينسى التاريخ من أحداثه ما عساه أن ينسى ليذكرن أبدا في لوحه يوم مشت قريش إلى أبي طالب تنذره بالحرب إن لم يسلم ابن أخيه أو ينهه عنهم، وليسطرن بأحرف من نور كلمة محمد حين دعاه عمه وقص عليه أمر قريش وقال له: «فأبق علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق»، ليسطرن بأحرف من نور قول الرسول لعمه: «يا عم، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.»
أما خديجة التي اختارت محمدا لنفسها، والتي ضحت من أجله بمالها، والتي آمنت برسالته أول ما أفضى بها إليها، والتي كانت سنده وقوته في أدق الساعات التي مرت به أول نزول الوحي عليه وحين إيذاء قريش إياه، أما خديجة أم المؤمنين فلن يفيها حقها كل ما يسجله التاريخ إشادة بذكرها، فكيف لا تخلد هذه الأسماء في لوح الوجود خلود إجلال وتعظيم وإكبار؟!
وآن لنا أن ننصرف من المقبرة، فاستوقفنا الحارس إذ مد يده ممسكا بها قطعة من القاشاني الأخضر الجميل اللون زينت أطرافها بنقش فني دقيق وقال: «هذه قطعة من جدار القبة التي كانت على قبر السيدة خديجة!» فقد كان على قبر خديجة قبة شاهقة بارعة الجمال، يذكر المؤرخون أنها بنيت في السنة الخمسين والتسعمائة من الهجرة أثناء ولاية داود باشا بمصر، وأن الذي بناها أمير دفاتر هذا الوالي، الأمير الشهيد محمد بن سليمان الجركسي، وقد أزال الوهابيون هذه القبة فيما أزالوا من القباب أول دخولهم مكة إرضاء لهوى إيمانهم، ثم بقيت صورتها الشمسية تشهد بأنها كانت آية بارعة الجمال في فن العمارة براعة تصد من يفهم هذا الفن عن أن يصيبها بسوء، وكانت إلى جوارها قباب لجدي النبي عبد المطلب وعبد مناف ولعمه أبي طالب، بذلك كانت هذه المقبرة بدعا يعشقه من يحبون جمال الفن، وكان الناس يزورونها إجلالا لهذه القباب وتبركا بذكرى ساكنيها، أما اليوم فلا يفكر أحد في القباب وقد أزيلت، ولا يزور أحد القبور وقد حيل بين الناس وبينها بهذا الجدار الذي يصدهم عنها، على أنهم ما فتئوا يحضرون اليوم كما كانوا يحضرون من قبل فيقفون عند هذا الحاجز الذي تخطيناه قبل أن نصعد سفح الجبل فيقرءون الفاتحة ويلتمسون البركة ثم ينصرفون.
قال صاحبي: أرأيت كيف عدا الوهابيون على آثار أهل بيت النبي ولم يرعوا لعواطف المسلمين إزاءها حرمة! وأجابه آخر: وهل كان لشيء من هذه الآثار وجود في عهد النبي؟! إنما أحدثها الذين حسبوا فيها قربي إلى الله يثابون عنها، وأزالها الذين يرون في بقائها ما لا يرضي الله والرسول؛ فالأمر من هذه الناحية نضال بين عقيدتين، وفعل الذين أزالوها أدنى في عقيدتهم إلى حكمة الإسلام وسنة الرسول، لما توفي إبراهيم ابن الرسول وتم دفنه، أمر أبوه بسد القبر، ثم سوى عليه بيده ورش الماء وأعلم عليه بعلامة، وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه»، ولقد سوي قبر خديجة بعد دفنها في حياة زوجها ولم يقم عليه أحد قبة في عهده، ولا أقام أحد عليه قبة في أيام خلفائه من بعده، وبقي القبر ألف سنة حتى جاء هذا الأمير الشهيد الجركسي فأقام القبة التي هدمها الوهابيون، وإنما شاع بناء القبور والقباب في عهد الانحلال، ومنذ بدأ الناس يتخذون من سبقوهم زلفى إلى الله، فليس من الحق وذلك نبأ التاريخ أن يوصف عمل الوهابيين - إذ هدموا هذه القباب - بأنه عدوان على أهل بيت النبي، إنما هو نضال بين عقيدتين كما قدمت، وما دام الباعث على بناء هذه القباب قد كان باعثا دينيا، فيجب أن ينظر في حكم إقامتها وهدمها إلى ما قرره الإسلام في كتاب الله وسنة رسوله، ولو كان الباعث لإقامة القباب غير ديني لوجب النظر في إقامتها وهدمها نظرة أخرى، ولكان حقا أن يلام الوهابيون على ما صنعوا أبلغ اللوم.
كأنما شجعت العبارة الأخيرة صاحبي، فقد انبسطت أساريره لسماعها واتجه إلي بعد أن كان يسبقنا إلى باب المقبرة وقال: ولم لا نعتبر الباعث إنسانيا هو أن تهوي أفئدة من الناس إلى أهل هذا البلد الأمين القائم بواد غير ذي زرع؟! ولم لا نعتبره دينيا دعا إليه تشجيع الذين يؤمنون بعقيدة المقابر والقباب إلى أداء فرض الله بحج بيته؟! لقد أضاع الوهابيون على مكة بهدم القباب موردا من خير موارد المال فيها، وإنهم ليحسون ذلك اليوم وبعد أن أقاموا بمكة كما نحسه، ولعلهم يأسفون على ما ضيعوا، وإن كنت في ريب من أن يجد الأسف على أمر إلى نفوسهم سبيلا.
وشاركت في الحديث فقلت: لو أنك يا صديقي رجعت الباعث على بناء هذه القباب إلى فكرة في فن العمارة لشاركتك في تأثيم الذين هدموها، فللفن جلال وسلطان في حياتنا اليومية وفي حياتنا الروحية جاهل من ينكرهما، وكان لأتباع ابن عبد الوهاب مندوحة عن هدم هذه الآثار الفنية الجميلة بتحريم التقرب إلى الله بوساطة المدفونين طي ثراها تقربا ينكره مذهبهم في الإسلام؛ ومن ثم أراهم حقيقين بالتثريب عليهم ولومهم، ولو عنف لذلك من شاء في هذا اللوم ما خالفته، لكنني في ريب من أن تفيد القباب بعد ذلك في جلب المال إلى مكة أو جعل أفئدة من الناس تهوي إلى أهلها.
أتممنا هذا الحديث ونحن في طريقنا إلى السيارة كي نجوس بها خلال مكة، وأمسك صاحبي حين ركبناها فلم يتابع حواره، وانطلقت بنا السيارة تقف عند مسجد مرة، وعند بئر أخرى، وعند دار تارة، وعند شعب أو مضيق في الجبل طورا، وكذلك فعلنا أياما تباعا، وعبد الحميد يقف مستقبلا الأثر الذي نقف عنده موقف الدليل أو الحارس يقص علي ما تسطره الكتب وما ترويه الأساطير عن كل واحد منها، بذلك حصلت فكرة، لا أقول عن آثار مكة، ولكن عما يروى عن هذه الآثار اليوم، ومنها ما هو باق يدل مظهره على شيء من القدم، ومنها ما لم يبق له على وجه الحياة أثر.
المساجد الأثرية بمكة لا شيء من الجمال ولا من الفن فيها، ولا عجب، فهي لم تقم للعبادة ولا لاجتماع الناس بها، فالناس من أهل مكة ومن زائريها من حجيج بيت الله يقصدون المسجد الحرام ولا يقصدون مسجدا غيره؛ لذلك نرى هذه المساجد الأخرى لا تزيد على مربع من الأرض تحيط به جدران غاية في البساطة، يعلو من ناحية المحراب سقف ساذج يستند إلى عمد ليست دون السقف سذاجة في بنائها، وقل أن تجد بالمسجد حصيرا أو قشا أو أي فرش يشعرك أن الناس يصلون فيه، بل الأرض فيه عارية يكسوها التراب، فإذا سألت: فيم إذن أقيمت هذه المساجد؟ علمت أنها أقيمت ذكرى لحادث وقع حيث تقوم، فهي إذن أدنى إلى أن تكون نصبا تذكاريا تحتفظ بأنباء تسجلها بطون الكتب أو يرويها الرواة منها إلى أن تكون بيوتا يذكر اسم الله فيها، أو مقصدا للناس كي يقيموا الصلاة بها.
وقفنا قبالة مقبرة المعلاة عند مسجدين متجاورين؛ أحدهما مسجد الراية، والآخر مسجد الجن، وسمي الأول مسجد الراية لما يذكر من أن الرسول - عليه السلام - ركز رايته عام الفتح حيث يقوم اليوم هذا المسجد، وسمي الآخر مسجد الجن؛ لأن الله أوحى إلى النبي في هذا المكان الذي كان الجن يستمعون فيه إليه:
قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا . ولمسجد الجن باب بأسفل الطريق غير بابه المطروق، وينزل من شاء إليه بضع درجات دون مستوى أرض المسجد، وأهل مكة يذهبون إلى أن الجن كانت تستمع في المكان الذي يؤدي هذا الباب إليه؛ ولذلك كان الناس يزورونه، وقد أقفل هذا الباب في العهد الأخير بالطين والحجر منعا للتبرك بزيارته.
وهذان المسجدان من الطراز الذي ذكرناه، والذي يعتبر طراز المساجد في مكة جميعها، وقد زرت عددا منها، بينها مسجد الإجابة ومسجد حمزة، فلم أجد ما يدعو إلى استقصاء شيء عن سائرها، ولم يكن تشابهها في العمارة هو وحده الذي أطفأ ظمأ تطلعي، بل أطفأه كذلك أنك لا تقف على نبأ صحيح للذكرى التي يقوم المسجد شاهدا عليها، فالناس لا يعرفون عن مسجد حمزة القائم بحي المسفلة أكان موضعا لمولده أم كان أثرا لنبأ لم يدون في بطون الكتب؟ وكل ما يذكره الذاكرون عن مسجد الإجابة - القائم داخل الشعب على مقربة من حراء ومن قصر الملك - أنه قائم حيث حل النبي - عليه السلام - إحرامه بعد عوده من منى، ولئن صح ذلك لكان بعد حجة الوداع، وهذا أمر لا يقطع بصحته أحد.
والحق أن تعيين الأمكنة التي نزل فيها الوحي، أو التي أوى إليها الرسول في مناسبة ما ليس أمرا ميسورا، فكتب السيرة لم تكتب إلا بعد قرنين أو نحوهما من وفاته، والحديث لم يجمع كذلك ولم يدون إلا في عهد العباسيين، وإلى يومئذ كان المسلمون في شغل بالغزو والفتح وبالثورات الأهلية عن تدوين آثار الرسول، بل لقد اختلفوا في جواز تدوينهما، حتى نادى عمر في الناس: إن من كان عنده شيء عن الرسول غير القرآن فليمحه، والخلاف واقع على آثار أدنى بطبعها إلى التحديد من المواضع التي نزل فيها الوحي بسورة من السور أو آية من الآيات، فهو واقع على أماكن لها خطرها، كتحديد مكان حنين، وهي من أشهر غزوات الرسول وفيها نزل قرآن، وتحديد منازل الوحي بالسور والآيات لم يتيسر إلا فيما اتصل من هذه السور والآيات بحوادث معينة، والخلاف مع ذلك واقع على التحديد الدقيق للمواضع التي نزلت فيها هذه الآيات والسور، وعلى الحوادث التي نزلت فيها، ولا جرم إذن أن يتعذر القول بصحة ما للمساجد القائمة اليوم من دلالة على الآثار المسندة إليها، والراجح أنها أقيمت على الظن لا على اليقين، وأقيمت لأغراض تتصل بهوى النفوس إلى مكة أكثر مما أقيمت لأغراض علمية ثابتة.
فأما ما سوى المساجد من آثار فبعضه أدنى إلى الصحة فيما يدل عليه، وإن لم يكن أوفر حظا من الثبوت العلمي لمن أراد البحث والتمحيص الدقيق.
والآبار بعض هذه الآثار، وهي تختلف عن المساجد في أنها لم تنشأ بعد أجيال من عهد النبي ذكرا لقصة أو حديث رواه الرواة أو تداوله الكتاب، بل كان منها في عهد النبي عدد غير قليل اندثر بعضه وجد من بعد غيره، لكنك قل أن تعثر في تواريخ مكة على شيء ثابت عنها، وما سوى زمزم من الآبار تختلف عليه الرواية أشد الاختلاف.
وليس يذكر «الأزرقي» في كتابه «أخبار مكة» عن آبار الجاهلية إلا الشيء القليل، وإن ذكر أساطير شتى عن الآبار التي أنشأتها قريش حين بدأ تكاثر الناس بأم القرى، فأما ما جد بعد الإسلام فكثير، بقي موضع الرعاية ما استقى الناس منه، فلما أجرت زبيدة زوج الرشيد الماء إلى مكة لم يبق ما يثير العناية بهذه الآبار، وإن احتفظ أهل مكة منها بما علقوا عليه ألوان القصص الديني ليثيروا به تطلع الذين يزورون مكة، والذين يبتغون أثناء زيارتهم إياها كل سبيل للتبرك والمثوبة.
كنت أحفظ في حياتي كثيرا من الشعر العربي نسيت الآن أكثره، ومما لا يزال عالقا بذاكرتي قول الشاعر:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
ولم يكن للحجون ولا للصفا أية صورة معينة في ذهني، وقد عرفت الصفا حين سعيت بين الصفا والمروة، وعرفت أنها ربوة أحيطت بالجدران، أما الحجون فطريق بين جبلي كدي وكدى ، ويقع أولهما بأعلى مكة، ويسير الآخر حتى يصل إلى أسفلها، وطريق الحجون يصل بين السفوح التي تقع عليها مقبرة المعلاة وما عند المسفلة نحو الجنوب من مكة، ولقيتنا أول ما برزنا من الحجون بئر عليها بناء غير مرتفع، قال صاحبي: إنها بئر طوى، وإن الرسول اغتسل منها حين دخوله مكة عام الفتح؛ ولهذا يسن الاغتسال منها عند دخول مكة، ويضبط الأزرقي وغيره من قدماء المؤلفين اسم هذه البئر على أنها الطوى، والبناء القائم عليها بناء حقير لا أحسب الذين أقاموه قصدوا إلى أكثر من إعلام البئر وحفظها به، والبئر من داخل البناء قد أحيطت فوهتها بأحجار تشبه البناء، وتدلت فيها دلو يشدها حبل غليظ معلق إلى بكرة أحدثها المعاصرون من أهل مكة.
ولم أقف داخل مكة على آبار أخرى غير بئر عثمان المنسوب إحداثها إلى عثمان بن عفان، وهي تقع الآن في رباط المغاربة، والدخول إلى هذا الرباط واجتيازه إلى البئر يعيد إلى الذاكرة أشد أحياء القاهرة القديمة قذارة وبعدا عن أسباب الصحة؛ فقد اجتزنا حارة ضيقة لا تدخلها الشمس، قذرة لا تنظفها مكنسة، تزكم الأنف روائح تفوح منها وتجري فيها جراثيم الأنيميا، ودخلنا الرباط، فكأننا دخلنا مستوقدا أو شرا من مستوقد، ولقد حدثتني نفسي أن أعود أدراجي قبل أن نبلغ البئر لولا الحياء ممن معي من أهل مكة، ومدخل الرباط أشد من مدخل الحارة ضيقا وأكثر قذارة، وألفيت إلى جانب جدرانه أشباحا أحسبهم أشخاصا يعيشون في هذا الرباط، وبلغنا البئر فإذا فوقها بناء أكثر ارتفاعا من بناء بئر طوى، وفوهتها كفوهتها محاطة بأحجار البناء، يتدلى فيها حبل يدور على بكرة، ويمسك في نهايته دلوا هي التي يمتح بها ماء البئر.
الدور التاريخية بمكة أثبت نسبا من المساجد والآبار، وإذا قامت الشبهة في نسب الكثير منها، فبعضها متواترة أنباؤه ولا يشتد عليه خلاف، وأنت واجد من ذكر هذه الدور الشيء الكثير في أقدم ما كتب من تواريخ مكة، لكن ما يتصل منها بعهد الرسول وما يثبت على التاريخ قليل.
ودار الأرقم أو الخيزران من أشهر هذه الدور وأثبتها نسبا، وهي تثير في النفس ذكرى من أروع الذكريات في حياة محمد - عليه السلام، فقد كان يجلس في هذه الدار يوما مع أصحابه والإسلام لا يزال في أول عهده، وقريش ما تزال تحاول القضاء عليه، وكان عمر بن الخطاب على الجاهلية إلى يومئذ، ولقد فكر في أن يريح قريشا من هذا الذي سب آلهتها وفرق أمرها بأن يذهب إليه فيقتله، ولقي في طريقه نعيم بن عبد الله وأظهره على طويته، قال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهل بيتك وتقيم أمرهم؟! وكانت فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد قد أسلما.
وكر عمر راجعا إليهما حين عرف من نعيم أمرهما، ودخل البيت عليهما وعندهما من يقرأ القرآن، فلما أحس أهل الدار دنوه، اختفى القارئ وأخفت فاطمة ما يقرأ، وسأل عمر: ما هذه الهينمة التي سمعت؟! لقد علمت أنكما تابعتما محمدا على دينه، وبطش بسعيد، فقامت فاطمة تحمي زوجها فصدمها فشجها، إذ ذاك هاج هائج الزوجين وصاحا به: نعم أسلمنا، فاقض ما أنت قاض! واضطرب عمر حين رأى ما بأخته من الدم، وغلبه بره وعطفه فارعوى وسأل أخته أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون، فلما قرأها اهتز وأخذه إعجازها وجلالها وسمو الدعوة التي تدعو إليها، وخرج يريد محمدا كي يعلن إليه إسلامه.
وسار متوشحا سيفه حتى إذا بلغ دار الأرقم ضرب الباب على من فيه، وقام رجل فنظر من خلل الباب ثم عاد فزعا يقول: هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، قال حمزة بن عبد المطلب: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلنا له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، وأمر رسول الله أن يؤذن لعمر، وقام فتقدم نحو الحجرة التي تلي الباب، ولما دخل عمر أخذ النبي بمجمع ردائه وجذبه بقوة، وقال له: ما جاء بك يا ابن الخطاب؟ فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، قال عمر: يا رسول الله، جئتك لأومن بالله ورسوله وما جاء من عند الله، فكبر محمد تكبيرة عرف أهل البيت من أصحابه أن عمر أسلم، فتفرقوا من مكانهم فرحين مؤمنين بأن عمر وحمزة سيحميان رسول الله من خصومه وأذاهم.
وفت إسلام عمر في عضد قريش وقد دخل في دين الله بالحمية التي كان يحاربه من قبل بها، لم يرض عن اختفاء المسلمين حين صلاتهم، بل دأب على نضال قريش حتى صلى عند الكعبة وصلى المسلمون معه، ثم كان عمر بعد ذلك للإسلام عزا في حياة الرسول ومجدا في خلافة أبي بكر وخلافته.
هذا حادث جليل في تاريخ الإسلام، فمكانه جدير بأن يذكر، والدار بأن تصان وأن تزار، وقد ذهبت إلى زيارتها على مقربة من الصفا وانعطفت إليها في طريق من حارة الباب، وأشار الشيخ عبد الحميد إلى باب مغلق، وقال لي: هذه هي الدار، وسألته: هل من سبيل إلى دخولها؟ فعلمت أنها أصبحت مسكنا لإحدى الأسر منذ جاء الوهابيون مكة، وأنها من يومئذ لا تزار، وقد رأيت بأعلى الباب كتابة لم أتثبتها على رغم صعود الطريق المنعطف قبالتها صعودا يجعل نظر الإنسان يكاد يحاذيها، وعلى رغم استعانتي بالمنظار المكبر.
وقد أسفت لحرماني من زيارة هذه الدار، أنا الذي زرت بأوروبا أماكن ودورا صانتها الحكومات ذكرى للعظماء الذين ولدوا بها، أو أقاموا فيها؛ أو لأنها شهدت من حوادث حياتهم أمرا خلدته صحف التاريخ، وإنما هون علي الأسف ما علمته من أن دار الأرقم تغيرت معالمها ولم يبق فيها ما يذكر بهذا الحادث العظيم في حياة العالم الروحية، حسبك أنها تدعى اليوم دار الخيزران؛ لما يزعمون من أن الخيزران أم الحليفتين موسى وهارون عمرتها أيام العباسيين، والذين زاروا هذه الدار قبل الوهابيين يذكرون أن بابها يفتح على دهليز مكشوف إلى السماء طوله ثمانية أمتار وعرضه أربعة، وإلى يساره إيوان مسقوف على عرض ثلاثة أمتار، وإلى يمينه غرفة في مثل مساحته مفروشة بالحصير، وقد وضع في زاويتها الشرقية حجران أحدهما فوق الآخر، كتب على أعلاهما:
بسم الله الرحمن الرحيم
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال
هذا مختبأ رسول الله ودار الخيزران وفيها مبدأ الإسلام.
وكتب على الحجر الأسفل مثل هذه العبارة الأخيرة واسم من أمر بإنشاء هذا الأثر، وهو أبو جعفر محمد بن علي بن أبي منصور الأصفهاني وزير الشام والموصل، قال الفاسي في شفاء الغرام: «وعمره أيضا الوزير الجواد، وعمرته مجاورة يقال لها: مرة العصمة، وعمر أيضا في سنة 821ه، والذي أمر بهذه العمارة ما عرفته.»
ليست دار الأرقم التي قص الفاسي نبأها، والتي تحدث صاحب الرحلة الحجازية وصاحب مرآة الحرمين عنها، هي إذن الدار التي أعلن بها عمر بن الخطاب إسلامه، وخير ما يقال: إن البناء القائم اليوم قائم مكان هذه الدار.
ولقد هون على نفسي الأسف كذلك أنني لم أجد إلى زيارتها الوسيلة؛ لأنها كانت مغلقة، وكان يسكنها قوم من أهل هذا الجيل لا يزورونها الناس، ولا يرعون لها حرمة خاصة؛ لأنهم على رأي ابن عبد الوهاب، فهم يظنون أن كل أثر صنم أو نصب قد يعبد أو يتخذ إلى الله زلفى، وربما قام ما يصنعه المسلمون من التبرك بهذه الآثار عذرا للحكومة النجدية في تحريمها زيارة هذه الأماكن، لكنها كانت تستطيع أن تفعل غير ما فعلت ثم تبلغ غايتها، بأن تحرم التبرك والزلفى، وتبيح الزيارة وتجعلها جمة الفائدة، إذ تعين من يفسر للزائرين مغزى هذه الآثار، ولو أنها فعلت لكان صنيعها أجل فائدة وأعظم أثرا، ولقد اضطرت إلى مثل هذا الصنيع في أماكن أخرى فأثمر صنيعها خير ثمرة.
ثم غير دار الأرقم دار أبي سفيان، والمسلمون يذكرونها لقوله - عليه السلام - يوم فتح مكة: «من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن.» وتقع دار أبي سفيان بمكان يقال له: القبان بشارع المدعى، وما بقي منها اليوم لا يمت إلى أصل بنائها بصلة أو نسب، بل دخل في أرض عمرتها الحكومة المصرية على عهد محمد علي، وأقامتها إلى جانب تكية فاطمة التي أنشأتها الحكومة العثمانية إذ ذاك، وأكبر الظن أنها عمرتها لتكون مدرسة يتعلم فيها أهل مكة؛ فتقسيم البناء على ما رأيته يشهد بذلك، لكن الحكومة العثمانية صاحبة الأمر في الحجاز لم تر أن يبقى المكان مدرسة بعد أن جلت عنه قوات مصر، فجعلت منه مستشفى للمجاذيب الذين يخشى خطر هياجهم، أما اليوم فهو مستوصف يزوره الناس ويصرف منه الدواء، ولقد لقينا الموكل به، وهو سوري، فدار معنا في جوانبه، فكان مما رأيناه به مسجد صغير يقال: إنه قائم موضع دار أبي سفيان حيث كانت على عهد الرسول، وبهذا المستوصف حديقة في داخله ترى فيها من الشجر الأخضر ما لا ترى منه بمكة إلا في بيوت ذوي اليسار.
ويذكرون دار أم هانئ، وهي الدار التي كان بها الرسول - عليه السلام - ليلة الإسراء، وليس لهذه الدار اليوم أثر، فقد دخلت في المسجد حين توسيعه، وهي الآن إحدى المدارس المتصلة بالمسجد إلى جوار باب الحميدية، ويطلق عليها اسم مدرسة أم هانئ.
ووقفنا عند دار قال الشيخ عبد الحميد: إنها دار الصديق، ولم أعثر بهذا الاسم في تواريخ مكة، وهي مقفلة اليوم لا يدخلها أحد، وموقعها إلى جوار البازان المجرور من عين زبيدة بالمسفلة، ولست أدري مبلغ ما في نسبة هذه الدار إلى الصديق من صحة.
لم يطم الوهابيون الآبار، ولم ينقضوا الدور كما هدموا قباب قبور المعلاة، ولعلهم لم يروا الناس يعكفون على الآبار ما يعكفون على القباب؛ فكفاهم أن أقفلوا الدور وأن تركوا الآبار لمن شاء أن يغتسل منها، كما تركوا من شاء يتوضأ من ماء زمزم، لكنهم كانوا أشد بطشا بآثار أخرى، حتى لقد عفوا عليها ولم يتركوا لهذا ذكرا، وكانت هذه الآثار أعز على المسلمين من كل ما تركوا، ولا عجب فهي مولد النبي، ومولد فاطمة ابنته، ومولد علي بن أبي طالب ابن عمه وصهره وأخيه حين آخى بين المسلمين في المدينة، وأنت تمر بها اليوم فتحسبها ميادين خالية حينا، معمورة بالخيام حينا آخر، وكثيرا ما تراها مناخا للإبل في زمن الحج، وإن قوما يرونها اليوم وكانوا قد رأوها من قبل أن يطمس الوهابيون على آثارها فيحز الألم في نفوسهم، وتخنق بعضهم العبرة وقد تسيل على خده أسفا لما أصاب هذه المواقع التي كانت من قبل موضع إكبار وتقديس كما يجب أن تكون، بل إن منهم من يهون على نفسه هدم القباب، ومنهم من لا يرى به بأسا؛ لكن هؤلاء وغيرهم يرون في التعفية على معالم هذه الأماكن التي ولد فيها الرسول وابنته وصهره وزرا لا يعدله وزر، وإكبار هؤلاء لما صنع ابن السعود ورجاله من إقرار الأمن والنظام بالحجاز ومن القضاء على المنكرات فيه، لا يثنيهم عن مصارحة وزرائه وعن مصارحته هو، برأيهم وإنكارهم هذا القضاء على آثار للرسول وأهل بيته قضاء لا مسوغ له.
ويشعر أولو الأمر من الوهابيين بما في قول هؤلاء من صحة، ويرون أن رجالهم الذين فتحوا الحجاز ودخلوا مكة غلوا في تطبيق المذهب غلوا كبيرا حين هدموا من الآثار ما هدموا، قال لي أحدهم: لو أن الملك ابن السعود كان على رأسهم لما وقع من ذلك كل ما وقع، لكنا وجدنا أنفسنا أمام الأمر الواقع، ولسنا نستطيع أن نصرح للناس بأن غزاتنا الأولين أخطئوا؛ فهم أصحاب الفضل في الفتح، وهم الذين طوعوا لابن السعود البلوغ بالحجاز في مضمار الإصلاح إلى ما بلغ، على أن شعورنا نحن بخطأ هؤلاء الغزاة يدعونا إلى التفكير في إصلاحه، ولقد فكرنا في أن ننشئ مكان مولد الرسول دارا للكتب تضم كتب التفسير والحديث والسنة جميعا، لكن صعوبة واجهتنا لم نستطع التغلب عليها، فقد وقف علماء نجد يسألوننا: وكيف تضعون في هذه الدار كتبا تنطوي على ما يحكم مذهبنا بخطئه؟! إنكم إن فعلتم تكونوا قد ارتددتم عن المذهب، ونزلتم على حكم أهل الحجاز، وقلبتم فتحنا إياه استعمارا مكان استعمار، ونحن إنما فتحناه لإقرار حكم الإسلام الصحيح فيه.
قال محدثي: هذه صعوبة واجهتنا لم نستطع التغلب عليها؛ فنحن في حاجة إلى إقرار الرأي العام في نجد أعمالنا لأنه سندنا، وما لم نستطع التوفيق بين سياستنا ومعتقداته فلا بد لنا من النزول على حكمه، فللملك ابن السعود خصوم من رؤساء القبائل في نجد يتهمونه بأنه سخر عقيدة أهل نجد الإسلامية لأغراضه ومطامعه السياسية، فلما تم له ما أراد، واستتب له أمر الحجاز، أنس إلى الطمأنينة بترك أهل الحجاز يزاولون من العقائد ما يجاور الشرك ويأباه الإسلام؛ ولذ له الفتك بمن يثور على هذه العقائد من أهل نجد أولي الحفاظ على الدين الصحيح والمذهب السليم، وهذا كلام يلقى آذانا تسمعه وتسيغه، فلا بد لنا من التوفيق بين آراء العصر الحاضر بما لا تأباه العقيدة السليمة عندنا، وبين تصور قومنا لموجب هذه العقيدة، ونحن لا نستطيع أن نقنع أحدا منهم بفكرة حرية الرأي، فحرية الرأي عندهم معناها حرية الباطل في غزو العقول؛ لذلك لم نجد بدا من أن نعرض عن إقامة دار الكتب في موضع مولد النبي، وأن نؤثر عليها إقامة مسجد يذكر فيه اسم الله وتلقى فيه التعاليم الإسلامية الصحيحة.
ولم أجد ما أعترض به على هذا الكلام بعد الذي ذكرته في فصل «مكة الحديثة» من حديث الشيخ حافظ وهبة مع علماء نجد عن التعليم، وراقني أن يبنى مسجد حيث ولد من يذكر اسمه إلى جوار اسم الله في كل مسجد؛ محمد عبد الله ورسوله، ثم إني خشيت أن يكون حظ هذا المسجد كحظ مساجد مكة إذ يذرها الناس ابتغاء مثوبة الصلاة في المسجد الحرام وعند البيت العتيق، لكن محدثي طمأنني إلى أن المسلمين سيجدون لا ريب من المثوبة في الصلاة بالموضع الذي ولد فيه رسول الله ما يدعوهم إلى الإقبال على هذا المسجد إقبالهم على المسجد الحرام أو بعض إقبالهم عليه.
ويقع مولد النبي بشعب بني عامر في أحياء مكة من شرقها، والخلاف يقع على هذا المكان: أولد فيه النبي حقا؟ ولقد أورد صاحب المواهب اللدنية مما روي من ذلك ما قيل من أنه ولد بمكة في الدار التي كانت لمحمد بن يوسف الثقفي، وكانت في هذا المكان المشهور اليوم، ومن أنه ولد بشعب بني هاشم، ومن أنه ولد بالردم، ومن أنه ولد بعسفان، ثم إن المسلمين تواضعوا في عصور متأخرة على أن المكان المشهور اليوم هو مولد الرسول، ومنذ القرنين السادس والسابع الهجريين بدأ ملوك الإسلام في اليمن وفي مصر يفكرون في عمارة هذا المكان، ثم فكر ملوك بني عثمان في عمارته في القرن العاشر الهجري؛ فأقيمت فيه قبة عظيمة ومنارة ورتب له مؤذن وخادم وإمام، وكان الطريق المجاور لهذا المكان يرتفع عنه نحو متر ونصف متر، وكان النازل إليه ينحدر على درج يصل به إلى فناء وصفه البتانوني في رحلته، وذكر أن طوله يبلغ اثني عشر مترا في عرض ستة أمتار، وفي جداره الأيسر باب يدخل الإنسان منه إلى القبة، حيث يجد مقصورة من الخشب، في داخلها رخامة قد تقعر جوفها لتعيين الموضع الذي ولد فيه الرسول، ومن هذه القبة ومن الفناء خارجها تتكون دار مولده - عليه السلام.
نقل صاحب مرآة الحرمين قول العياشي في رحلته تعليقا على موضع المولد: «ويبعد عندي كل البعد تعيين ذلك من طريق صحيح أو ضعيف؛ لما تقدم من الخلاف في كونه بمكة أو غيرها، وعلى القول: بأنه فيها ففي أي شعابها؟ وعلى القول بتعيين هذا الشعب ففي أي الدور؟ وعلى القول بتعيين الدار فيبعد كل البعد تعيين الموضع من الدار بعد مرور الأزمان والأعصار وانقطاع الآثار، والولادة وقعت في زمن الجاهلية، وليس هناك من يعنى بحفظ الأمكنة، لا سيما مع عدم تعلق غرض لهم بذلك، وبعد مجيء الإسلام قد علم من حال الصحابة وتابعيهم ضعف اعتنائهم بتعيين الأمكنة التي لم يتعلق بها عمل شرعي لصرفهم اعتناءهم - رضوان الله عليهم - لما هو أهم من ضبط الشريعة والذب عنها بالسنان واللسان، وكان ذلك هو السبب في خفاء كثير من الآثار الواقعة في الإسلام من مساجده - عليه السلام، ومواضع غزواته، ومدافن كثير من أصحابه، مع وقوع ذلك في المشاعر الجليلة، فما بالك بما وقع في الجاهلية ؟! لا سيما ما لا يكاد يحضره أحد إلا من وقع له كمولد علي، ومولد عمر، ومولد فاطمة - رضوان الله عليهم جميعهم.»
عفى الإخوان الوهابيون كذلك على كل أثر لمولد فاطمة، فهو الآن فضاء كمولد أبيها، وما ذكره المؤرخون عن مولد الرسول، يصدق على مولد ابنته في مبلغ ثبوته، وفاطمة قد ولدت بدار خديجة، كما ولد بها أبناء النبي، وبدار خديجة أقام النبي منذ تزوجها إلى أن هاجر من مكة، أي: من الخامسة والعشرين إلى الخمسين من سنه؛ فهي إذن قد شهدت بعثه، وشهدت ائتمار قريش به وأذاها إياه وتعذيبها أصحابه لعقيدتهم، ولقد نزل عليه الوحي فيها غير مرة، فطبيعي - وذلك شأنها - أن يبقى على التاريخ أثرها، وفي نفوس المؤمنين جميعا ذكرها.
عفى الوهابيون على كل أثر لهذه الدار، فهدموا ما كان الناس يزورونه من رسومها، وهم لم يهدموا في الحق دار خديجة، إنما هدموا ما أقيم ذكرى لها، وهي قد عمرت في عهد الخليفة الناصر العباسي، ثم عمرت في عهد الملك الأشرف صاحب مصر، وعمرها كذلك ملك مصر الظاهر برقوق، ولعلها عمرت بعد ذلك غير مرة، والظاهر أن عمارتها كانت تختلف شكلا، فيما يتصوره الناس، عما كانت عليه في عصر النبي، فما وصفها به الفاسي في «شفاء الغرام» يختلف عن صفتها في رحلة البتانوني، فبينما كانت في عهد الفاسي على صفة المسجد وكانت لها عقود وأساطين إذا هي في رحلة البتانوني بالغة غاية البساطة، تنحدر عن الأرض انحدار مولد النبي، وينحدر النازل إليها درجات عدة، فيواجهه عن يمينه بهو وغرفة فسيحة، وعن يساره باب يدخل الإنسان منه إلى ثلاث غرف، كانت إحداها سكنا للنبي مع خديجة، وكانت الثانية سكنا لبناتها، وغرفة ثالثة صغيرة يطلق الكتاب عليها اسم غرفة الوحي، وكانت فيما يذكرون مصلى النبي ومهبط الوحي عليه، وأمام ذلك كله بعرض البيت مكان مرتفع يظن البتانوني أن خديجة كانت تخزن فيه تجارتها.
أسائل نفسي: لو أن دارا في الغرب حوت من الذكريات الخالدة ما حوته دار خديجة، وأراد رجال الفن هناك أن يقيموا لهذه الذكريات رمزا، فماذا عساهم يصنعون؟ فهي قد حوت ذكريات نفسية وروحية وعقلية لم تحو مثلها دار غيرها؛ في هذه الدار وقفت خديجة ترقب في علية لها عود محمد بتجارتها من الشام، فلما دخل عليها في شبابه وقوته وذكائه وأمانته وقع من قلبها وهي في الأربعين سنا، وفي هذه الدار عرف محمد اليسر بعد العسر، ورخاء العيش بعد شدته، وفيها أنجب أبناءه من خديجة، فكان الوفاء لزوجه، والبر بأبنائه، وكان في ذلك أسوة ومثلا كما كان في أمانته بين قومه، وفيها رغب عن الرخاء وعن نعمة العيش، وسما فوق عواطف الزوجية والأبوة وانقطع للتحنث في حراء - بعد أن سما بخديجة إلى مثل سموه - وجعلها أشد تطلعا إلى موضع تأمله منها إلى ربح تجارتها وازدياد مالها، وإليها رجع من حراء بعد الوحي الأول وقد ملك عليه الفزع كل نفسه وهو يقول: زملوني زملوني، فوجد في خديجة الزوج الوفية البارة العطوف، وفيها انقطع إلى ربه يعبده ويدعوه أن يهيئ له الأسباب لدعوة قومه إلى الهدى ودين الحق، وفيها نزل عليه الوحي بعد فتوره، وفيها ذاق لذة الحقيقة والدعوة إليها لذة تسمو على خصومة قريش وأذاها، وفيها ماتت خديجة وحز الألم في نفسه لفراقها، ثم هونت رسالته الكبرى عليه ألمه، وفيها بات ليلة اعتزم الهجرة إلى يثرب، وقد أحاط بها فتيان مكة يريدون قتله، إن في كل واحدة من هذه الذكريات الباقية على الدهر ما يلهم رب الفن أسمى صور الفن وألوانه، ولكنها إذ تتداعى جميعا إلى نفسه تذره في حيرة لا يجد وسيلة إلى صورة أو معنى مستقل بذاته يجسمها جميعا ويطبع منها في النفس أثرا باقيا بقاءها، اللهم إلا أن يلهم صورة تمثل الدعوة إلى التوحيد في أسمى صور التوحيد صفاء وقوة، فهذه الدعوة هي جوهر الحياة ورحيقها في حياة النبي العربي وفي تعاليمه.
أصاب الوهابيون مولد علي في شعب بني هاشم بما أصابوا به مولد النبي ومولد فاطمة، فهو اليوم فضاء لا أثر فيه، ولعل أولي الأمر في الحجاز يفكرون في تعميره، ولعلهم يوفقون حين يعملون لأثر لا يثير الحفائظ بين الشيعة وأهل السنة.
بمكة آثار غير المسجد والآبار والدور؛ بها الجبال وشعابها، حين كان المسلمون يأوون من أذى المشركين، والأساطير التي أضيفت على هذه الجبال ليست أقل بهاء مما يضفيه أهل مكة على سائر الآثار فيها، لكن التاريخ لا يثبت من هذا كله شيئا.
والأثر الخالد الحق في مكة بيت الله، وكل أثر غيره يتصل به ويعنو له، إليه يولي الناس وجوههم وهم بمكة، وحيثما كانوا ولوا وجوههم شطره.
في غار حراء
الكعبة والحرم أول ما يتجه إليه من يحج مكة وأشد ما يسترعي نظره فيها، فإذا أتم الناس شعائر الحج طوافا وسعيا، ظلت الكعبة وظل الحرم مع ذلك مثابتهم ما أقاموا بالبلد الحرام، وإن كثيرين منهم ليتجهون بعد زيارة الحرم إلى زيارة مقابر آل البيت، هذه المقابر التي كانت موضع تقديس ورعاية من حكومة البلاد وأهلها، ومن زائريها، ومن المسلمين في شتى بقاع الأرض؛ حتى إذ تولى النجديون أمر الحجاز أنكروا تقديس هذه الأماكن واعتبروه إشراكا بالله في عبادته، فهدموا ما أقامه السلف عليها من قباب ومساجد، وجعلوا على بعضها حراسا وأبوابا توصد، ولم يصرف الحراس الناس عن زيارة مقابر آل البيت، ولم تحل الأبواب بينهم وبين الوقوف بها والدعاء لساكنيها واستغفار الله لهم وقراءة الفاتحة لأرواحهم.
ويتجه بعضهم بنظره إلى حراء وإلى الغار الذي بأعلاه، ولقد قل عدد هؤلاء بعد حكم النجديين الحجاز، وبعد أن هدموا القبة التي كانت مقامة فوق هذا الجبل، وجنت قلة الصاعدين إلى قمة حراء على مقهى كان قائما على مقربة من القمة عند صهريج كان يختزن مياه المطر، كما جنت على الطريق المعبد الذي كان يتخذه الصاعدون إلى القمة، أما المقهى فلم يبق له أثر، وأما الطريق ففسد وشق الصعود عليه، بذلك زاد عدد الصاعدين إلى غار حراء قلة، ولم يبق منهم من يكابد مشقة الصعود إلا الذين درسوا تاريخ الرسول وعرفوا نزول الوحي لأول مرة على محمد أثناء تحنثه بحراء. هؤلاء يحرصون على أن يصعدوا جبل النور، وأن يصلوا إلى الغار الذي اتخذه محمد مقرا، والذي جاء إليه جبريل أثناء مقامه به يلقي عليه أول ما جاء به من القرآن:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ، وهؤلاء يرون في الجبل وفي الغار فوقه أقدس مكان تجب له الزيارة بعد حج البيت، فهو منزل الرسالة، وهو مهبط النور، وهو مقام الرسول قبل البعث يلتمس الحقيقة حتى أوحاها الله إليه، وهو اليوم كما كان منذ خمسة عشر قرنا مضت، لم تعد عليه عادية، ولم يغير منه حاكم ولا محكوم، وسيبقى كذلك علما على الوحي وعلى الرسالة حتى يوم الدين.
ومذ وقع نظري على حراء حين ذهابي إلى قصر الملك غداة وصولي إلى مكة تعلق به نظري وشدت إليه مشاعري، وتمثل لي حيثما ذكرته بهذه العزلة العجيبة التي تفرد بها عما حوله من الجبال، وبهذه الاستقامة المخروطية في انطلاقه إلى السماء، استقامة تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان منه إلى جبل قائم بين عشرات من الجبال حوله، والحق أن الحادث الفذ الذي جعله القدر نصيب هذا الجبل، حادث نزول الملك على محمد بأول الوحي وهو يتحنث بالغار فوقه، جدير بأن يجعل منه علما في تاريخ الإنسانية يتعلق به ذهن كل إنسان، ويتوجه إليه قلبه أكثر من كل موضع سواه، ويزيد الذهن تعلقا به والقلب توجها إليه أن هذا الحادث لم يكن حادثا عارضا من خوارق أعمال القدر لم يمهد القدر له، بل كان نتيجة لتمهيد طويل خلال سنوات عدة أدب محمدا ربه أثناءها وطهر نفسه، وأعده لتلقي رسالته وإبلاغها للناس.
على هذا الجبل؛ حراء، كانت خاتمة التمهيد والتهذيب والإعداد قبل الرسالة، إذن لقد شهد حراء هذه الرياضة الروحية العظيمة منذ هدى الله محمدا إلى الحق حتى أضاء أمامه سبيل هذا الحق بنور الرؤيا الصادقة، وإلى أن أوحى إليه النبوة ليكون من بعد بشيرا ونذيرا، وليس ثمة موضع نعرفه في العالم شهد هذا كله، فلا جرم - وذلك شأنه - أن يتعلق به الذهن، وأن يتوجه له القلب، وأن تشد إليه المشاعر.
وحسبك أن تقف قبالة حراء وأن تتأمله لتذكر هذا المشهد كله، ولتراه مرتسما أمامك وكأنما حدث بمرأى منك، أو كأنما حدث منذ عهد قريب، فها هو ذا محمد يسير وحيدا منفردا حاملا من الزاد ما لا ينوء رجل بحمله، يخترق طرق مكة من جنوبها الشرقي حيث يقع اليوم شعب علي، وحيث كانت دار خديجة، إلى شمالها الشرقي حيث يقوم هذا الجبل.
وها هو ذا على سفح حراء يصعد إليه، وسيما التفكير مرتسمة على قسمات محياه، وليس فيما حوله من أسباب الحياة ما يرفه عن تفكيره أو ينبهه إلى جديد في الحياة، ويستمر في تصعيده، وزاده معه، حتى يبلغ قمة الجبل، هنالك يجد ماء المطر القليل قد اختزنته بعض أخاديد شعابه، ويجلس على مقربة من هذا الماء ومن غار قريب منه، هو مأواه أثناء نومه، ويجيل بصره فيما حوله من خلق الله، ثم يرجع البصر ويغمض عينيه الواسعتين الجميلتين إغماضة تأمل وادكار لكل ما سمع وما رأى، فإذا جن الليل وتألقت النجوم وانتشرت في قبة السماء، أجال بصره فيها، وفكر في أمرها وفي خلقها وفي خلق هذا العالم العظيم كله، وقضى أشطر الليل متأملا يقلب في صحف ذهنه كل ما يقول قومه في العالم وفي خلقه، وفي الآلهة والملائكة، وفي هذه الأصنام التي يعبدون، وينسيه التفكير نفسه، وينسيه طعامه ونومه، وينسيه الوقت ومره، ويذره متعلقا بما ينشد من حقيقة العالم والوجود والكون، ويستريح في الغار سويعات لا يلبث حين يقظته بعدها أن يعود إلى تفكيره وإلى تأمله وإلى نشدانه حقيقة العالم والوجود.
لقد كان - إلى أن مال به حبه العزلة إلى التحنث والانقطاع عن الناس - محبوبا من قومه، مقدرا بينهم لوفائه وأمانته، وقد كان مضرب المثل بينهم لبره أبناءه وحبه زوجه وعطفه على الضعيف والمحروم، وكان يشارك قريشا في أحاديثهم وسمرهم؛ يجلس وإياهم في دار الندوة إلى جوار الكعبة ، وينصت إلى حديثهم، ويراهم إذا اختلفوا في أمر ذهبوا إلى هبل فضربوا عنده بالقداح ليشير عليهم الصنم بما يجب أن يصنعوه، وكان يرى منهم قوما عرفوا بالحكمة وحسن الرأي ينظرون إلى هبل وإلى من دونه من الأصنام التي يعبدها بنو وطنهم نظرة ريبة في ربوبيتها وفي صحة عبادتها، وكان يسمع الخطباء من هؤلاء الحكماء ينادون في الأسواق التي تنعقد حول مكة إبان الحج بأن لله دينا غير هذا الدين الذي عليه قومه، ويرى قوما من أهل الكتاب يعيبون العرب لوثنيتهم ويبشرون بالنصرانية، يريدون بالعرب أن يهتدوا بهداها.
وكان قومه يسمعون لما يسمع، ويتناقلون أخبار الرهبان الذين يلقونهم أثناء رحلتهم إلى الشام في تجارة الصيف، فلا يثنيهم ذلك عن التعلق بما ألفوا من تجارة الحياة، ولا يعدل بهم عن دينهم وعن عبادتهم أوثانهم، ولا ينصرف بتفكيرهم إلى شيء غير الدفاع عما لمكة من مكانة دينية قائمة يومئذ على الوثنية، وعما تيسره هذه المكانة لها من مزيد في الرخاء وسعة في التجارة، أما هو فقد انصرف منذ عهده الأول عن عبادتها، وتاقت نفسه إلى معرفة الحق، فتعلق به ودأب على البحث عنه والتفكير فيه، وشغله هذا الدأب عن تجارة خديجة فلم يخرج فيها إلى الشام كما فعل قبل أن يتزوجها، بل كفاه منها أن أغناه الله بها، وانصرف يلتمس هذا الحق الذي شغلت نفسه بالبحث عنه والتفكير فيه، يريد أن يراه واضحا صريحا لا لبس فيه ولا غموض.
اعتزل الناس وأمعن في الانقطاع عنهم، ووجد في حراء خير مرصد روحي يمتحن به أسباب الحقيقة التي تتجلى أمام بصيرته في أناة ودقة، فإذا جاء شهر رمضان من كل عام صعد إليه واستعان بالصوم والزهد في متاع الدنيا على استجلاء الحقيقة في كل ما تقع عليه عينه أو يتعلق به حسه، وفيما يتوسمه من حياة وراء ما يقع عليه الحس أو تدركه العين، وكذلك ظل حتى أماطت له الحقيقة عن لثامها وتبدت أمامه في كل صفائها وتجردها، وصار يراها في يقظته كأنها وضح الصبح ، بهذا كله أدبه ربه، فلما تم لنفسه صفاؤها، أنزل الله عليه أول الوحي، فارتاع له وخافه، ثم أمره أن ينذر الناس وأن يدعوهم إلى الحق الذي اهتدى إليه، فصدع بأمر ربه ودعا الناس إلى الهدى.
ترى هل يأخذ بالنفس في الحياة شيء ما يأخذ بها هذا المرصد الروحي الذي تجلت الحقيقة فيه لمحمد كاملة واضحة صريحة؟! لقد وقفت أمام جبال شتى أخذ بعضها بمجامع قلبي لجماله، وبهرني بعضها بعظمته، وشدهت لما احتوى عليه بعضها من عجائب الخلق والحياة، ولقد وقفت ذاهلا مأخوذا أمام آثار شادها الإنسان تزري بالزمن وتسخر من الدهر، ووقفت معجبا أمام مراصد أقامها العلم لتزيد ما في العالم وضوحا أمام الحس، لكني لم أشعر يوما بما شعرت به خلال المرات التي وقفتها قبالة حراء أرسم من هذا المرصد الروحي صورة في نفسي، فلا يكاد يعدله شيء مما شاهدت في حياتي من عظمة الطبيعة وجلالها، ومن فن الإنسان وبراعته، مع يقيني ببساطته وبأن الصاعد إليه لن يرى فوقه إلا ما يرى فوق سائر الجبال.
ألحت علي الرغبة في ارتقاء هذا الجبل لأقف حيث كان يقف محمد، وأشهد من مظاهر الخلق ما كان يشهد، ولأرى الغار الذي كان يقضي فيه ليله، والذي نزل عليه الروح الأمين بالوحي فيه، وأفضيت إلى أصدقائي برغبتي، وأبدى جماعة من أهل مكة الرغبة في مصاحبتي؛ ليشهدوا معي ما لم يشهدوه من قبل على قربهم منه، وكان بعد صلاة العصر من يوم الجمعة موعدنا، فأقلتنا السيارة، حتى إذا كنا قبالة قصر الملك تياسرت بنا ثم انحرفت إلى مضارب جماعة من البدو لا يأبون أن يقدموا القهوة لمن شاء أن يتناولها، وقد جعلهم مقامهم بالحضر يتوقعون ما لا يتوقعه أبناء البادية من اقتضاء ما تنفحهم به مقابل تقديمهم إياها، ومقابل حراستهم السيارة أثناء مقامك بالجبل إذا صحبك سائقها.
ماذا أرى؟ لقد كان حراء ينحدر وأنا أنظر إليه من بعيد في استقامة مخروطية تجعله أدنى إلى برج شاده الإنسان، وها هو ذا الآن وله سفح كسفوح الجبال ، وتبدو على السفح آثار طريق لسير الناس فيه، لكن قمته أكثر استقامة من سائر ما حولها من القمم. أتراها أشد عسرا في الصعود إليها؟ سألت عن ذلك فهون القوم علي الأمر، وذكر من تسلقوا هذا الجبل من قبل أن الله يهيئ للصاعد فيه من أسباب اليسر ما لا يهيئه للصاعد في غيره من الجبال، لكننا أتينا بعد الظهيرة، وهذا السفح الذي يصعد الناس منه تطالعه أشعة شمس المغرب وينحسر الظل لذلك عنه، ولو أننا أتينا مصبحين لكان صعودنا في الظلال أكثر يسرا، على أن أصحابي ذكروا أن الإنسان يستدير في صعوده إلى الفيء حين يقترب من القمة، وأنه يرى منها عند المغيب وقرابته كل ما حول حراء إلى أبعاد نائية مما يحجبه الضوء الباهر حين الظهيرة.
وسرنا إلى السفح وبدأنا نتسلقه، بدأنا في نشاط رجونا ألا يفتر قبل الغاية، وما له يفتر والجبل أمامنا ليس بالغا في ارتفاعه ما يخاف الإنسان معه اللغوب؟! وسرنا في الطريق المألوف خلا شابا منا آثر أن يختزل هذا الطريق وأن يتسلق الجبل في استقامة تدنيه من غايته، وأنذره أصحابه أنه جاهد نفسه بهذا الصعود العنيف فمنقطع به دون القمة، ولم يسمع شبابه لإنذارهم، وانطلق انطلاقة السهم، يسبقنا مصعدا ويقف بين آن وآن فوق صخرة من الصخور يصيح بنا صيحة الفائز المنتصر، وقطعنا في تسلقنا دون ربع الساعة، ثم بدأنا نشعر بالشقة ونقدر طول الطريق الذي حسبناه من قبل قصيرا، واعتذر لي أصحابي عن سوء حال هذا الطريق وألقوا التبعة في ذلك على حكومة الوهابيين الذين هدموا قبة حراء، فصرفوا الناس عن الصعود للتبرك بها، فأهمل الطريق وساءت حاله، وزاد بنا الشعور بالمشقة، فاتخذنا من فيء صخرة حمى نستريح إليه، وعاودنا سيرنا حتى عاودتنا المشقة فاسترحنا كرة أخرى، وكلما أخذ منها الجهد ارتفعنا بأبصارنا نحزر ما بقي من الطريق إلى القمة.
واستدرنا في تصعيدنا إلى الفيء، وسرت إلينا نسمات منعشة أشعرتنا بنشاط كان وشيكا أن يفتر، وجلسنا ننعم بهذا النسيم ونعد العدة للوثبة الأخيرة إلى القمة، ما كان أحوجني إلى هذه الجلسة! كانت أنفاسي تضطرب وصدري يعلو ويهبط فيكاد يمزق أضلاعي، والعرق يسيل من كل مسام جسمي ويبلل كل ملابسي، وأمسكت لا أتفوه بكلمة، وفتحت خياشيمي أستنشق النسيم بكل قوة ألتمس هدوءا لصدري واستعادة لسكينة نفسي، وقال أحد أصحابنا من أهل مكة وقد طاب له المكان الظليل: إني ناظركم هنا حتى تعودوا من القمة، فلم يعد في مستطاعي أن أصعد، ولعله أراد أن يمتحن صبري ويبلو احتمالي، وكيف لي أن أقف دون غاية قصدت إليها ما بلغ الجهد مني، ولست أدري متى يتيسر لي أن أعود إلى مكة؟ ولهذا الجبل وللغار من السحر في قلبي والسلطان على مشاعري ما يهون معه كل جهد وتطيب به كل مشقة! ولم تك إلا دقائق حتى رأيتني أكثر نشاطا وقد اطمأن صدري، وعادت إلى نظامها أنفاسي، وسرت إلى فؤادي مع النسيم بهجة لم أشعر من قبل بمثلها، وخلفنا صاحبنا وقمت ومعي رجلان يحمل أحدهما الماء المثلوج ويحمل الآخر الشاي الساخن في «ترمذين» كانا لمثل هذه الرحلات خير عون.
وانطلقنا مصعدين نتيامن ونتياسر مع الطريق خلال شعاب الجبل، وقد جددت الراحة نشاطنا، وزاد فيه الظل والنسيم، وقواه اقتراب الغاية والثقة بالنجاح في إدراكها، وتلفت بعد فينة، فإذا ورائي عبد أسود ناداه أحد الرجلين اللذين معي: يا فقي! وحسبت أنه يعرفه، ثم علمت أن العبد من التكارنة الذين يقيمون ألوفا بمكة، وأن هذا اللقب يطلق على كل فرد منهم، وأنهم يلتمسون مثل هذه الفرصة لمعاونة صاعد متعب لعلهم ينالون منه بلغة يومهم، ولم أكن في حاجة بعد ما نلت من الراحة إلى معونته؛ ولكنني اطمأننت إليه وأنست بوجوده إلى قدرتي على تحقيق غايتي، وازدادت قدماي قوة في الصعود والتسلق، وزادني أنسا إليه أنه لزم الصمت ولم يشارك من معي في الحديث، فدل بذلك على أنه لا يبتغي غير بذل العون لمن يحتاج إلى عونه.
ودعاني صاحباي إلى الجلوس كيما أستريح، وإني لأحاورهما مترددا إذ سرى على النسيم إلى سمعنا صوت ذلك الشاب الذي اختزل الطريق إلى القمة يهيب بنا أن هلموا، ورفعت بصري كيما أراه فإذا بالجو ينكشف، وإذا ما حولي أكثر ضياء، وإذا الشاب قد تسنم مكانا زعم أنه الغاية التي جعلناها مقصدنا، وأزال ما رأيت ترددي، فلم أجلس ولم أعبأ بما عاودني من البهر، وتابعت تسلقي وأنا أستدير حول صخرة حينا وأقف مكدودا بين صخرتين هنيهة، وطالعتنا الشمس كرة أخرى؛ لكن أشعتها تسربت إلينا من ناحية القمة فكانت بشير الفوز، وزادت عزمنا مضيا، وحرصنا على بلوغ الغاية قوة، والشاب ما يفتأ يهيب بنا ويثير حميتنا، ونحن نتسلق ثم نقف، ونقف ثم نتسلق، حتى انفرجت الشعاب والصخور أمامنا على سطح مستو اندفعنا إليه مطمئنين إلى أنا إذ بلغناه قد صرنا من القمة والغار على بضعة أمتار.
وليس استواء هذا السطح من عمل الطبيعة، وهو لم يكن مستويا أيام كان محمد يصعد حراء للتحنث فوقه؛ إنما سواه الناس حين كان الألوف من الحجيج يصعدون يبتغون القبة المشيدة على القمة للتبرك بها، سووه ونقروا فيه صهريجا يختزن مياه المطر، وأقاموا عنده مقهي يستريح الناس إليه ويتناولون طعامهم فيه إذ يصعدون لزيارة القبة، فلما هدمها الوهابيون وانقطع الناس عن الصعود أقفر المكان من المقهى، ولم يبق من يعي بأمر الصهريج وما يجيء من الماء إليه، لكن السطح بقي مستويا كما كان، وبقي الذي يصعدون ابتغاء الغار يقفون عنده، يستريحون إلى فيئه ويستجمون مما أرهقهم من الصعاب مستندين إلى جدرانه، وكذلك فعلنا، فلما اطمأنت أنفاسنا إلى صدورنا درنا في المكان نرى الصهريج وبضع الدرجات التي ينزل الإنسان بها إليه، ونرى استواء الجدران حيث كان المقهى، ونلقى في هذا المكان الموحش، بعد أن خلا من كل مؤنس، آثار أولئك الألوف الذين كانوا يتسلقون إليه ويجلسون في مقهاه منشرحة صدورهم؛ لأنهم يؤدون واجبا مقدسا، منفرجة شفاههم عن آي الغبطة يرجون رحمة الله ورضا رسوله عما قدموا بين يدي نجواهم من صدقات حين جاءوا بيته ملتمسين مغفرته وعفوه.
وارتقينا من هذا السطح عشرين مترا أو نحوها، وبلغنا القمة التي كانت تقوم القبة عليها، وهنالك انكشف لنا الوجود المحيط بنا كله، فهذه القمة أعلى حراء، وهي ضيقة لا يزيد مربعها على الثلاثين أو الأربعين مترا، وهي مكشوفة لا يحيط بها صخر ولا يحجب الناظر منها إلى ما حولها حجاب، وتبدو سلاسل الجبال المحيطة بحراء من جهاته الأربع كأنها كلها دون هذه القمة ارتفاعا؛ وهي لذلك تتكشف للناظر من القمة عن سفوحها وعن شعابها وعن كل ما عليها وكل ما فيها، وأظلت قبة السماء هذه القمة، فما يغيب عن النظر مما فيها سحابة أو شامة وإن دق حجمها، وهذا موقع فريد قل في غير حراء من الجبال نظيره، فأنت إذ تقف ينكشف لك كل ما حولك، وتبدو لك عظمة الكون في كل جلالها، وتشعر وأنت تشهد من موقفك السماء والجبال، وتشهد مكة ومسجدها الحرام وبيتها العتيق، وتشهد ما وراء ذلك مما لا نهاية له - تشعر أنك تشهد آية الله تجلى كمالها في الكون وفي خلقه، وتشهد سنة الله في هذا الكون، سنة لن تجد لها تبديلا وإن تعاقبت الدهور وخلفت القرون القرون، فإذا طال بك موقفك وطال تأملك فيما حولك تجسمت في نفسك هذه الآية واستولت على كل حسك وشعورك، ففنيت فيها وغاب حسك بنفسك، وكنت في تيهاء لا تدري بعدها ما حظك وما نصيبك.
كان ذلك شعوري حين وقفت فوق القمة أحدق من عليائها فيما حولي، ولقد استعنت بمنظار مكبر أعددته لأستعين به على مثل هذا المشهد، وما عسى أن ينفع المنظار وأنت لا ترى مما يقربه لك من الأبعاد إلا مزيدا في عظم الخلق وجلاله؟! هذا الخلق الهائل من الجبال المتعاقبة لا ترى خلالها من مظاهر الحياة إلا حياتها هي، حياة صخور عابسة، وكلأ لا يكسر من حدة هذا العبوس ولا يزيد الناظر إليها إلا مهابة ورهبة، وهذا البيت العتيق قائم في أم القرى يحدث عن حياة العالم الروحية منذ أقام إبراهيم قواعده وإسماعيل، وهذه الجماعات من الناس والقوافل من الإبل لا يكاد المنظار يبين عنها لصغر حجمها ودقة شأنها، وهي حول البيت أو بين الجبال تتيه على الجبال وتطوف بالبيت، ناسية أنها قليلة البقاء إلى جانب البيت والجبال، وأنها تتعاقب أجيالها والبيت قائم، وللبيت رب يحميه، والجبال مطمئنة تزري بالقرون والأجيال.
وسبقني أصحابي إلى الغار وبقيت فوق القمة وحيدا أجيل الطرف فيما حولي، فأزداد لخلق الله إكبارا وبالله إيمانا، وما عساي أستطيع أن أرى من خلق الله في هذه السويعة، وتقلب الوقت وتنقل الشمس وانتشار الليل، كل ذلك يجلو أمام البصر والبصيرة في كل لحظة جديدا، والبصر والبصيرة يريان الأشياء في ألوان تختلف باختلاف سكينة النفس واضطرابها، وهدوء العصب وهياجه، وبحالنا من الصحة والمرض، والرضا والغضب، والراحة والنصب، ودع عنك ما تحجب الجدران بيننا - نحن سكان المدن - وبين الأبعاد الشاسعة، وكيف ترانا نبلغ أن نرى ما يزعم قوم من أهل مكة أن أقوياء البصر يرونه من هذا المكان الذي أقوم فوقه؟! فهم يذكرون أنهم يرون منه ساحل البحر الأحمر ساعات مغيب الشمس.
وعاد إلي بعض أصحابي، فانحدرنا إلى الغار الذي كان ملجأ رسول الله والذي نزل عليه الوحي الأول فيه، وبين الغار والقمة عشرون مترا أو نحوها، وهي مقدار ما بين السطح الأول والقمة، والوصول إليه يقتضي المرور بين صخرتين تكادان تتلاصقان، فلا يتخطى الإنسان ما بينهما إلا بمشقة وإن كان نحيفا، فإذا تخطاهما وجد الغار في داخل الجبل محجوبا عن كل ما حوله بالصخور الضخمة، وهو أشد من كل ما في الجبل وحدة وعزلة، ووجده لا يتسع لأكثر من شخص واحد ينام فيه نوما خشنا جافيا كل الجفاء، دخل الشاب الذي معنا إليه وتمطى فيه، فلم يطق المقام به غير لحظة ارتد بعدها إلينا ووقف معنا يشهد وإيانا في هذا الوسط الموحش ذلك الوكر المخوف، يفزع منه من يجهل أن الحياة لا يملكها إلا من سما فوق الخوف من كل ما في الحياة.
وهو مخوف حقا، ولولا ما تنطوي نفوسنا عليه من تقديس إياه لما طاوعتنا إلى البقاء أمامه، ولفررنا مشفقين مما فيه ، وأنى لنا أن نعرف ما فيه والصخور الضخمة حوله لا تدع مسربا للنور إلى أبعد من فوهته، فأما ما وراء الفوهة فظلام لا تهتك العين حجابه، والجبل بشعابه من وراء الصخور أجرد داكن اللون في حمرة قاتمة يزيد المخاوف ولا يهون منها.
وعدنا أدراجنا نقصد القمة وقد امتلأت النفس مهابة ورهبة، ووقفت في منتصف الطريق أستنشق هواء هذه الساعة رق حين دنا المغيب فأسعد النفس، وزادها غبطة بما حولها من جلال وهيبة، وحدثتني نفسي: هنا كان الرسول يقضي شهر رمضان من كل عام، عدة أعوام تباعا، قبل أن يبعثه الله نبيا. في هذه البقعة المنعزلة الموحشة كان يقيم وحيدا يؤنسه تفكيره وتأمله، يقلب في صحف نفسه هذه الحقيقة السامية التي كان الله يهيئه لها ليبعثه إلى الناس بها، لم يكن في عزلته وفي وحدته وفي انقطاعه يخاف الجبل ولا الغار وما قد يكون فيهما من وحش أو هوام، أية قوة روحية يهبها الله لمن يتخذ هذا المكان القفر له موئلا! إنها قوة فوق ما أوتي الناس جميعا وفوق ما في العالم كله، لا يؤتاها إلا الذين اختارهم الله لرسالته ورضي عنهم ورضوا عنه.
وبلغت القمة، وتناولت قدحا من الشاي، وجلست مستندا إلى بقية جدار لعله أثر من بناء القبة التي هدمها الوهابيون ليحولوا بين الناس وبين التبرك بها، لما يرونه في هذا التبرك من معنى تقديسها، وأقام أصحابي معي هنيهة ثم تركوني وذهب كل في ناحية من شعاب الجبل يستطلع ما قد يحتويه جبل النور من آثار لا يحتويها غيره من الجبال، وتركت لخيالي العنان وأنا في عزلتي هذه، فتمثل لي الرسول الكريم جالسا حيث أجلس، مشتملا في نظره هذا الكون العظيم المحيط به متأملا، مفكرا فيما يرى وفي دلالته، ترى ما بال أهل مكة لا يجيء منهم من يتعبد في حراء طول شهر رمضان كما كان النبي يفعل قبل بعثه؟ أليس لنا معشر المسلمين في رسول الله أسوة حسنة؟! وهل لمكان أن يعين المعتزل على التفكير وعلى التأمل ما يعينه هذا المكان من حراء؟! فهو بعيد عن ضجة الحياة وضوضائها، قريب من الحياة ومن كل ما فيها، فيها يعكف الإنسان على نفسه ما شاء، ويتصل بالكون وبخلق الله ما أراد، ليست هذه القمة صومعة تحجبنا عن الحياة وتحجب الحياة عنا، ولسنا فوقها رهن محبس تحيط به الجدران، أو كهف غائر في الصخور؛ إنما هي مرصد يطالع الحياة وتطالعه، تبزغ الشمس عليها ساعة تشرق وتنحدر عنها ساعة تغيب، وتتألق النجوم ويحبو البدر في السماء، وتهوي الشهب وتنتطح السحب، وهي شهيدة على هذه الأحداث كلها، فأين يجد المعتزل مثل هذا المرصد يرى منه ما يشاء من غذاء الروح وأسباب التفكير والتأمل؟!
فإذا هو أقام من كل سنة شهرا كاملا صائما منقطعا عن تجارة الحياة إلى التفكير فيما يرى آناء الليل وأطراف النهار، وإلى التأمل في مشاهد هذا الكون المترامي الأرجاء إلى حيث يقصر النظر، وإن بلغ من القوة والدقة نظر زرقاء اليمامة، وإلى حيث تسلم المحسوسات لقوة الإنسان العاقلة أسرارها، فليس من ريب في أن يصل من معرفة هذه الأسرار إلى نتائج باهرة، إنه لن يكون نبيا ولن يبعثه الله رسولا، فمحمد - صلوات الله وسلامه عليه - خاتم الأنبياء والمرسلين، لكنه يصل من طريق العلم بالمشاهدة والملاحظة والترتيب والاستنباط إلى خير ما يصل إليه مشاهد من مرصد يسجل حركات الأفلاك وموج ما في السماء، وإلى خير ما يصل إليه من يسجل نتائج اتصال الإنسان بالكون في أسمى مراتب الاتصال، وهو إلى ذلك وما يزاوله من ألوان الصوم وكبت هوى النفس وشهوات الجسد يصل بالروح إلى درجات الطهر والتنزه والسلطان على المادة وعالمها دون أن يكون للمادة أي سلطان عليها.
ما للمسلمين من أهل مكة، وما للمسلمين ممن يقصدون إلى مكة للحج أو لعمرة رجب، لا تميل بهم الأسوة إلى معالجة هذه الرياضة العقلية والروحية ولها في تهذيب النفس أكبر الأثر، ولها من النتائج في العلم ما أشرنا إلى شيء منه؟ وأي تهذيب للنفس كاتصال الإنسان بالكون في مثل هذا المنقطع الرفيع فوق حراء اتصالا يسمو به المرء فوق حاجات الحياة، ويرى أثناءه في شظف العيش وفي الغنى بالنفس عن كل شيء ما يزيده إيمانا بالله وحده، وبأنه دون سواه تجب له العبادة، باسمه يسبح من في الأرض جميعا ومن في السموات! وهل شيء غير مشاهد الكون تقوم عليه النتائج العلمية؟ إنما تقوم هذه النتائج على ما في السماء والأرض، في الضحى، والليل إذا سجا، والنجم إذا هوى، والشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والجبال وما أرساها، والهواء في مسراه، والماء في مجراه، والحب إذا نبت، والصخر إذا تفتت، والضوء إذا تحلل، والمطر إذا ترقرق، والريح إذا اصطفقت، والنفس إذا سكنت لأمر ربها وفكرت، أي شيء غير هذا هو العلم في أحدث صورة أثمرتها حرية الفكر؟! وهل طريقة علمية أدق من هذه الطريقة لمعرفة سنن الكون وما ينطوي عليه؟!
إنما يرغب المسلمون اليوم عن هذه الأسوة الحسنة؛ لأنهم انحرفوا عن أمر الروح الذي يكيف المادة وأذعنوا لسلطان المادة يكيفها غيرهم بقوة عقله وروحه، ولأنهم آثروا راحة التقليد على عناء الاجتهاد، ولأنهم نسوا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويجب عليه لذلك أن يهب من نفسه لإخوته المؤمنين، فتولت عليهم الأثرة، وصار ما يرضي الأثرة من ابتغاء المال والجاه وما إليهما كل شيء عندهم، وأنى لمن هوى إلى هذا الدرك أن يفكر في الحقيقة ينقطع لها ويجعل العلم سبيله إلى إدراكها، وأن يحمل نفسه على نشر نورها يستضيء به الناس جميعا، وهو لا يريد العلم إلا لنفسه، ولا الحقيقة إلا لنفسه، ولا الحياة إلا لنفسه، ولا المال إلا لنفسه، ولا السلطان إلا لنفسه؟! وأنى لمن هوى إلى هذا الحضيض أن يدرك ما في بذل النفس لهدى الغير من سمو يتضاءل أمامه الجاه والمال والسلطان، ويصبح الفقر معه فخرا، وتصبح الفضيلة معه لباس المتقين؟! والناس متى هووا في هذا المنحدر فاتهم معنى العبادة على وجهها الحق، ففاتهم أن العمل عبادة، وأن العلم عبادة، وأن هداية الناس عبادة، وأن البذل للمحتاج من مال أو علم أو شفقة وبر عبادة، وأن الله يقبل عبادة من يؤثر على نفسه راضيا عنه.
فأما الأثر الذي لا يعرف إلا نفسه ففي حاجة إلى أن يطهر نفسه قبل أن يطمع في مغفرة الله له، وفوت هذا المعنى قد جعل الناس يحسبون أن خير العبادة ما كان في هياكل فخمة العمارة ذات محاريب وأبراج تأخذ روعتها بالنظر، وينسون أن خير العبادة ما توجه الإنسان فيه بكل قلبه إلى الله، ناسيا نفسه، محبا في الله إخوانه، مستعينا ربه، كانت عبادته في هيكل مشيد، أو كانت في فضاء الله وبين خلقه الذي لم تعد عليه يد الإنسان.
والمسلمون يرغبون اليوم عن هذه الأسوة الحسنة؛ لأنهم لا يطيقونها، فالوحدة للتفكير ابتغاء الحقيقة إنما يطيقها ذوو الأرواح القوية، هؤلاء يتلمسونها تلمسا ويتخذونها ملجأ من ضعف الجماعة وأفنها، يرى أحدهم ما تخب الجماعة فيه وما تضع من ضلال يبعدها عن الطريق السوي، طريق الحق والخير والجمال، فيزور عنها، ولا يجد في غير العزلة موئله، وفي غير التفكير أثناء هذه العزلة وسيلة خيرها وصلاحها، ومنهم من يذر بيئته إلى بيئة أخرى ليست منه وليس منها فلا سلطان لها عليه، وقد يفيد من الاتصال بها، وهو أثناء مقامه بها في عزلة عما ألف، تفتح له الحرية من أبوابها ما كان مقفلا في جماعته، ومنهم من لا يرى في الجماعة الإنسانية مظهر الحق، ويراه في أطواء النفس ودخيلة القلب، فهو ينقطع عن الناس وينظر في الكون كله ويعود بنظره إلى صورة هذا الكون مرتسمة في أعماق وجوده ترشده إلى الحق وتضيء أمامه بنوره، فأما الأولون الذين يتلمسون الحق عند الناس من غير ذويهم فهم أقوياء، لكنهم عاجزون عن مواجهة الوجود فهم يريدون الحق عند جماعة يحسبونها أرقى من جماعتهم، ويريدون أن يحملوا جماعتهم على تقليد من يحسبونهم أدنى إلى الكمال وأبعد عن الضلالة، وأما الذين يرجعون إلى أنفسهم يتلمسون الحقيقة في أعماقها فأولئك هم الأقوياء حقا، وهم الذين يقدرون النفس الإنسانية قدرها الصحيح، والذين يتوجهون إلى القوة العليا التي برأتهم وكان الروح من أمرها يرون فيها الحق لا حق إلا هو، ويتأملون في خلق الله سنة الله فيه؛ فإذا اهتدوا اهتدت الإنسانية بهداهم وسعدت برأيهم.
ليس يطمع أحد في أن يؤتيه الله من هذه القوة ما أوتي محمد
صلى الله عليه وسلم ، وقد حاول أفراد في مختلف الأمم أن ينقطعوا عن العالم، فإذا هم قد انقطعوا عنه إلى غير أوبة إليه، فمنهم من ضل عنه عقله ولم يثب إليه رشاده، ومنهم من هجر العالم فرارا من آلامه، ومنهم من أخذ عن الجماعة الإنسانية ببدائع الطبيعة، ومنهم من فني في الخالق - جل وعلا - وهام به ونسي أن هدى الناس خير ما يرضي الخالق، وقليلون منهم عادوا إلى الإنسانية بحقائق أضاءت سبلهم فساروا على هداها، وهؤلاء هم الذين اتبعوا سنة الرسول.
لكن الله لم يؤت أحدا ما آتى عبده ونبيه ورسوله، فلم ينطبع العالم في نفس بالقوة التي انطبع بها في نفس محمد، ولم تصل الرياضة الروحية بأحد، ولن تصل بأحد، إلى الرؤيا الصادقة التي انتهى إليها قبيل بعثه وبعد أن قضى السنين يتعبد شهرا كل عام في حراء، ولقد ظل محمد طوال حياته مشغوفا بالوحدة، تطمئن إليها نفسه القوية، ويستمد أثناءها من ربه نور الهدى، حتى تنزلت عليه كلمة الله وحيا ونورا.
ومن هذه القمة التي كان الرسول يتعبد فوقها متخذا إياها المرصد الروحي لتلمس الحق في الحياة، يرى الإنسان منظرا يدله على أن المسلمين لم يكفهم أن لم يطيقوا أسوته - عليه السلام، بل نسوها، وتعلقوا بالعرض دون الجوهر، وبالقشور دون اللب، لست أقصد إلى أنهم أقاموا قبة يتبركون بها حيث كان الرسول يتعبد وظلوا على ذلك حتى هدم الوهابيون هذه القبة، فلا عجب أن يقام في هذا المكان الخالد الذكر بالحادث الذي خصه القدر به تذكار ينبه الغافل إليه، فأما البركة الحقة ففي العبادة وفي التقوى، بل أقصد أن تفكيرهم هوى إلى أسفل من هذا الدرك بمراحل، ومن ذلك أن ثمة شقا في قمة حراء يجري حوله جدل أشار إليه صاحب «مرآة الحرمين» ورده على أنه غير صحيح، وهو جدل، لا غناء فيه، عن هذا الشق وأصله، ومداره: هل شق الملكان صدر النبي في هذا المكان وطهراه وأسالا ماء الطهور من هذا الصدع في الجبل؟
ما أكبر الفرق بين هذا التفكير ممن يقف على قمة حراء وتفكير الرسول حين تعبد فوقها قبل بعثه! لقد كان يتلمس الحقيقة وكان يراها في خلق الله مما حوله وكان يجاهد لاختراق حجب الحياة إليها حتى أسلمها الله إليه بالوحي كاملة، كانت حقيقة العالم وخلقه وخالقه هي التي تشغل روحه، وهي التي تصرفه عن تجارة الحياة وطعامها وشرابها وتنسيه كل شيء فيها، لم يكن يعنيه أن يزداد ارتفاع جبل على جبل، أو أن يكون في شعب من شعاب الجبل شق أو نتوء لا شبيه له في الشعب الآخر، بل كان متعلقا بما هو أسمى من هذا وأرفع مكانا؛ كان يبحث عن الكون وعن الزمان والمكان فيه، وعن منشئ ذلك كله. أما اليوم فينصرف أكثر المسلمين عن هذا السمو الفكري، ويتعلقون بروايات تصح أو لا تصح ويجعلونها علة لخلافهم ونضالهم ولإقامة الفرق والشيع المتناحرة بينهم، بل لرمي بعضهم بعضا بالمروق والكفر.
كانت الشمس تنحدر إلى ناحية المغيب، فيجلو انحدارها قطوب الجبال ويكسو السفوح الظليلة سلاما وسكينة، وكان أصحابي يدورون في شعاب الجبل ويعود أحدهم الفينة بعد الفينة فيراني منصرفا عنه إلى ما حولي لا أوجه إليه كلمة، فيرتد إلى إخوانه، فلما طال بهم الأمد ورأوا المغيب زاحفا علينا، نبهني أحدهم فاستمهلته رويدا وهبطت وإياه إلى الغار، غار حراء، ورجوته أن يدعني هنيهة إلى نفسي، ووقفت بين هذه الصخور الضخمة قبالة الجحر الموحش في الجبل القفر، وقد تسللت إليه الظلمة فزادته وحشة وقفرا، ووقفت وحيدا مفكرا أتخطى بذهني القرون إلى الماضي وقد امتلأت نفسي بصورة ذلك اليوم الفذ في التاريخ، يوم نزول الوحي الأول، ونسيت كل ما حولي، وخيل إلي أنني أرى، نعم!
رأيت محمدا متمطيا في الغار الموحش وعلى محياه الجميل سيما الرضا وكأنما يتقلب من هذا الصخر في فراش وثير، وإني لأحدق في قسمات وجهه وقلبي كله الرضا والحب، إذ رأيت هذا الوجه أضاءه نور لألاء زاده جمالا، ورأيت ابتسامة مطمئنة ترتسم على ثغر تنم شفتاه الرقيقتان عن معاني التأمل وعظيم الأمل، وأخذت بما رأيت، وازددت بصاحب الوجه المنير شغفا، وفي قسماته الحلوة تحديقا، وفيما أحدق شعرت أن الجبل كله يهتز، وبهرني من الغار نور لم تطق عيناي ساطع ضيائه، سمعت صوتا ملائكيا يهيب بالمتمطي في الغار: «اقرأ» ويجيب محمد في صوت مرتعش ونبرات تهتز من الخوف: «ما أقرأ» والنور الساطع والبهر يتولاني من كل مكان، وأحس الفزع يجري في عروقي، وأحاول الفرار فتخونني قواي، وأسمع الصوت الملائكي مرة أخرى يهيب بمحمد: «اقرأ» ومحمد ملؤه الخوف والوجل يجيب بصوت من أرسل بعد اختناق: «ما أقرأ» ويكرر الصوت الملائكي: «اقرأ» ويشعر محمد أنه لم يبق في ملك نفسه وأنه لا مفر له من أن يقرأ أو يظل صاحب الصوت يخنقه ويرسله، فيجيب: «ماذا أقرأ؟» ويتلو الصوت الملائكي:
اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم . ويتلو محمد هذه الآيات من بعده.
خيل إلي وأنا في موقفي من الغار أني أرى هذا المشهد الفذ في التاريخ، وأني أسمع هذه الأصوات لم أسمع قط مثلها، وصفدني الفزع مكاني وأقمت أنتظر ما يكون من بعد، فإذا النور الباهر يترفع، ومحمد في الغار يتصبب عرقا ويدور بنظراته فيما حوله ويهتز مضطربا من رأسه إلى أخمصه ثم يفرك عينيه ويمسح بيده جبينه العريض المضيء - سمة من يخشى مكروها أصابه - ويزداد به الرعب فينطلق من الغار هائما في شعاب الجبل لعل في هوائه ما يدفع عنه روعه، ها هو ذا يقف منصتا كأنما يناديه مناد من السماء، إنه الصوت الملائكي الذي كان يحدثه في الغار، وهو يحدق في مصدر الصوت، ويرى صاحبه فيزداد فزعا ويقفه الرعب مكانه وهو يلقي بنظره إلى الجبل ويصرف وجهه يمنة ويسرة ، ثم لا ينفك يسمع ويرى، ليست حواسه إذن مصدر سمعه ورؤيته، إنما مصدرهما روحه؛ وهو مع ذلك يراه لأنه تجلى بإذن الله له ولم يتجل لغيره، وهو من بعد في فزع يتقدم في شعاب الجبل ويتأخر ولا يبرح يسمع الصوت الملائكي ويرى صاحبه، ما أشد هذه الساعة هولا! وهي مع ذلك للإنسانية ساعة النور والرحمة والهدى!
رآني أصحابي واقفا في شعاب حراء على مقربة من فوهة الغار، فأقبل علي أحدهم يسألني أن نهبط الجبل قبل أن تدهمنا الظلمة وقد آذنت الشمس بالمغيب، وأفقت لسماع صوته مما كنت فيه، وطلبت إليهم أن يأتوني بشربة ماء، وتناولت القدح وشربت من ماء «الجعرانة» المثلوج فأعادني شربه إلى الحياة المحيطة بي، وتهيأت للهبوط، فجمعت قوتي، وبدأنا جميعا ننحدر في الطريق المتعرج و«التكروني» يتبعنا دون أن ينبس ببنت شفة، ولقينا رجل من الهنود وامرأته يصعدان، فسألانا في لكنة أعجمية عما بقي إلى القمة، وجعلنا نتلوى يمنة ويسرة منحدرين دون أن تكون بنا حاجة إلى الوقوف لنستريح، ففي نسيم هذه الساعة التي تتلو المغيب ما ينعش ويريح.
وألفيت صاحبي المكي الذي وقف دون القمة قد سبقنا إلى أسفل الجبل، فلما رآني سألني عن حالي واعتذر عن تخلفه في الطريق بجرح أصاب به الصخر قدمه، وأقلتنا السيارة إلى المأوى وصلاة العشاء تكاد تؤذن، وشعرت وأنا أصعد الدرج إلى مخدعي أن بفخذي وساقي ألما، وأفضيت إلى مضيفي بما أشعر، فسألني: ما عسى كان الرسول
صلى الله عليه وسلم
يفعل؟! قلت: ألف الجبال وتصعادها، وأحب خشونة العيش وشظفه، فما يشق اليوم علينا كان رياضة له، وما يعجزنا اليوم كان في متناول يده، حياتنا متاع وغرور، وحياته متاع روحه ورضا ربه، والرجل لا يمتع غروره في ناحية إلا على حساب الأخرى، يمتع غروره بقوة عضله على حساب عقله أو على حساب روحه، ويمتع غروره بكثرة ماله على حساب خلقه أو حساب كرامته، أما متاع الروح بما يرضي الله فلا ضعف فيه، وهو القوة على كل شيء، ومتاع الروح الرياضة ؛ رياضة الجسم بالسعي في مناكب الأرض، ورياضة العقل بتدبر ما في الكون، ورياضة القلب بالحب والإخاء، وذلك بعض ما رأيت وأنا فوق حراء، وبعض ما شعرت به وأنا أنحدر عنه.
وبكرت إلى مضجعي حتى أهبني مؤذن الفجر عنه، وجلست بعد الصلاة أفكر في حراء، وفي الغار، وفي الملك، وفي رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وفي يوم الوحي الأول، جلست أفكر والخيط الأبيض يتبين من الخيط الأسود من الفجر، وذكرت رسول الله بعد يوم الغار، وتمثلت لي رسالته تتبين من خلال الظلمات المحيطة لها، ظلمات الكفر والوثنية والشرك، كما يتبين هذا الخيط الأبيض من ظلمات الليل البهيم، وجعل الضياء ينتشر حولي شيئا فشيئا كما انتشر الإسلام فأضاء الأرجاء بنوره، إذ ذاك توجهت إلى الله بكل قلبي ودعوته: اللهم مالك الملك، تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء، بيدك الخير، إنك على كل شيء قدير.
ربنا منك السلام وإليك السلام فحينا ربنا بالسلام.
وقمت عن مصلاي ممتلئ النفس من مشهد الجبل والغار فوقه، ومن مشهد يوم الوحي الأول حين أراد الله للناس الهدى فبعث به عبده ورسوله محمدا بشيرا ونذيرا، وإنني اليوم لأذكر هذا المشهد ممتلئ النفس من جماله وجلاله وهيبته، عامر القلب إيمانا بهذا النور الذي أضاء العالم بالحق، علمه الله الناس بالقلم ولم يكونوا يعلمون.
ربنا جل ثناؤك، وتعالت أسماؤك، لا إله إلا أنت، بيدك الخير، ومنك الهدى، وإليك المرجع والمآب.
في غار ثور
أما وقد آن لنا أن نغادر مكة إلى المدينة فهلم بنا إلى غار ثور، وأومأ الإخوان الذين صحبوني في صعود حراء وفي جولاتي بالبلد الأمين وما حوله أنهم سيكونون في صحبتي، وقال اثنان منهم: وسنصحبك إلى المدينة، فشكرتهما، ثم حددنا موعد الذهاب إلى ثور والصعود إلى غاره في الغداة، أو ليس الرسول - عليه السلام - قد احتمى به من كيد عدوه حين أزمع الهجرة إلى المدينة؟ فلنذهب إليه ولنشهد أثر الرسول فيه ولنحتم بأفياء الصخور وظل الغار وإن لم يطارنا عدو ولم يأتمر بنا ليقتلنا أحد، قال رجل من أفاضل المكيين لم يكن صحبنا من قبل: وأنا زميلكم في رحلتكم هذه إلى ملجأ رسول الله في هجرته، وإن لم يكن بي إلى زيارة المدينة هذا العام عزم، وسألته فذكر أنه لم يصعد ثورا ولم ير الغار من قبل، ثم ابتسم وقال: إن مئات من الهنود والجاويين والصينيين وغيرهم ليتسلقون ثورا ويصلون الغار في كل عام، أما نحن أهل مكة فتصرفنا الحياة وشغلها عن الصعود إليه.
ولم أجد في ذلك عجبا، فالسائحون الغربيون الذين يجيئون إلى مصر أشد حرصا من أهل مصر على مشاهدة آثار الفراعنة والرومان ومساجد العرب والمسلمين، والشرقيون الذين يزورون أوروبا يرون من آثارها ومتاحفها أضعاف ما يراه أهلها؛ ذلك بأن المقيمين على مقربة من هذه الآثار والمتاحف لا يستعجلون زيارتها طمأنينة منهم إلى أنهم سيقومون بهذه الزيارة يوما ما، فأما الذين جاءوا من بلاد قاصية فلا يعرفون هل قدر لهم أن يعودوا؛ ولذلك يحرصون على أن يروا كل ما يستطعيون رؤيته، وهؤلاء المسافرون قد جاءوا وفي برنامج رحلتهم أن يروا هذه الأماكن، فأما المقيمون حولها فلديهم من مشاغل الحياة اليومية ما يحملهم على إرجاء زيارتها، وكثيرا ما يطول هذا الإرجاء فلا تتم الزيارة أبدا.
ورحبت بصحبة صديقنا المكي لنا وقلت مبتسما: لطالما يتحدث أهل مكة عن آثار الرسول فيها، فلعلك تفيدنا في هذه الرحلة بمعلوماتك عنها - ولم ير الرجل في حديثي هذا محلا لدعابة، بل قال: نعم! فإن ما لدي من العلم بآثار مكة كثير، وقفت عليه في بطون الكتب ومتون التاريخ، ووفقت غاية التوفيق في بحثه وتمحيصه، وهل قصة يشوق الإنسان بحثها ما تشوقه قصة الهجرة؟! هذه القصة التي لم يرو التاريخ قط مثلها من أنباء المغامرة في سبيل الحق والعقيدة والإيمان قوة وروعة! وجبل ثور وغاره يتصلان بهذه القصة أبلغ اتصال، وجدير بكل ما اتصل بها أن يخلد على التاريخ، وكيف لا يكون الأمر كذلك وقد أصبحت الهجرة مبدأ تاريخ لذاتها، فإنها فصلت على الزمان بين عهد الوثنية والشرك بالله وعهد التوحيد القائم على أسمى الأسس الروحية والعقلية والخلقية.
كان الرجل يلقي هذا الحديث وبيانه يتدفق حماسة وإيمانا مع أنه لم ير ثورا ولا صعد إلى الغار فيه؛ إنما دفع إلى قلبه هذه الحماسة وأفاض على لسانه هذا البيان إيمانه بالله ورسوله، ثم إن أهل مكة قد ألفوا الحديث عن آثار بلدهم المقدس بلهجة تزيد المسلم حبا لهذه الآثار وحرصا على رؤيتها، وإن لم يكن المتحدث من أهل مكة قد رأى أثرا منها، وإن أفضى إليك إذا خلوت إليه بأن التاريخ لا يثبت من هذه الآثار إلا الكعبة والحرم والصفا والمروة وحراء وثورا، فأما ما سوى ذلك فلا تنهض حجة موثوق بها على صحة أنه المكان الذي ينسب إليه.
وقال أحد الحاضرين وكان قد صعد ثورا إلى الغار من قبل: لولا قصة الهجرة لما ذكر ثورا ولا ذكر الغار الذي بأعلاه ذاكر، فهو واحد من الجبال الكثيرة التي تحيط بمكة، ليس أرفعها وليس أبهاها، وليس يمتاز عليها بشيء مطلقا من حيث طبيعته، والغار الواقع في قمته لا يمتاز على أي غار آخر مما يرى الإنسان في جبال الحجاز وفي جبل ثور نفسه، أما وقد لجأ الرسول ولجأ الصديق معه إلى هذا الغار وأقاما به ثلاثة أيام، كانا موقنين أثناءها بعثور الباحثين عنهما من فتيان قريش بهما وقتلهم إياهما، فقد صار هذا الغار علما من أعلام التاريخ، ومنسكا يحج إليه كثير من الناس ذكرا لهذه الهجرة التي كانت مبدأ فتح الله لرسوله، ونصر الله دينه، وإعلائه كلمة الهدى والحق.
وأقلتنا السيارة صباح الغد حتى بلغت بنا سفح ثور، وهو يقع إلى جنوب مكة في طريق المنحدر منها إلى اليمن، وتقوم على جانبيه إلى اليمين وإلى اليسار جبال مشابهة له كل الشبه، مع ذلك لا يعنى أحد بأن يعرف اسمها؛ لأنها لا تتصل بحادث من حوادث التاريخ.
والذهاب من مكة إلى جبل ثور ميسور اليوم كما كان ميسورا من قبل للسائر على قدميه، لكنه العثار للسيارات لكثرة رمله وتنقل هذه الرمال مع الريح تنقلا يتعذر معه بقاء طريق تمهده السيارات صالحا لسيرها فيه، ولقد غاصت بنا السيارة غير مرة، فنزلنا منها وأعنا سائقها على دفعها خلال الرمال، أو على إزاحة الرمال من حول عجلاتها، أو على رفعها إذا بلغ غوصها أن طمرت الرمال العجلات وجزءا من قاع السيارة الأسفل، وبصر بنا بعض الأعراب في إحدى وقفاتنا فأنبأنا أن الطريق التي نسير فيها كانت سوية من أسابيع مضت، وأن الطريق السوية انتقلت إلى بعيد عن يميننا، وأن من الخير أن يعدل بنا السائق إليها عند عودتنا، فلما سألناه عن المكان الذي نصعد منه ثورا أشار إلى بناء حقير على مقربة منا، وبلغناه فألفينا جماعة من أهل المنطقة جعلوا من هذا البناء مقهى يستريح فيه من يقصدون إلى الجبل ساعة صعودهم أو هبوطهم منه.
وما أظن أصحاب هذا المقهى يفيدون منه إلا قليلا، خلا ما يصيبهم من جود من يقصدون ثورا ومن لا يبتغون عندهم قهوة ولا شايا، فالأكثرون من هؤلاء يحملون معهم قوت يومهم؛ لأنهم يمضون النهار بأعلى الجبل، فإذا هبطوا كانوا أحرص على اللحاق بمكة منهم على تناول الشاي أو القهوة.
بلغت بنا السيارة هذه البنية التي يتخذها الناس علما يهتدون به إلى موضع الصعود، فترجلنا واتجهنا نحو الطريق الصاعد في سفح الجبل، وقد خيل إلينا إذ رأيناه أن تسلقه يسير، وأنه أقل مشقة من الصعود في حراء أو في جبال الطائف، كذلك كان شعوري وشعور الأصدقاء الذين جاءوا معي، وكذلك قال لنا أهل المنقطة؛ لذلك أقدمنا مقبلين على الصعود بنفوس مطمئنة وبال مستريح، ولم تكذب المقدمات ظننا على رغم حر الشمس في الضحى، ولم نر في صعود السفح عنتا يصدنا عن المضي في طريقنا أو يدعونا لنستريح إلى ظل صخرة ما لم ينل منا التعب، صعدت ببصري فخيل إلي أننا صرنا على مقربة من القمة، فهذا الجبل الذي نتسلقه قد أوفى على غاية ارتفاعه، وهذا الجبل الذي يبدو أمامنا بعيدا عنا وأكثر من ثور ارتفاعا لا بد أن يكون في سلسلة أخرى لا شأن لها بثور ولا بغاره.
آن لنا إذن أن نبلغ الغار وأن نطمئن إلى مجلس عنده ريثما نعود إليه ليحدثنا حديث الهجرة، وينشر أمامنا مما طوى الزمن ما يفيض القلب بإجلاله وتقديسه، لكني ما لبثت حينما بلغنا هذه القمة التي نتسلق السفح إليها أن ألفينا قمة وسطا بين هذا السفح الذي ارتقيناه وذلك الجبل الذي كنت أحسبه في سلسلة أخرى أكثر ارتفاعا من ثور، وأن ألفيت بين السفحين طريقا ممهدا يسير الصاعد عليه وكأنه برزخ بين الجبلين، وهو يطل على سلاسل جبال أخرى كان السفح الأول يحجبها عن النظر، وعن جانبيه ينحدر سفحان إلى أودية لم أعن نفسي بالسؤال ما اسمها، وأنا في شغل بهذا الجبل المنقسم إلى جبلين وتسلقه.
فلما اجتزنا الجسر الممهد إلى السفح من بعده سألت أصحابي: أليس بعده سفح ثالث قبل الغار؟ ونفى أصحابي وأكدوا أن الغار في قمة هذا السفح، وبدأت أتسلق كرة أخرى، فإذا طريق التسلق وعر لا يقاس طريق حراء إليه في وعورته، كنت أراني مضطرا إلى الاعتماد على ساعدي أرفع جسمي كله بهما أحيانا لتخطي مضيق هذا الطريق لا أجد وسيلة إلى تخطيه غير هذا الاعتماد، وكنت أزحف أحيانا أخرى معتمدا بيدي على جدار الطريق من صخور الجبل مخافة الانزلاق، فإذا أعياني الجهد اعتمدت بظهري على صخرة ذات ظل حتى تهدأ أنفاسي.
ولن يبلغ مني الإعياء أن يصدني عن غايتي من بلوغ الغار ما دمت قد فرضت بلوغه، فالإرادة الصادقة أقوى من كل مشقة في الحياة، فإذا عزز الإيمان الإرادة وقلت للجبل: انتقل من مكانك انتقل، وما مشقة الصعود إلى ثور وها هم أولاد أبناء المنطقة يهرعون إليه ويجرون في مساربه ومزالقه خفافا كأنهم القطا، ما ينوء أحدهم بشيء مما أنوء به، فإذا اتجهت بإرادتي إلى بلوغ الغار فأجهدني ذلك، فإنما يجهدني أنني استنمت من الحياة إلى الراحة في الحياة، ناسيا أن الراحة سبيل التعب، كما أن التعب سبيل الراحة، بل سبيل النعمة في الحياة بخير ما وهبنا الله من أنعم الحياة.
بهذه الإرادة تقدمت في ارتقاء الجبل لا ينال الجهد الذي ألقاه من عزيمتي ولا يفل التعب من قوتي، كنت أتصبب عرقا فأستند إلى الصخر وأمسح بمنديل عرقي وأعود فأتقدم مجتازا من الطريق أشده وعورة، وكنت أجد أمامي من أسباب الانزلاق وخطره ما لا أتردد في التحايل عليه وتخطيه، وتعرضت صخرة مقوسة، أنت في اجتيازها بين تسنمها، وقد تهوي بك، والانحناء للمرور من تقوسها وقد تهوي عليك، فانحنيت ومررت غير عابئ، هذا وأشعة الشمس مسلطة علي منذ بدأت الصعود تزيدني جهدا، وتزيد عرقي تصببا، وإني لكذلك إذ استدار الطريق إلى ناحية الغرب، واحتجبت بذلك عني أشعة الشمس، وأويت إلى صخرة جلست عليها أستريح كيما تهدأ أنفاسي.
وبينا أجلس قال صاحبي الذي يتقدمني: هذا هو الغار، فلم تبق إلا خطوة لتبلغه، وعدت أسير والطريق، ثم رفعت بصري إلى مصدر الصوت فإذا صاحبي معتمد في موقفه على صخرتين متقابلتين، وإذا به يشير بيده أن هلم، لكن الطريق زلق والحذاء الذي ألبسه لا يستقر عليه، فلألجأ مرة أخرى إلى الاعتماد بساعدي فوق الصخور، والاعتماد على قوتهما في رفع جسمي، وفعلت، فلم أتقدم إلا قليلا، عند ذلك انحنى صاحبي وأدنى يده مني وطلب إلي أن أعتمد عليها في صعودي، ومددت إليه يدا مسها الجهد وآذاها مس الصخور، ولم يجنح إلى قوة يعينني بها، فقد طفرت إليه فوق الحجر الزلق طفرة كنت بها إلى جواره، وصنعت صنعه فاعتمدت بقدمي على الصخرتين المتقابلتين وأمسكت بيدي صخرة ألفيتها معلقة فوق رأسي.
ها أنا ذا أمام فهوة الغار الذي احتمى به النبي العربي من كيد أعدائه حين أذن الله له في الهجرة من مكة إلى يثرب؛ وأمسك أنفاسي على شدة اضطرابها في صدري لأحدق في داخله علني أرى السر العظيم الذي يستجم منذ أربع وخمسين وثلاثمائة وألف سنة في مهابة ظلمته، ووقفت حيث أنا مشدوها مأخوذا لا أدري أأتقدم للخطوة الأخيرة فيما بعد فوهة الغار إلى سطح القمة أتفيأ ظل صخرة جاثمة تقوست فوقها تحميها من لظى الشمس أوقات الهاجرة، أم أظل حيث أنا ممسكة يدي بالصخرة حتى لا تنزلق قدمي، محدقا من فوهة الغار في داخله، أم أدخل الغار لأقيم حيث أقام الرسول - عليه السلام - في أدق الساعات التي مرت به منذ بعثه الله نبيا وهاديا ورسولا؟ وكنت أشد شوقا للدخول إلى الغار والمقام به ما استطعت، لولا أن حال زلق الصخور حيث أقف دون تنفيذ هذا العزم لساعتي، رغم جهد أنسيته أمام جلال المشهد العظيم.
وخطوت إلى القمة وتفيأت ظل الصخرة قبل أن يدركني أكثر أصحابي الذين تسلقوا الجبل معي، ولم تكن القمة فسيحة الأرجاء، فمربعها لا يتجاوز الثلاثين مترا، لكنها كانت ذات بهجة بظلها وبالصخور المحيطة بها، والتي تجعل منها بهوا تستريح النفس إليه ويطيب لها المقام به.
فلما هدأت أنفاسي تناولت شربة من الماء، ثم قمت أدور حول الصخرة ومعي منظاري، فشهدت مكة والحرم، وشهدت ما وراء مكة إلى حد الأفق، وشهدت الجبال بين ثور ومكة يتلو بعضها بعضا ولا تستبين العين ما بينها من الطرق.
هذه إذن أم القرى التي أخرجت محمدا منها؛ لأنه دعا إلى الحق أهلها، وهذا البيت الحرام الذي أقامه إبراهيم وإسماعيل مثابة للناس وأمنا يتوسطها وينفس عنها، وهذه البادية الفسيحة الممتدة أمام النظر إلى غاية الأفق تدعوني أرجاؤها إلى التأمل وإلى الأناة وإلى تدبر ما في الكون من حاضر أمام نظرنا ومن غيب نتوسمه ولا نعلمه، فليس يعلم الغيب إلا الله عالم الغيب والشهادة الكبير المتعال.
أدركني أصحابي وجلسوا يتفيئون ظل الصخرة، وجلست إليهم، وتناولنا الشاي إذ كنا نتناول بالقول انصراف المسلمين عن زيارة هذه الأماكن اتقاء المشقة وخوف ما يذكرونه عن بطش العرب في الماضي بمن ينقطع عن قافلته، وجعل القوم ينصرفون واحدا بعد واحد، يقصد أحدهم إلى الغار، ويدور الآخر حول الصخرة، ويلتمس ثالث مسالك الجبل في غير الناحية التي صعدنا منها، فلما اطمأننت إلى وحدتي فوق القمة عدت بذهني إلى الليلة التي هاجر فيها الرسول، فرأيته قائما صدر الليل في داره يعبد ربه ويتلو كتابه، ورأيت أبا بكر بداره في طرف آخر من مكة لا يطرق النوم جفنه ولا يدري ما الله صانع به، لقد أسر محمد إليه أن الله أذن لهما في الهجرة، فمتى تكون؟ وكيف تكون؟ إنه أعد راحلتين تحملانهما من مكة إلى يثرب، لكنهما لن يخرجا بأعين الناس، والناس لمحمد بالمرصاد وقد ائتمروا به ليقتلوه، والليلة موعده من الرسول فلينتظره وليصبر، إن الله مع الصابرين.
وهذا علي بن أبي طالب في دار محمد قد تسجى برده الحضرمي الأخضر ونام حيث ينام ابن عمه مبلبل النفس منذ أسر إليه أن ينتظر بمكة بعد مغادرته إياها حتى يؤدي ما لديه من ودائع للناس، وهؤلاء فتيان قريش بالباب وحول الدار ينظرون لعلهم يصيبون من محمد فرصة يفتكون به فيها فتكة رجل واحد حتى يضيع دمه بين القبائل، والليل يردف أعجازا وينوء بكلكل فيأخذ هؤلاء الفتيان غمض ليس بالنوم ولكنه أدنى إلى الأرق، ويخرج محمد من داره إلى دار أبي بكر فلا يراه منهم أحد ولا تقع عليه عين، ويلفي أبا بكر في انتظاره أشد ما يكون شوقا إلى هذه الساعة التي يهاجر معه فيها بأمر ربه.
نحن الآن في ساعة الهجود قبيل الفجر، فليس بمكة همس، ولست تسمع فيها ركزا، والرجلان يسريان متجهين إلى أقرب مخرج من مخارج مكة صوب الجنوب، لا ينبس أحدهما ببنت شفة، ولا يحس مسراهما أحد، ها هما ذان الآن قد خرجا بين الجبال، وآن لهما أن يخرجا من صمتهما ليسر محمد إلى صاحبه أنهما في الطريق المستقيم إلى ثور، ويلزمان الصمت كرة أخرى، وإن أيقنا أنهما صارا من العيون بمنجاة، فليس يدور بوهم أحد أنهما اتخذا وجهة اليمن بعد أن هاجر المسلمون قبلهما إلى يثرب، ومحمد مستغرق أثناء مسيره في التفكير، فما يكاد يحس وجود أبي بكر إلى جواره، ويتلفت ملتمسا إياه فإذا هو يسير خلفه، فينتظره حتى يكونا كتفا إلى كتف، ويعود محمد إلى تفكيره، ثم يلتمس صاحبه فإذا هو قد سبقه يسير أمامه، والجبال حولهما تشهد مسراهما وحيدين حيث لم يسر قبلهما في مثل هذه الوحدة أحد.
ويفطن محمد إلى أبي بكر يسير تارة خلفه وطورا أمامه، فيعجب ويسأله في ذلك، فيجيبه صاحبه: يا رسول الله، أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك، ويبتسم محمد وتفعم قلبه المسرة لإخلاص صاحبه ويسأله: يا أبا بكر، لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني؟ ويجيب أبو بكر في حماسة: نعم والذي بعثك بالحق! وترتسم على محيا محمد سيما الغبطة، ويظل في انطلاقه هو وصاحبه إلى غايتهما يسعدهما نسيم الليل الرقيق حتى يبلغا أسفل ثور ثم يندفعا إليه يصعدانه، وما كان لهما أن يتخوفا من التصعيد مشقة أو عنتا وهما من أبناء الجبال، قد ألفا خشونة العيش وألفا في المشقة النعماء المستعذبة.
ما أبهى هذه الصورة وما أعظم روعتها في نفسي! لقد انتشرت أمام ذهني وأنا في مجلسي من القمة فتعلق بها قلبي ونقشت فيه نقشا، إن كثيرا ما يسري رجلان أو تسري قافلة جوف الليل في هذا الطريق، طريق اليمن أو في طريق غيره، وقد يكون لصورة هؤلاء السراة جمالها وعذوبتها، لكنه جمال مادي وعذوبة فنية، فأما هذان الرجلان اللذان يسريان، وقلبهما مفعم بجذوة الإيمان المقدسة، فرارا بإيمانهما إلى الله ممن يأتمرون بمحمد ليقتلوه، فلمسراهما في النفس صورة أخرى، صورة روحية بالغة غاية السمو، صورة من يستهين بالحياة ومتاعها، ومن لا يمسك عليها إلا حرصا على الحقيقة أن يبلغها الناس، وأولهم المؤتمرون به، وإن ناله في تبليغها الأذى وأصابه العذاب.
وبلغ الرجلان الغار، فتقدم أبو بكر فاستبرأ المكان مما حوله، ثم استبرأ الغار مخافة أن يكون به ما يؤذي الرسول، وصلى الرجلان شكرا لربهما، ولجأا إلى الغار يحتميان به ويستريحان فيه من مشقة يومهما.
بلغت هذا الموضع من الصورة الذهنية التي ارتسمت في نفسي إذ عاد صاحبي الذي لزمني في صعودي وأعانني فيه، فلما رأيته لم أمهله أن قلت له: هلم بنا إلى الغار نلتمس الدخول إليه، قال: خير لك أن تدور حوله وأن تدخل من صغرى فوهتيه، فالدخول منها آمن عثارا وإن لم يكن أشد يسرا، ودرت ودخلت ووقفت ما أتاح سقف الغار لي أن أقف، واطمأن صاحبي إلى سلامتي فتركني ومضى، وتلفت فيما حولي ثم طاب لي أن أجلس فجلست، جلست في شبه الظلمة التي تشتمل كل ما في الغار، ونظرت إلى فوهته الكبرى - وأسفت كما أسف غيري أن اجترأ أمير من أمراء المسلمين فأوسعها عن حسن نية لييسر الدخول لمن أراد - وهذه الفوهة الكبرى مستديرة، يبلغ قطرها مترا أو نحوه، أما الفوهة الصغرى فلا تبلغ نصف مساحتها، فإذا استوى الإنسان في الغار رأى سقفه يرتفع إلى حيث يستطيع أن يطمئن إلى مقامه فيه طمأنينة العابد المنقطع إلى ربه في خلوته.
جلست مكاني وحيدا ممتلئ النفس من هيبة هذا الغار الذي أوى إليه رسول الله وصاحبه نجاة بنفسيهما من قريش الظالمين، ومحت ظلمة الغار آية الزمن أمام بصيرتي وتمثل لي اللاجئ العظيم في مجلسه هنا بهذه البقعة متوجها بكل قلبه إلى ربه يناجيه ويدعوه أن يصرف عنه كيد عدوه، وينقضي النهار وهو في مناجاته ودعواته وصلواته مطمئن إلى ربه واثق من نصره، وصاحبه إلى جانبه مطمئن بطمأنينته، أما قريش بمكة ففي حيرة من أمرها، كيف استطاع محمد الفرار؟ فهي في حوار دائم تلتمس الرأي للعثور به وقتله، وعبد الله بن أبي بكر يقف على ما يأتمرون ويدبرون، وكان عبد الله قد عرف من أبيه حين الهجرة من مكة أنه سيلجأ مع النبي إلى غار ثور، فكان إذا جن الليل ينطلق إلى الغار فيقص على محمد وعلى أبيه ما رأى وما سمع، وينطلق عامر بن فهيرة مولى أبي بكر بأغنامه فينال الرجلان من ألبانها ولحومها طعام يومهما، ثم يعود عبد الله بن أبي بكر ويعود عامر بالقطيع وراءه ليعفي على أثره، ويعود اللاجئان إلى عزلتهما بالغار والله معهما يسمع ويرى.
وقريش ما تنفك تأتمر وتدبر، فقد ذهب فتيانها الجلداء الموكلون بمحمد وقتله إلى كل ناحية مما حول مكة؛ ذهبوا إلى الشمال حاسبين أنه مسارع ليلحق بمن سبقه من أتباعه المسلمين إلى يثرب فلم يقفوا له على أثر، وشرقوا وغربوا وتيامنوا وتياسروا، وقصاصو الأثر يحاولون أن يعرفوا أي طريق سلك فتذهب محاولتهم هباء، فليذهبوا إذن إلى الجنوب من ناحية اليمن، وإن كان سلوك محمد هذا الطريق مما لا يرد بالخاطر، وذهبوا إلى الجنوب وتسلقوا من الجبال ما تسلقوا وصعدوا ثورا واقتربوا من الغار الذي أوى الرجلان إليه، وكانوا مع ذلك لا يميلون إلى الظن بأنهم سيصادفون من النجاح في الجنوب أكثر مما صادفوا في غيره من النواحي، وكان على مقربة من الغار راع لم يلبثوا حين رأواه أن سألوه: هل رأى محمدا أو أبا بكر؟ وهل عرف أين ذهبا؟ وأجاب الراعي: قد يكونان بالغار وإن لم أر أحدا أمه.
وسمع الرجلان هذا الحديث وسمعا وقع أقدام الفتيان وهم يتقدمون إلى ناحية الملجأ الذي تحصنا به، وسرت رعدة الخوف في عروق أبي بكر لما سمع، فأمسك أنفاسه واقترب من محمد وألصق نفسه به وقد أيقن أنهما مأخوذان لا محالة بالتلابيب فمسوقان إلى مكة أو مقتولان دونها، أما محمد فبقي في سكينته ملتزما الصمت متوجها بقلبه إلى ربه واثقا من أنه لن يصيبه أو يصيب صاحبه مكروه، وتقدم أحد الفتيان حتى كان عند فوهة الغار، فلو أنه حدق بعينيه اللتين اعتادتا الأبعاد واعتادتا الظلام لرأى الرجلين، ولنادى أصحابه فأمسكوا بخناقهما، وبصر به أبو بكر فتصبب من شدة خوفه عرقا وازداد بالرسول التصاقا، ولم تزايل محمدا سكينته ولم يزايله اطمئنانه إلى ربه، ودار الفتى حول الغار وتلفت يمنة ويسرة، ثم عاد أدراجه، وسأله أصحابه: ما لك لم تنظر في الغار؟ فهز كتفيه وأجاب: إن عليه العنكبوت من قبل أن يولد محمد!
تمثل لي هذا المشهد كله وأنا مكاني بالغار، وبلغ من امتثالي إياه أن كدت أسمع حديث المطاردين مع الراعي وأرى الفتى كما كان يراه أبو بكر، وامتلأ قلبي رعبا من هول ما أرى وأسمع، وشعرت بصيحة تكاد تنطلق من صدري وتنفرج عنها شفتاي وكأني أهيب مستغيثا بالذين يطاردونني: على رسلكم! فها أنا ذا مسلمكم نفسي ورفقا! وما عسى أن أصنع وهذا مدركي ثم قاتلي لا محالة؟! فلعل لي في التضرع والاستغاثة من الموت منجاة! وإن نجوت بعد هذه المغامرة فمن ذا يلومني على الإذعان؟ هذا منطق إنساني لا غبار عليه، لكن الفتيان الجلداء لا يطاردونني بل يطاردون محمدا عبد الله ورسوله، ومنطق محمد ليس كمنطقنا؛ لأن روحه ليس كروحنا وإن كان بشرا مثلنا، وخيل إلي أني انتحيت ناحية من الغار وأني أشهد فيه محمدا وصاحبه، ما أشد أبا بكر جزعا! ها هو ذا يرتعد كأن به الحمى، وها هما تان شفتاه تتحركان كأنما يريد أن يقول شيئا، أما محمد فأحيط بهالة من جلال أفاء الله بها عليه سكينته، فليس يهتز لشيء مما حوله، وكأنما يطارد الفتيان شخصا غيره، وطال بي ما أرى، ثم تحركت شفتا أبي بكر فهو يهمس في أذن صاحبه: «لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا.» وأسر الرسول في أذنه: «يا أبا بكر، ما ظنك في رجلين الله ثالثهما؟!» وفي هنيهة أضاء وجهه نور لألاء، ثم تحركت شفتاه بما أسمع أبا بكر قوله: «لا تحزن إن الله معنا.»
ووجمت حين سمعت هذه الكلمة وحدقت في معالم أبي بكر فإذا به زايله الروع وعاودت السكينة نفسه، ومم عسى أن يخاف والله معه؟! إن الفتيان ليتحاورون على مقربة من الغار، ثم يحاول بعضهم أن يتقدم نحوه، فيردهم صاحبهم الذي دار حوله ويدعوهم أن ينتشروا في أنحاء الجبل لعلهم يلقون نجاحا، ويسمع أبو بكر هذا الحوار فلا يعادوه شيء من الروع الأول، ولا تزايله سكينته؛ لأنه أنس إلى صاحبه وأنس إلى ربه، ويتقدم هذا الفتى الذي رآه أبو بكر منطلقا إلى شعاب الجبل ويتبعه أصحابه، وتبعد بهم خطاهم عن هذا المكان حتى لم يبق من أثرهم نبأ، فيتنفس أبو بكر الصعداء، ويصيح رسول الله: «الحمد لله، الله أكبر.»
آن لي أن أدع مجلسي بالغار بعد أن رأيت هذا المشهد التاريخي الفذ، فامتلأت نفسي من رؤيته إلى غاية ما تمتلئ النفس مهابة ورهبة، هذان رجلان يواجهان الموت ولا يخافانه ثقة بأن الله معهما، والله مع من وثق به، ومن لم يخف الموت في سبيل الله عنت له الحياة فملك زمامها، أية نفس مطمئنة هذه النفس الكبيرة التي لا تعرف غير الله ولا تثق إلا به ولا تخشى شيئا في سبيله؟! وأية أسوة أكبر من هذه الأسوة يضربها النبي العربي للناس في جميع الأمم ليعيشوا أعزة كراما، فيعيشوا بذلك كما يجب أن يعيش الإنسان، وكما أمره الله أن يعيش ما أبقى له الأجل على حياة؟!
وخرجت من الغار إلى القمة، فألفيت أصحابي جميعا يستريحون إلى فيئها، وتناولنا أقداح الشاي، وقصصت لهم بعض ما مر بخيالي وأنا بالغار، قال أحدهم: وكيف تمثل لك موقفهما بعد انصراف الفتيان عنهما إلى أن غادرا ملجأهما؟ كم أقاما بالغار بعد ذلك؛ يوما أو بعض يوم أو أكثر أو أقل؟ فكتب السيرة لا تحدثنا عن ذلك فيما قرأت، وكل ما تحدثنا عنه أنهما أقاما بالغار ثلاثا حتى خمدت عنهما نار الطلب، فلما سكت الناس عنهما أتاهما عبد الله بن أريقط ببعيريهما اللذين استأجرا وببعير له، فسلك بهما إلى يثرب طريقا غير الطريق الذي ألفه الناس، أفما دار بخاطركم كم مر بين انصراف الفتيان ومجيء الإبل؟
لم أكن قد فكرت في هذا ولا عنيت به، ولست أدري هل فكر غيري فيه، لكني مع ذلك أجبت: أحسبهما لم يطل بهما المكث بالغار بعد أن مرت بهما هذه الساعة العصيبة التي تمثلت لي وأنا به، فهؤلاء الفتيان لم ينحدروا إلى الجنوب ميممين ثورا حتى بدا لهم اليأس أن يجدوا محمدا في غير الجنوب من النواحي، فلما عادوا من بحثهم بخفي حنين أدرك اليأس قريشا وألقت سلاحها، وما لبث عبد الله بن أبي بكر حين رأى ذلك أن أخبر به النبي وصاحبه، وأكبر ظني أن ذلك حدث أمسية اليوم الذي عاد الفتيان بالخيبة فيه إلى أهلهم بمكة، وأن عبد الله استصحب أخته أسماء وأسر إلى ابن أريقط أن يتبعهما ملث الظلام، وأن هؤلاء جميعا التقوا قبل الفجر بأسفل ثور، فلما تحمل محمد وأبو بكر وسارا في طريقهما ميممين الشاطئ عاد عبد الله وأخته إلى مكة ولم يفطن إلى عودتهما أحد.
لم يعن أكثر الحاضرين بالإنصات إلى هذا الحديث، ولم يعنهم أن يكون الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - قد ترك الغار بعد انصراف الفتيان عنه بساعة أو بيوم أو بثلاث ليال، حسبهم أنه
صلى الله عليه وسلم
لجأ إلى هذا الغار، وأن الله - تعالى - يقول فيه:
إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم ، وحسبهم ما جاء في كتب السيرة من معجزة العنكبوت والشجرة والحمامتين، وما عسى أن يجدي هذا البحث الذي دفع بي إليه صاحبهم؟ وأية فائدة للتاريخ أن يكون اللاجئان قد نزلا من الغار بعد يوم أو يومين من خروج القرشيين للبحث عنهما؟ هذه محاورات لا تقدم ولا تؤخر، وقد تؤدي ببعض أدعياء العلم إلى التجديف باسم التنقيب والبحث تجديفا مصدره الهوى ومبعثه الخيال السقيم.
وكأنما أراد أحد أصحابنا أن يظهر برمه بهذا الحديث، فالتفت إلى أحد الإخوان مما معنا وطلب إليه أن يسير معه إلى الغار ليدخله فيصلي ركعتين فيه، وتركنا وذهب لأداء هذه السنة المستحبة، فقد شعرت، حين أديتها، وأنا بالغار، بفيض من الرضا يغمرني طمأنينة مني إلى أنني أصلي حيث صلى رسول الله، وشعرت وشعر من وجه الحديث إلي بما في عمل صاحبنا من معنى الاحتجاج على حوارنا، فأمسكت عن القول خشية أن يكون هذا الذي احتج معبرا عن رأي أصحابنا الآخرين وإن لم يظهروا من البرم ما أظهر إكراما لي، أما من وجه الحديث إلي فلم يعبأ بشيء من هذا، ولعله لم يفهم منه ما فهمت، فقد وجه إلي الحديث كرة أخرى ينبئني أن غارا غير هذا الغار الذي زرته ويزوره الناس يقع على مقربة منا بين القمة والغار المأثور ويسألني: لم لا يكون هذا الغار هو الذي أوى الرسول إليه؟
كان جوابي عن سؤاله أن قمت إلى هذا الغار الآخر مع شاب كان معنا والتمست إليه مدخلا، وناداني الشاب من داخله، ولم أعرف كيف سلك إليه سبيله، ثم رأيته تمتد يده من فرجة ضيقة لا سبيل إلى الانزلاق منها، فذكر لي أن بالجانب الآخر منه فرجة أكثر سعة وأيسر سربا، واستلقيت على ظهري ودليت ساقي وانزلقت شيئا فشيئا حتى احتواني هذا الوكر الضيق الموحش، وخرج الشاب وتركني أمتحن الرمل الذي يعلو قاع هذا الغار وأدور بنظري فيه وما أكاد أستوي إلى جلسة أستريح إليها كما فعلت في الغار الأول، ولم يكن خروجي من هذا الغار دون دخولي إليه عسرا ومشقة.
وألفيت صاحبنا الذي دلف إلى الغار المأثور فصلى به جالسا فوق القمة في ظل الصخرة مع سائر الرفاق، وبادرته بالتحية أن يتقبل الله منه صلاته حيث صلى الرسول
صلى الله عليه وسلم ، فرجا أن يتقبل الله منه ومني، وسألني الذي يجاورني عما رأيت في الغار الآخر، وهل يسيغ العقل أن يكون هو الغار الذي أوى إليه الرسول دون الغار الأول؟ ولم يكد يتم كلامه حتى رأيت الذي صلى بالغار المأثور قد امتقع لونه وظلل الغضب وجهه وانطلق في حدة يقول: ما هذا الكلام الذي لم يسمع به ولم يجرؤ على قوله من قبل أحد؟! إن الأجيال المتعاقبة منذ عهد الرسول - عليه أفضل الصلاة والسلام - لتحدثنا بأن هذا الغار الأول هو المأثور عنه
صلى الله عليه وسلم
أنه لجأ إليه، وأنه هو الذي نزل فيه القرآن، فما هذا التشكيك فيه يا شيخ؟! أوقرأت في كتب السيرة أو في كتب الحديث ما يجعل لقولك شبهة من الحق حتى تفكر فيه؟! وخشيت مغبة هذه الحدة أن يضاعفها الجواب عليها فقلت: فضلا عن أن الغار الأول هو المأثور فكل الدلائل تنهض حجة على صحة الأثر، وتدل على أن الغار الآخر لا يمكن أن يكون ملجأ للاجئ سويعات من زمان، فهو على ضيقه وانخفاض سقفه أدنى إلى القمة وأيسر لذلك أن يكتشف، وما دام الغاران متقاربين، والالتجاء إلى المأثور والمقام به ثلاثة أيام أدنى إلى العقل، فلا موضع لشبهة يثيرها إنسان بحجة الدقة والتمحيص، أو بأية حجة أخرى.
تخطت الشمس للزوال وآن أن ننحدر إلى مكة ... ولم نكن قد جئنا بطعام يقيمنا طول يومنا، وقد أوفى الماء والزاد الذي معنا على النفاد، لكن مجلسنا إلى ظل الصخرة فوق القمة لذيذ حقا، والنظر منه إلى مكة وما وراءها من فسحة البادية بالغ من الجمال ما تود العين منه كل مزيد، أوليس من الخير أن نبقى إلى المغيب؟ إننا إذن لنتقي شدة القيظ وما ترهقنا من ضيق حين انحدارنا، ثم إننا إذن لنستمتع من هذا المنظر الساحر بما يزيده ساعة الشفق سحرا.
أفضيت إلى أصحابي بهذا الذي رأيته، وود غير واحد منهم لو نقيم إلى ما بعد المغيب، وذكرنا يوم حراء وهبوطنا منه إقبال الليل وجمال الشفق على هذه الجبال الكثيرة المتتابعة حول جبل النور، والجبال التي تحيط بثور أكثر من تلك عددا وأعظم ارتفاعا.
لكن أصحابنا اعتذروا بأعمال لدى بعضهم لا سبيل إلى أن تؤجل، وهبطنا من الجبل وأنا أجد في الهبوط أكثر مما أجد في الصعود من مشقة، وإني في ذلك لعلى خلاف الناس جميعا إلا من كان مثلي، فصعود السلم أسهل لي من هبوطه، وارتقاء الجبل لا يزعجني، لكن الانحدار منه يحدث لي شيئا يشبه الدوار، وأنا أتقيه بأن أحصر نظري بين قدمي حتى لا يقع على الهاوية أمامي أو عن جانبي، وبلغنا المقهى عند أسفل السفح، فإذا أصحابي سبقوني إليه واستراحوا به، فلما رأوني قاموا إلى السيارة فأقلتنا إلى الدار.
لقد كان لقصة الهجرة في نفسي من المهابة أكبر نصيب، ذلك كان شأني منذ نعومة أظفاري، لكني منذ صعدت ثورا ودخلت الغار وتمثل لي به ما تمثل لي، قد صرت أشد لها إكبارا وإجلالا، وها أنا ذا قد تركت مكة وسافرت إلى نواح من الحجاز مختلفة، وعدت إلى مصر، وقمت بأسفار أخرى، وما أزال كلما ذكرت ثورا والغار المجاور لقمته ذكرت قصة الهجرة فامتلأت نفسي لها مهابة ورهبة.
أخطأ الذين يحسبون في حياتنا المادية سبب سعادتنا أو سبب قوتنا، إنما سعادتنا وقوتنا في حياتنا النفسية، لنكن طلقاء في البادية أو حبيسين في الغار أو حيثما شئنا من أرض الله، فنحن سعداء ونحن أقوياء بإرادة الله وإرادتنا ما وهبنا نفوسنا لله وفي سبيل الله نريد غاية سامية نحققها لإخوتنا بني الإنسان، وهذا بعض ما يدعو محمد إليه حين يقول: «لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.»
هذه بعض العبرة في ذلك الغار وقصته، وقصة الهجرة أكبر عبرة لقوم يعقلون.
ظاهر مكة
كان وادي مكة خاليا إلا من بعض مضارب الخيام حين أقام إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ولما جاءت جرهم ثم خزاعة فأقامتا بالوادي، ثم لما تزوج إسماعيل من جرهم، لم يقم أحد منهم جوار بيت الله بيتا غيره، بل تركوه قائما يطوفون به أثناء النهار وزلفا من الليل، فإذا جنهم الظلام ذهبوا إلى الحل فقضوا ليلهم فيه، كذلك تجري الروايات إذ تقص تاريخ مكة، وتزيد الروايات إلى ذلك أن قصيا - الجد الخامس للنبي - لما اجتمع له أمر مكة وأصبح الأمير المطاع فيها جمع قريشا وأمرهم أن ينشئوا الدور فيها وأن يقيموا حول البيت ما شاءوا، وبنت قريش دورها حول الكعبة فلم يتركوا خاليا إلا مكان الطواف بها، وتركوا بين كل دارين طريقا ينفذ منه إلى المطاف، وسبقهم قصي إلى البناء في جوار الكعبة، فأقام دار الندوة لأهل مكة جميعا يجتمعون فيها يتحدثون ويتشاورون ويعقدون العقود ويتمون من أمورهم ما يريدون إتمامه.
أين كانت حدود الحرم أيام جرهم؟ وأين كان هذا الحل الذي يذهبون للمبيت به حتى أمر قصي بالبناء بالحرم؟ يتعذر اليوم تحديد ما كان ذلك عليه في الأيام الخالية، وإن قوما ليذهبون إلى أن الحرم قد كان محصورا إذ ذاك في حدوده المعروفة اليوم ، والتي تعينها الأعلام القائمة على منافذ أم القرى، وهذه الأعلام قائمة اليوم في خمس جهات تحيط بمكة من نواحيها جميعا، فثم علمان عند الحديبية، وهي التي يطلق عليها الشميسي في طريق القادم من جدة إلى مكة؛ وعلمان عند التنعيم في طريق القادم من المدينة إلى مكة، وعلمان عند الجعرانة في طريق القادم من العراق، وعلمان عند عرفة في طريق القادم من الطائف، وعلمان عند أضاءة في طريق القادم من اليمن، والأعلام التي يشهدها الإنسان اليوم أحجار متقنة النحت ترتفع عن الأرض قرابة متر وتقوم متحاذية على جانبي كل طريق من هذه الطرق، وتختلف أطوال المسافة من الحرم إلى كل واحد من هذه الأعلام، فعلما الحديبية يقعان على نحو عشرين ميلا من المسجد الحرام، وعلما التنعيم يقعان على نحو ستة أميال منه، وعلما الجعرانة يقعان على مسافة ثلاثة عشر ميلا، وعلما عرفة يقعان على ثمانية عشر ميلا، وعلما أضاءة يقعان على اثني عشر ميلا، فأما ما يجيء وراء هذه الأعلام إلى مواقيت الحج فذلك هو الحل، ومن وراء الحل تمتد الآفاق إلى أقصى الأرض في مختلف بقاعها وقاراتها.
يذهب قوم إلى أن الحرم كان محدودا من عهد جرهم بالحدود القائمة هذه الأعلام عندها، بل يذهب بعضهم إلى أن إبراهيم - عليه السلام - هو أول من نصب الأعلام تعظيما للبيت وتشريفا، ويقول آخرون: إن إسماعيل بن إبراهيم هو الذي نصب هذه الأعلام، ويذهب قوم إلى أن قصيا هو الذي عين هذه الحدود حين أمر بالبناء حول الكعبة، ويقال: إن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم، وإن قريشا نصبتها بعد ذلك في عهد النبي وقبل هجرته من مكة، وفي قول يرجحه بعضهم أن النبي وضع حدود الحرم عام الفتح ونصب الأعلام حوله، ثم نصبها عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم معاوية بن أبي سفيان، ثم عبد الملك بن مروان، ثم المهدي العباسي، وقد أمر جماعة من الملوك والأمراء بتجديد هذه الأعلام بعد ذلك، وأحدث ما تذكره الكتب من تجديدها أنه كان في سنة 683ه بأمر المظفر صاحب اليمن، والحالة التي عليها الأعلام اليوم تدل على أنها جددت بعد ذلك غير مرة وأنها لا ترجع إلى أكثر من بضع عشرات من السنين.
فيما بين حدود الحرم ومواقيت الحج يقع الحل، وليس بين أعلام الحرم ومواقيت الحج أبعاد نائية إلا فيما بين مكة والجحفة، وفيما بين مكة وذي الحليفة، وتقع ذو الحليفة بظاهر المدينة، وهي ميقات أهل المدينة، منها أحرم الرسول وأصحابه حين خرجوا إلى عمرة القضاء، وحين خرجوا إلى حجة الوداع، أما الجحفة فتقع في منتصف الطريق بين مكة والمدينة، وهي ميقات المصريين والشاميين وكل من حاذاها في البر والبحر، أما ميقات العراقيين فذات عرق، على مقربة من الجعرانة، وأما ميقات النجديين فقرن المنازل، على مقربة من العشيرة، وأما ميقات أهل اليمن فيلملم، وعلما أضاءة يقعان بينها وبين مكة، وهي لذلك تلي الجحفة في بعد مواقيت الحج عن مكة، وعند هذه المواقيت يحرم المقبلون للحج ويظلون على إحرامهم حتى يدخلوا مكة ويتموا العمرة ثم يحلوا إحلال التمتع ما لم يسوقوا الهدي معهم ينحرونه، فمن ساق الهدي فقد وجب عليه أن يبقى على إحرامه حتى يتم العمرة والحج جميعا قارنا غير متمتع.
أما فيما خلال أشهر الحج فشأن ما بين المواقيت وأعلام الحرم كشأن الآفاق مما وراء المواقيت إلا لمن ذهب معتمرا إلى مكة، فإنه يحرم من ميقات الحج إحرامه بالحج، ولا يحل إحرامه إلا إذا أتم عمرته.
وقد جعل كتاب الله حرم مكة من البيت العتيق إلى هذه الأعلام مثابة للناس وأمنا، وحرم التعرض لصيده ولنباته وحيوانه، فلما أزمع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
فتح مكة جعل كل همه أن يدخلها من غير أن يسفك دما، ولقد تم له ذلك، إلا ما سفك دفعا لاعتداء جماعة من قريش على جيش خالد بن الوليد، فلما كانت الغداة من يوم الفتح قتلت خزاعة رجلا من قريش وهو مشرك، فقام الرسول في الناس خطيبا، وقال: «يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ألا ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب ...»
كان حرم مكة إذن أمنا من قبل إلى عهود بعيدة، يذكر بعضهم أنها ترجع إلى أيام إبراهيم وإسماعيل كما قدمنا، وكان شأن الحل في أشهر الحج كشأن الحرم مدى السنة جميعا، وما روي عن سرية عبد الله بن جحش يصور هذا الأمر خير تصوير، فقد بعثه رسول الله في رجب من السنة الثانية للهجرة على رأس جماعة من المهاجرين، ودفع إليه كتابا وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فيمضي لما أمره ولا يستكره من أصحابه أحدا، وفتح عبد الله الكتاب بعد يومين فإذا فيه: «إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصد بها قريشا وتعلم لنا من أخبارهم.» وما لبث عبد الله ومن معه حين نزلوا نخلة أن مرت بهم عير لقريش تحمل تجارة عليها عمرو بن الحضرمي، وكان يومئذ آخر رجب، ورجب من الأشهر الحرم، وتشاور المسلمون وقال بعضهم لبعض: «والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام.» وترددوا ثم شجعوا أنفسهم وأغاروا على المشركين وقتلوا عمرو بن الحضرمي وأسروا رجلين وعادوا إلى المدينة بالعير والأسيرين، فلما رآهم الرسول وعرف خبرهم قال لهم: «ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام.» ووقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، وانتهزت قريش الفرصة فنادت في كل مكان: إن محمدا وأصحابه استحلوا الشهر الحرام وسفكوا فيه الدماء وأخذوا فيه الأموال وأسروا الرجال، ولقد ظل المسلمون في حيرة من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه حتى نزل قوله - تعالى:
يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا .
الفرق بين الحرم والحل والآفاق إذن فيما خلا أمر الإحرام والمناسك، أن الحرم يحرم فيه القتل والغزو والأسر طيلة العام، وأن الحل لا يحرم ذلك فيه إلا في الأشهر الحرم، في حين لا يحرم في الآفاق دم لم يحرم الله سفكه إلا بالحق، وحرم مكة فسيح كما رأيت؛ لذلك لا تشغل عمارة مكة منه إلا أقله، فأما ما وراء عمارة مكة إلى أعلام الحرم فذلك ظاهر مكة، ويعتبر أكثره من ضواحيها، وهو بعد بادية تتداول فيها الجبال والأودية تداولها في كثير من جهات البادية، وقل أن تترامى فيه الصحراء تراميها في سائر أرض تهامة مما يلي البحر.
وهذا التداول بين الجبال والأودية وما يكون أحيانا من ترامي الصحراء يجعل ظاهر مكة متغيرة ألوانه بتغير اتجاهه إلى الشرق أو الغرب أو الشمال أو الجنوب، أضف إلى ذلك أن به من الأماكن الأثرية على التاريخ ما جعلني أحرص على أن أجوس خلاله وعلى أن أقف على أسراره، وما وقفت عليه من مظاهره وأنبائه المتصلة بسيرة الرسول وبتاريخ الأيام الأولى التي سبقت الإسلام والتي عاصرته هو الذي أدى بي إلى كتابة هذا الفصل، كما أدى بي إلى كتابته ما أدركته من وحي البادية إلى العرب الأولين فيما خلفوا لنا من صور الشعر وأخيلته.
أقرب أعلام الحرم إلى مكة علما التنعيم، ويخرج الإنسان إلى التنعيم من مكة في طريق القوافل إلى المدينة، وقد أطلق على هذا المكان اسم التنعيم لاعتبارات تاريخية يسوقها واضعو تاريخ مكة ويختلفون عليها، وأشهرها أنه يقع بواد يقال له: نعمان محصور بين جبلين اسم أيمنهما ناعم واسم الأيسر نعيم.
ولعل أشهر حادث في تاريخ جهاد المسلمين على عهد النبي وقع عند التنعيم مقتل خبيب بن عدي، وخبيب أحد المسلمين الستة الذين بعثهم النبي من المدينة في السنة الثالثة من الهجرة إجابة لطلب رهط من هذيل ليعلموهم شرائع الإسلام ويقرئوهم القرآن ، وسار خبيب مع الرهط حتى بلغوا ماء لهذيل بالحجاز بناحية تدعى الرجيع، هنالك خرج عليهم من هذيل رجال بأيديهم السيوف وأرادوا أن يذهبوا بهم إلى مكة أسرى، فأبى المسلمون وقاتلوا هذيلا حتى قتل أربعة منهم وأسر الرجلان الباقيان، وأحدهما خبيب بن عدي، وذهبت هذيل بهما فباعتهما من قريش، إذ كانت لا تزال في نشوتها بيوم أحد.
أما صاحب خبيب فقتل بمكة، وأما خبيب فخرج به القوم إلى التنعيم ليصلبوه، وصلى ركعتين ثم رفعوه إلى خشبة وأوثقوه إليها، فنظر إليهم بعين فيها الغضب وصاح: «اللهم أحصهم عددا، واقتلهم بددا، ولا تغادر منهم أحدا.» وأخذت القوم الرهبة من صيحته، فاستلقوا إلى جنوبهم حذر أن تصيبهم لعنته ثم أنهضهم البغي فقتلوه وهو موثق مكانه.
أما الذكريات الدينية المتصلة بالتنعيم فأشهرها عمرة عائشة أم المؤمنين، روي عن النبي أنه قال لعبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: «أردف أختك عائشة - فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها الأكمة فمرها فلتحرم فإنها عمرة متقبلة»، وفعل عبد الرحمن، وأحرمت عائشة من التنعيم وطافت وسعت بعمرة، وقد بني مسجد هناك باسم مسجد عائشة، ذكر صاحب مرآة الحرمين أن آخر من جدده السلطان محمود في سنة 1011ه، وخلف المسجد حوض لخزن المياه، وصهريج كبير قديم كان يمتلئ من السيول ويتوضأ منه المعتمرون، ثم تخرب فأصلحه الوزير سنان باشا في سنة 978ه، وأصلح بئرا قريبة منه وأقام عليها ساقية، لكن الصهريج والبئر أهملا وعفت عليهما يد الزمن.
ولما بنى عبد الله بن الزبير الكعبة بعد مهاجمة الحصين بن نمير قائد يزيد بن معاوية إياه وتوهينه البيت، خرج مع أهل مكة في ليلة الإسراء في السابع والعشرين من شهر رجب لسنة أربع وستين من الهجرة، فأحرموا من التنعيم وذبح مائة بدنة، وذبح كل واحد على قدر سعته، وقد بقيت هذه عادة أهل مكة إلى اليوم.
والمقيم بمكة إذا فرض الحج أحرم من بيته بمكة ثم صعد إلى عرفات وعاد بعد الحج فطاف وسعى، ذلك أن الحج عرفة، فالإحرام للحج إنما يكون من مكة، إلا حاج جاءها يسوق هديه معه، أما من اعتزم العمرة وهو مقيم بمكة فقد وجب عليه أن يغادر مكة إلى الحل فيحرم منه، والتنعيم أفضل أعلام الحرم بعد الجعرانة؛ ذلك أن عائشة أحرمت معتمرة من التنعيم، أما الجعرانة فقد أحرم منها رسول الله بعمرة، على ما ورد في كثير من الروايات.
ويقع التنعيم اليوم بظاهر مكة على الطريق إلى المدينة كما قدمنا، ويمتد الطريق بعد التنعيم إلى وادي فاطمة مارا بسرف حيث بنى رسول الله بميمونة بعد عمرة القضاء، وتذهب أنباء السلف إلى أن قرية تدعى يأجج كانت قائمة عند التنعيم، كما أن سرف كانت قرية كذلك، فأما اليوم فليس عند التنعيم غير العلمين، علمي الحرم، وليس عند سرف شيء يدل عليها غير مسجد ميمونة، وأنت تسير من مكة إلى وادي فاطمة فلا تكاد ترى مظهرا لحياة فيما قبل هذا الوادي، بل تحيط بك الجبال والأودية منسابا بينها الدرب الذي تسير فيه القوافل صوب المدينة، وهذه القوافل تكثر أيام الحج كثرة تجعلك تلقاها كلما خرجت إلى هذا الطريق.
ويذهب أهل مكة إلى التنعيم كما يذهبون إلى الشهداء والزاهر للرياضة، والطريق إليها ميسور في السيارة، ولقد ذهبت إليها غير مرة أستمتع بهواء الصحراء الصفو ساعة المغيب، كما ذهبت بعدها إلى سرف وإلى وادي فاطمة، فرأيت من حياة الصحراء ومن حياة البادية غير ما رأيت من حياة الصحراء في مصر، وما كان مقدمة لما رأيت من حياة البادية بالطائف وفيما حول المدينة، وقد كشفت لي حياة البادية هذه من وحيها لشعراء العرب في الماضي ما لم تكشف الكتب التي درست فيها الأدب العربي، فبدت لي معانيه في وضوح شعرت به مذ رأيت حياة البادية بعيني وأحسستها بجوارحي إحساس بدوي يسير مع أهل الحجاز ويعيش عيشهم، ولقد آمنت بعد الذي رأيت من ذلك بأن الشعر ثمرة بيئته حقا، وأن الفن والأدب هما أصدق صورة للبيئة التي ينشأان فيها.
لي بمصر صديق مدله بالأدب شديد الإعجاب بأبي نواس كثير الترديد لبيت له يتهكم فيه بشعراء العرب الأولين، ذلك قول ابن هانئ:
قل لمن يبكي على رسم درس
واقفا، ما ضر لو كان جلس؟!
وكنت أشارك صديقي في الإعجاب بهذا البيت وبدقة النكتة وبالتهكم اللاذع فيه، فلما خرجت إلى التنعيم ثم إلى سرف وإلى وادي فاطمة ورأيت القوافل متجهة صوب المدينة ورأيت إبلا تنقطع عن القافلة وتسير فرادى وعلى هون، ذكرت هذا البيت من شعر أبي نواس فلم يثر مني إعجابا ولا طربا، بل سخرت منه ومن أبي نواس، فهذه البادية المترامية الأطراف يرتحل أهلها البدو من مكان إلى مكان، يضربون خيامهم إذا نزلوا، فإذا ارتحلوا درس رسمهم، ليس فيها معنى أبعث للتشوق وللحنين من هذه الرسوم الدوارس، كانت إلى أمس عامرة بمن جاء إليهم هذا السائر على بعيره يحث مطيته من بعيد وقد براه الشوق إلى محبوبته، وها هو ذا يراها اليوم خلاء تحمل أهلها ولم يتركوا بعدهم أثرا، ماذا تراه يصنع وقد ذهب أمله في لقاء المحبوب هباء؟ أفيجلس ليبكي؟ أم هو يقف ساعة ثم يستحث بعيره قافيا أثر هؤلاء الذين جاء في طلبهم، وليس أمامه في هذه الساعة التي يقف فيها من يتحدث إليه أو من يسائله إلا هذا الرسم الدارس يبث له شوقه ويعلن إلى صمت البادية عنده وجده؟! وهو فيما يفعله من ذلك صادق العاطفة بليغ التعبير عنها.
من عيون قصائد الشاعر الفرنسي «لامارتين» قصيدة البحيرة، وأبدع ما في هذه القصيدة تحنان الشاعر لأيام كانت تجيء فيها محبوبته إلى شواطئ هذه البحيرة، بحيرة ليمان، فتقف معه عندها، ويستلهمان معا وحيها، وتوحي إليه هي مزيدا من المتاع بجمالها، والبادية والرسم الدارس فيها، والحنين إلى من تركوا وراءهم هذا الرسم حين ارتحلوا، والشدو بما خلفوا وراءهم في قلب المحب من لوعة، لا يقل في بهاء روعته الشعرية عن البحيرة وموجها والجبال المحيطة بها والسماء المطلة عليها، فإذا تحدث بعد ذلك عن هذه الرسوم الدوارس من لم يشهدها، بل تحدث عنها مقلدا، فمثله في ذلك كمثل من يتحدث عن البحيرة مقلدا «لامارتين » من غير أن يشعر بشعوره ، أما وحي البادية البديعة في صفاء جوها ورهبة صمتها وموج رملها وتتابع هضابها وجبالها، فمما يلهم الشاعر الصادق العاطفة عيون الشعر وغرر الصور والإحساس والمعاني.
اجتازت السيارة بنا يوما علمي التنعيم قاصدة وادي فاطمة، وظلت في مسيرها حتى بلغت بنا سرف ووقفت منه عند مسجد ميمونة أم المؤمنين، وقل من يعرف اليوم اسم «سرف» أو يطلق على المكان اسما غير مسجد ميمونة، فقد درس هنالك كل ما سوى المسجد، ولم يبق من المسجد إلا أطلال دوارس، وتخطت السيارة القوافل القاصدة إلى المدينة وانفسح أمامنا واد تموج جنباته بالرمال وتقوم الهضاب على جانبيه، وتمهلت السيارة حينا، فأدرت البصر فيما حولي، ما أجمل هواء الصحراء! وما أجمل هذا الفضاء المترامي صمته فلا نسمع فيه هسيسا أو نبأة!
كم مر ها هنا من أقوام لم يذروا من بعدهم أثرا نذكره، وكان لهم على الحياة من فسيح الأمل ما لنا اليوم، وسنقضي كما قضوا، وسيمر بعدنا من يقول عنا ما نقوله عمن قبلنا، لكن التاريخ لا ينسى قوما مروا بهذا المكان آتين من المدينة معتمرين يريدون بيت الله ثم صدهم المشركون عنه وكادت الحرب تنشب بينهم حتى عقد رسول الله معهم عهد الحديبية، ولكن التاريخ لا ينسى هؤلاء القوم حين جاءوا بعد ذلك بعام فدخلوا مكة وطافوا بالبيت وأتموا مناسك عمرة القضاء وأقاموا بمكة ثلاثة أيام والرسول على رأسهم، ولا ينسى أن قريشا جلت أثناء هذه الأيام الثلاثة عن مكة نزولا عن حكم العهد الذي وقع بالحديبية في العام الذي قبله، وبعد ثلاثة الأيام خطب رسول الله ميمونة إلى عمه العباس، ثم جاء بها بلال إلى سرف فبنى محمد في خيامه بها، والتاريخ لا ينسى عشرة آلاف من المؤمنين جاءوا بعد ذلك بسنتين ومحمد على رأسهم يغذون السير ليفتحوا مكة، فيدخلونها ولم يلتحموا في حرب ولم يسفكوا دما.
والتاريخ لا ينسى بعد سنتين أخريين مائة ألف من المسلمين مروا بهذا المكان والرسول على رأسهم وقد فرضوا حج البيت على أنفسهم، ولا ينسى طوافهم وسعيهم ووقوفهم بعرفة وقضاءهم مناسك الحج جميعا، نعم! لا ينسى التاريخ أولئك المسلمين الأولين الذين مروا بهذا الدرب آتين من المدينة؛ لأنهم هم الذين فتحوا مكة، وهم الذين قضوا على عبادة الأوثان، وهم الذين أقروا التوحيد في العالم، ونحن الذين نسير اليوم في عشرات الألوف وفي مئات الألوف من كل عام متخذين هذا الدرب الذي مروا به طريقنا بين مكة والمدينة إنما نسير على نهجهم، نبتغي أداء فرض الحج ليغفر الله لنا ذنوبنا، لا نريد بمسيرنا غزوا ولا فتحا، ولا نخاف أن تصمد قريش لقتالنا لتصدنا عن بيت الله، ما أعظم الفرق بين مسيرنا ومسير أولئك المسلمين الأولين! هو الفرق بين المجاهد الذي يفتح الطريق عنوة، مخاطرا بحياته، غير مبال يتم أولاده وحزن ذويه وشقاءهم، ومن يسير في الطريق الذي عبده المجاهد، لا يخشى أن يصيبه من بأساء الحياة وضرائها إلا ما يصيب غيره، دون أن يكون له في ذلك فضل الجهاد وفضل الإقدام.
وحين بلغنا سرف نزلنا من السيارة وزرنا مسجد ميمونة، وهو قائم اليوم وسط الصحراء في عزلة الناسك، إلا أن يزوره من يقصد إلى زيارته، فأما قبل أن يحل النجديون بالحجاز ويتولوا حكمه فقد كان أهل مكة يزورون هذا المسجد زرافات ويقيمون حوله ويشربون من البئر المقابلة لبابه في الثالث عشر من شهر صفر من كل عام، وكانت أنباؤهم تدعو كثيرين من الحجيج إلى زيارته تبركا بقبر أم المؤمنين ميمونة، فلما حل النجديون بالحجاز واحتلوا مكة كانت القبة القائمة على هذا القبر بعض ما هدموا، وكان تحريم زيارة القبر والتبرك به بعض ما صنعوا؛ لذلك انصرف الناس عن زيارة القبر والمسجد، وأصبح هذا المكان خلاء لا يكاد ينزله إلا من قصد إلى الوقوف عنده ومعرفة أمره.
ومسجد ميمونة أفسح من مساجد مكة، وهو خير منها نظاما وأجمل بناء، وجدرانه من الخارج تشهد بأن عمارته ليست بالغة في القدم؛ فقد حاولت أن أقف على تاريخ بنائه فلم أجد في الكتب القديمة شيئا عنه، وكل ما رواه الأزرقي في كتابه «أخبار مكة» عن قبر ميمونة قوله: «قال أبو الوليد: وقبر ميمونة بنت الحارث الهلالي زوج النبي
صلى الله عليه وسلم
وهي خالة عبد الله بن عباس، على الثنية التي بين وادي سرف وبين أضاءة بني غفار، ماتت بسرف فدفنت هنالك.» وكانت وفاة الأزرقي في القرن الثالث للهجرة، ولم يذكر الأزرقي ولا ذكر الذين جاءوا من بعده ممن دونوا تاريخ مكة ما يدل على وجود مسجد على قبر ميمونة في أيامهم؛ فلا عجب أن يكون المسجد قد استحدث في عهد متأخر، وأن تكون القبة قد بنيت على القبر للتبرك في العصر الذي أصبح التبرك بالقبور وبناء القباب فوقها والمساجد حولها بعض ما يؤمن به جماعة من المسلمين.
ويرتفع مسجد ميمونة عما أمامه من أرض البادية، ولكنه يتصل في ارتفاعه بما خلفه من هضبة، لا ريب أنها الثنية التي أشار إليها الأزرقي إن كان المسجد قد بني فوق القبر حقا، وأغلب الظن أنه بني فوقه، ويصعد الإنسان إلى باب المسجد بضع درجات فيجد الجدر مما حوله أرفع من جدر مساجد مكة، ويرى في شرف البناء حلية من أقواس صغيرة متتابعة تعيد إلى الذاكرة الطراز العربي، ثم يرى أمامه عقدين من ورائهما المحراب، ومن وراء المحراب القبر مكشوفا إلى السماء بعد أن هدمت القبة التي كانت فوقه، وليس يفرش أرض المسجد حصير ولا فرش أيا كان نوعه، مما يدل على أنه غير مقصود، فشأنه في ذلك شأن غيره من المساجد خلا المسجد الحرام.
وعدنا إلى السيارة فانطلقت بنا في الطريق بين المسجد والبئر، وبلغت بنا وادي فاطمة بين العصر والمغرب، تباركت ربي! هذا اليوم الذي جئنا فيه إلى هذا الموضع هو يوم السبت الرابع عشر من شهر مارس، ثمانية عشر يوما قد انقضت إذن منذ غادرت مصر. وها أنا ذا لأول مرة من يومئذ أشعر بنشوة الطرب لمرأى الخضرة الناضرة والزرع البهيج، نعم! فالوادي الذي كان أجرد قاحلا قد استحال جنة يانعة تجري فيها جداول المياه، وتقوم على جانبيها زروع مختلفة من نبات وشجر، وتتنفس خضرتها عن ابتسامة عذبة تهون من وحشة الرمال والهضاب التي كانت تحيط بي مذ هبطت الحجاز، لقد شعرت لمرأى النبات في هذا الوادي كأنما وجدت شيئا فقدته، وأحسست ما يحسه أبناء مصر - بلد الخصب والنماء - من الشوق والوحشة إذا التمسوا مظاهر الخصب والنماء فلم يجدوها! وعلى حافة وادي فاطمة قامت أكواخ كأكواخ أهل العزب من سكان مصر، وأحسن أبناء هذه الأكواخ استقبالنا حين سرنا في حذر على حافة الجدول نستنشق عبق الخضرة والحياة، فجاءوا لنا برداء جلسنا عليه، ودعونا إلى قهوة اعتذرنا عنها شاكرين، ووضعت في الجدول يدي وأنا بمجلسي على الرداء كأني في ريب من مسيل الماء فيه، أو أني أردت أن أضيف إلى شعوري المعنوي بالمسرة شعورا ماديا بمصدر هذه المسرة، وجاء أحد الغلمان من أهل الوادي بأبراج من قطن قيل لنا: إنهم يزرعونه، وذكروا لنا أنهم يبعثون بالكثير مما ينبتون من الخضر إلى مكة، وأما ما ينبتون من الفاكهة فقليل.
وأقمنا زمنا على حافة الجدول، ثم قمنا ندور في أنحاء هذه الحقول حتى آذنت الشمس بالمغيب، هنالك استأذنا القوم وعدنا إلى سيارتنا فأقلتنا إلى مكة، ولشد ما كان اغتباطنا حين سمعنا ونحن على مقربة من التنعيم غناء مصريا تردده قافلة تقصد المدينة على طريقة غناء الحجاج، فلما جاوزنا التنغيم ألفيتني فرح القلب بما رأيت من ماء وخضرة وما سمعت من غناء، وإن كان الماء جدولا وكانت الخضرة قليلة ولم يكن في ترجيع الغناء من سبب للطرب إلا أنه مصري، ما لي لا أقنع بالقليل يوم أحصل عليه؟! بل ما لي لا أجد فيه غاية النعمة ولذاذة العيش؟! أليس هذا القليل خيرا من كثير تغص به النفس؟! وكثيرا ما يورثها الملال. •••
أدنى أعلام الحرم إلى مكة بعد التنعيم علما الحديبية وعلما الجعرانة، وقد مررت بعلمي الحديبية ليلا حين مجيئنا من جدة إلى مكة أول ما وصلنا الحجاز محرمين، ثم مررنا بهما بعد ذلك نهارا في طريقنا من مكة إلى جدة لنتخذ طريقنا منها إلى المدينة، والطريق بين مكة وجدة عامر بالمارة أكثر مما سواه من الطرق؛ لكثرة المتنقلين بين البلدين من أهل الحجاز، بله الحجاج؛ لذلك يمر الإنسان في الطريق من مكة إلى الحديبية بمشرب قهوة يقف عنده بعضهم إذ يخرجون من مكة يستنشقون هواء الصحراء، فأما ما بعد مشرب القهوة فالرمال والهضاب حتى نصل الحديبية، هنالك يجد الإنسان فندقا من الفنادق التي أقامتها حكومة الحجاز لينزل بها من شاء، واسم الفندق أدنى هنا إلى المجاز منه إلى الحقيقة، فتلك منازل قائمة في الصحراء بها غرف ضيقة، في بعضها فرش لمن أراد النوم، ولعل فندق الحديبية من خيرها، ومن بعد الفندق وعلى مسافة غير قليلة منه يجد الإنسان مسجد الرضوان، وهو مربع مكشوف نصفه إلى السماء، مسقوف نصفه الآخر بعقود الحجر تقوم على ثلاثة عمد، وقد كتبت بأعلى محرابه هذه العبارة: «هذا مسجد بيعة الرضوان، مأثرة من مآثر حبيب المنان، عمره الفقير إلى رحمة الرحمن، المغفور له السلطان محمود خان سنة 1254ه.»
وتجري الرواية بأن هذا المسجد أقيم في الموضع الذي كانت تقوم فيه الشجرة التي بايع المسلمون رسول الله تحتها بيعة الرضوان، وقد أمر عمر بن الخطاب بقطع هذه الشجرة من خوف أن يفتتن المسلمون بها لورود ذكرها في القرآن فيتخذوا منها منسكا من المناسك يحجون إليه، وكان عمر - رضي الله عنه - حريصا غاية الحرص على أن يظل التوحيد في صفائه لا تشوبه شائبة، ولا يرضى أن يسبغ المسلمون على هذه الأماكن من التقديس ما يخاف معه الشرك، ولا يرضى أن يكون التقديس لمكان غير بيت الله، وألا يحج المسلمون إلا إياه.
ولقد وقفت عند مسجد الرضوان هذا، وجعلت أصور لنفسي موقف المسلمين الذين صحبوا محمدا قاصدين العمرة، ثم بايعوه في هذا المكان على جهاد المشركين، وأذكر ما كان من سياسة محمد مع ذلك وحرصه على السلم حتى كان عهد الحديبية فتحا مبينا، فقد جاء المسلمون معه يريدون الطواف بالبيت معتمرين، فلما سمعت قريش بمسيرهم قررت أن تحول دون دخولهم مكة، حتى لا يقال: دخلها محمد عليهم عنوة، وعقدت لخالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل على جيش يبلغ عدد فرسانه وحدهم مائتين، وتراءى الجمعان، وأبدى المسلمون استعدادهم للقتال، ولكن النبي لم يخرج غازيا بل خرج حاجا، وهو قد خرج مسالما لا يريد حربا؛ لذلك انحرف بمن معه عن طريق مكة وساروا حتى بلغوا الحديبية وهنالك نزلوا، وأوفدت إليه قريش من يسأله: ما الذي جاء به؟ ولم يعجب قريشا أن اقتنع رسلها بأنه جاء حاجا لا يريد حربا، بل أوفدت غيرهم ثم غيرهم.
ورأى رسل قريش تحفز المسلمين للحرب لولا حرص النبي على السلم، لكنهم لم يستطيعوا إقناع أهل مكة بما رأوا، هنالك أرسل النبي عثمان بن عفان سفيرا إلى أهل مكة، وغاب عثمان عندهم حتى ظن المسلمون وظن النبي أنه قتل، وعظم عليه هذا الغدر من قريش، فدعا أصحابه إليه وقد وقف تحت شجرة في الوادي فبايعوه جميعا على ألا يفروا حتى الموت، وهنا كانت بيعة الرضوان تحت الشجرة، ولما أتم القوم البيعة ضرب - عليه السلام - بإحدى يديه على الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم بيعة الرضوان، وإن المسلمين لينتظرون يوم الظفر أو يوم الاستشهاد إذ علموا أن عثمان لم يقتل، ثم جاءهم عثمان يروي نبأ قريش وأنهم أيقنوا أن النبي وأصحابه إنما جاءوا حاجين معظمين للبيت، لكنهم وقد تأهبوا للقتال لا يستطيعون أن يدعوه يدخل مكة أو تتحدث العرب بأنه دخلها عنوة بعد أن هزمهم، وبذلك تسقط في نظر العرب مكانتهم؛ لذلك هم يصرون على موقفهم منه، موقف الخصومة إلى أن يجدوا من خوف العار مخرجا، وتفاوض رسل قريش مع الرسول وانتهوا إلى عهد الحديبية أن تتهادن قريش والمسلمون، وأن يرجع محمد وأصحابه عن مكة هذا العام على أن يعودوا إليها في العام الذي يليه فيدخلوها ويقيموا بها ثلاثة أيام.
جعلت وأنا بموقفي من مسجد الرضوان أصور لنفسي هذا الموقف من مواقف رسول الله، فيبلغ مني الإعجاب بالحكمة السياسية التي أملت عليه خطته، والتي جعلته يرغب عن القتال ويحرص على السلم، ويبلغ من ذلك حتى يغضب عمر بن الخطاب - على قوة إسلامه وعظيم إيمانه، ثم تشهد الحوادث بأن خطته كانت الحكمة حقا، وأن ما أغضب عمر وكثيرين من أصحاب الرسول من طول أناته، وعظيم صبره، وجميل محاسنته لخصمه، إنما كان الفتح المبين الذي مهد للإسلام أن يزداد انتشارا وللمسلمين أن يفتحوا مكة بعد عامين اثنين من صلحهم، وكذلك كان عهد الحديبية حجرا لا ينقض في سياسة الإسلام والمسلمين.
وتقع الجعرانة إلى الشمال الشرقي من مكة، على حين تقوم الحديبية إلى الغرب المنحرف شمالا منها، ويقع طريق التنعيم وسرف ووادي فاطمة وما وراء ذلك فيما بين الحديبية والجعرانة، والذاهب إلى الجعرانة ينحرف عن طريق السيارة إلى الطائف مغربا إلى الشمال بعد أن يبلغ من طريق الطائف منتصف ما بين حراء والشرائع، ولا يشير كثيرون إلى الجعرانة على أنها من أعلام الحرم؛ لأنها لا تقع على طريق متصل بما وراء الحجاز من بلاد يقام لأهلها ميقات الحل؛ كي يحرموا عنده حين مجيئهم إلى مكة معتمرين، لكن ما بقي للجعرانة على التاريخ من ذكر، وما كان من إحرام الرسول
صلى الله عليه وسلم
منها عام حنين إحرام العمرة، قد جعلها أفضل مكان في حرم مكة للإحرام بالعمرة؛ من ثم كان الحديث عن حرم مكة وأعلامه لا يتم إلا إذا تناول الجعرانة، وكان المؤرخ الذي يسير في أثر الرسول وينسى الجعرانة قد نسي موقعا في تاريخ الإسلام مذكورا، وهذا ما استحثني للذهاب إليها والوقوف عندها والشرب من مياه بئرها، والتصعيد في الهضاب المحيطة بها.
روى الأزرقي في «تاريخ مكة» أن النبي لما غزا حنينا وحاصر الطائف ثم رجع منها انثنى في طريقه نحو مكة إلى الجعرانة، «فقسم بها مغانم حنين في ذي القعدة ثم دخل مكة ليلا معتمرا فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة من ليلته، ومضى إلى الجعرانة فأصبح بها كبائت، فأنشأ الخروج منها راجعا إلى المدينة، فهبط من الجعرانة في بطن سرف»، حتى لقي طريق المدينة من سرف، وذكر الفاسي في «شفاء الغرام» أن النبي أحرم من المسجد الأقصى الذي تحت الوادي بالجعرانة، ولم يجز الوادي إلا محرما، وذلك لاثنتي عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة، وأن أهل مكة يحرمون كل عام من الجعرانة ليلة سبع عشرة من ذي القعدة، وربما أحرموا منها العشي في السابع عشر إذا خافوا من الإقامة بها إلى الليل.
وبالجعرانة مسجد يقابل البئر، وهو مسجد من طراز مساجد مكة، وقد ذكره الأزرقي في تاريخه، فدل بذلك على قدمه، وأضاف أن عمرة النبي قد كانت من المكان الذي يقوم المسجد اليوم به، وأنه خرج في عمرته هذه إلى مكة ليلا وأصبح بالجعرانة كبائت؛ لذلك خفيت هذه العمرة على كثير من الناس.
ومسجد الجعرانة اليوم أدنى إلى أن يكون أثرا، أما بئرها فمعني بها، أقيم بناء مستدير حول فوهتها، وعلقت فيها دلو يشرب الناس منها، وذلك أن ماء هذه البئر عذب ليس كمثله بمكة ماء، والموسرون من أهل مكة يؤثرونه على ماء زبيدة ويجيئون به إلى دورهم؛ لأنه أصلح من كل ماء غيره، وأشهد إنهم لصادقون، فلطالما شربت من هذا الماء بمنزل مضيفي فلذت لي عذوبته وأعجبتني رقته.
والطريق من مكة إلى الجعرانة طريق صالح للإبل وللسيارات جميعا، يخرج الإنسان من مكة حتى يحاذي حراء ويكون في أول طريق منى، هنالك ينعطف يسرة بين الجبال دائرا حول حراء، ولقد استمهلت السائق فسار مبطئا في هذا المنعرج كيما أملأ ناظري من جبل النور في عزلته، ولما أكن قد صعدت إليه، وكان لي بالوقوف أمامه وبالتحديق فيه من الشغف ما ازداد بعد أن وقفت أمام الغار الذي نزل الوحي الأول على الرسول فيه.
ثم انبعثت السيارة في طريقها بين الجبال حتى نفذت بنا إلى فرجة واد ضيق نمت فيه أعشاب اتخذت منها الإبل مرعاها، فهي تمرح منها في كلأ تجد فيه الشبع والنعمة، وهي تسير أسرابا في رعيها لا يحول بينها وبينه وعث الطريق ولا التصعيد في الجبال، ولشد ما كانت دهشتي حين رأيت بعضها يتسلق الهضاب إلى قممها يبحث فيها عن أسباب العيش! فقد ألفيت جمالنا في مصر رقيقة العظم على ضخامتها، حتى ليبلغ أحدها حجم اثنين من جمال الحجاز، ورقة عظمها تدعو للإشفاق عليها أن يصيبها مكروه إذا زلقت في اليوم المطير، أو هفت خطوتها عند قناة، أو ارتطمت بحجر، فأما هذه القطعان من إبل الحجاز فتسير أسرابا وتجري أفرادا وتتسلق الجبال ولا يأخذ الإشفاق عليها راعيها، ولعلها كذلك تفعل لأنها نشأت في أحضان الطبيعة معتمدة على ذاتها؛ فالبادية بيئتها، وهي تعيش فيها كما يعيش الإنسان في داره، أما بيئتنا المصرية في الوادي فالجمل فيها ضيف على دواب الحمل الأخرى، وإن يكن سفينة صحارانا كما أنه سفينة صحراء العرب، وكيف لا تعتمد هذه الإبل في بلاد العرب على نفسها في تسلق الجبال والتماس الكلأ بين الصخور وليس لديها سبب غير ذلك من أسباب العيش؟! والجبال في البادية تتصل بالأودية ويتصل بعضها ببعض، فهي محيطة بهذه الإبل حيثما توجهت وأنى سارت.
ولقد أحاطت بنا هذه الجبال طول الطريق إلى الجعرانة، فما تكاد تنفرج إلى أفسح من الطريق إلا في أماكن قليلة، مع ذلك تتابعت أسراب الجمال تسير عشرات وعشرات، وتسير مطمئنة لا تزعجها السيارة ولا تدعوها إلى الفرار لطول ما ألفتها في السنوات الأخيرة، وتياسرت السيارة بعد مسير ساعة فإذا واد فسيح ينفرج أمامنا ويمتد النظر في فسحته إلى حيث يشاء، ذلك وادي الجعرانة، وانكشف لنا المسجد، وتبدت لنا فوهة البئر، ووقفت السيارة بينهما، فأسرع إلينا صغيران ينتظران الخير من مجيئنا ومن وقوفنا.
وزرت المسجد، وشربت من ماء البئر، ووقفت أسرح الطرف فيما حولي وأستعين بمنظاري المقرب أرى به ما يكسو قمم الجبال من كلأ لا يفل من حدة عبوسها، وماذا عسى أن يكشف المنظار عنه غير هذا الكلأ وليس هاهنا إلا رمال الوادي والجبال المحيطة به؟! وقصدت هضبة على مقربة من المسجد صعدت فيها حتى بلغت منتصفها، ثم درت بالمنظار كرة أخرى فيما حولي فلم أر غير ما رأيت من قبل، ولم أر في صخور هذه الجبال شيئا يلفت النظر.
وسألت صاحبي: ألهذا المكان موسم يقصده الناس فيه كما كانوا يقصدون أسواق العرب قبل الحج إلى مكة؟ قال: إنهم يخرجون إلى هذا المكان في شهر رمضان فيحرمون بالعمرة؛ ذلك لما روي عن النبي - عليه السلام - أنه قال: «عمرة في رمضان تساوي حجة معي.» كذلك كانوا يفعلون قبل حكم الإخوان، ولا يزالون كذلك يفعلون وإن كانوا أقل على هذه العمرة إقبالا.
وسألته في هذا الحديث وروايته عن النبي، فابتسم وقال: لعلك تحسبه من روايات المكيين مما يجذبون به الغلاة في الدين إلى مدينتهم، أما أنا فلا أحقق سنده، لكني أحسبه يرجع إلى الأسوة بالنبي في عمرته من الجعرانة بعد عودته من الطائف، وإن كان هذا الحديث يجعل العمرة في شهر رمضان، وكانت عمرة الرسول من الجعرانة في ذي القعدة، ولئن صح ظنك ليكونن قصد رواته أن يباعدوا ما بين عمرة شهر رمضان والحج ليجعلوهما موسمين، بدل أن تجتمع العمرة والحج في موسم واحد.
قلت: لك رأيك، ولكنني أفكر الساعة في المسلمين الذين عادوا يقتسمون ها هنا فيء حنين، فالذين سمعوا حديث العمرة في شهر رمضان لا يزيدون على مائة أو بضع مئات، أما الذين عادوا مع النبي من حصار الطائف فكانوا ألوفا بلغت العشرة أو زادت عليها، وكان الفيء الذي جاءوا يقتسمونه هنا ستة آلاف من الأسرى، واثنين وعشرين ألفا من الإبل، وأربعين ألفا من الشاء، خلا أربعين ألف أوقية من الفضة، أفشهد هذا الوادي في كل ما مضى من تاريخه مثل هذا العدد من الناس ومن الإبل والشاء؟ ومحمد على رأس المسلمين يقسم بينهم هذا الفيء، إذ جاءه وفد من أسلم من هوازن يرجونه أن يرد عليهم أموالهم ونساءهم وأبناءهم، ويقول له أحدهم: «يا رسول الله، إن في الحظائر عماتك وخالاتك وحواضنك اللواتي كن يكفلنك، ولو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر، ثم نزل بنا بمثل الذي نزلت به لرجونا عطفه وعائدته علينا، وأنت خير المكفولين.»
كلا: ما عرف تاريخ الجعرانة كله يوما كهذا اليوم، وإن من الأرض لبقاعا جرداء ، قل أن تصلح لمقام أو حضر، ثم يكون بها حادث يتغير له وجه التاريخ، فإذا هي علم باق بين الناس ذكره، وإن عادت بعد هذا الحادث جرداء غير صالحة لإقامة أو حضر، وهل ينسى الجعرانة من يعرف حنينا؟! وهل ينساها من يعرف سيرة محمد بن عبد الله، وهي اليوم كما كانت على التاريخ، فيما خلا أيام حنين، واد غير ذي زرع، لا يستوقف النظر منه إلا ما يحتفظ به من ذكرى أيام حنين! ولعلع لهذه البقاع من الأرض عزاء فيما تحتفظ به من هذه الذكريات الخالدة عما تعانيه من عزلة وإمحال، كما أن من الناس من يجد في ذكريات ماضيه من المجد ما يملأ حياته خيرا ألف مرة مما يملأ أكثر الناس الحياة به مما يثيرونه فيها من ضجة وضوضاء.
جالت هذه الخواطر بنفسي وأنا بموقفي فوق الهضبة المجاورة لمسجد الجعرانة أجيل بصري في هذا الوادي الخلاء اليوم وقد ملأته الذكرى بما أعاد إلى خيالي صورته يوم قسمة الفيء مليئا بالحياة وضجتها، مليئا بالرضا والتذمر، وبالصفو والغضب، عفا رسول الله عن نساء هوازن وأبنائها، فغضب لذلك رجال حديثو عهد بالإسلام، وأفشى محمد أعطياته في المؤلفة قلوبهم من أهل مكة، فغضب المهاجرون والأنصار وتهامسوا، وبلغه الهمس، فوقف مغضبا إلى جانب بعير فأخذ وبرة من سنامه فجعلها بين إصبعيه ثم رفعها وقال: «أيها الناس، والله ما لي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس، والخمس مردود عليكم.» ولم يرض عباس بن مرداس عن نصيبه الذي أخذه، فقال النبي: «اذهبوا به فاقطعوا عني لسانه.» فأعطوه حتى رضي، فكان ذلك قطع لسانه، ويقول الأنصار بعضهم لبعض: «لقي والله رسول الله قومه»، فيحدثهم النبي ويقول في ختام حديثه لهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده، لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار»، فيتأثرون ويبكون ويقولون : «رضينا برسول الله قسما وحظا.»
أية حياة كالحياة التي كان يموج هذا الوادي ذلك اليوم بها؟! لقد ارتسمت صورته في هذه الساعة أمام خيالي فعج الوادي بمن فيه من الناس وما فيه من الإبل والشاء، وخلتني أراهم جميعا، ترهق الذلة وجوه الأسرى، وتبدو العزة على وجوه المسلمين في حالي الغضب والرضا، وخلت التاريخ مطلا من عليائه على هذا المشهد وكأنما قرأ في لوح القدر ما ستتجه الأمة العربية إليه بعد أن مهدت هذه الغزوة لتوحيد صفوفها، وما ستقوم به من فتح العالم ونشر الإسلام في ربوعه، ثم ما سيكون بعد ذلك من ثورات وتقلبات ومن انحلال وبعث، حتى ينصر الله كلمته، ويعود الدين كله لله.
وناداني صاحبي فعدنا إلى السيارة فارتدت بنا صوب مكة، فلما بلغنا حراء كان الليل قد أرخى سدوله، وكان القمر يحبو من ناحية المشرق، وكان النسيم صفوا عليلا، وقضينا ساعة نتحدث ثم تواعدنا أن نزور وادي نعمان عصر اليوم التالي.
ووادي نعمان يقع بعد عرفة، والذاهب إليه يسلك طريق منى إلى المزدلفة فعرفات، وكذلك فعلنا، فلما جاوزت السيارة بنا قصر الملك قال صاحبي: هلم بنا نقف عند مسجد البيعة فإني لأظن العقبة الكبرى كانت عنده ولم تكن عند جمرة العقبة، ووقفت بنا السيارة إلى يسار الطريق قبالة المسجد، فسرنا بضع عشرات من الأمتار حتى بلغناه، وألفيناه مقفلا، فدرنا حوله، فدلتنا جدرانه على أنه مسقوف كله أو أكثره على خلاف مساجد مكة، ورأينا شيئا يشبه الكتابة بظاهر محرابه، فحاولنا عبثا أن نقرأه، ويقع المسجد الآن في فسيح من الأرض، تحيط الجبال بكل نواحيه إلا ناحية الطريق، مما يدل على أن هذه الجبال نسفت نسفا، أو دكت دكا، لينكشف المسجد لمن يريد زيارته؛ لذلك يتعذر على الإنسان أن يجد الشعب الذي تسلل إليه الأنصار جوف الليل من أيام التشريق حين بايعوا النبي بحضرة عمه العباس بيعة العقبة الكبرى، وأغلب الظن أن يكون هذا الشعب قد نسف فيما نسف من الجبال، وأن مسجد البيعة قام مكانه.
يرجح هذا الرأي ذهاب المسجد في القدم إلى القرن الثاني للهجرة؛ فقد ذكره الأزرقي في كتابه «تاريخ مكة» وإن لم يصفه، وفي كتاب قطب الدين النهرواني «الإعلام بأعلام بيت الله الحرام» ذكر لمسجد البيعة وبنائه، قال:
مسجد البيعة مسجد على يسار الذاهب إلى منى، بينه وبين العقبة التي هي حد منى غلوة أو أكثر، وهو مسجد متهدم فيه حجران مكتوب فيهما ما يدل على ذلك؛ في أحدهما: «أمر عبد الله أمير المؤمنين - أكرمه الله تعالى - ببناء هذا المسجد، مسجد البيعة التي كانت أول بيعة بايع بها رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وعقدها العباس بن عبد المطلب، وأنه بني في سنة 144ه.» والمشار إليه أبو جعفر المنصور العباسي، وعمره أيضا المستنصر العباسي، كما في حجر آخر: «بناه في سنة 639.» وتلك الأحجار ملقاة بهذا المحل الخراب يخشى عليها الضياع فيندثر هذا المسجد، وكان المرحوم إبراهيم دفتردار مصر سابقا أمين عرفات - رحمه الله - شرع في تجديد هذا المسجد وأسسه وبنى بعض طاقاته وجدرانه، وتوفي إلى رحمة الله قبل أن يتمه، وما وفق أحد بعده إلى الآن لإتمامه.
وهذا الذي ذكره النهرواني وذكره غيره ممن أرخوا مكة هو حجة القائلين بأن هذا المسجد يقوم حيث كانت البيعة، وأن جمرة العقبة لا تؤرخ العقبة الكبرى، وإن أمكن أن تؤرخ العقبة الصغرى أو العقبة الأولى، يؤيد ذلك أن البيعة الكبرى وقعت في أواسط أيام التشريق بمنى حيث يجتمع الناس من مختلف بلاد شبه الجزيرة وهم لما يؤمنوا برسالة محمد، ويرون مثل هذه البيعة حلفا لحربهم، ولقد حدث بالفعل بعد أن تمت هذه البيعة أن سمع المسلمون صائحا يصيح بقريش: «إن محمدا والصباء معه قد اجتمعوا على حربكم.» وفي رواية أخرى: «إن الأوس والخزرج بايعوا محمدا على أن ينصروه.» وقد فزعت قريش لما بلغها من ذلك، وفزعها هو الذي جعلها تحسب لهجرة محمد من مكة ألف حساب، فمن الحق إذن أن تكون البيعة قد تمت بعيدا عن مجتمع الناس بمنى، وذلك حيث يقوم اليوم مسجد البيعة.
تقوم مساكن منى بعد هذا المسجد، ولقد تابعنا السير إليها ونحن نعلم أنها لم يبق بها من ضجة الحج كثير ولا قليل، لكنني لم أكن أحسبها موحشة بمقدار ما رأيتها حين دخلناها، لقد خلتها بلدا أثريا كمدينة «حابو» وما إليها من مدن الآثار بالأقصر، خيم عليها سكون عميق كسكون البادية حيث لا حياة ولا أنيس، لا تسير فيها الإبل كما تسير في طريق الجعرانة، فليس فيها للإبل مرعى، ولا تؤنسها القوافل إيناسها طريق المدينة، فلم يبق للقوافل بعد أيام التشريق بها من حاجة، وكل ما بقي من أثر أيام النحر بعض مناضد معدودة في مكان كان مقهى في الأيام المذكورة، وهو اليوم صفصف لا ترى فيه إنسا.
وقفت السيارة أمام هذا المكان، ونادى صاحبي نداء من يطلب المعونة، وجاء غلام لا أدري من أين خرج؟ فطلب إليه أن يجيئنا بمحمد علي، وانطلق الغلام، فذكر لي صاحبي أن محمدا عليا هذا من أهل منى، وأن نسبه يرجع إلى قريش أجداد النبي، وأن قبيلته تقيم ها هنا، ولعلها البقية الباقية حول مكة من هؤلاء العرب الأقدمين، وأضاف: وتقيم قبائل بالطائف وبغير الطائف من أرض الحجاز تتسمى باسم قريش، ولست أدري مبلغ الصحة في انتسابها إلى أجداد الرسول.
وأقبل محمد علي فلم أشك إذ رأيته في أني أرى قرشيا صميما، تبدو العروبة الخالصة على محياه، أسمر السحنة، ذو عينين سوداوين شديدتي البريق، وشعر كث فاحم، وأنف أقنى، وشفاه رقيقة، معتدل القامة، عريض الأكتاف، ينبئ مظهره عن رجولية بدوية لا تعرف الإذعان ولم تعرف الحضارة، ترى أهو مثل لأهل قبيلته، فصورتهم صورته، ورجوليتهم رجوليته؟ أما النساء، فلم أر منهن ما أحكم به على جمال كان فتنة لشعراء العرب الغزليين.
وتقدمنا محمد علي مصعدا في الجبل القائم عن يسار الذاهب إلى عرفات، ووقف عند صخرة مفلوقة من وسطها قال: إنها مجر الكبش، وإن سكين أبينا الخليل إبراهيم - عليه السلام - أخطأت ابنه إسماعيل لما تله للجبين ليذبحه فمست الصخرة ففلقتها. وتقوم على مقربة من هذه الصخرة صخرة أخرى أضخم منها يدور حولها طريق هو الذي تسلقنا منه، هذا الطريق هو مجر الكبش حيث سار إلى إبراهيم ليذبحه فداء لإسماعيل، وكان في هذا المكان مسجد عليه قبة يقال له: مسجد الكبش يؤمه الحجاج، فهدمه الإخوان الوهابيون.
ورافقنا محمد علي إلى مسجد الكوثر ثم إلى مسجد الخيف، وذكر أن القبة التي تتخذ مكبرية «مبلغة» بالخيف تقوم موضع الخيمة التي صلى بها النبي في حجة الوداع، والتاريخ لا ينفي هذه الرواية، والثابت فيه أن المسجد لم يكن يومئذ كما هو اليوم، بل كان خلاء تحيط به جدران بسيطة، وإنما استحدثت عمارته في القرن الثالث للهجرة بأمر المعتمد الخليفة العباسي، ثم جدد بعد ذلك في القرن السادس، وأنفق أهل التقوى من المسلمين مبالغ طائلة لصيانته، وفي القرن التاسع أمر سلطان مصر قايتباي فبني المسجد كله من أساسه بناء محكما، وأقيمت القبة موضع مصلى النبي، وبنيت إلى جانبها مئذنة من طراز مآذن مصر، كما بنيت مئذنة أخرى على باب المسجد، وقد عمر بعد ذلك مع بقاء بناء قايتباي على أصله.
ويقع غار المرسلات بجبل ثبير إلى الجنوب من مسجد الخيف، وهذا الغار يسمى اليوم غار الكوفية أو الطاقية، ويقص المطوفون أن النبي اختفى به فلان الحجر موضع رأسه فدخلت طاقيته أو كوفيته فيه، وإنما سمي من قبل غار المرسلات لما يذكرونه من أن الله أوحى إلى النبي سورة المرسلات فيه، وكان الحجاج يؤمونه للتبرك به، ويزدحمون عنده حتى يبلغ ازدحامهم أشده، أما اليوم فقد قلوا نزولا على مذهب حكام الحجاز في التبرك.
والمشعر الحرام يقع بالمزدلفة بين منى وعرفات، ويمر الإنسان في مسيره من منى إلى المشعر بواد اشتهر الآن باسم وادي النار، وكان يدعى من قبل وادي محسر، ويقع هذا الوادي الأجرد بين جبلين يدعى أحدهما جبل قزح، ويزعمون أن واقعة الفيل المشار إليها في القرآن وقعت فيه، والتاريخ المعروف لا يروي أن واقعة حدثت في عام الفيل، إنما يروي أن أبرهة حاكم اليمن جاء على فيله ومن ورائه جيشه لهدم البيت بمكة بعد أن رأى انصراف الناس عن البيت الذي أقامه وزخرفه بصنعاء، وأنه نزل بظاهر مكة ودعا إليه قوما من أهلها وعلى رأسهم عبد المطلب جد النبي، ورأى أهل مكة أنهم لا يطيقون قتاله، فأخلوا مكة عشية اعتزم دخولها لهدم البيت، فلما أصبح أبرهة وجد الجدري تفشى بجيشه تفشيا أفزع الناس وأفزعه، فارتد عن مكة، وما إن بلغ اليمن حتى مات، ولعل هذا الذي أصاب أبرهة وجيشه هو الذي دعا إلى تسمية هذا الوادي باسم وادي النار، ووادي الحسرة أو محسر؛ لأن نار المرض أصابت القوم فانقلبوا إلى قومهم في حسرة خاسئين.
أما المشعر الحرام بالمزدلفة فمسجد صغير، إن صح أن يسمى الفضاء من الأرض مسجدا إذا أحيط بجدر قصيرة تحده، وكل ما يدل على المشعر الحرام مئذنة وسط هذا الفضاء تضاء أثناء الحج، وفي جوار المسجد بازان مياه حسن البناء، ذو فوهة يستقي الناس منها، ويتصل بمجرى الماء المنحدر من نعمان إلى مكة والمعروف بعين زبيدة، وللبازان درج ينزل الإنسان فيه إلى حيث يصل إلى فوهة الماء، فأما ما حول ذلك ففضاء المزدلفة تحيط به جبال، أحدها قزح الممتد من قبالة جبل المحسر.
ولم يكن بهذا المكان مسجد على عهد الرسول، بل كان المشعر جبلا في هذه الأودية اعتادت العرب في حجها أن تشعر جمالها عنده «أي: تضربها في صفحة سنامها حتى يسيل منها الدم»، وكان العرب قبل الإسلام يوقدون النار فوق قزح عند المزدلفة؛ كي يهتدي بها الصاعد من منى إلى عرفات، والمفيض من عرفات إلى منى، وأوقدت هذه النار في عهد النبي وفي الصدر الأول من الإسلام إلى عهد عثمان، أما المنارة القائمة اليوم فلم تشيد إلا بعد ذلك بقرون، ويذكر النهرواني أن أحدث بناء لها كان سنة تسع وخمسين وسبعمائة أو السنة التي بعدها فيما علم، وبناء المشعر الحرام من البساطة بما رأيت مما يتفق مع هذه البيئة البدوية المحيطة به، ولو أن هذا البناء في غير الحجاز وورد ذكر مكانه في كتاب مقدس كما ورد ذكر المشعر الحرام في القرآن، لشاده أهله في أضخم عمارة وأجملها.
كان الطريق ما بين المزدلفة وعرفة ضيقا في قرون الإسلام الأولى، فكان من السنة المستحبة أن يفسح الإنسان لغيره ما استطاع، أما الآن فقد انفسح بما لا تخشى معه الزحمة إلا فيما ندر في بعض سويعات الإفاضة، وهو يمر بجبلين متقاربين هما مأزما عرفة، ويمر بنمرة حيث يقوم المسجد بالمكان الذي وقف فيه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ممتطيا ناقته القصواء فخطب الناس في حجة الوداع، ويطلق على هذا المسجد أسماء: مسجد نمرة، ومسجد عرنة، وجامع إبراهيم، ومصلى عرفة، ونمرة جزء من بطن عرنة، فالتسمية بهما نسبة إلى المكان، أما اسم مسجد إبراهيم فيرجع إلى ما يقال من أن جبريل علم إبراهيم أبا الأنبياء شعائر الحج وهما في هذا المكان، فأما مصلى عرفة فاسم يطلق؛ لأن الحجاج بعرفة يجمعون فيه بين صلاة الظهر وصلاة العصر جمع تقديم تأسيا بالرسول في حجة الوداع، ويقع المسجد على مقربة من علمي عرفة، وهو فسيح مترامي الأطراف، كما تقدم القول، له محراب يرتفع ثلاثة أمتار وقد أحاطت الأروقة به من جميع جوانبه، وصحنه مكشوف تقوم فيه مكبرية لصلاة يوم عرفة، ويرجع إنشاء هذا المسجد إلى القرن الثاني بعد الهجرة، وقد عمره ملوك المسلمين في مصر وفي غير مصر بعد ذلك غير مرة.
تقع بطحاء عرفة على يسار الصاعد إليها من المزدلفة مارا بمسجد نمرة، وفي الجانب الآخر من هذه البطحاء يقع مسجد الصخيرات، وهو اليوم أثر متهدم كما شهدت، وقد تخطت بنا السيارة بعده أثناء وادي نعمان والجبال تنفسح عنا تارة وتقترب منا أخرى، حتى بلغت بنا مصدر عين زبيدة التي تروي مكة وتروي الحجيج اليوم، والتي تعتبر عملا من الأعمال الهندسية الخالدة الاسم على التاريخ، وإن تغيرت من بعد وتطور رسمها مع تقدم العلم.
وسميت هذه العين باسم زبيدة زوج أمير المؤمنين هارون الرشيد؛ لأنها أول من أجراها، فقد كانت مكة قبلها تستقي من الآبار والعيون ، وكانت الآبار كثيرا ما تغيض، والعيون كثيرا ما تطم، وقد كان معاوية بن أبي سفيان أجرى الماء إلى مكة من العيون والآبار في قنوات، واتخذ حياضا بعرفة لسقيا الحجيج منها، بيد أن هذه القنوات والحياض لم تلبث أن تخربت وأصاب الناس بذلك جهد شديد، هنالك أمرت زبيدة بإجراء عين حنين بوادي نخلة إلى مكة بعد أن اشترت الأراضي التي كانت مياه العين تسقيها، كما أمرت بإجراء عين من وادي نعمان إلى عرفة.
وتنبع عين نعمان من جبل كراء الذي يصل بين عرفة والطائف، وقد أجريت مياه نعمان حتى بلغت منى، وتعذر إجراؤها بعد ذلك إلى مكة لشدة صلابة الأرض، وتعرض هذا العمل لأفاعيل الزمن، فكان يتخرب أحيانا وينقطع منه الماء عن مكة وعن عرفات أحيانا، ولقد أمر كثيرون من أمراء المؤمنين بإصلاحه في عصور وأزمان مختلفة، وأنفقوا عليه نفقات طائلة، لكن ذلك لم يحل دون تخربه واضطراب مسيل الماء إلى مكة وإلى عرفة، ففي النصف الأخير من القرن العاشر الهجري طلبت الأميرة فاطمة هانم كريمة السلطان سليمان الإذن في تعمير العيون وفي القيام بعمل جديد عظيم هو إيصال ماء نعمان إلى مكة، وكان المال المطلوب لذلك ثلاثين ألف دينار، وأذن لها أبوها، وتم هذا العمل العظيم في عشر سنوات، وكان يوم تمامه من أعياد مكة الكبرى، تصدق الناس وأجروا الخيرات وقاموا من أعمال البر بما أعاد إلى ذاكرتهم ما فعله أسلافهم يوم أتم عبد الله بن الزبير بناء الكعبة.
ولقد طغت السيول بعد ذلك غير مرة على مجاري هذه المياه تحت الأرض ودخلت الأتربة من البازانات إليها ومست الحاجة إلى إصلاحها، وكان والي مصر محمد علي ممن أصلحوها، ولا يزال المهندسون يرون تعديل نظام المجرى الحالي تعديلا يجعل مياهه أبعد عن التلوث وعن أن تفسدها الأتربة والرمال التي تدفعها السيول.
ولقد دهشت أيما دهش ونحن نسير في هضاب نعمان حين ذكر لي صاحبي أننا بلغنا مبدأ العين، فهذا المبدأ أشبه ببئر تنحدر إليها المياه لتسري خلال الجبال ولا يبدو للناظر منها شيء، وليس يبدو من المجرى غير البازانات المختلفة يراها الإنسان في الطريق من مكة إلى عرفة ويراها في أماكن مختلفة من مكة، ولست أدري لعل صاحبي لا يعرف أين تبدأ العين حقا، وإن أكد لنا رجل لقيناه هناك ما قاله صاحبي برغم إلحاحي في السؤال وإظهار التردد في تصديق النبأ.
يسير الطريق بعد نعمان إلى شداد على سفح جبل كراء، ومن هناك يبدأ الصاعد إلى الطائف صعوده حتى يبلغ جبل كر، ثم ينحدر منه حتى يبلغ الطائف، ولم نجاوز نحن نعمان إلى ما بعده، بل قفلنا منه راجعين إلى مكة.
هذا الطريق الذي سرنا فيه كثيرا ما طرقه الرسول - عليه السلام - في حياته، وإن كان مسيره فيه في حجة الوداع أشهر ما يذكر التاريخ، كثيرا ما سلكه في السنوات الأولى من بعثه وإلى حين هاجر من أم القرى، فهو قد كان يذهب في موسم الحج يبادئ القبائل بالدعوة إلى دين الله، وخير مكان كان يلقاهم فيه عرفة ومنى، في تلك الأيام النائية منذ أربعة عشر قرنا كان الرسول يخرج وحيدا أو في نفر ممن اتبعوه، فإذا أنس إلى قوم من القبائل الآتية إلى الحج اتصل بهم وتحدث إليهم وجادلهم بالتي هي أحسن ودعاهم إلى دينه، ومن هؤلاء كان يرده ردا غير جميل، ومنهم من كان ينصت إليه ثم ينصرف عنه مفكرا، ومنهم من لم يكن الرسول يكاد يتركه حتى يجيئه من قريش من يحذره مغبة دعوة فرقت أهل مكة شيعا، ويرى الرسول إعراض الناس عنه وتحذير قومه إياهم منه فلا يصده ذلك عن دعوته، بل يزيده استمساكا بالدعوة وحرصا عليها، وتؤذيه قريش بمساءتها، ويؤذيه شعراؤها بهجائهم فلا يهن، ولا يتردد، وينقضي العام ويتلوه العام وهو أشد على الدعوة حرصا، والناس ينأون عنه، وقريش تحارب دعوته، فلا يصرفه عنها صارف، وقد أمره ربه أن يبلغ رسالته، لقد كنت أتصور هذه المواقف ونحن نمر بهذه الأماكن، ثم أتصور موقف الرسول الذي صدقه العرب جميعا في حجة الوداع، فيشيع الإكبار في نفسي وأكاد أسمع بأذني قوله - تعالى:
وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا .
وهذا الطريق الذي رأى محمدا يطارده قومه وتزور القبائل عنه، ثم رآه من بعد ذلك وقد فتح الله له فانضوى العرب كلهم تحت لوائه، هو الطريق الذي رآه وليدا يوم حملته حليمة السعدية معها من مكة ذاهبة إلى الطائف في طريقها إلى قبيلة بني سعد بن بكر. نعم! في هذا الطريق سار الرضيع تحمله مرضعته الفقيرة على حمارها تتخطى به بين الجبال ثم تصعد به سفوح كر وكراء، وتتخطى به بوادي الطائف حتى تصل إلى قومها!
أليس هذا عجبا؟! الطريق الذي سار فيه محمد طفلا لأول ما ولد هو الطريق الذي سار فيه شيخا يعلن إلى الناس أن رسالة ربه بلغت غايتها، إذ يبلغهم قوله - تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
هذه أعلام الحرم التي قصدت إليها، ولم يسعدني الحظ بالذهاب إلى علمي أضاءة في طريق اليمن، وإنما قطعت من هذا الطريق ما بلغ بي إلى غار ثور.
أما علما نخلة في طريق الطائف فكانا في الطريق إليها، ولقد قصدتها وأقمت بها أياما كانت أيام نشاط وسعادة، لقيت فيها من أثر الرسول ما اطمأن له قلبي ورضيه تفكيري، ولقيت فيها من تاريخ العرب بعد الإسلام ما أثار ألمي وأحرج صدري، لولا رجاء يخالج نفسي أن تكون هذه البلاد في المستقبل خيرا مما كانت في الماضي بعد أن انتقلت منها عاصمة الإسلام.
الكتاب الثالث
الطائف وآثارها
طريق الطائف
بينا أنا بالتكية المصرية ظهر السبت الرابع عشر من مارس لقيت الحاج عبد الله فلبي - أو سينت جون فلبي كما تشاء - فبادلته الحديث في أمور بلاد العرب حاضرها وباديها، وأدى بنا الحديث إلى لغة القوم بمكة وبعد ما بينها وبين اللغة العربية الفصحى، وسألت الجوالة البريطاني: أيوجد في شبه الجزيرة عرب يتكلمون هذه اللغة الفصحى؟ قال فلبي: «إنما يوجد هؤلاء في الجبال وفي البادية، وأنت إذا ذهبت إلى شداد في طريقك إلى الطائف عثرت ثم على طلبتك»، ولما علم أنني ذهبت إلى عرفات وإلى وادي نعمان حيث تبدأ عين زبيدة قال: «إن بين شداد ووادي نعمان أمدا قريبا، فإذا بلغت بك السيارة شدادا على سفح جبل كر وجدت محلة بها قوم من الأعراب عندهم الدواب التي تصعد بك كرا وكراء، وتذهب بك إلى الطائف، وهناك تسمع العربية التي تتوق إلى سماعها.»
لم يعترض أحد من الحاضرين على هذا الكلام فملت إلى تصديقه، وكان لي بزيارة الطائف شغف، ففيها من أثر الرسول قبيل هجرته وفي أعقاب غزوة حنين ما يدعو إلى زيارتها، لكني تصورت ركوب الدواب في صعود الجبال، فذكرت يوما من سنة 1924 كنت فيه بلبنان وصعدت فيه إلى الأرز مع رفاق كثيرين، ولم تكن طريق الأرز قد عبدت للسيارات حين ذاك، فاكترينا الدواب من بلدة «بشري» وامتطينا لتصعد بنا في طريق فيه سعة ونظام، مع ذلك بقيت أذكر ذلك اليوم والصعود على الدواب فيه فتمتلئ نفسي من صعودها مخافة ورهبة، فهي تأبى إلا أن تسير على حافة الطريق المتصلة بالهاوية، حتى ليشعر الإنسان أنه موف في كل خطوة على حتفه، وعبثا يحاول الإنسان أن يلزمها السير في منتصف الطريق، فإنها لا تلبث أن تعود إلى حافتها وتلزمها، وما أغناني عن كر وكراء وصعود سفوحهما على الدواب إذا كان للطائف طريق غير هذا الطريق! أما ولها طريق تسلكه السيارة هو الطريق المعبد، وما دام مقصدي من زيارتها أن أسمع العربية في صفائها، فلأترك طريق شداد لمن شاء أن يسلكه وحسبي ما قرأته عنه في كتب الرحلات، فهو لا يغري بركوب المشقة المضنية لاجتيازه.
ولم يدر بخاطري أن الدواب ستصادفني حين تجوالي بجبال الطائف، وستجعلني أحمد للمقادير عدولي عن مشورة «فلبي» إلى طريق السيارة لتقطع الطريق ما بين مكة والطائف في بضع ساعات.
ولقد استشرت مضيفي أمين العاصمة في الذهاب إلى الطائف وسألته عن خير طريق إليها، وذكرت له ما أشار به فلبي، فقال: هذا رجل ألف البادية ومتاعبها، فما لك أنت وما ألفه؟! في وسعك أن تسلك الطريق الذي نسلكه كلنا حين نصعد من مكة لقضاء الصيف بالطائف، ثم ذكر لي أنه مخبر وزير المالية الشيخ عبد الله بن سليمان الحمدان بعزمي على السفر بعد ظهر يوم الإثنين 16 مارس، وفي الغد أخبرني أن وزير المالية سره عزمي على زيارة الطائف، وأنه سيضع تحت تصرفي عربة «بكسفورد» تكون جنيبا للسيارة التي خصصت لنقلي منذ نزلت مكة، وأنه سيختار من يصاحبني في هذه الرحلة ويكون دليلي فيها.
وفي صباح يوم الإثنين زرت «فلبي» بمنزله على موعد بيننا، وأفضيت إليه بأنني ذاهب إلى الطائف بعد الظهر، ويقع منزل «فلبي» بحي جرول في أطراف مكة فوق ربوة يسيرة الارتفاع، وقفت السيارة أمام بابه فصعدنا درجة - كان من الخير أن تكون درجتين أو ثلاثا - وتخطينا الباب إلى حديقة تبدو أشجارها الباسقة من فوق السور ولا تحجب الدار القائمة بعدها، وليست الحديقة بالفسيحة ولا بالضيقة، تتراوح مساحتها بين المائة والخمسين والمائتين من الأمتار المربعة، وهي أدنى إلى أن تكون مهملة قل أن تمتد إليها يد التنظيم، لكنها مع ذلك متعة للنظر في مكة حيث لا تقع العين على حديقة إلا في الدور التي تشبه القصور، ويسير الإنسان من باب المنزل خلال الحديقة في طريق صاعد يكاد يكون مستقيما، فإذا دخل المنزل وجده أقرب إلى البداوة من كثير من منازل أهل مكة، وقابلنا «فلبي» على باب غرفة إلى يسار الداخل من باب الدار مرتديا جلبابا أبيض ونعلين، مكشوف الرأس، ينم شعره الأحمر وذقنه الحمراء المحيطة بكل وجهه الأبيض المشرب حمرة كما تنم عيناه الزرقاوان عن أصله الإنجليزي الذي يختفي تماما حين يرتدي المشلح والعقال، فيبدو نجديا وسيما أنيق الملبس، وتقدمنا إلى داخل الغرفة، فخلع نعليه حين بلغ البساط الذي يفرش أرضها، وتبعته وجلست إلى جانبه أسمعه وأجيبه وهو يحييني بكلمات قليلة كلها الرقة والظرف، ولقد اعتذر عن موعدين سبقا بيننا ولم نلتق فيهما بأنه يقضي من النهار في حضرة ابن السعود ما لا يدع له من وقته إلا الصباح الباكر يعمل فيه أو يلقى من يريد لقاءه أثناءه ، فإذا أضحى النهار ذهب إلى القصر فقضى فيه إلى الظهر، ثم عاد إليه بعد العصر فلم يغادره حتى تتم القراءة للملك بعد العشاء فيفض المجلس.
وفيما نتحدث سمعت تصفيقا ورأيت الرجل خف بنفسه إلى خارج الغرفة ولم يلبس نعليه ثم عاد يحمل صينية الشاي وعليها أدواته، وتناولنا الشاي وسألته أثناء تناولنا إياه: «ألا تكتب حياة محمد وقد عرفت بلاده وسرت في خطاه، ودرست دراسة المدقق كل مكان له اتصال بسيرته؟!» وكان جوابه: «أنا لا أريد الاختلاف مع العلماء المسلمين في أمر لا يفيد الخلاف فيه، وكثيرا ما يضر، وليست كتابة التاريخ من عملي العلمي، فإنما عملي وضع الخرائط للأماكن التي أمر بها والتي لم يسبقني معاصر إلى وضع خرائطها.» فلما تحدثت وإياه عن الإسلام، ذكر أنه مقتنع تمام الاقتناع بأن الديمقراطية الإسلامية والحكومة الإسلامية خير أنواع الديمقراطيات والحكومات.
ولما فرغنا من تناول الشاي قال «فلبي»: «سأطلعك على بعض الخرائط التي أضعها.» وقام فأعاد أدوات الشاي إلى داخل الدار وعاد بمجموعة كبيرة من الخرائط، وبدأ فأراني الطريقة التي يسير عليها في وضع الخرائط وكيف يتخذ مكة مركز الدائرة فيها، وكيف يحقق موضع كل محلة أو مكان على الخريطة تحقيقا علميا دقيقا، بأن يسلك إليه عدة طرق من مكة ويجري في التحديد على قياس الزوايا، ولقد سألته أثناء ذلك: أوضع لمكة خريطة تفصيلية؟ فذكر أنه شرع فيها ولما يتمها، وأطلعني على خريطته عن الربع الخالي - وهي الموجودة في كتابه الذي يحمل هذا الاسم
The Empty Quarter - كما أطلعني على خرائط الطريق بين مكة وجدة والمدينة، وبين مكة والطائف والخرمة، ولما كانت هذه الخرائط مطبوعة فقد أهداها إلي لأستعين بها في رحلتي إلى الطائف وإلى المدينة، وقد استعنت بها فكانت نعم العون، واستعنت بها في رسم غير واحدة من خرائط هذا الكتاب، ولقد شكرته يومئذ وأشكر له اليوم فضله في هذه المعونة القيمة، كما أشكر له جميل استقباله إياي وما أمدني به من معلومات أفادت مباحثي في أماكن عدة .
وانصرفت من عنده فمررت بالتكية المصرية، ثم عدت إلى دار مضيفي فتناولنا طعام الغداء، وأقمت أنتظر رفاق السفر إلى الطائف، وأقبل السيد محمد صالح القزاز أمين أموال الدولة بالطائف، وهو شاب وسيم حلو الحديث، أحدث مضيفي التعارف بيني وبينه، وذكر أنه سيصحبني في رحلتي إلى الطائف وسيدلني على كل ما فيها مما تصبو إليه نفسي، فهو بكل ما فيها خبير.
وأضاف الشيخ صالح أنه سعيد أن وقع اختيار الحكومة عليه ليصحبني، وفيما نتحدث أقبل الشيخ محمد سرور الصبان القائم بأمر المواصلات في المملكة، ولم يطل مكثه معنا؛ لأنه لم يكن مسافرا، وإنما جاء يودعني من مكة ويرحب بي ضيفا بمنزله بالطائف، وأقبل الشيخ عبد الحميد حديدي الذي أزمع معاونتي في هذه الرحلة، كما كان لي نعم العون بمكة في بحثي وفي إقامتي وفي حلي وترحالي، وجعل الشيخ عباس قطان كل همه أن يبعث الطمأنينة إلى نفسي ويزيد أواصر المودة بيني وبين رفاقي، وسمعنا نفير سيارة كانت «البكسفورد» الذي بعثت به الحكومة لتصحبني، وبعد سويعة أقبلت سيارتي وأعلن السائق حسن عن مقدمها بصوت النفير، إذ ذاك نزلنا إليها وصحبنا مضيفنا حتى ودعني في جماعة من أصحابه عندها.
وانطلقت السيارة في طرق مكة، حتى إذا كانت عند قصر الملك تياسرت في طريق الجعرانة دائرة حول حراء، وقبيل منتصف الطريق إلى الجعرانة تيامنت منطلقة في واد فسيح بين الجبال حتى وقفت في محلة الشرائع أمام كوخ هو وحده مظهر الحياة الإنسانية في هذا الوادي، وأهل هذا الكوخ يستقون من عين جارية تروي أشجارا قليلة، وقد جعلوا من كوخهم مقهى يتناول فيه السائر الشاي، ويجد به شربة من ماء وفنجانا من القهوة النجدية، وسألني الشيخ صالح أأريد النزول؟ فلما علمت أن ليس بالمكان غير المقهى آثرت أن ننطلق إلى المحلة التي تلي الشرائع، على أن الشيخ عبد الحميد حديدي استوقف حسنا السائق هنيهة ليقص علي من نبأ التاريخ ما له اتصال بالسيرة النبوية، ومن موقفنا أشار إلى الجبل القائم عن يميننا وإلى مكان منخفض بعض الشيء عند قممه، وقال: هذا شعب الثنية الذي تخطى منه النبي إلى مكة حين عودته من الطائف منفردا بعد أن أساء أهلها لقاءه وردوه بشر جواب، قلت: من أين إذن ذهب إلى الطائف؟ قال: من طريق كر وكراء بعد اجتياز عرفات وشداد، وحدقت في شعب الثنية بهذا الجبل المرتفع عن اليمين، وصورت لنفسي ما كان يلقاه محمد من المشقة في سبيل الدعوة إلى الحق الذي بعثه الله به، فهذه جبال جرداء قاحلة لا أنيس بها، تغشاها السباع كما تغشى جبل كراء، مع ذلك لم يكن محمد يخشى وحشتها، بل كان يسير خلالها مطمئنا إلى رسالات ربه يبلغها للناس، وقد بلغها إلى العرب أثناء الحج حين مقامهم بمكة ومنى وعرفات فلم يسمعوا له، وقد ذهب إلى غير واحدة من القبائل في منازلها فردوه منكرين، وهو يعلم أن ثقيفا بالطائف من أمنع قبائل العرب وأعزها جوارا؛ لذلك ذهب إليها سالكا طريق الجبل الوعر، فردته بشر ما ردته به قبيلة، وأغرت به صبيانها فقذفوه بالحجارة، فانصرف عنهم من طريق آخر في الجبل الوعر متخطيا هذه الثنية القائمة قبالة الشرائع، لم يغير الأذى من عزمه ولم يضعضع من قدس إيمانه وجلال يقينه، وأية قوة أو مشقة تضعضع من هذا الإيمان المتصل بالله الواحد الأحد، المستمد من روح الله ووحيه؟ أمره ربه أن يبلغ رسالته، فانطلق يبلغها مطمئنا إلى ربه واثقا من نصره.
وتخطت السيارة محلة الشرائع في مضيق بين جبلين، وتابعت سيرها حتى بلغت الزيمة، ووقفت السيارة هناك عند منظر يستوقف النظر في تهامة كلها، ذلك منظر الماء والشجر الأخضر.
لقد رأينا بالشرائع أغراسا دعوها بستانا فلم نحفل به، أما ها هنا فقد رأينا الماء ينهمر منحدرا من الجبال يسقي بساتين عدة، ورأينا أشجار الموز تكظ بعض هذه البساتين، والنفس مبتهجة ما رأت الماء والخضرة؛ لذلك قضينا في هذه المحلة زمنا ما كان أحوجنا إليه والوقت يسرع نحو المغيب، وبيننا وبين الطائف طريق ما يزال طويلا!
قال صاحبي: «يذهب بعضهم إلى أن وادي حنين، حيث وقعت غزوة حنين بين المسلمين وبين هوازن وثقيف في أعقاب فتح مكة، إنما يقع بين الشرائع والزيمة، وأن جيوش المسلمين قضت الليل على أبواب الوادي الذي تخطيناه الآن بين هاتين المحلتين، والذي كان يسمى يومئذ وادي حنين، فلما كانت بكرة الفجر تحركوا والنبي على بغلته البيضاء في مؤخرتهم يريدون أن يأخذوا عدوهم على غرة، وإنهم لمنحطون إلى الوادي إذ شدت عليهم القبائل بإمرة مالك بن عوف النصري شدة رجل واحد، وأصلوهم وابلا من النبال، هنالك اضطرب أمر المسلمين فولوا الأدبار منهزمين وقد زلزلوا زلزالا شديدا، ورأى محمد فرار أصحابه فلم يتزحزح من مكانه، بل ثبت وجعل ينادي في الناس وهم يمرون به منهزمين: «أين أيها الناس أين؟!» ووقف عمه العباس بن عبد المطلب إلى جانبه يصيح في الناس بصوت جهوري أسمعهم جميعا: «يا معشر الأنصار الذي آووا ونصروا! يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة! إن محمدا حي فهلموا!» وكشفت تباشير النهار عن عماية الفجر، ورأى الناس موقف رسول الله وعظيم ثباته، فتنادى القريبون منه يجيبون نداء العباس: لبيك لبيك! وارتدوا إلى المعركة، وتبعهم من لاذ قبلهم بالفرار، وذكروا جميعا ماضيهم في النصر، فخاضوا غمار الموت لا يبالونه، فتم لهم النصر وولى عدوهم مدبرا ولم يعقب، تاركا وراءه النساء والأبناء والأموال غنيمة للمسلمين.»
قلت: فما بال اسم حنين المجيد في تاريخ الإسلام قد عفي على أثره فلم يبق علما على مكان من الأماكن؟! أتراه قد اختلف فيه من بعد، وأن من الناس من يرى أن الواقعة وقعت في مكان غير هذا المكان الذي تحدثني عنه؟
قال صاحبي: «حق ما تقول، وإن من الناس لمن يحسبها وقعت بعد الزيمة في مكان بينها وبين السيل الكبير، وهي المحلة التي تليها، أما أنا فأميل إلى اعتقاد أنها وقعت حيث ذكرت، ويحملني على ذلك أن المسلمين قاموا من مكة للقاء عدوهم فقضوا في طريقهم بياض النهار ولم يزيدوا عليه، أو بياض النهار وبعض الليل، وما بين مكة والزيمة يستغرق بمسير الإبل هذا الزمن كله، ثم إن المسلمين ذهبوا بالفيء الذي غنموا إلى الجعرانة وجعلوه بواديها حين أجمعوا حصار الطائف، والجعرانة تقع إلى شمال الشرائع وتبعد عن السيل، فلو أن حنينا وقعت حيث يذكرون لترك المسلمون الفيء بوادي السيل الفسيح أو لعادوا به إلى وادي الشرائع، أقرب مكان منهم إلى مكة.» «ولعلك تسألني: وما لهم لم يفعلوا إن كانت حنين قد وقعت حيث تذكر والشرائع أدنى إليهم من الجعرانة؟ ولهذا السؤال - لا ريب - موضعه، ولقد ألقيته على نفسي والتمست الجواب عنه، فكان ذلك أن الناس يميلون إلى النزول حيث ألفوا، وقد ألف العرب في عهد الرسول ومن قبله مواضع الأسواق التي كانت تقام حول مكة قبيل الحج في عكاظ ومجنة وذي المجاز، وليس من اليسير أن تحدد اليوم مكان هذه الأسواق، ولكن الراجح في شأن مجنة أنها كانت تقام بين الشرائع والجعرانة إلى شمالها، ومن ثم سلك المسلمون طريق الشرائع إلى السوق التي تقع بينها وبين الجعرانة ثم تخطوها إلى وادي الجعرانة الفسيح الذي يسع الفيء ومن يقوم على حراسته.»
وأبديت الميل إلى تصديق صاحبي، وإني لأخاله اليوم صادقا، فقد ذكر الأزرقي في «تاريخ مكة» أن العرب كانوا يذهبون إلى عكاظ يوم هلال ذي القعدة، وعكاظ تقع عند السيل الكبير أو بعده على خلاف في الأقوال سنتناوله من بعد، فإذا قضوا بعكاظ عشرين يوما انصرفوا إلى مجنة فأقاموا أسواقهم بها عشرة أيام، وإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا به أسواقهم ثمانية أيام، ثم خرجوا يوم التروية من ذي المجاز إلى عرفة، وإنما سمي الثامن من ذي الحجة يوم التروية؛ لأن الناس كان يأخذون فيه الماء من ذي المجاز ليترووا منه بعرفة وبالمزدلفة حيث لا يوجد الماء، فالظن الغالب إذن أن يكون الطريق بين الشرائع والجعرانة طريق مجنة.
السيل الكبير هو المحلة الثالثة في طريق الطائف، والطريق بينه وبين الزيمة طويل يقارب ما بين مكة والزيمة، ويبدؤه من الزيمة درب اليمانية، وهذا الدرب منثورة فيه أحجار كثيرة تنحدر إليه مع السيل من أعالي الجبال القائمة على جانبيه ، لكنها أحجار لا تعوق السيارة في انطلاقها وإن اضطرتها إلى عدم الإسراع، وعجيب أن تظل هذه الجبال جرداء على رغم ما ينحط عليها من سيول وأمطار، فلا تنبت الأشجار في قننها وعلى سفوحها، أيرجع السر في ذلك إلى أنه لم يعن أحد باستنبات هذه القنن والسفوح فظلت جرداء أن لم تبذر فيها بذور ولم يغرس بها شجر؟ ما أظن، ففي صحاري تهامة وأوديتها ألوان من الشجر تنبت بذاتها، منها السلم والعشر والطلح، ولعل هذه الألوان لا ترقى إلى سفوح الجبال وقننها؛ ولذلك ظلت جبال اليمانية جرداء رغم المياه التي تنحدر عنها.
ينتهي درب اليمانية حيث تنتهي هذه الأحجار المنثورة خلاله، ويقوم على جانبيه عند نهايته جبلان متقابلان يطلق عليهما اسم السومان، ويحسب صاحبي أن هذا الاسم محرف أصله التوءمان.
بعد هذين الجبلين ينفرج الوادي ويصلح الطريق وينفسح ويصبح في سعته وصلاحه كأنه بعض طرق برلين الكبرى، فهو طريق حجري أصفر اللون في صفرة الرمل، تنطلق فيه السيارة بما يشاء لها سائقها من سرعة، وهذا الطريق يدعى البهيتة بلغة البدو، والبهيتاء بالعربية فيما ذكر صاحبي، وقد أضاف أنه سمي كذلك؛ لأنه يبهت الإبل، أي: يجهدها؛ ذلك أنه متدرج في الارتفاع من الزيمة إلى السيل الكبير تدرجا لا يحسه راكب السيارة في انطلاقها، لكنه يراه بعينه إذا نظر إلى الطريق أمامه وارتد ينظر فيما وراءه، وصدق، وقد فعلت، فذكرت طرق الجبال في لبنان وفي أوروبا، لا يقدر الإنسان ذهابها في الارتفاع أو الانخفاض أثناء انطلاق السيارة حتى يجيل نظره فيما أمامه وفيما خلفه منها، والبهيتاء تظل ذاهبة في ارتفاعها منذ تبدأ من اليمانية حتى تبلغ السيل الكبير.
علمت بأنا بلغنا السيل الكبير حين رأيت جبالا تقوم في الطريق فتسده، ولقد رأيت بأسفل سفحها دورا من الحجر أدنى إلى الأكواخ منها إلى الدور، ورأيت المياه تجري أمام هذه الأكواخ، وقد عبرتها سيارتنا ووقفت في فناء فسيح تحيط الأكواخ به، وهبطنا منها، وأقبل علينا بعض ساكني هذا السيل، فطلب أصحابي إليهم أن يعدوا لنا شايا، وفي انتظار إعداد الشاي صلينا العصر والشمس توشك أن تغيب، وتناولنا الشاي جلوسا على الفراش الذي مد لنا، وصاحبي يقول: «من هذا الطريق الذي جئنا منه جاء جيش المسلمين الذين أرادوا حصار الطائف، ويذهب بعضهم إلى أن هذا المكان الذي نقيم الآن به هو الذي وقعت به غزوة حنين، وإن كانت الشواهد كلها تدحض هذا القول، وهذا المكان هو في المشهور وادي نخلة؛ ولذلك كان وما يزال ميقات أهل نجد والعراق، وبعد ما بين حنين ونخلة! ولذلك أميل كما قدمت إلى أن حنينا تقع بين الشرائع والزيمة.»
وأجلت بصري في هذه الدور التي حولي والتي تتكون منها هذه المحلة، فذكرت الدساكر «العزب» في الريف المصري، وزادني ذكرا إياها أنني قمت أدور في أنحاء المحلة، فألفيت بعض الخيل والدواب في أحد جوانبها، وألفيت الماء ها هنا وهناك فيما أمامها، ولم أعجب لوجود الماء واسم المكان علم عليه، بل عجبت لقلته، قال الشيخ صالح: هو قليل الآن لانتهاء فصل السيول، لكنه يكثر حين الأمطار حتى يجعل السير في هذا المكان متعذرا وكذلك تراه يتبع في قلته وكثرته ما تنحدر عنه الجبال من مياه المطر.
ولم يكن عجبي من هذا المكان لقلة الماء ولا لكثرته فيه، بل لهذا الجبل الذي يسد الطريق ولا سبيل لاجتيازه، فمن أين ترى تتخذ سيارتنا طريقها؟ وإذا كان قد قد لها في الصخر طريق، فمن أين سار جيش حنين لحصار الطائف؟ لقد كانوا اثني عشر ألفا ومعهم من الإبل ما يكفي لحملهم وحمل مئونتهم، أفتسلقوا الجبال خفافا وتسلقت إبلهم معهم؟ أم داروا حوله وستدور سيارتنا الآن كذلك حوله؟!
ثم ألقيت نظرة إلى الطريق الذي جئنا منه، إلى هذه البهيتاء المنحدرة نحو اليمامة فالزيمة، الجامعة بين فسحة الوادي وصمت الصحراء، وقد ألقت عليها الشمس المنحدرة إلى مغيبها أشعة ندية أوحت إلى صمتها معاني ينشرح لها الصدر وينفتح لها القلب وتسبغ عليها الروح ما يفيض عنها من صور ومثل، وما أبهى ما يفيض عن الروح في هذه الساعة وما أشد صفاءه! إنها الطمأنينة إلى الطبيعة الفسيحة المترامية إلى ما وراء الأفق حيث لا يتصور خيالنا للكون نهاية، طمأنينة تضمنا إلى أحضان الطبيعة وتجعلنا نضم الطبيعة إلى أحضاننا، إنها سكينة الفؤاد إلى هذا الصمت المهيب العذب، لا تفسده ضجة الحياة ولا تغشيه مشاغلها بسحب الهموم حرصا على المال والسلطان، إنه التأمل في هذا السكون العظيم وفي بارئه الأكبر - تعالى جل شأنه - تأملا يثير أمام الذهن صورة الماضي مجتمعة في النفس إلى أول الخلق، وصورة جهاد الإنسان أثناء هذا الماضي ليبلغ الكمال، ومن هذا الجهاد مسيرة جيش حنين في ذلك الطريق مترنما بأغنيات الفوز والظفر، رافعا عقيرته إلى السماء مناديا: «لبيك اللهم وسعديك»، ومن هذا الجهاد مسيرة الرسول في عزلة يريد الطائف كما أريدها أنا اليوم، لكنه يريدها لغاية أسمى وغرض أرفع من غرض الدرس وغاية المعرفة، يريدها ليدعو أهلها إلى الحق ولينقذهم من ظلمات الضلال.
ودعاني أصحابي لنتابع سيرنا، وتخطت السيارة الماء عائدة إلى الطريق، ثم سارت إلى صدر الجبل كأنما تريد أن تقتحمه، وهي تتخطى أثناء سيرها مياها تجري ها هنا وهناك منحدرة على هون من أعالي القنن، وما لبثت حين استدارت بين صخور الجبل حتى ابتلعها الجبل في جوفه، فهي تشق خلاله طريقا وعرا ما تكاد تتقدم أثناءه، ترتفع آنا على حجر وتهبط آنا إلى طريق لا يستوي بضعة أمتار حتى تكظه الأحجار؛ فيضطر السائق إلى أن يعنف بالسيارة كيما تتخطاها، والجبل تقوم قممه عن يميننا وقممه الأخرى عن يسارنا قد حجب عنا كل شيء إلا طريقا في السماء تدلنا زرقته على أن الشمس لما تغرب.
وأبديت لصاحبي عجبي لوعورة الطريق بما لم أر قط مثله، وخشيت أن يكون ذلك شأننا فيما بقي أمامنا إلى الطائف، قالا: «لا عليك! فإنما هذه ذات عرق، وهذا الريع الذي تصعد بنا السيارة خلاله لا يزيد على بضعة كيلومترات، هي وحدها كل ما في الطريق من مشقة، فإذا اجتزناها عدنا إلى مثل طريق اليمانية وطريق البهيتاء تداولا بينهما حتى الطائف، ولطالما حاولت الحكومة أن تصلح هذا الجزء من الطريق فغلبتها السيول تخريبا إياه وإلقاء للأحجار من قنن الجبال أثناءه.» وبينما نتحدث كانت السيارة تبذل مجهودا أشق مجهود وأعسره، مجهود الحبلى تريد أن تقذف بمن في جوفها سليما إلى الحياة: أتنجح وتنجو بجنينها، أم يروح مجهودها سدى فتذهب هي وجنينها ضحيته، أم يخرج من في جوفها وتكون هي الضحية؟! والسائق يعاونها في هذا المجهود ويفادي بها الصخر حينا ويدفع إلى محركها مزيدا من البنزين حينا آخر، وهي بين هذا وذاك تئن تارة كأنما تتأوه، وتقف أخرى مستسلمة للمقادير وقد بدا منها اليأس، وإنها لتندفع بين الصخور وفوقها وقد قاربت نهاية الريع إذ ارتطم بطنها بصخرة اشتدت من هول صدمتها صيحتها، وسألنا حسنا ما بالها؟ فهون الأمر، لكنه نزل من مكانه يفحصها ثم انبطح أرضا يحاول أن يعالجها، ونزلنا نحن منها وتخطينا ما بقي من الريع، فانكشف أمامنا سهل فسيح تبينا أثناءه أن الشمس قد انحدرت في هوة المغيب، ولم يبطئ السائق بل أدركنا بالسيارة وأنبأنا أن عطبا غير ذي بال أصابها، وأنها قديرة على أن تبلغ بنا الطائف، وقد اقتضاه عطبها ألا يسرع بها كما كان يود أن يسرع.
وسرنا نشق سهلا فسيحا تمشت بشائر الليل في جوفه فأكسبته رقة وجمالا وإن حجبت عن النظر الكثير مما وددت لو استمتعت به، ويطلق السائق للسيارة العنان إذا رأى الطريق صالحا فتسرع، ولكن لا كما كانت تسرع في البهيتاء، ويبعث أضواء فناره الساطعة ما بين آن وآن لتكشف له الطريق كلما غم عليه، وقليلا ما يغم الطريق على هؤلاء البدو الذين اعتادت أعينهم أن ترى خلال الظلام، وسألت عن أشجار تبدت أطيافا إذ نمر بها، فقيل لي: إنها الطلح النابت في الصحراء.
قال صاحبي: «أنساني ما عانت السيارة ساعة ارتطمت بالريع أن أذكر أن المكان الذي وقفنا عنده بعد خروجنا من ريع ذات عرق، والذي يتصل بهذا الطريق الذي نسير فيه الآن، هو مفرق الطريق بين الطائف والعشيرة ، فنحن قد سرنا إلى يمين ذات عرق نقصد الطائف، فأما الذين يقصدون العشيرة ونجدا فيسيرون إلى اليسار، وقد تواضع الناس على تسميته مفرق العشيرة.»
وبعد هنيهة أردف يقول: «ونحن الآن نقترب من السيل الصغير، وتقع ديار القثمة، بين مفرق الطريق والسيل الصغير، فهي التي تمر السيارة بها الآن، والقثمة قبيلة من هوازن لعلها اشتركت في غزوة حنين مع سائر هوازن وثقيف، وسنمر الآن عند السيل الصغير بمكان اشتهر باسم القهاوي، ولو أن النهار أسعدنا بضوئه لرأيت آثارها، وإنما يعنيك من ذلك ما يدور على أفواه الكثيرين من أن سوق عكاظ كانت تعقد عندها، وما يؤكده بعضهم من صحة هذا القول، لكنك قد سمعت أنها كانت تعقد عند السيل الكبير، وستسمع كذلك أنها كانت تعقد في وادي عشيرة مما يلي ركبة، وهو المشهور قديما بوادي العقيق، ويذهب غير هؤلاء وأولئك إلى أن هذه السوق كانت تعقد على مقربة من الطائف بواد يقال له: وادي عقرب، ولقد حاول بعضهم تحقيق هذه الأقوال والقطع برأي فيها، فلعل ما تقوم به من البحوث يصل بك إلى ما لم يصل إليه غيرك، فلقد كان لعكاظ ذكر في سيرة الرسول - عليه السلام - قبل أن يبعثه الله نبيا.»
وهدأت السيارة من جريها، وقال السائق: «هذه القهاوي، وهنا المكان الذي يقولون: إنه عكاظ.» أما أنا فلم أر شيئا أستطيع أن أتبينه، فقد هبطت كسف الظلام وانطوى الوجود في دجنة الليل، وكنا في الثلث الأخير من ذي الحجة، فلم يكن للقمر في السماء أثر، ولم تكن النجوم لتكشف من غطاء الليل شيئا، وهذه الأودية الصامتة في رابعة النهار هي الساعة أشد صمتا ومهابة، فالنهار يجلو أمام النظر ما فيها من حزون وبطون، أما الآن فالعين لا ترى إلا ظلاما، فإذا تبينت خلال الظلام شيئا فأطياف لا تدري أهي أطياف الشجر أم مردة من الجن تسبح الليل في مهامه هذا القفر الموحش؟! وما لها لا تكون أطياف أولئك الأعراب الذين يقطعون على الناس الطريق وينزعون عنهم ما يملكون، إن رضوا كرما منهم أن يهبوهم حياتهم؟! هذه أخيلة تدور بخاطري الساعة وأنا أصف الطريق، أما والسيارة تسري بنا الليل أثناءه فلم يمر بي طيفها، بل كنت مطمئنا كل الطمأنينة، ولم يكن مرجع طمأنينتي إلى أننا كنا أربعة بالسيارة، وأننا كانت تتبعنا عربة «البكسفورد»، فلا خوف علينا من مردة الجن ولا من مردة الإنس، بل كان مرجعها إلى حال نفسية ألفتها في حياتي، كنت في الحجاز أشد إلفا لها، فأنا قلما يساورني الخوف من شيء، لكنني كنت في الحجاز أشعر كأنما تضاعفت قوة الحياة في نفسي؛ لأنني تضاعفت ثقتي بالله وتضاعف إسلامي له.
وتكلم صاحبي بعد زمن من عودة السيارة إلى انطلاقها كأنما يريد أن يقطع الصمت الذي سادنا خلال هذا الليل الذي يشتملنا: «لقد صرنا على مقربة من الطائف، وهذا الوادي الذي يسبقها تعمره قرى كثيرة، فعلى مقربة منا الآن أم الحمض، ويجيء بعدها وداي لقيم، ثم المليساء، ثم هضبة الزوار، ثم شبرة، ثم الطائف، وقد لا نحتاج في اجتياز هذه جميعا إلى غير ساعة أو أكثر قليلا.»
شعرت من لهجة هذا الحديث أن صاحبي يريد أن يهون علي مشقة الطريق، فقلت: «إن الجو الآن جميل يبعث إلى نفسي الغبطة والمرح، ولا حاجة بنا أن نعجل غايتنا، وما دامت السيارة لا تسرع بنا فليت «البكس» يدركنا لندخل الطائف معا.»
قال الشيخ صالح: «أحسبني أسمع صوت نفير لعله نفيره، وأحسبه على خمسة أميال منا، وهو - لا ريب - قد تخطى الريع دون أن يلحقه أذى، فعجلاته عالية تيسر للسائق تفادي الصخور التي تعترض سبيله، وسائقه جريء لا يخاف، وأكبر ظني أنه مدركنا قبل نصف ساعة من وقتنا هذا؛ بذلك ندخل معا الطائف حيث ينتظرنا الناس، فلا نضطر نحن ولا غيرنا إلى انتظاره هناك.»
ولم يخطئ ظن الشيخ صالح، فبعد دقائق سمعنا جميعا صوت نفير قرر سائقنا أنه نفير «البكس»، ثم قرر وقد التفت وراءه أنه يرى ضوء فناره، فنحن إذن بمأمن إن أصاب سيارتنا عطب يحول دون بلوغها الطائف، إذ نستطيع أن نركب البكس ونتم الطريق.
وأدركنا البكس بعد نصف ساعة، وكانت الساعة قد جاوزت الثامنة مساء، بل لعلها قاربت التاسعة، وانطلقت العربتان تجريان في طريق معتدل قدر ما يكون طريق السيارة فوق رمال البادية معتدلا، وشعر الشيخ صالح أني أضم إلي ردائي ومشلحي فقال: «هذا جو الطائف، والطائف ترتفع عن سطح البحر ألفا وسبعمائة متر أو تزيد؛ وهي لذلك مصيف أهل مكة، فلا عجب أن أدركك من جوها شيء من البرد، ولكن لا تخف، فهي مصح لا يضر جوه.»
انتهز الشيخ عبد الحميد فرصة هذا القول فأردف: «إذا كنت تضم إليك رداءك من البرد فما كان عسى أن يصنع جيش حنين ولم يكن يحول بينهم وبين هواء البادية زجاج كالذي يحول بينك وبينه؟!» وتبسمت ضاحكا من قوله وأجبت: «لقد كانوا في دفء بالظفر والغنيمة، وكانوا كذلك في دفء بالسير على أقدامهم أو على ظهور إبلهم، ولعلهم كانوا يقطعون هذا الطريق في الربيع أو في الصيف فكان لهم نعيما وغبطة.»
انقضت الساعة التاسعة وتنصفت الساعة العاشرة والظلمة المحيطة بنا دردبيس لا يرى الإنسان أثناءها كفه، والسيارتان تجريان على هون حتى لا يزيد ما بسيارتنا من العطب، ونتحدث آنا ونلزم الصمت آخر وقد حجب عنا كل ما حولنا فلا نرى إلا ما يضيئه فنار السيارة من الطريق، وإنا لكذلك إذ بدا من ناحية الشرق ضياء وخط سواد السماء، ثم أضاء القمر الأرجاء، ومددت البصر ذات اليمين وذات الشمال فرأيت ما حولي سهلا فسيحا لا تقف الجبال البعيدة دون تجوال النظر فيه، وبدت الجبال لبعدها عنا أشباحا مهولة لا نميز منها إلا ارتفاعها وضخامتها، وفي هنيهة صمت قال السائق: هذه الطائف، وحدقت أرجو أن أرى بناء فارتد بصري ولم أر شيئا، وإنما تعزيت بالمثل العربي: «القول ما قالت حزام»، ولئن كانت حزام تبصر إلى مسيرة ثلاثة أيام لقد عودنا حسن الصدق حين يتحدث عما يرى.
هذه الطائف، في هذا السهل الفسيح حولنا كانت إذن جنود النبي العربي منتشرة حين جاءت من حنين لحصار المدينة الحصينة وأهلها ذوي البأس والمنعة، وفي مكان منه ضربت خيمتان من أديم الحمر لمقام أم سلمة وزينب أمي المؤمنين، ترى أين يكون هذا المكان؟ أكان ها هنا على مقربة منا فنحن نسير حيث نزلوا؟ إنهم جاءوا إلى الطائف من ناحية لية، وهي لا ريب قريبة من هنا، ولكن أين كانت مضارب خيامهم؟ لعلي لو سألت لما أجابني أحد، فتحديد المواقع التي مر بها الرسول أمر لا يعرفه الناس من أهل هذه البلاد إلا ظنا، إلا من يكون قد عني منهم بدرس السيرة درسا تطبيقيا، ولقد كنت سمعت أن الشيخ عبد الله بن بليهد عالم نجد قد قام بشيء من هذا الدرس، فلأحاول بعد عودتي إلى مكة أن أراه، وإن كنت لا أثق كثيرا بأنني سأجد طلبتي عنده، فأما الحاج عبد الله فلبي - أو سير سينت چون فلبي - فلم يجعل من هذا الأمر موضع عنايته مخافة الخلاف مع علماء الشريعة على قوله، أو لأنه أكثر عناية برسم خرائط بلاد العرب الحالية كما يبدو من عمله.
قال صاحبي: هذه شبرة، وعجبت كمصري لسماع اسم يتداوله سمعي أثناء مقامي بعاصمة بلادي، وفطن صاحبي لعجبي فقال: «وهذا قصر الملك هنا، ولقد بناه الشريف عبد الله بن عون وأحاطه بالبساتين، وسمي هذا المكان شبرة باسم شبرا المجاورة للقاهرة؛ لمجاورة هذا المكان للطائف، وهذا القصر من أفخم قصور الحجاز، بل لعله أفخمها جميعا.»
كان صاحبي يقول هذا الكلام والسيارة تتخطى على هون بين جدران أغلب الظن أنها من الحجر الأبيض ألقى عليها القمر أشعته البيضاء فزادها بياضا، فأما ما وراء هذه الجدران من قصور وبساتين يتحدث عنها صاحبي فلم يلفتني إليه ولم يوقظ إليه انتباهي، لقد أزفت الساعة على الحادية عشرة مساء، أو الخامسة بالوقت العربي إن شئت، وقد كنت مجهودا غاية الجهد، ولعلي لو رآني في هذه الساعة أحد من أهلي أو أصدقائي بمصر لذكر لفوره قول عمر بن أبي ربيعة:
أخا سفر جواب أرض تقاذفت
به فلوات فهو أشعث أغبر
اجتازت بنا السيارة شبرة ثم تيامنت فمرت، بعد فضاء يبدو إلى جانبه سور لم أدر ما هو، بمنازل أشبه بالأطلال، لكن بناءها يبدو جديدا لم يتم بعد، فلم توضع أبوابه ونوافذه، وتيامنت السيارة ثم تياسرت ثم وقفت بباب لقينا عنده من ينتظرنا، وهبطنا من السيارة واجتزنا الباب إلى حديقة لمع تحت ضوء القمر نباتها، ثم سرنا إلى بهو فسيح مطل على نافورة ماء لم أقف عندها، وفي يمين البهو باب دخلنا منه إلى غرفة بها مقاعد وثيرة دعاني القوم إلى الجلوس فيها، فجلست سعيدا أن قطعنا رحلتنا هذه وبلغنا غايتنا منها بعد الذي أصاب السيارة سالمين، وجيء لنا بالقهوة فشربناها، وتبادلنا من الحديث ما رد إلينا بعض الطمأنينة، وغاب عنا الشيخ محمد صالح القزاز زمنا ثم عاد فجلس يحيينا، وكان ما تمثل به:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وشمت فيه إذ تمثل البيت الروح العربي القديم؛ روح الكرامة والكرم والشهامة والنخوة، فشكرت له وبادلته تحية بتحية، وأقمنا بمجلسنا حتى دعينا لتناول الطعام، وتناولناه، واعتذرت عن القهوة، وتحدثنا حينا ثم أوينا إلى فراشنا، وكان فراشي في غرفة بابها يقابل باب غرفة الجلوس في الجدار الموازي من البهو، ومن داخل هذه حمام به صنابير للماء ساخنا وباردا، ونمت ملء جفوني ثم استيقظت بكرة الصباح ممتلئا نشاطا، وأقمت أنظر كيف أعد السيد صالح القزاز برنامج يومنا، وإني لكذلك إذ جاءني بصحبة الشيخ عبد الحميد حديدي ومعهما ورقة كتبا فيها برنامجا لكل يوم من أيام مقامنا بالطائف، وكان برنامج يومنا الأول مدينة الطائف وما حولها.
الطائف
الطائف مدينة من أقدم المدن في بلاد العرب، ولعله لا يغلو من يحسبها أقدم من مكة أو من المدينة، وإن كانت الأساطير تذهب إلى أن بقعة الأرض التي تقوم منطقة الطائف عليها لم توجد ببلاد العرب إلا بعد أن أقام إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، فقد ذكروا أن إبراهيم لما جاء بهاجر وبإسماعيل إلى وادي مكة فأقام قواعد البيت توجه إلى الله بقوله:
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم . عند ذلك أمر الله الملائكة فانتزعوا قطعة من أرض الشام ووضعوها في المكان الذي تقوم الطائف به، وعلماء الجغرافيا وعلماء طبقات الأرض ينكرون - لا ريب - هذا الكلام، وإن روي فيه حديث للنبي
صلى الله عليه وسلم ، وهم ينكرون هذا الحديث ويؤكدون أن النبي لم يقله؛ لأن الطائف وباديتها وأوديتها وجبالها وجدت مع بلاد العرب ومع الشام جميعا، فلم ينقل منها إلى الشام شيء ولم ينقل من الشام إليها شيء.
والتسليم برأي هؤلاء العلماء لا ينفي ما تصوره الأسطورة من تباين بين طبيعة الطائف وطبيعة مكة، يتجلى لكل من قرأ كتب الأدب القديم، وقرأ سيرة النبي العربي، ومن عني بتاريخ بلاد العرب بوجه عام، وأقل مظاهر هذا التباين مما تحدث عنه الكتب خصب الطائف وإمحال مكة، وما ترتب على هذا الخصب وهذا الإمحال في الطبيعة من أثر في الرجال، فالعرب الذين تركوا على التاريخ الإسلامي ذكرا أكثرهم من ثقيف وهوازن، وأقلهم من مكة والحجاز، ولولا بيت الله بمكة، ولولا أنها مسقط رأس النبي العربي، لكانت الطائف صاحبة الأمر في الحجاز، وخاصة بعد أن فقدت مكة مكانتها التجارية حين تحول من ذلك اليوم البعيد طريق التجارة من البر إلى البحر، ومن سفينة الصحراء إلى سفينة الماء، وأقول: اليوم البعيد؛ لأنه يبدأ قبل الإسلام، ولأن طريق القوافل المار بمكة فقد كل خطره منذ صدر الإسلام وحين انتقلت العاصمة الإسلامية من بلاد العرب إلى الشام والعراق ومصر.
وليس هذا التباين في الطبيعة هو وحده الذي يجعل للطائف هذه المكانة المرموقة؛ فتاريخها يكفل لها مكانة مثلها، وليس يستطيع الباحث في سيرة النبي العربي أن يمر بالطائف دون أن يقف عندها، فمنازل بني سعد الذين استرضع النبي فيهم قريبة من الطائف، بل هي من باديتها، وإذا لم يكن يسيرا أن يقطع الإنسان بأن حليمة السعدية ظئر النبي مرت بالطائف في ذهابها إلى مكة أو في عودتها منها، فإن طبيعة الطائف وباديتها الخصبة الكثيرة الأودية والجبال قد كانت أول ما وقعت عليه عينا محمد الطفل المترعرع في هذه البيئة البدوية، الناعم بهوائها وبين أهلها ذوي النفوس الحرة الطليقة من كل قيد.
ولما بعث النبي وقضى من السنين ما قضى بمكة فلم تثمر دعوته الثمرة التي تهيئ له التغلب على ضلال قومه، كانت الطائف في مقدمة البلاد التي اتجه نظره للامتناع بها وببأس أهلها، صحيح أنهم لم يسمعوا له، وأنهم كانوا أشد حرصا على عبادة اللات منهم على اتباع هذا الذي جاء يصرفهم عن دينهم كما حاول عبثا أن يصرف أكابر قومه عن دينهم، لكن تفكير محمد في أمرهم، وذهابه وحيدا إليهم، وتعريضه نفسه لما تعرض له منهم، وهو لا يملك في وحدته دفاعا عن نفسه، كل ذلك يدل على أنه رآهم أرجح عقلا وأدنى إلى إجابة داعي الحق من غيرهم، فأما ما كان من صدهم إياه ومن تحرش صبيانهم به، ثم ما كان بعد ذلك بينه وبين عداس النصراني، فتلك آية الله على أن الحق في حاجة إلى صلابة في النفس وقوة في الخلق لينتصر، فإذا دعا إليه القوي الأمين الذي يخلص في الدعوة تم له النصر ولو بعد حين.
ذهب محمد يومئذ إلى الطائف وحيدا بعد أن تولاه اليأس من قومه لما اشتهر عن الطائف وأهلها من رجاحة الحكم وسعة الصدر وقوة البيان، وجعل يصعد الجبل وينحدر إلى السهول ثم يصعد ثم ينحدر، حتى إذا بلغ القوم في ديارهم قصد إلى دار أبناء عمرو بن عمير بن عوف الثقفي وهم يومئذ سادات قومهم: أولئك عبد ياليل ومسعود وحبيب، وجلس إليهم يحدثهم عن رسالته ويدعوهم إلى القيام معه على من خالفه من قومه ويعدهم النصر والجنة، لكنهم كانوا كغيرهم من أهل شبه الجزيرة، يريدون العاجلة، ويجدون في أصنامهم الوسيلة إلى ربهم، ثم كانوا يرون محالفته على قريش أمرا قليل النفع مخشي الضرر، هو كذلك، بخاصة لأن الخلاف يتصل بعبادة الأصنام، على حين لم تنازعهم قريش عبادة اللات ولا نازعتهم قدسية بيتها ، كما أنهم لم ينازعوها حرمة البيت العتيق وأصنامه، جال هذا كله بخاطر القوم ومحمد يحدثهم، فلم يجدوا لمجادلته موضعا، بل أنكروا عليه رسالته في غلظة وفظاظة، قال أحدهم: «هو يمرط ثياب الكعبة إن كان أرسلك.» وقال الثاني: «ما وجد الله أحدا يرسله غيرك؟!» ورأى الثالث ما في هاتين العبارتين من قسوة فلجأ إلى التهكم وقال: «والله، لا أكلمك أبدا؛ إن كنت رسولا من الله - كما تقول - فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك، وإن كنت تكذب على الله فما ينبغي أن أكلمك.»
حزن النبي لما سمع منهم وأيقن أنه ملاق من سائر ثقيف مثل ردهم، لقد كان يطمع في معونتهم لحكمتهم وسيادتهم ونزول قومهم على حكمهم؛ أما وذلك جوابهم فلا خير في التحدث إلى غيرهم، لكن قريشا بمكة لن يفوتها أن تسمع بما أصابه إذا تناقل أهل الطائف روايته، فيزداد محمد والمسلمون هوانا عليها، وتزداد إيذاء لهم وقسوة بهم؛ لذلك ألح محمد على محدثيه الثلاثة أن يكتموا ما دار بينه وبينهم حتى لا تصيبه قريش بأذى، أما عبد ياليل وأخواه فخافوا مغبة الكتمان وما يمكن أن تئول به زيارة محمد إياهم، فلم يسمعوا له، بل أغروا به سفهاءهم حين خرج من عندهم، وتعقبه السفهاء يقذفونه بالحجارة، فالتجأ منهم إلى حائط لشيبة وعتبة ابني ربيعة وجلس إلى ظل شجرة فيه، ورفع طرفه إلى السماء يشكو إلى ربه سوء ما حل به، ورآه ابنا ربيعة ورأيا ضراعته وما هو فيه من سوء حال، وبعثا مع غلامهما عداس النصراني بقطف من عنب يروي به ظمأه ويرفه به عن نفسه، ومد النبي يده إلى العنب، وقال: باسم الله، ثم أكل، ودهش عداس لما رأى وسأل محمدا عن شأنه، فلما علم أنه نبي أقبل عليه يقبل رأسه ويديه، وحذر صاحبا الكرم غلامهما من أن يؤمن به، فنصرانية عداس خير عندهما من هذا الذي يدعو محمد إليه، وانصرف محمد عن الطائف كسير الخاطر، وعاد يصعد في الجبال وينحدر في السهول ثم يصعد ثم ينحدر حتى بلغ مكة، فإذا الأنباء سبقته إليها، وإذا قريش تستقبله بالسخرية وتناله وأصحابه من الأذى بأكثر مما نالته ونالتهم به من قبل.
لو أن محمدا كان رجلا كالرجال لفت ما صنع أهل الطائف في عضده، ولآثر السلامة بين قومه، فعاد إليهم وانضوى تحت لوائهم، لكنه أقام يدعو إلى هذا الحق الذي لم تأبه له ثقيف، قوية بالحق نفسه، عامرا بالله قلبه، حتى نصر الله هذا الحق بعد حين، فعاد محمد بعد عشر سنوات أخرى إلى الطائف قويا بلواء هذا الحق الذي أظل بلاد العرب كلها، فتحصن أهلها منه ولم يذعنوا لدعوته كرة أخرى، لكنهم ما لبثوا، حين رأوا أن لا ملجأ من الحق إلا إليه، أن بعثوا إلى محمد من تلقاء أنفسهم يلتمسون الانضواء إلى دينه والأخذ بناصره، أوليس عجيبا أن يأبى الناس الحق إذا دعوا إليه بالحسنى وأن يحاربوا الرسول الذي يدعوهم إليه، فإذا تولى عنهم ورأوا أن لا قبل لهم باعتزال الحق بعد أن آمن الناس به أقبلوا طائعين يلتمسون رضوان من سخروا منه من قبل وأغروا به سفهاءهم، ثم حاربوه ومنعوا منه وطنهم؟! فلقد تحصنت الطائف من المسلمين بعد انتصارهم في حنين فلم يستطيعوا فتحها وانصرفوا عنها، ثم بعثت هذه الطائف سادات ثقيف يعلنون إلى محمد إسلامهم ويكلون إليه أن يبعث معهم من يفقههم في الدين ويرشدهم إلى عظمة الحق فيه، هذه آية خالدة على الزمن تشهد بأن للحق لا محالة النصر آخر الأمر ما استمسك به صاحبه عن إيمان ويقين، وبأن النفس الإنسانية تهفو إلى الحق ما اطمأنت إلى اقتناع الداعي إليه وإلى إيمانه به.
خرجت مع أصحابي أزور هذه الطائف ذات التاريخ المجيد، وصحبنا في زيارتنا رجل من أهل الطائف هو الشريف حمزة الغالبي، ولقد أقبل هذا الرجل علينا منذ الصباح، وقدمه إلي السيد صالح القزاز، فبادر الرجل فحياني ضيفا للطائف أجمل تحية، وهو بدوي في سحنته وفي حديثه وفي لباسه وفي تحيته وفي كل ما يبدو من مظهره، أسمر السحنة، عربي التقاطيع، تلمع عيناه السوداوان ببريق من ذكاء فطري، وتدل لهجة حديثه اللينة على دهاء وسعة حيلة، يلبس الصمادة والعقال الصوف على رأسه، وجلبابا يتمنطق فوقه بقماشة حمراء أشبه شيء بالفوطة، تتدلى من خصره إلى أسفل ظهره حتى تحاذي الركبتين في مثلث لا يبدو منه من الأمام غير انحدار القماش من حيث يربط حتى يستدير ليبدو في صورة المثلث وراء ظهره، وهو يلبس في قدميه نعلين حجازيتين لا شيء فيهما من زخرف النعال التي يلبسها اليوم أهل مكة، والتي زخرفت منذ الفتح الوهابي الأخير على طراز النعال النجدية، ولما ذكر السيد صالح القزاز وهو يقدمه أنه سيكون دليلنا في بادية الطائف وما حولها أبدى الرجل من الاغتباط بذلك ومن تفتح قلبه له ما زادنا اغتباطا برفقته وأنسا به.
يقع منزل السيد محمد سرور الصبان، حيث أقمنا، في أقصى الطائف بضاحية تدعى قروة، وبهذه الضاحية عدة آبار أشهرها بئر عجلان المعروفة بعذوبة مائها، ومكان هذه البئر منها على مقربة من جبل السكارى في جنوب الطائف، ويطلق هذا الاسم على الجبل الذي تسمى به منذ العصور الأولى، وأنت لذلك تجده في الكتب القديمة، وسبب إطلاقه فيما يذكرون أن أهل الطائف كانوا يذهبون إليه في أعيادهم الأهلية يسمرون ويسكرون.
ومنازل قروة قليلة، وبها مبان لم تتم، وبها آثار منازل مهدمة، هذا مع وفرة مائها وكثرة آبارها وصلاحها للسكنى والاصطياف، ويذكر أهل الطائف، وتؤيدهم كتب الرحلات إليها، أن قروة كانت عامرة كثيرة الدور مقصودة من المصطافين من أهل مكة وغيرهم، وأنه كان بها خمسة عشر بستانا، فلما وقعت الحوادث الأخيرة ودخل الوهابيون الطائف دمرت أكثر منازلها وهجرها أهلها، وصارت إلى ما رأيتها عليه من قلة المنازل وانعدمت بساتينها.
غادرت المنزل مع أصحابي ومعنا الشريف حمزة وركبنا السيارة نبتغي زيارة الطائف ذات التاريخ المجيد، فلنذهب إذن إلى البقعة التي تفاخر بها الطائف كل مكان آخر في بلاد العرب، تلك حيث دفن أصحاب الرسول الذين قتلوا حين حصار الطائف، والذين بقي اسمهم علما على التضحية بالحياة في سبيل الحق، كما بقي أبناء الطائف المثل الأعلى لاستماتة أبناء الوطن في الدفاع عن وطنهم، وذهبت بنا السيارة إلى مسجد ابن عباس القائم حيث كان جيش المسلمين الذين حاصروا الطائف على عهد النبي، والمجاور لقبور الصحابة الذين استشهدوا في هذا الحصار، إذ تقع القبور في مكان مسور بجوار المسجد من ناحية الشمال، وقد سلكت السيارة إلى المسجد طرقا خارج المدينة ثم انحدرت من طريق ينتهي إلى ميدان المسجد، ولم يكن ذلك عسيرا والمسجد يقع من المدينة في الطرف الذي يقابل موقع قروة، فلا حاجة بالذاهب إليه أن يجوس خلال مساكنها، وبين الميدان وباب المسجد ممر يبلغ طوله بين الخمسة عشر مترا والعشرين، وعرضه نحو ستة أمتار أو سبعة، وإلى يسار السائر في هذا الممر متجها إلى المسجد مبان يذكرون أنها مدرسة ومكتبة، وهي على نظام المباني المتصلة بالمساجد القديمة في مصر، والتي كانت مكاتب ومدارس إلى أول القرن العشرين، لها نوافذ واسعة تتقاطع فيها قضب الحديد لتحول بين داخلها والخارج، ويتعرج الممر عند باب المسجد، فإذا سار الإنسان فيه ألفى بابا مقفلا بالحجر، ذلك باب قبر ابن عباس الذي كان يزار فيما مضى ولا يسمح لأحد اليوم بزيارته، وكانت على هذا القبر قبة هدمها الإخوان فيما هدموا من القباب حين دخلوا الطائف والحجاز كله.
وباب المسجد يقابل الميدان، ويتخطى الإنسان منه إلى فناء مكشوف لا تقام فيه صلاة، فإذا وقف فيه متجها إلى ناحية القبر كان المسجد أمامه والمحراب في صدره، والمسجد مسقوف كله، قائم سقف على عمد فوقها عقود، مفروش كله، بعضه بالسجاد وبعضه بالحصير، فسيح الجنبات يتسع لبضعة آلاف من المصلين، وللقبر باب من ناحية المسجد غير بابه المطل على الخارج والذي أقفل بالحجر، وقد أقفلت أبواب مقصورة القبر من ناحية المسجد إقفالا محكما لا سبيل معه إلى دخول أحد عند القبر للتبرك به أو لاتخاذ صاحبه إلى الله زلفى، فمذهب الإخوان في هذا الأمر حاسم لا يقبل هوادة.
وكان الناس فيما مضى يصلون الجمعة في مساجد الطائف الأخرى ولا يقصدون إلى هذا المسجد العباسي؛ ذلك بأن أهل المدينة وما حولها اتخذوه مقبرة تيمنا بدفن موتاهم إلى جانب الصحابة، ورجاء أن يلتقوا في الآخرة بهم فيكونوا لهم شفعاء عند الله، وقد كثرت القبور في المسجد في بعض العهود حتى امتلأ نصف صحنه بها، فلما كان مستهل القرن الحادي عشر الهجري نهى الشريف زيد بن محسن عن الدفن فيه خيفة أن يصير مقبرة كله، وأمر بأن يصلي الناس الجمعة فيه بعد أن كانوا يعتبرونه مقبرة لا تقام فيها الصلاة.
ولم يكن المسجد يومئذ على ما هو عليه من سعة، ولعله لم يبن إلا بعد زمن غير قليل من حكم العباسيين إكراما لقبر ابن عباس، على أنه كان موضع التجلة والإكرام في مختلف العصور، فكان كلما تخرب منه جانب عمر، وقد تضافر أمراء المسلمين من أهل اليمن والحجاز ومصر على عمارته، كذلك كان شأنه، حتى لقد عهد والي الشام محمد باشا العظم إلى أحد المعماريين المشهود لهم بالتفوق بأن يزيد في عمارته فزاد فيه اثنتين وثلاثين ذراعا في الطول ومثلها في العرض وذلك في سنة 1193 هجرية.
وابن عباس صاحب هذا القبر والذي سمي المسجد باسمه، أو الحبر ابن عباس كما يسميه بعضهم، هو عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ابن عم النبي العربي، وجد الخلفاء العباسيين، وليس أحد قرأ علوم الإسلام إلا يعرفه كل المعرفة، فهو من رواة الحديث المعروفين، وهو من أكثر أهل زمانه ذكاء وعلما، وكان أبيض وسيما، جسيما، مشربا صفرة، طويلا، صبيح الوجه، له وفرة، يخضب بالحناء ويلبس الخز، ويعتم بعمامة سوداء يرخيها شبرا، توفي سنة 88 هجرية بعد أن كف بصره.
أما قبور الصحابة الواقعة إلى جوار المسجد من ناحية الشمال فيبلغ عددها اثني عشر قبرا، ويحيط بها مكان مسور ويقوم فوقها زرع أخضر، وليس يعرف أحد ممن تحدثت إليهم لمن من الصحابة الذين استشهدوا في الحصار هذا القبر أو ذاك، مع أنهم جميعا معروفة أسماؤهم، ولقد سألت: أيعرف أحد قبر عروة بن مسعود الثقفي، فلم أجد من يعرفه أو يدلني عليه، هذا مع ما كان لعروة من مكانة وسؤدد في الطائف على عهد الرسول، صحيح أنه لم يكن ممن استشهد مع المسلمين في حصار الطائف، فقد كان عروة يومئذ على دين قومه ولم يكن قد مات، لكن له في تاريخ النبي العربي مواقف تجعل له من المكانة في النفوس ما يخلد به ذكر قبره، وما يخلع عليه أسطورة من مثل الأساطير الكثيرة التي يسمعها الإنسان بمكة عن مساجدها وقبورها وآبارها.
فقد كان عروة سفير قريش إلى النبي عام الحديبية، هو الذي خرج إليه يذكره بأن مكة بيضته، وأنه إن يفضضها على أهله المقيمين بها كان العار الخالد لقريش عارا لا يرضاه محمد لأهله وإن اتصلت الحرب بينه وبينهم ما اتصلت، فلما عاد إلى قريش قال لهم: «يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا في قوم قط مثل محمد في أصحابه، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، ولا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وإنهم لن يسلموه لشيء أبدا.» وكان عروة هو الذي أسرع إلى محمد بعد غزوة تبوك يعلن إسلامه وحرصه على دعوة قومه للدخول في دين الله، فلما حذره النبي قومه وقال له: «إنهم قاتلوك». كان جواب عروة جواب المعتز بمكانه منهم أن قال: «يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم.» وعاد عروة إلى قومه فدعاهم إلى الإسلام؛ فتشاوروا بينهم، وعز عليهم أن يتركوا عبادة اللات، فلما أصبح عروة قام على علية له ينادي للصلاة، فضاق قومه به ذرعا فرموه بالنبل، فقال وهو يسلم الروح: كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إلي، فليس في إلا ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قبل أن يرتحل عنكم.» ثم طلب أن يدفن مع هؤلاء الشهداء فدفن معهم.
هذه بعض مواقف عروة بن مسعود الثقفي، ومع ذلك لا يعرف أحد من ثقيف قبره بين هذه القبور لشهداء المسلمين، ولقد دعاني ذلك إلى كثير من التدبر وأنا بموقفي أستذكر صورة اليوم الذي استشهد فيه أولئك الشهداء، واليوم الذي استشهد فيه عروة بن مسعود من رمية النبل وهو ينادي: «الله أكبر الله أكبر» ويدعو الناس للصلاة.
1
وعدت وأصحابي من مسجد ابن عباس ندور في المدينة، وقد مررنا على مقربة من مسجد ابن عباس بمسجد للسنوسي، يسميه بعضهم مسجد الطرابلسي، فألفيناه مغلقا، فنظرت من ثقب في أعلى بابه فإذا هو على طراز مساجد مكة بسيط العمارة غير فسيح، يتقدمه لدى الباب صحن مكشوف، ويقوم المحراب قبالة الباب، ويعتمد سقفه على عمد فوقها عقود تفصل بين الصحن والمسجد، فلما تخطينا سوق المدينة منحدرين غربا استوقفنا مسجد الهادي، وهو مسجد فسيح من مساجد الطائف السبعة التي يصلي أهل الطائف بها كل أوقاتهم، ما خلا صلاة الجمعة، فهم يجتمعون لها في مسجد ابن عباس.
من هذه المساجد بالطائف مسجد له قصة طريفة جديرة بالرواية، ذلك مسجد المحجوب الواقع في سفح جبل السكارى بقروة، وتتصل قصة هذا المسجد بمحرابه المشهور بأنه محرر على القبلة بدقة لا تعادلها دقة تحرير المحاريب في سائر مساجد الطائف، وقصة هذا المحراب أن السيد محجوب الميرغني السوداني أمر ببنائه، فلما أقام البناءون المحراب اشتبه في دقة استقباله القبلة، وقال لرئيس البنائين: «أصلح قبلتك». ثم مد كم جبته أمام هذا المعلم فنظر فيها فرأى الكعبة من كم الجبة، وبذلك حرر المحراب على عين القبلة، وأنا أضع هذه الرواية تحت نظر القارئ، وليس لي منها إلا حظ الناقل.
مررنا بسوق الطائف في انحدارنا من مسجد ابن عباس إلى مسجد الهادي، وسوق الطائف كما رأيت أشبه شيء بما نراه في حوانيت القاهرة إذ نمر بالفحامين والمغربلين وتحت الربع، ولقد عادت بي ذاكرتي وأنا أجتازها إلى أسواق أم درمان، وإن بينها وبين أكثر الأسواق بمكة لشبها عظيما، وهي تشبه أسواق دمشق كما رأيتها في سنة 1914 - إذا لم تخني الذاكرة - وهذا كله يدل على أنه طراز السوق المعروفة في بلادنا الشرقية قبل أن تغزونا حضارة الغرب وأن تجعل من أسواقنا ما نراه اليوم بالقاهرة والإسكندرية ودمشق والخرطوم في الأحياء الجديدة، فالحوانيت صغيرة ضيقة لا تعنى بعرض ما فيها عناية تلفت النظر، والجالسون فيها هم أصحابها، وهم يرتبطون بصلة المودة حتى ليدع أحدهم عميله جالسا إلى باب حانوته ليقوم بنفسه فيبتاع له من الحوانيت الأخرى ما ليس عنده، وتمتلئ هذه الحوانيت الصغيرة الضيقة بركة من الله وفضلا لقيام أصحابها بأنفسهم على تصريف تجارتها.
إذا اعتبرت الطائف هذه المدينة التي تتوسطها السوق ويقع فيها مسجد ابن عباس والمساجد الستة الأخرى، فهي - لا ريب - مدينة صغيرة لا تزيد على مدن المراكز في مصر؛ لذلك تضاف إليها الضواحي المتصلة بها، والتي يتخذها أهل مكة مصيفا ويعتبرونها من الطائف - كما يتخذ أهل مصر رمل الإسكندرية مصيفا ويعتبرونه من الإسكندرية.
وقد أشرت إلى ضاحية قروة حيث يقع منزل مضيفنا الشيخ محمد الصبان، وثم إلى جوار الطائف من ناحية الشمال بستان اسمه نجمة، جميل الموقع غاية الجمال، وبه قصر تمنيت إذ رأيته أن يكون لي، فموقع نجمة بديع حقا، يقع من خلفه واد يطلقون عليه اسم وادي العقيق، وإن أنكر الشريف حمزة الغالبي قدم هذا الاسم، ويقوم من وراء هذا الوادي جبل أبي صحفة، وهذا كله يحيط نجمة بهالة طبيعية بارعة تبلغ روعتها ساعة المغيب حين تنحدر الشمس وراء الجبل وتلقي بأشعتها على وادي العقيق مبلغا تتعلق به النفس ويأخذ الفؤاد منه البهر؛ لذلك اختارها الشريف عون الرفيق أمير مكة السابق لبناء هذا القصر الذي بها والذي أريد بالبستان أن يحيط به، لكن تصاريف القدر أقوى من إرادة الإنسان، وله فيها العبرة البالغة، فقد بغتت حوادث النهضة في بدء الحرب الكبرى بناة هذا القصر فلم يتموه، وبقي لذلك بناء قائما من الآجر الجميل لم يجصص ولم توضع له أبوابه ونوافذه، لكن متانة البناء حفظته مدى هذين العقدين من السنين اللذين انقضيا منذ بنائه، فهو اليوم قائم كأنه ينتظر بناته يستأنفون عملهم فيه صبح الغداة. أما البستان فصار اسما لا مسمى له، وهلك عون الرفيق وتركت ذريته الحجاز، وهي تقيم بمصر الآن، ولا يفكر أحد في استئناف هذا البناء البديع في ذلك الموقع الساحر، ولا في غرس البستان حوله ليكون مصيفا بارعا قل نظيره.
أما وهذا شأن نجمة فهي أدنى إلى الأثر منها إلى الضاحية، وإن تكن أثرا يسهل بعثه إلى الحياة ليكون قصرا فخما وبستانا جميلا، فأما الضاحية البديعة حقا فتلك شبرة التي مررنا بها في طريقنا من مكة إلى الطائف، والتي تقع على أبواب الطائف، ولم تقف السيارة بنا إذ ذاك عندها، ولم ألتفت يوم ذاك إليها رغم انبساط ضوء القمر عليها، لتقدم الليل، وشدة الجهد، وطول الشقة التي قطعناها، لكني عدت إليها قبيل المغيب ذات يوم من أيام مقامنا بالطائف فخلتني إذ دخلت قصرها واخترقت بساتينها كأنما انتقلت من بلاد العرب كلها إلى جزيرة الروضة بالقاهرة، أو إلى بعض الجوانب النضرة من سويسرا، هذا مع أني كنت قد مررت قبل ذلك ببساتين عدة في بادية الطائف، وكنت قد نسيت الجدب والإمحال المحيطين بمكة، واللذين ينتشران في تهامة إلا في قليل من أوديتها.
وشبرة ليست مع ذلك بالضاحية القديمة، فقصورها وبساتينها من بناء آل عون في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل هذا القرن العشرين، بنى الشريف عبد الله بن عون القصر الأول، أو شبرة القديمة كما يسمونها، وبنى الشريف علي ولده القصر الثاني أو شبرة الجديدة، وغرست حول القصرين بساتين فخمة يقصر دونها الطرف، بها من أشجار الفاكهة النادرة والأزهار البالغة في البهجة ما جلبه بناة القصرين من مختلف بلاد الأرض، كما جلبوا رخام القصرين من إيطاليا، وأخشابهما من تركيا، وقد آل هذان القصران إلى الملك ابن السعود بعد جلاء الأشراف عن الحجاز، فاتخذهما مصطافا له ولعائلته، أما وحريم ابن السعود من زوجات وملك يمين يفقن في العد ما يتصوره ذهننا المصري، أما وأبناؤه منهن يجاوزون العشرات، أما ولكل زوجة في القصر جناح، فالقصران جميعا لا يسعان الأسرة الملكية السعودية كلها؛ لذلك يضطر الأمير فيصل، وزير خارجية ابن السعود ونائب الملك بالحجاز، أن ينزل بالطائف إذا اصطاف بها؛ لأن قصري شبرة وبساتينها تضيق به .
وبينما يصطاف ابن السعود وأهله بشبرة الطائف إذا الشريف علي باشا الذي أقام شبرة الجديدة بعد أن أقام أبوه الشريف عبد الله بن عون شبرة القديمة يقيم بمصر يستعيد ذكريات عهد سلف، ويتطلع بآماله إلى هذه البادية التي شهدت عظمة سلطانه ثم نسيته كما نسيت عتاة سبقوه وكان لهم فيها السلطان، وإن حفظت ذكر الذين عطروا جوها من عهد رسول الله بالتضحية بحياتهم جهادا في سبيل الله.
عدت إلى شبرة قبيل المغيب ذات يوم من أيام مقامنا بالطائف بعد أن قضينا نهارنا بالبادية نصعد في الجبال وننحدر عنها، وكان السيد محمد صالح القزاز قد أبلغ حارس القصر أن يلقانا عنده وأن يفتح لنا بابه أول وصولنا إليه، ووقفت قبالة القصر أحدق في عمارته، ولم يدهشني ألا ينم شيء منه على الطراز العربي في قليل ولا كثير رغم قيامه في قلب بلاد العرب؛ فقد شاده الأشراف في عصر كانت صفة العربية تدل على الانحطاط والتأخر في كل ما تنسب إليه، وكان سلطان الحضارة الغربية متغلغلا في نواحي الحياة في ربوع العالم جميعا، إنما بني القصر على طراز أدنى إلى الروماني، فتح حارسه لنا بابه فصعدنا إلى درجات فسيحة مريحة تبلغ عرض الباب، أي: نحو المترين، ومصراعا الباب من خشب جميل النقش ثمين، وطالعنا سلم القصر وراء الباب وهو في مثل عرضه، صنع من رخام إيطالي جميل، وقام عن جانبيه درابزون من الحديد الدقيق الصناعة، وتدل آثار من النحاس باقية بأعلى الدرابزون على عناية بنقشه وزخرفته، وقد قيل لنا: إن الوهابيين لما وصلوا الطائف واقتحم جندهم القصر حسبوا النحاس ذهبا فنزعوه واعتبروه من الغنائم الثمينة، ويفضي هذا السلم إلى الطابق الأول للقصر فيفضي بذلك إلى أبهاء فسيحة، وغرف تذكرك سعتها بأبهاء الفنادق، وزادها سعة خلوها من الأثاث، وأردت أن أعرف هذا الأثاث ما يكون حين نزول الأسرة المالكة أثناء الصيف بالقصر فلم أجد إقبالا على إجابتي، فحسبت القوم غلبهم الحياء دون الحديث في أمر ملكي ذلك مبلغه من الاتصال بالحياة البيتية في الليل والنهار، وأردت أن أشجعهم فذكرت ما يراه الإنسان بالقصور الملكية في إنجلترا وأوروبا من الطنافس وأدوات الزينة وأسرة النوم، فنظر أحدهم إلي في دهشة وقفتني عن المضي في القول وذكرتني أنني في بلاد العرب ولست بأوروبا.
ولم نصعد إلى الطابق الثاني من القصر إذ قيل: إنه على نظام الطابق الأول، وعدنا من الغرف إلى السلم لنهبطه، فأشار إلينا الشيخ صالح القزاز فدخلنا من باب قبالة السلم يؤدي إلى طنف «بلكون» مطل على بساتين القصر، فجلسنا حتى تناولنا القهوة، ثم هبطنا إلى البساتين نسير فيها متنقلين من بستان شبرة القديمة إلى بستان شبرة الجديدة نقضي من الوقت أثناء سيرنا بهما ووقوفنا أمام أشجار مختلفة فيهما ما يشيع في النفس المسرة ويذهب عنها نصب النهار في متاعها بمنظر شجرة باسقة لفاكهة نادرة، وأخرى متشعبة الفروع لزهر ذكي عطر، وإن لم يكن الفصل بالطائف بعد فصل جبي الفاكهة أو تضوع أريج الزهر.
وهذه البساتين، على ما فيها من أشجار ثمينة نادرة، لم يعن أحد بتنسيقها أو بتنظيم الطريق خلالها لتيسير المرور بها والوقوف عند محاسنها والمتاع بعطر زهرها وأريج فاكهتها، هي أدنى إلى أن تكون غابة مستوحشة ألقت المصادفة إليها بهذه الأشجار فنمتها تربتها الخصبة في نضرة وبهاء دون أن تجمع بين المتشابه منها أو تعنى باتساق ألوان الزهر فيما يجتمع من أشجاره، يشير لك البستاني إلى شجرة من الورد ويصف لك بهاء لون زهرها، ثم يذكر لك أن شجرة مثلها تقع في ناحية من البستان نائية أو قريبة، وأن شجرة من فصيلتها تقع في الطرف الآخر منه، وما سوى الورد والفاكهة مبعثر في هذه البساتين كالورد سواء، فسبيلك إلى معرفتها أن تدرس مواقعها من هذه الغابة وأن تقتحم طريقك إليها خلال الأشجار الباسقة البارعة النمو المتشابكة الغصون.
وبلغنا بابا صغيرا بآخر البساتين فيما وراء القصور، واتجه أصحابي يريدون الخروج منه، وإني لعلى أهبة اتباعهم إذ وقف إلى جانبي الشريف حمزة الغالبي، وقال: أتعلم أن لهذه البساتين كرامة لن ينساها أهل الطائف ولا أهل مكة؟! وعجبت أن تكون البساتين أولياء أولي كرامات، فقال: لا تعجب! فقد كان أهل مكة يصطافون بالطائف حين أغار الوهابيون عليها، ولم تكن بالطائف حامية تصد غارتهم، فلما سلمت المدينة ودخلها الإخوان أخذوا من بها أسرى، وبحثوا عن محلة تتسع لهم جميعا فلم يجدوا إلا هذه البساتين فحشروهم فيها زمرا ولم يدفعوا إليهم بطعام ولا بشراب، وكان الفصل فصل الفاكهة، فوجد هؤلاء الأسرى فيها طعامهم، وفي العيون التي تستقي منها البساتين شرابهم، ولولا ذلك لهلكوا جوعا وعطشا، ألا ترى هذه كرامة لهذه البساتين تسجل لها مع ما ينسب لبعض الآبار والآثار من الكرامات؟!
وألقيت على هذه البساتين كأنها الغابات قبل خروجنا من بابها الصغير نظرة أحاطت بها، ثم سرت وأصحابي بعد أن انحدرت الشمس إلى المغيب تاركة وراءها بقية من الضوء تنير الطريق للسالكين، وأفضيت إلى أصحابي والسيارة تجري بنا إلى الدار بما رأيت من عدم تنسيق البساتين وتركها غابة غير ذات نظام، فقال أحدهم: «لعلها كذلك أجمل! ولعل ذلك رأي الأشراف الذين نسقوها.»
وبلغنا الدار فعلمنا أن شعراء البادية سيحضرون إلينا في المساء، ودخلت غرفتي أزيل غبار النهار، ثم توضأت وصليت وأقمت على سجادة الصلاة أذكر ما رأيت، وتمثلت لي البساتين في غاباتها وسألت نفسي: أهي حقا كذلك أجمل مما لو نسقت ونظمت وخططت فيها الطرق وجمع فيها كل ضريب من الأشجار إلى ضريبه، وكل لون من الزهر إلى نظيره؟ أم هي كذلك أجمل لأنها في بلاد العرب بين أحضان الطبيعة البكر لم تنظمها يد الإنسان، وأنها لو نظمت لكانت نابية في هذه البيئة؟ فالبدوي المتنقل من مكة أو من نجد إلى الطائف، والذي قضى في البادية ما قضى يخب به الجمل تتقاذفه الفلوات، أو تجري به السيارة منذ غزت السيارة هذه الربوع جريا مضطربا بين المرتفعات والمنخفضات، لا يألف نظره البستان المنظم ما يألف هذه الغابة الموحشة في روعة جمالها البارع! أم يرجع عدم تنظيمها إلى بقاء الخلق البدوي متأصلا في النفس العربية فهي لما تألف الحضارة ونظامها، وهي لا تحتمل هذه الحضارة ولا تسيغها إلا أن تحمل على ذلك حملا وتكره عليه إكراها؟
والحق أن أهل هذه البلاد ما يزالون مترددين بين الاعتزاز ببدويتهم والإعجاب بالحضارة الحاكمة، فهم يتمنون أن يتاح لهم المتاع بكل ما تيسره هذه الحضارة من متاع بالحياة، وهم يخشون ألا تطيق نفوسهم هذا المتاع، أو لا تطيقه بلادهم وبيئتهم لو أنه جلب إليها، كما يخشون أن يضيع ما تجلب هذه الحضارة إليهم ما ينعمون به من حرية البداوة، فهم يعتزون بها ويذكرون ماضي مجدها ويرجون لو يستطيعون الجمع بينها وبين ما في الحضارة من خير، ناسين أو متناسين أن الخير وحده لا وجود له، وأن الشر وحده لا وجود له، وأن اجتماعهما طبيعي، فلا مفر منه ولا معدى عنه، وأن غاية ما نستطيعه أن نستر الشر عن الأعين، كما يتوارى المريض أثناء مرضه عن أعين الناس.
وأقبل المساء وأقبل شعراء البادية إلى بهو الدار يبلغون الخمسة عشر عدا، وجلس كل منهم في المكان الذي تؤهله له مكانته، في الصدر جلس رجل منهم يناهز الستين، تحدث سيماه ويحدث لباسه عن وجاهة في قومه وتقدم على أبناء قبيلته، وجلس على مقربة منه من لا يبلغ الثلاثين ولكنه فصيح القول، في نبرة صوته أمارة الرياسة، وجلس الباقون وقد اختار كل منهم مكانا لا ينازعه إليه غيره، وألقى كثير من هؤلاء مشالحهم عن أكتافهم، أما أولو الصدارة فقد احتفظوا بها وكأنها بعض أمارة الصدارة، وبادلتهم التحية جميعا، ثم فسحوا لي في الصدر مكانا وسألوني عما شهدت بالطائف وعن رأيي فيه، واتصل بيننا حديث سرعان ما خالطه ذلك الود الفياض من ميراثنا المشترك في اللغة والتاريخ والعقيدة، ذلك الود الذي يجعلنا نشعر حيث كنا من بلاد هذا العالم العربي أننا بين أهلنا وذوي قربانا، التقى أجدادنا وأجدادهم، وجرى في عروقنا وعروقهم عن طريق النسب دم مشترك، فأصبحنا أمة واحدة وإن تباعدت البلاد وتباينت العادات.
ولم أكن أطمع في أن أسمع من شعراء العرب هؤلاء شعرا عربيا كالذي انتهى إلينا عن الجاهلية وعن شعراء العرب أيام سلطانهم وازدهار حضارتهم، فلقد طمعت في أن أسمع بالبادية حديثا عربيا في صفاء اللغة التي درسناها، فلم أسمع في الأودية ولا في أعالي الجبال من ذلك شيئا، وإنما هي لهجات تعذر علي فهم بعضها كما يتعذر علي فهم لغة أهل الصعيد الأعلى في مصر، وفهمت بعضها في عسر، كما لو كنت أسمع بعض اللهجات في سوريا ولبنان، وليس في البادية مدارس يتعلم أبناء البادية العربية الصحيحة فيها ويدرسون الشعر القديم كما يدرسه أبناؤنا ليقولوا الشعر متأثرين ببيئتهم محاكين الأقدمين في نظمهم، ولم يخلف هؤلاء الشعراء ظني، فقد بدءوا يلقون مقاطيع في الغزل وفي ذكر الأيام، أيام البادية المجيدة، هي أشبه شيء بالمواويل الحمر في صعيدنا الأعلى، ولقد كانت طريقة الإلقاء تبعث إلى النفس من معاني ما يقولون أكثر مما تبعثه الألفاظ الغريبة عني، والتي تنطوي عليها لهجاتهم المختلفة، وكثيرا ما حاول الشريف حمزة الغالبي أو الشيخ صالح القزاز أن يترجم لي هذه المقاطيع باللغة التي نتفاهم بها، لغة أهل مكة الجامعة بين خليط من لغات المسلمين في أقطار العربية المختلفة، وكنت أقف من هذه الترجمة على صورة بدوية بديعة في هذا الشعر الساذج أكاد أذكر بها معاني الأقدمين.
وجاءت نوبة الشريف حمزة الغالبي فألقى قصيدة باللغة العربية الفصحى، وكأنما أراد أن يرفه عني بلغة يتيسر علي فهمها، وعاد أصحابه إلى مقاطيعهم، ثم عاد هو فألقى قصيدة أخرى، وعاد في نوبته فألقى قصيدة ثالثة، إذ ذاك ضاق القوم به ذرعا أن رأوني أسرع إلى فهم ما يقول، فحدثه أسنهم يعيب عليه أن يحاول إبداء تفوقه عليهم أو ازدراء لغتهم ولغة آبائهم، واعتذر الشريف في تأدب بأنه إنما يريد أن يطلعني على شيء مما يقولونه، ولم يعد بعدها إلى إلقاء شيء من شعره.
وكان الطريف في هذه القصائد الثلاث التي أنشدها أنه يمدح بأولها حكم الترك، وبالثانية حكم الأشراف، ويشيد في الثالثة بحكم ابن السعود، دون أن يرى في ذلك ما يعاب به أو يقدح فيه، ألم يكن هؤلاء جميعا حكاما لبلاده؟ فهم سواسية عنده، يقول فيهم جميعا قولا واحدا، ويتخذ إزاءهم من شعره ما يتقي به ظلمهم وما يصل به إلى رضاهم، وإلى ما يسبغه هذا الرضا على من يناله من خير ونعيم.
ومدت لشعراء العرب الموائد، وقدم لهم العشاء، فالتفوا حوله بعد تمنع ونالوا منه شبعهم، وبعد أن تناولوا القهوة وتحدثوا استأنفوا قول الشعر، لكنهم لم يقولوه مقاطيع كما فعلوا قبل العشاء، بل بدءوا بالمطارحة: يرتجل أحدهم في أمر فيجيبه آخر ارتجالا في هذا الأمر، وما كان لي أن أحكم بينهم ولم أكن أفهم مما يقولون إلا قليلا، لكنني رأيت بعضهم يتحمس لما يسمع من جانب، ورأيت آخرين يتحمسون لما يسمعون من الجانب الآخر، وذكرت شيئا من هذه المطارحة سمعته في لبنان، ورأيت هناك ما رأيت بالطائف من تحمس لهذا ولذاك من المرتجلين، فأيقنت أن الشعر شعبي يثير الحماسة، وأن قائله يتوخى في قوله أن يثيرها في النفوس ليذكي فيها من صرام هذه الحماسة غاية ما يستطيع إذكاءه.
وانتهى القوم من هذه المطارحة يتبادلونها جلوسا، ثم قاموا فريقين يواجه كل منهما الآخر، وقد أمسك الزعيم من كل فريق عصا، واندفعوا يتطارحون في حماسة أشد من الأولى وأنا لا أكاد أفهم مما يقولون شيئا؛ لبعد ما بين لهجتهم وما عرفت من لهجات البلاد التي تتكلم العربية الفصحى، وحمي وطيس المطارحة، وأخذت الحماسة من نفوس الفريقين أعظم مأخذ، ولم يصبح الأمر بينهم أنهم يريدون إظهاري على شعر البادية ما هو، بل أصبح منافسة واستعلاء، يريد كل فريق أن يكون له التفوق والغلب، وهل بقي من أمري ما يعنيهم وقد رأوني لا أفهم ما يقولون؟! لكنهم يفهم بعضهم بعضا، ولكنهم رأوا حديقة الدار قد امتلأت بأهل الطائف كبارا وصغارا يلقون إليهم السمع ويتحمسون لهم فيزيدونهم حرصا على الإجادة والتفوق، وامتلأت حديقة الدار منذ بدأت هذه المنافسة ولم يكن بها أول المساء إلا القليل، فلا عجب أن يحرص كل فريق على أن يحكم النظارة بتفوقه ، وإن امتد به القول، وإن أقام مكانه حتى الصباح يتلقى الهجمات ويدفعها حتى يبلغ من ذلك إلى إخفات صوت خصمه.
وأدرك الشيخ صالح القزاز أني أقيم معهم مجاملة لهم ما دمت لا أفهمهم، وأني في حاجة إلى الراحة والنوم، وكان الليل قد انتصف ولا بد لنا من التبكير في اليقظة صبح الغد لنخرج إلى جبال الشفا؛ لذلك أخذ يشكر القوم علامة الإذن بانتهاء الحفل، إذ ذاك سمعت زمجرة استياء من ناحية الحديقة وبدا على المتنافسين الضجر مما سمعوا، وكأنما كان كل فريق يحسب النصر قد دنا، أو أن فريقا طرب للانتهاء؛ لأنه كان وشيك الخذلان، في حين كان الفريق المتفوق هو المزمجر استياء لهذا التبكير بفض الحفل قبل تمام انتصاره، على أن حركة الاستياء لم تلبث غير ثوان جلس القوم بعدها ثم استأذنوا وانصرفوا، وقمت إلى مضجعي مكدودا فلم تك إلا لحظات حتى اشتملني عالم النوم.
واستيقظت بكرة الصباح وصور هؤلاء الشعراء ما تزال ماثلة أمام عيني، وساءلت نفسي عن هذه المطارحة وهذا التفاخر: أهما صورة ما كان يقع عند العرب من سكان هذه البادية في العصور القديمة حين كانت الفصحى ما تزال في سلامتها، وأن ضياع الفصحى لم يحل دون انتقال هذه الصورة على العصور من الآباء إلى الأبناء؟ ولم أعن نفسي بالوقوف عند هذا السؤال والتماس الجواب عنه، مكتفيا بما علقته الذاكرة من كتب الأدب عن المطارحة ارتجالا وذيوعها عند العرب الأقدمين، فأما هذه المفاخرة في صفين يقف أحدهما قبالة الآخر فقد تكون صورة من المطارحة في الفخر لم تطل كتب الأدب الحديث عما كان يقع منها فيما مضى، وقد لا تكون مما ورثه عرب البادية اليوم عن أسلافهم، وإنما هي بدعة انتقلت إليهم من بعض البلاد التي غزاها هؤلاء الأسلاف بعد الفتح الإسلامي بزمن قصير أو طويل.
وسألت الشيخ عبد الحميد حديدي، ونحن نتناول طعام الإفطار، عن المكان الذي لقي النبي فيه عداسا النصراني النينوي حين جاء إلى الطائف مستنصرا أهلها فخذلوه وأغروا به صبيانهم فوجد في عداس هذا عزاء وسلوى عن تحرش الصبيان به وتنكر الرجال له، وأجاب الشيخ عبد الحميد: إن مسجد عداس يقع بالمثناة إحدى قرى بادية الطائف، ولا يقع بالطائف المعروفة اليوم، أما وكتب السيرة جميعا تشير إلى أن عداسا لقي النبي بالطائف حين احتمى بحائط شيبة وعتبة ابني ربيعة، كما تشير إلى أن مضارب المسلمين حين حصارهم الطائف كانت تقع على مرمى النبل منها، وإلى أن قبور الشهداء الذين أسلموا الروح أثناء هذا الحصار، وهي القبور الواقعة إلى جانب مسجد ابن عباس، تقع حيث كانت تقوم هذه المضارب، ففي هذا كله ما يدل على أن الطائف لا تقوم اليوم حيث كانت تقوم على عهد الرسول، وأنها نقلت من مكانها، حيث كانت تحيط بهذه المثناة التي يشير الشيخ عبد الحميد إليها وإلى وجود مسجد عداس بها، وشيدت حولها قبور هؤلاء الشهداء تبركا بهم وتيمنا بهذا المكان الذي أقام النبي به أثناء حصار الطائف، وقد أقنعني تجوالي ببادية الطائف ووقوفي بالمثناة من قراها بصحة هذا الرأي، وبأن موقع الطائف اليوم غير موقعها القديم، وأن إحاطتها بمسجد ابن عباس وقبور الشهداء من المسلمين إنما ترجع إلى هذه الاعتبارات التاريخية التي رواها صاحبي.
وبادية الطائف فسيحة مترامية الأطراف تجعل من الطائف قطرا كاملا ومملكة، لو أنها عمرت لكانت كبعض الممالك الصغرى بأوروبا، وحسبك أن تعلم أننا أقمنا أربعة أيام نجوب أنحاءها بالسيارة من بكرة الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء أحيانا وإلى ما بعد مغيب الشمس دائما، ما خلا يوم زرنا شبرة ولم نبلغ من هذه البادية بعد ذلك إلا بعضها، وأقرب بادية الطائف إليها بستانان يضيفهما بعضهم إليها؛ لأنهما يقعان حيث كانت تقع الطائف على عهد الرسول؛ ولأن موقعهما يختلف في طبيعته عن البادية، فبادية الطائف تقتضيك لكي تبلغها تسنم هضاب وتسلق جبال وجوب أودية ليست في شيء من طبيعة الطائف ولا من موقعها في سهلها المترامي الأطراف بين الجبال المحيطة به، وهذان البستانان يقعان في هذا السهل كما تقع فيه قروة وشبرة ونجمة وسائر ضواحي الطائف، وهذا ما يؤيد رواية الرواة أن الطائف القديمة كانت تقع حول هذين البستانين، فالمشهور أن مسجد ابن عباس كان يقع على بعد من أسفل المدينة القديمة من الجهة الشمالية، أما اليوم فهو يقع في أعلى المدينة من الجهة المذكورة، وهذان البستانان يقعان جنوب الطائف الحالية.
البستانان هما حوايا وشهار، وهما واحتان خصيبتان بين هضاب قليلة الارتفاع مليئة بالأحجار التي قذف بها السيل من أعالي الجبال، وفي كل بستان منهما مياه جارية تسقي أشجاره الباسقة الجميلة، ويتوسط «حوايا» بناء يقيم به أهله، وقد بنيت أمام أبوابه بركة ماء فسيحة يرتفع الماء فيها فوق مستوى الأرض لتيسير ريها منه، وماء البركة يؤتى به من بئر يسهل متح الماء منها لقربه من سطحها، ويوجد على مقربة من هذه البئر بئر أخرى يشيدون بصلاح مياهها لشفاء رمل الكلى، ويتحدثون متعجبين عن مجاورتها للبئر الأخرى مع اختلاف خواص مياههما بحيث يكون ماء هذه البئر شافيا صالحا للشرب ولا تكون الأخرى كذلك.
ويريد بعضهم أن يجعل اسم حوايا تحريفا لاسم سبقه هو هوايا؛ ويذكر أن هذا الاسم قد أطلقه على هذا المكان من وجد في مياه بئره الشافية ما يرضي هواه، وعندي أن هذا خيال لا سند له في كتاب من الكتب التي يصح الاعتماد عليها والتي ذكرت اسم هذا المكان.
أما البستان الآخر فشهار، وهو يشبه حوايا، غير أنه لا بناء فيه ولا بئر، وبه شجرة نبق هندي لذيذة الثمر، وآلة رافعة للمياه يديرها الهواء، وقد دقت هذه الآلة في البستان من زمن قريب على سبيل التجربة، وأهل الطائف ينتظرون نتيجة هذه التجربة قبل أن يقدموا على الاستعانة بمثل هذه الآلة في استنباط مياههم من العيون.
حول هذين البساتين إذن - وبين التلال الواقعة أمامهما من الجهة الغربية - كانت تقوم الطائف القديمة فيما يروي بعض أهلها اليوم، وفي هذا المكان إذن كانت تقوم اللات صنم ثقيف حتى عفى الإسلام على أثره إذ هدمه المغيرة بن شعبة ونساء ثقيف حسرا يبكين، وكان يقوم بيت اللات ضريبا لبيت الله بمكة، كما كانت تقوم دار عروة بن مسعود أول من أسلم من ثقيف، ودار عمرو بن عمير بن عوف التي قصدها النبي يوم نزل الطائف وحيدا فرده أبناء عمرو ردا غير جميل، وفي هذا المكان كانت تقوم المدينة التي حاصرها النبي على رأس جيش الفتح فاعتصمت بحصونها وامتنعت من هؤلاء الذين لم تمتنع عليهم مكة ولم يمتنع عليهم في بلاد العرب كلها بلد ولا حصن، أين يومنا اليوم من تلك الأيام العظيمة التي شهدت عز الطائف وعز العرب جميعا ببطولة العرب وبمجد الإسلام؟! وأين تلك الطائف القوية ذات الأيد والمنعة والحصون التي لا تقهر، من هذه الطائف التي يمتنع بها الترك أول الحرب الكبرى فيحاصرهم الأشراف فيها ويأخذونهم أسرى، ويمتنع بها الأشراف في سنة 1925، فيحاصرهم النجديون فيها ويقتحمونها عليهم ويأسرونهم بها، بل أين بلاد العرب كلها اليوم من بلاد العرب تلك حين كانت الطائف قطعة من الجنة - أو قطعة من الشام نقلها الملائكة إلى شبه الجزيرة - وحين كانت ثروة الطائف وخصبها مضرب المثل؟!
وتمثل لي جيش المسلمين أيام النبي مقبلا من ناحية الجبال الواقعة شرق الطائف بعد أن انتصر في حنين وخلف أسراها في الجعرانة، تمثل لي هذا الجيش يزيد رجاله على عشرة آلاف كلهم إيمان بالنصر، وكلهم حرص على الاستشهاد في سبيل الله، وقد أحاطوا بالطائف، فرماهم أهلها بالنبل من أعلى الحصون واضطروهم للانزواء بعيدا عن مرمى النبل، وهناك عند مسجد ابن عباس أقام الجيش، وضربت للنبي خيمتان بعيدا عن هذا المرمى، ويطول حصار القوم وهم متحصنون بمدينتهم الغنية لا يسلمون، وهم فيها كالثعلب في جحره لا سبيل إلى إخراجه منه إلا بطول المكث، ثم يدهمهم المسلمون فيرمونهم بالمنجنيق، ويبعثون إليهم بالدبابات وقد دخل تحتها نفر منهم زحفوا بها إلى جدار الطائف ليخرقوه، فيكره رجال الطائف هؤلاء الزاحفين على الفرار بأن يلقوا الحديد المصهور على الدبابات فيحرقها، ويأمر النبي بإحراق كروم الطائف، ويبدأ المسلمون ينفذون، فيبعث أهلها إلى النبي أن يأخذه لنفسه إن شاء، وأن يدعه لهم وللرحم لما بينهم من قرابة إذا أراد، وينتهي الأمر بأن يرفع المسلمون الحصار وأن ينصرفوا عن الطائف ليبعث الثقفيون بعد قليل من ذلك يطلبون إلى النبي أن ينضموا إلى لوائه.
كيف صارت الطائف إلى ما صارت اليوم إليه؟! وكيف هوت من تلك المكانة التي كانت لها والتي كانت تنافس بها مكة حتى أقامت للات بيتا جعلته منافسا للبيت الحرام؟! لعل ما حول الطائف مما تحدث عنه باديتها يجلو لنا من ذلك ما يزيدنا فهما لما يحدثنا به التاريخ وما تنطوي عليه الكتب، فلنزر بادية الطائف، ولنحاول أن نقف منها عند كل ما نستطيع الوقوف عنده.
بادية الطائف
كانت الطائف القديمة تقع بين التلال القائمة أمام البستانين حوايا وشهار من الجهة الغربية على رواية أهلها اليوم، أما في هذا الزمن الحاضر فالبستانان يقعان خارج الطائف ويبعدان عنها بضعة أميال؛ لذلك يحسبهما البعض بحق باب بادية الطائف، فأنت لا تكاد تراهما بالمنظار المقرب، وإن رآهما البدو بالعين المجردة، فإذا أنت جاوزت البساتين إلى الجهة المقابلة للطائف لقيتك البادية مترامية أمام نظرك، منطلقة كأنها السهل حينا، منثورة فيها الأحجار التي حطها السيل من أعالي الجبال حينا آخر، ناتئة جبالها المتباينة الارتفاع على مقربة من النظر أو عند مرماه.
آثر أصحابي يوم زرنا بستاني حوايا وشهار أن نمعن بعض الشيء في البادية، وأغروني على الإمعان بما ذكروا من أنا سنلقى على مقربة منهما آثارا تنير أمامي السبيل لما أبحث عنه من تاريخ هذه البقاع، وانطلقت بنا السيارة تؤم وادي السداد حيث تقع هضاب الردف، وفيما تجري السيارة مسرعة حينا، متعثرة بالأحجار المنثورة في الطريق حينا آخر، لفت رفيقي نظري إلى واد تتخطاه وذكر لي أنه وادي وج، وأنه يمر بقرية المثناة منحدرا إلى ناحية الطائف، وأن الماء الذي يسيل به في فصول الأمطار ينحدر من جبل برد ومن جبال الطلحات حيث تقيم بعض قبائل هذيل ... وعجبت أن لفت نظري إلى هذا الوادي ولا شيء فيه يلفت النظر، لكنه استطرد قائلا: إنه من الأودية المأثورة؛ فقد روي أن النبي - عليه السلام - حرم صيده، وإن تكن هذه الرواية موضع خلاف، ولم أرد أن أناقشه في الأمر أو أذكر أولئك الذين دعاهم الرسول إلى الإسلام فأبوا إلا أن يحرم واديهم كما حرم مكة، فلم يجبهم إلى ما طلبوا؛ لأن حرمة مكة من أمر الله، ومرجعها إلى البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا.
وبلغت السيارة وادي السداد وقد أحاطت به هضاب الردف، ووقفت على مقربة من صخور ضخمة مركومة بعضها فوق بعض فهي وحدها هضبة مستقلة ناتئة أثناء الوادي، وهبطت منها في لباس البدوي وجعلت أجيل النظر فيما حولي فلا أرى إلا جبالا قليلة الارتفاع تحجب ما وراءها، وأحجارا متفاوتة الأحجام قذف بها السيل في أنحاء الوادي، أين ترى تكون الآثار التي حدثني أصحابي عنها؟ وسألتهم فأشاروا إلى هذه الهضبة المستقلة، وقالوا: إنها رموز وعبارات كتبت على الصخور العليا منها.
وتسلقنا الهضبة، ودار أحدهم فوقها ثم دعاني إليه، فعلوت صخرا وهبطت آخر وتسلقت ثالثا، ثم وقفت إلى جانبه أحاول وإياه أن نحل رموز خطوط أدنى إلى الكوفي نقشت على صفحة الحجر، وأحدق وإياه في صخور أخرى فنرى رموزا لم ندر ما هي، ولعلها خط للغة من لغات البلاد الإسلامية في آسيا أو أمريكا لم يبلغنا علمه ولم تبلغنا رسالته، وأراد بعض الحاضرين أن يرد هذه الكتابات إلى عصور قديمة، فاعترضه آخر بأنها قد لا ترجع إلى أكثر من عشرات السنين، وقد ترجع إلى بضعة قرون، وأنها على الأرجح لجماعة ممن زاروا هذه المنطقة من أزمان غير بعيدة جذبهم وادي وج إليها، فجعلوا على أحجارها عبارات متداولة مثل: الحمد لله وحده، وآمن بالله فلان، أو خطوا عليها صورا استعاضوا بها عن الكتابة؛ لأنهم لا يعرفون الكتابة.
وما رأيت من كتابات ونقوش يجعلني أميل إلى هذا الرأي الأخير، ووجود الكتابة الكوفية لا ينهض بذاته دليلا على قدم العصر الذي كتبت فيه، فالكتابة الكوفية تعتبر في يومنا الحاضر زخرفا يجيد تصويره كثيرون، وهي قد كانت أكثر ذيوعا منذ بضع عشرات من السنين خلت، وإنما يدعوني لترجيح هذا الرأي تشابه العبارة في هذه الجمل المنقوشة على الصخر وعدم دلالتها على شيء يتصل بالطائف أو بالعرب، أو بشيء من حوادث الماضي ذات الجسامة والخطر، ولو أنها كانت قديمة بمعنى أنها ترجع إلى العصور الإسلامية الأولى لبدا فيها طابع تلك العصور، ولأشارت إلى ما حدث فيها من حروب وما تم فيها من أعمال عظيمة، أما وهي كما رأيت فإنما هي عبارات تقليدية ينسخ فيها زوار هذا المكان كل على طراز من سبقه، ولو أنني فكرت في أن أصنع صنيعهم وأن أنقش على هذه الصخور المرموقة ما أسجل به وقوفي عندها لنقشت عليها أغلب الأمر عبارة كعبارة «آمن بالله فلان.» مقلدا بذلك من سبقني، فالتقليد أيسر مشقة، والعبارة التي اختارها أولئك السابقون أيسر نقشا على الحجر من سواها.
وليس يعدل بي عن ترجيح هذا الرأي ما يروى عن قدم بعض النقوش حتى ليقال: إنه كان من زمن الجاهلية، وإنه من الخط الكوفي القديم الذي لم نألفه، اللهم إلا أن تكون نقوش على جبال أو صخور أخرى كالنقوش التي يذكرون وجودها بجبل السكارى مما لم أقف عنده ولم أفكر في أمره، على أن القائلين: بقدم هذه النقوش يذكرون أنها خالية من التاريخ، وأن الباحث لا يستطيع لذلك أن يستنبط منها ما يقوم عليه حكم من الأحكام، أو تتحقق به حادثة من الحوادث.
فأما وادي وج الذي أشار صاحبي إلى أنه من الأودية المأثورة لقوله - عليه السلام: «صيد وج وعضاهه حرام محرم.» فقد اختلف في أمره؛ يقول ابن منظور في لسان العرب: «وج موضع بالبادية، وقيل: هو بلد بالطائف، وقيل: هي الطائف.» وبعد أن روى حديث تحريمه قال: «ويحتمل أن يكون حرمه في وقت معلوم ثم نسخ، وفي حديث كعب أن وجا مقدس، منه عرج الرب إلى السماء، وفي الحديث أن آخر وطأة وطئها الله بوج. قال: وج هو الطائف، أراد بالوطأة الغزاة ها هنا، وكانت غزوة الطائف آخر غزواته
صلى الله عليه وسلم .»
ويذهب غير واحد من الذين كتبوا في تقويم البلدان إلى أن وجا اسم للطائف قبل أن تسمى الطائف، وروى الفاسي في كتاب «شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام» رواية مستندة إلى الزبير بن العوام أنه قال: أقبلنا مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم
من ليلة حتى إذا كنا عند السدرة وقف رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عند طرف القرن الأسود - والقرن: جبل صغير ورأسه مشرف على الهدة - فاستقبل نخبا ووقف حتى اتفق الناس ثم قال: «إن صيد وج وعضاهه حرام محرم لله - عز وجل.» وذلك قبل نزوله الطائف وحصاره ثقيفا، وقد ورد هذا الحديث في سنن أبي داود ومسند ابن حنبل، وإسناده ضعيف على ما قال النووي، وقال البخاري: لا يصح، وذكر ابن عبد ربه أن ثقيفا جاءوا إلى النبي بعد مقتل عروة بن مسعود فعرضوا عليه إسلامهم فكتب لهم بحرمة واديهم.
لم أعن كثيرا بما قيل عن تحريم وادي وج ومدى هذا التحريم، وكيف لي أن أعنى به وهذا الخلاف واقع عليه، والبخاري ينكره؟! وإنما عنيت من أمره بأنه على أبواب الطائف من ناحية «لية» عند انحدار المسلمين منها إلى الطائف، وكل ما أستطيع أن أستخلصه من الروايات التي سبقت أن الرسول - عليه السلام - وقف بهذا الوادي حين بلغه، وأنه جمع المسلمين هناك حوله، وأنه هيأ صفوفهم لحصار الطائف، وأنه حرم عليهم - وكانوا من قبائل مختلفة - أن يثيروا بينهم شقاقا أو أن يستبيحوا بينهم ما ليس مباحا لهم في البلد الحرام، فلما انصرفوا عن الطائف لم تبق لوج حرمة أكثر مما لغيرها من الآفاق.
قمت وأصحابي صبح الغد من ذلك اليوم مبكرين بعد أن نلنا بالنوم راحتنا ليوم جهد ومشقة، فقد رأى الشيخ صالح القزاز أن نتناول إفطارنا فوق السد السملجي، وأن نتناول طعام الغداء فوق سطح جبال الهدة ضيوفا على محمود المغربي، والسد السملجي يقع شمال الطائف، وجبال الهدة تقوم في جنوبها الغربي، فلا سبيل إلى الجمع بينهما إلا أن نستقل سيارة البكس بكرة الصباح لنشهد السد وموقعه، ولنعود بعد ذلك إلى جبال الهدة فنرتقيها إلى دار مضيفنا نتناول الغال ونشرب القهوة ونذره ينحر الضأن وينضجه، فإذا عدنا تناولنا العقال، وهو قائم في خدمتنا لا يقرب الطعام ولا ينظر إلينا ونحن نأكل.
والغال هو ما نسميه في مصر: «التصبيرة»، أما العقال فطعام الغداء، وهو الذي يعقل به الرجل معدته فلا تتحرك إلى طلب الطعام، والبدو لا يعدون العقال ولا ينحرون إلا بعد أن يصل إليهم ضيفهم.
غدونا إذن مصبحين وتناولنا قدحا من الشاي وآخر من القهوة، ثم ركبنا السيارة فانطلقت بنا قاصدة السد السملجي، وكما مررنا أمس بوادي وج في طريقنا إلى هضاب الردف، فقد مررنا أول ما تبدت البادية أمامنا بواد لفت صاحبي نظري إليه قائلا: إنه وادي نخب، والمأثور أنه بوادي النمل الذي ذكره القرآن في قصة سليمان إذ يقول - تعالى:
وورث سليمان داوود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين * وحشر لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير فهم يوزعون * حتى إذا أتوا على واد النمل قالت نملة يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون * فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين .
وسألت صاحبي: وأين سليمان من الطائف وقد كان ملكه بالشام؟! قال: «لقد جند الله لسليمان الوحش والطير فكان يسيرهم إلى حيث شاء من بقاع الأرض، وكانت الطائف بعض ما مر به من البقاع في ذهابه إلى اليمن، وقد اختلف الرواة: أمر الجيش بها طائرا في الهواء بأمر سليمان وبإذن الله؟ أم مر بها سائرا على الأرض؟ والقائلون بالسير يستندون إلى ما ورد في الآيات السابقة، فلو كان الجيش طائرا لما حذرت النملة قومها منهم، أما القائلون بالطيران فقد ذهبوا إلى أن جيش سليمان أتى على وادي النمل ولم يحطم منه نملة، ولو كان سائرا لقضى على النمل وقريته، وإنما قالت النملة لأصحابها ما قالت يدفعها الحذر والحرص على الحياة.»
ولم يذكر صاحبي أن وادي النمل حرم كما حرم وادي وج وإن على خلاف، ولم يشر كذلك إلى ما أوردته الروايات المختلفة في وادي النمل وموقعه، فقد ذهب قوم إلى أنه بالشام، وذهب آخرون إلى أنه باليمن، وتوسط الذين قالوا: إنه بالطائف بين الشام واليمن، ولغير هؤلاء جميعا مذهب في النمل وواديه لا اتصال له بالطائف ولا بوادي نخب بها ولا بالسدر منها، ولم أر ما يدعو لمناقشة هذه الأقوال جميعا؛ إذ كنت لا أقصد من تحقيق ما أرى إلى معرفة شيء فيما قبل عهد النبي، وقد كان سليمان قبل عهده بأكثر من خمسة عشر قرنا، فليكن وادي النمل بالطائف أو بالشام أو باليمن، فليس تحقيقه مما يدخل في نطاق بحثي.
وقيل لي: إذا تخطت السيارة هذا الوادي فإنها تجتازه إلى وادي «لية»، وأنا أعلم أن الرسول جاء من حنين إلى الطائف على رأس جيش المسلمين فاجتازوا لية؛ لذلك شاقني أن أقف على هذا الوادي وأن أرى بعيني طريقا مر به الرسول، وزادني شوقا إليه ما قيل: من إنه يمثل خصب الطائف وثمارها الشهية، وإن لم يكن الفصل فصل ثمار تجتنى وإن اشتهيت، ومددت بصري إلى ما أمامي لعلني أرى طلائعه، فإذا الجبال تحيط بنا من كل جانب، وإذا السيارة تندفع نحوها كأنما تريد أن تقتحمها اقتحاما أو تتسلقها تسلقا، وبدأت تتيامن وتتياسر تتقي الأحجار المنثورة حولها مصعدة أثناء ذلك على هون كأنما تريد أن تتخير سربا خلال الجبال القائمة أمامها تصدها، ولم يخطئ حدسي؛ فلقد وجدت السرب الذي تنفذ منه خلال السلتين القائمين عن جانبها ذلك عرق في الجبل حطم لتمر السيارات من خلاله في ريع ليس اجتيازه فوق الجنادل المكدسة فيه بأقل من تسلق الجبل عسرا ومشقة، وسائق «البكس» يدفعه بكل قوة الوقود واحتراقه، وهو مع ذلك يسير متعثرا كالطفل أول مشيه، يترجح إلى اليمين تارة وإلى اليسار طورا، ويكاد يهوي في كل لحظة إلى هذا الجانب أو ذاك، والسفحان عن الجانبين يحصراننا ولا يزيلان مخاوفنا أن تهوي السيارة بينهما وأن تتحطم على جنادلهما الصم الصلاب، ووقفت السيارة هنيهة لا تتقدم ولا تتأخر، ويريد أحدهم أن يبدي للسائق رأيا لعله يعينه، فيثور ثائر السائق بهذا الذي يتدخل فيما لا يعنيه، يدعوه إن شاء أن يجلس مكانه ليرينا من معجزاته ما عجز السائق عنه، والريع ممتد لا ينتهي، والسفحان لا ينفرجان عن سطح أو واد يبعث إلى النفس الأمل أن قد بلغنا مأمنا، وكلنا واجم لا تنفرج شفتاه إلا عن كلمة تشجيع للسائق وإعجاب بمهارته مخافة أن يثور ثائره كرة أخرى، وكلنا مع ذلك مطمئن راض باسم الثغر لهذا النهار المشرق الوضاح السماء؛ ولهذا الجو الصفو الرقيق الذي ينعش الفؤاد ويشيع المسرة في كل أنحائه، وترتقي السيارة خلال هذا الريع ثم تنحدر بعض الطريق لتعود إلى الارتقاء من جديد، وهي في انحدارها أشد حذرا منها في تسلقها، والسائق ملق بكل انتباهه إلى كل حجر أمامه، وإلى كل حركة من حركات السيارة في تيامنها وتياسرها، وقد جمدت يداه على مدارها فلا تتركانه، وخفت حركة رجله على معيار الوقود ينفق معه مدققا في حسابه ألا يزيد ما ينفقه وألا ينقص عن حاجة السيارة في حركتها أثناء هذا الوقت الدقيق.
ربنا لك الحمد! ها نحن أولاء قد سمونا إلى القمة، وتكشف الأفق عن يميننا ويسارنا، وانكشف أمامنا الوادي منبسطا أسفل منا، تحيط الجبال على مرمى النظر بأطرافه، وها هو ذا السائق يتنفس الصعداء كمن كربه أمر ثم غلبه وغلب كربه، وانحدرت السيارة متجهة صوب دار قامت في عزلة هذا الوادي وانبسط أمامها زرع أخضر ذو رواء وبهجة، هنالك تحدثنا، وذكر أصحابنا هذا الوادي، وادي لية، وجمال حدائقه وأعنابه وفاكهته اللذيذة الجميلة، وأشادوا بجودة رمانه وسفرجله، وتمنوا لو أتاح لنا الفصل أن ننال منها طعام إفطارنا، لكن فصل الفاكهة لم يأن بعد، فلنطب نفسا بما حملنا للإفطار من الطائف.
ودارت السيارة حول هذا الزرع البهيج ثم انطلقت مسرعة في الوادي، وما لبث ما حولنا أن تغير : ازداد الجو صفوا، والنسيم رقة وعذوبة وسرت إلى الصدور غبطة مسعدة ضاعفت نعمة الحياة، ذلك أثر الماء في مسيله والسيارة تحاذيه حينا وتجتازه حينا، ثم تعود إلى محاذاته ثم إلى اجتيازه، ونهبط منها بين آن وآخر حين يخاف السائق غوصها في الرمال ثم نعود إليها فرحين مطمئنين كما هبطنا منها، وتغوص في الرمل فيدفعها أصحابنا متضامنين خاضعين لأمر السائق الجالس على عرشه قابضا على مدارها، فإذا خلصت وآن لها أن تعود سيرتها قفزنها إليها في مرح دونه أي مرح، وانطلقت تسير في أرض خصبة خالية من الزرع إلا ما ندر.
ويذكر صاحبي أن وادي لية يمتد مستطيلا مدى خمسة وعشرين ميلا تقريبا، وأنه يبتدئ من ديار بني سفيان الثقفيين من الجهة الجنوبية وينتهي بخد الحاج من الجهة الشمالية، وأن أعلاه يسكنه الأشراف، ويسكن الزوران وعوف أسفله، والزوران قبيلة من هوازن، وعوف فخذ من ثقيف.
وسألت: كم بقي لنا لندرك السد السملجي؟ فعلمت أنا نتخطى وادي صخيرة إلى وادي ثمالة حيث يقوم هذا السد، قال صاحبي: «ويقيم بنو صخر بوادي صخيرة الذي نجتازه الآن، وهم بطن من ثقيف، ومنهم الحجاج بن يوسف الثقفي عامل عبد الملك بن مروان، ومن بقي اسمه علما على القسوة والفتك والتلذذ بمنظر الدماء، فقد كان يرى في كل جماعة يتولى أمرهم رءوسا أينعت وحان قطافها، لا فرق عنده بين صحابي وتابعي وأعجمي أسلم ولما يدخل الإيمان في قلبه»، وذكرت وأنا أسمع لصاحبي ما للبيئة في الناس من أثر؛ فأدرت طرفي يمنة ويسرة لعلي أستشف من خلال وادي صخيرة سر ما ركب في الحجاج من هذه الخلال، وخيل إلي أني أرى في طبيعة الوادي قسوة لم يكن شيء من مثلها في وادي لية، فقد انقطعت المياه وغاض مسيلها، ونتأت أحجار صم جلاميد، وخيم على الكون صمت ثقلت وطأته، لم أدر أهو الذي صاغ روح الحجاج من بطش وقسوة، أم أن مبعثه روح الحجاج وحديثنا عنه؟ وأنا لو لم نتحدث عن الحجاج لما نتأت صم الجلاميد في هذا المكان أكثر منها في أي مكان غيره، ولما ثقلت وطأة الصمت المخيم على الكون في أنحاء البادية جميعا، ولما كان انقطاع المياه غيض مسيلها آية غيض الرحمة من قلب الحجاج وانقطاع مسيلها إلى نفسه.
ونسينا صخيرة، والحجاج وبنيه وآباءه حين وقفت السيارة بنا في منقطع من الوادي، وأعلن سائقها أن وقودها وشيك النفاد، وأنا إن لم نتداركه بالرأي لم يعد يدري كيف السبيل إلى بلوغ السد ثم العود إلى الطائف، ولم يكن بيننا الجريء الذي يلقي عليه تبعة الإهمال في الخروج من المدينة إلى رحلة كرحلتنا هذه دون التزود من الوقود بأكثر من حاجته، فنحن الآن أحوج ما نكون إلى رضاه واتقاء غضبه، وهو رجل حاد المزاج، قد تدفعه حدته فيذرنا حيث نحن ساعات وساعات، وما عسى أن يجدي تحميله التبعة في بلوغ غايتنا والعود لنتم رحلتنا؟! قال السيد صالح القزاز: «لا عليك فهاهنا على مقربة منا كوخ لا يأبى أصحابه أن يبيعونا ما لديهم من بترول، وأحسبه يصلح مع ما بقي من بنزين السيارة لنطمئن به حتى عودتنا إلى الطائف.» وأشرقت أسارير الرجل، فانطلق بالسيارة غير بعيد ثم وقف عند كوخ قائم فوق ربوة بعيدة عن مسيل الوادي، ونادى بأعلى صوته لعل أحدا يسمعه ويجيئنا بالبترول الذي نبتغيه، وأجاب النداء صبي، فسألنا: ما نبغي؟ ثم أطلق ساقيه للريح يلتمس أهله حين علم أن في الأمر تجارة وربحا، وجلست وأصحابي فوق الصخور الناتئة حول السيارة حتى جاء أهل الصبي بصفيحة البترول وبكوز صغير معها هو الكيل الذي يبيعون به، وانطلقت السيارة الضخمة في طريقها فوق الصخور مطمئنة إلى وقودها وكفايته، تمتع معنا بجو الصبح الجميل، حتى بلغت السد السملجي ولما تكتمل الساعة التاسعة، وكنا إذ بلغناه قد تجاوزنا وادي صخيرة إلى وادي ثمالة، وتجاوزنا قسوة الطبيعة إلى ابتسامها بالزرع النضر والخضرة الباسمة، وآن لنا أن نطمئن إلى مكان نتناول فيه إفطارنا وقد زادت بكرة اليقظة وجمال الهواء وجهد الرحلة في شوقنا إليه وحرصنا على تناوله.
ولم نتردد في اختيار المكان ، فهذا السد أمامنا ضخم عريض السطح مرتفع يشرف على ما حوله، وهو فيما يبدو من أمره أثر تاريخي كان له في حياة هذه البلاد أثر بالغ، فلنصعد إليه ولنتخذ من سطحه مائدتنا، وتسلقنا أحجاره الضخمة كما يتسلق الناس الأهرام في مصر حتى استوينا فوقه، ثم سرنا حتى توسطنا سطحه، ونظرت عن يميني فإذا مجرى أشبه بمجرى النهر قد حصر بين شاطئين ولا ماء فيه، وعن يساري فإذا أرض مستوية استوت فيها الحنطة على سوقها ولما تحصد بعد، ومن أمامي ومن خلفي قام جبلان يحصران هذا الوادي الممرع الفسيح تتحدث أرضه بمعاني الخصب وقوة الإثمار، وإن لم يكن به من زرع إلا هذه الحنطة التي أرى، وجلسنا على الحجر ونشرنا عليه ما معنا من الزاد، ما كان أحلاه وأشهاه على بساطته وبداوته! أستغفر الله! لم يكن بدويا وقد كان بعضه «بسكوت» ومربى مجلوبين من إنجلترا، واشتركنا جميعا في تناوله، فكان في ذلك من مظهر الديمقراطية البدوية ما تستريح له النفس ويشعر المرء في أثنائه بالإخاء الإنساني الذي لا يعرف الطبقات ولا يعرف الحاكم ولا المحكوم، والذي يكمل به إيمان المرء إذ يحب لأخيه ما يحب لنفسه، ويدرك إدراكا عميقا صادقا أنا جميعا سواسية أمام الله وأنا جميعا عباده، لا فضل لأحد منا على صاحبه إلا بالتقوى.
اطمأنت معداتنا فقمنا نستأنف حديث السد والقبائل التي حوله، قال صاحبي: تقع ديار بني سعد حيث استرضع النبي على عشرة أميال من هذا المكان، وأغلب الظن أن قد جاء النبي في طفولته إلى هنا مع الرعاة من بني سعد بن بكر؛ فالرعاة لا يذرون مكانا به كلأ أو مرعى أيا كان نوعه دون أن يطرقوه، قال آخر: هذا احتمال قد يكون وقد لا يكون، وربما اعترض عليه بحق من يذكر أن رعاة بني ثمالة ما كانوا ليدعوا رعاة بني سعد يطئون أرضهم موفورين عن رضا منهم وطواعية، فقبائل البادية شديدة الحرص على حرمات أرضها، وهي أشد حرصا إذا كانت الأرض خصبة وكان فيها لذلك مطمع ، قال السيد صالح: دعوا عنكم هذا الحديث وتعالوا بنا نهبط إلى حيث الحنطة لنواجه السد، فيرى ضيفنا منه ما هو أجدى في بحوثه من كلام لا يتيسر لنا ها هنا تحقيقه، وأومأ صاحبي إيماءة الرضا عما قال السيد وتقدمنا كي نهبط السد، وسار الشريف حمزة الغالبي إلى جانبي كيما يعاونني إن احتجت إلى معونة.
وهبطنا إلى مزرعة الحنطة، واستقبلنا السد، فأخذت بنظرنا الأحجار الضخمة التي شيد منها، كما أخذ بنظرنا إحكام بنائه على عظمته وضخامته، فهو يبلغ نحو الثمانين مترا في طوله، والخمسة والعشرين مترا في ارتفاعه، أما عرض سطحه فيزيد على عشرة أمتار، وسألت عن تاريخ بنائه فقيل: إنه يرجع إلى عهد معاوية بن أبي سفيان في صدر الإسلام، وإن الحجة في ذلك هذه الكتابة المنقوشة على أحد أحجاره والتي لا تكاد تتضح، فقد نقلها عبد الله باشا باناجي بالفوتوغرافيا في أوائل هذا القرن وبعث بها إلى مصر حيث حلت رموزها، فإذا فيها: «أمر ببنائه عمرو بن العاص بأمر أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان.» هو يرجع إذن إلى ثلاثمائة وألف سنة خلت، لم يكن بناة الأهرام وحدهم إذن هم الذين عرفوا العظيم والضخم في العمارة، بل عرف أبناء بلاد العرب من ذلك ما عرف قدماء المصريين، فأقام أهل الطائف هذا السد كما أقيم سد مأرب في بلاد اليمن، وأقيم هذا السد في مسيل الوادي بين الجبلين كما أقيم سد مأرب لينتفع الناس بالمياه ولا يدعوها تذهب هدرا، كانت الغايات الاقتصادية والعمرانية هي التي أدت إلى إقامة هذا السد إذن كما أدت إلى إقامة سد مأرب، وهذه الغايات هي التي دعت بناته ليقيموه بالقوة والمتانة التي أقاموه بها من أحجار ضخمة يمسكها الملاط القوي على مجابهة الزمان، لا بد إذن أن قد كان في هذه البادية من أسباب العمران ما لا نرى له اليوم أثرا، ولا بد أن قد كان العرب في صدر الإسلام ينعمون بحضارة ننكرها اليوم عليهم؛ لأن أبناءهم أنكروها عليهم بإهمالهم إياها، بل أراني أميل إلى الظن بأن هذه الحضارة كانت قائمة ينعم بها أهل هذه البلاد قبل الإسلام، وأن الدين القيم قد نزل على قوم لهم من الحضارة هذا الحظ الأوفى.
وأدليت بما جال بخاطري من ذلك، فذكر السيد صالح القزاز: أن هذا السد أضخم سدود الطائف المعروفة، لكن بالطائف سبعين سدا غيره، ومنها ما يكاد يدانيه ضخامة وعظمة، من ذلك سد واقع في حمى سيسد المعروف بشرق الطائف، يقال: إن يزيد بن معاوية هو الذي أمر ببنائه، وآخر واقع بوادي ثنية بين الطائف ووادي محرم، وهذه السدود جميعها مخربة منذ أزمان بعيدة لا يعرف أحد من أبناء هذا الجيل عنها شيئا، ولم يخامرني ريب في أن تخريب هذه السدود هو الذي هوى بالطائف إلى حيث هي اليوم بعد أن كانت مضرب المثل في الخصب والمنعة، فقد كانت هذه السدود جميعا خزانات تحجز مياه المطر لفائدة الزراعة، فكانت المساحات الواسعة تستغل مزارع للحنطة والغلال والفاكهة وما إليها مما ترويه الكتب عن ثروة الطائف وعن مكانتها الاقتصادية، وكان ذلك سببا في العمران وانتشار السكان في هذه الأودية الكثيرة التي مررنا والتي لم نمر بها، أما اليوم فأنت لا ترى في هذه الأودية أثرا ظاهرا للعمران، وما يذكرونه عن ثمالة وصخر وثقيف وهذيل وأفخاذها وبطونها لا يزيد على أسماء تحيي في النفس ذكريات تاريخية ترجع إلى أيام الإسلام الأولى، وترجع إلى ما قبل الإسلام، فإذا أردنا أن نلتمسها اليوم لم نجد إلا نجوعا منثورة ها هنا وهناك يقيم فيها من الأعراب من لا يزيدون عن البدو الرحل رقيا ولا تحضرا، ومن جنوا بتأخرهم على ما كان لهذه الحضارة الزاهرة في صدر الإسلام من مكانة لا ينكرها أحد.
وأردف السيد صالح: ولم تكن مياه هذه السدود مقصورة فائدتها على إمداد الزراعة المتصلة بها، بل كان لها فائدة أخرى لا تقل عن حجز الماء وقد تربو عليه؛ ذلك أنها ترفع ماء العيون والآبار في المناطق التي لا تصلها مياه السدود، فتجعل الري من هذه الآبار والعيون هينا ميسورا، والعمران يزدهر حيثما وجد الماء فجعل كل ما حوله حيا؛ لذلك كانت بادية الطائف عامرة كلها، وكانت الدور والقصور في هذه الأماكن التي نسمع اليوم أسماءها ولا نجد لها أثرا، وسترى مصداق ذلك اليوم حين نذهب إلى الهدة، وغدا حين نذهب إلى الشفا؛ إذ نسمع أسماء وردت في الشعر القديم على أنها موضع حضارة وأماكن عمران، وهي اليوم بادية ممتدة أمام النظر ليس فيها أثر لحضارة أو عمران، إلا ما يكون من رسم دارس يثير بقاؤه في النفس الأسى وفي القلب الحسرة.
علونا مزرعة الحنطة إلى الطريق لنستقل السيارة عائدين إلى الطائف في طريقنا إلى الهدة، ووقفنا إلى جانب السد ريثما يجتمع رفاقنا، وسألني صاحبي عن هذا السد ورأيي فيه، وسألته بدوري عن صحة اسمه: أهو السد السملجي أم السد السملقي؟ فهم ينطقونه جيما كجيم أهل القاهرة، وقافا كقاف أهل الريف في مصر؛ وكنت أميل إلى الظن بأنه السملقي، لا أدري لم؟ واختلف القوم وأصر أكثرهم على أنه السملجي واحتجوا بمقال نشره الأستاذ إبراهيم مصطفى أحد أساتذة كلية الآداب بالجامعة المصرية، وكان قد جاء إلى هذه المنطقة وزار هذا السد، وقال صاحبي حسما للخلاف: ليكن هذا أو ذاك فله اسمان آخران لا خلاف عليهما: سد ثمالة، وسد بني هلال، ولقد أعجبني هذا الرأي وصرفني عن الإمعان في تحقيق اللفظ ما عسى أن يكون الوجه الصحيح فيه.
وانطلقت بنا السيارة نحو الطائف سالكة طرقا أكثر يسرا من الطريق الذي جاءت فيه، ورأى أصحابنا طمأنينة السائق في مجلسه؛ فسأله أحدهم: أكان قد ضل فلم يسلك هذا الدرب المعبد، أم أنه شبع بعد تناول إفطاره فقويت ذاكرته فسلك السبيل السوي؟ ولم يغضب الرجل ولم تغلبه حدته، وفيم الغضب وكل شيء ميسر أمامه؟! وبلغ الطائف ووقف عند مخزن البنزين فأخذ صفيحة وأفرغ في السيارة أخرى وعاود انطلاقه لنبلغ الهدة قبل الظهر.
واتجهنا غرب الطائف في أودية جرداء حينا ومزدانة بالشجر النامي الذي يبعث فيه روح الحياة حينا آخر ، وكان وادي مسرة أدنى الأودية إلى الطائف من هذه الناحية، وهو يقع على مقربة من بستان الشريف الشهيد ابن عون الذي يعرف اليوم باسم «معشي» على قول صاحبي، ولقد جاوزته السيارة إلى ما بعده من أودية وهي ترتفع على هضابها حينا، وتهوي إلى بطونها آخر، مطمئنا سائقها إلى الطريق سلكه قبل اليوم غير مرة، وبعد ساعة ونصف ساعة من الطائف انفسح أمامنا سهل يجاور جبلا رفيع الذرا، أما السهل فوادي محرم الذي كان يعرف أيام السلف باسم قرن المنازل، وأما الجبل فهو الهدة المتصل بجبل كراء.
ووادي محرم - أو قرن المنازل إن شئت - مفرق طرق تصل بين بادية الطائف ومكة، ولاثنين من هذه الطرق شهرة، يتجه أحدهما من وادي محرم إلى حمى النمور فالثنية المقابلة للشرائع فمكة، ويتجه الآخر صاعدا من وادي محرم خلال النقب الأحمر إلى الهدة، والهدة: سطح جبل كراء، ومن هذا السطح ينحدر الإنسان إلى جبل كراء المتصل بشداد فخريق نعمان فعرفات فمكة، وهذا الطريق هو الذي سلكه الرسول - عليه السلام - حين جاء من مكة إلى الطائف قبيل الهجرة، والطريق الأول هو الذي سلكه في العودة من الطائف إلى مكة بعد أن رده أهلها وآذوه، وهذان الطريقان ما يزالان مسلوكين إلى اليوم للسائرين على أقدامهم وللممتطين الزوامل التي مرنت على تسلق الجبال؛ فهما أقصر من طريق الشرائع فالزيمة فالسيل الكبير بمراحل، وأهل البادية أشد ميلا لاتباع الطريق الموجز وإن شق السير فيه، وليس يدفعهم إلى ذلك حرصهم على الوقت وكسبه، أو تقديرهم أن الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، بل يدفعهم إليه ميل طبيعي إلى المجهود الأقل، ومشقة الطريق لا قيمة لها عندهم ما يسر قصره للإنسان أن ينال بعده راحة كاملة تعوضه عن كل جهد ومشقة.
وتقع الدار البيضاء بأسفل وادي محرم، وحذار أن يثير اسم الدار البيضاء في نفسك ما أثاره في نفسي من صورة البيت الذي أنشأه الأمريكيون لمقام رئيس الولايات المتحدة بواشنجتن! فلقد خدعت حين سمعت هذا الاسم وجعلت، إذ وصلنا وادي محرم ، أدير بصري يمنة ويسرة أريد أن أرى هذه الدار البيضاء أين هي؟ فيرتد إلي البصر ولم تأخذ به دار بيضاء ولا دار حمراء، وإنما كان أكثر ترددي في السؤال عنها مخافة أن أثير الإشفاق في نفس أصحابي كيف لا أرى هذا القصر المنيف يخر دونه قصر الرئيس الأمريكي ساجدا؟! فلما جازفت بكل جرأتي وسألت القوم، إذا الدار البيضاء قرية من قرى البادية قامت بها بعض منازل صغيرة حقيرة، وإذا أنا الذي يثور عجبي بل إشفاقي ذهبت ألتمس للقوم عذرا عن هذه التسمية الفخمة للعزبة الحقيرة، إنها ربما كانت دارا بيضاء ذات بهاء وجلال في الماضي؛ فلما هوت إلى حيث هي اليوم بقي لها هذا الاسم الذي لا يتناسب معها، كما تبقى لأشخاص ضعاف ضئيلة في الحياة قيمتهم هين بين الناس قدرهم، أسماء أجداد اهتزت بأسمائهم عصورهم؛ فلما ثوى الأجداد في الثرى وأورثوا أسماءهم من بعدهم عبثت يد الزمن بالأسماء لعبثها بوارثيها.
ووقفنا هنيهة ننتظر المطي التي تصعد بنا خلال النقب الأحمر إلى الهدة، وأقبل فتيان من البدو تسبقهم حمر تلهث مسرعة كأنها مستنفرة فرت من قسورة، ووقف الفتيان الحمر على مقربة منا، واختار أصحابي أحدها لركوبي، ولم أعرف لاختيارهم سرا؛ فبين الحمر وبراذعها من الشبه ما يثبت اليقين بديمقراطية الحمر في البادية كديمقراطية كل شيء فيها، على أني شكرت للقوم حسن الاختيار، وعلوت مطيتي كما علوا مطيهم، وانطلقنا نغذ السير في طريق لا عوج فيه ولا أمت، وخيل إلي أننا سنصعد كذلك في هون حتى نبلغ غايتنا، وما راعني إلا الجبل انبعث صعدا في السماء أمامنا، ولم يدع لنا طريقا نسلكه إلا نقبا أحمر يتلوى صاعدا مع الجبل بين صخور كأنما صهرت في أتون خلع عليها لون النار، ووقفت المطي أمام هذا النقب وألقت برءوسها وآذانها إلى الأرض وفحصت بأرجلها الصخر تبلو متانته، ثم تقدمت في حذر تصعد الجبل، تضع رجلا فوق صخرة وتنقل الثانية إلى ما يليها، وتقف هنيهة حتى تتثبت من موقفها، ثم تنقل رجلها كرة أخرى ممعنة في الصعود، وأمسكت أنفاسي وأمسك القوم أنفاسهم ، ورفعت طرفي في لمح البصر إلى أعلى الجبل ورددته إلى موضع الخطو لهذا الحمار المختار الذي أركبه، وفي هذه اللحظات الأولى القليلة القصيرة مرة بنفسي مئات الخواطر، وإني لكذلك إذ زلفت رجل حماري على صخر فاستردها مسرعا، عندئذ دعوت الفتى البدوي صاحب هذا الحمار فاستوقف دابته واعتمدت على كتفه ونزلت فوق صخرة وتركت الحمار يتابع تصعيده.
قال أصحابي: «ما لك؟! ومم تخاف؟ ...» قلت: «أوثر أن أصعد هذا الجبل على قدمي كما صعدت حراء وثورا، وما أحسبه أكثر ارتفاعا من أيهما.» قالوا: «لا تخف! فهذه الحمر قد مرنت على صعود الجبل مرانة البدو، ونحن معك، يسبقك بعضنا ويلحقك بعض.» قلت: «لئن كانت الحمر قد مرنت على الصعود لقد مرنت أقدامي كذلك عليه، لكن فاتتني هذه المرانة في الصعود على ظهور الدواب.» وذكرت لهم كيف صعدت أرز لبنان في سنة 1924، ولما تكن طريق السيارات قد مهدت له، ثم أردفت: «ولقد امتطيت يومئذ حمارا كهذا الذي تفضلتم باختياره لركوبي فإذا هو لا يطيب له السير إلا على حافة الجبل وحافة الهاوية، حتى لقد كان يخيل إلي في كل لحظة أني على شفا جرف هار؛ وذلك شأن الحمر جميعا، وهو شأنها اليوم، وسيظل شأنها أبد الآبدين ودهر الداهرين؛ وقد مضت اثنتا عشرة سنة من ذلك اليوم وأنا مع ذلك لا أنساه، وما أحسبني بعد هذا الزمن كله في مثل ما كنت فيه من نشاط الشباب وإقدامه، مع ذلك كنت يوم ذاك ممسكا قلبي بيدي حذر الموت، وأين لي اليوم هذا القلب وتلك اليد التي كانت تمسكه؟! فبالله عليكم إلا ما تركتموني أصعد راجلا، فمشقة الأقدام والسير أهون من مشقة الأعصاب وخفق الفؤاد.»
وابتسم السيد صالح القزاز لروايتي وترجل عن حماره ولحق بي وقال: «إذن نصعد راجلين معا، وإن كنت لا أشاركك في مخاوفك.» وقال البدوي صاحب الحمار الذي أركبه: «جعلت فداك لا تخف، فهذا الحمار أبر بي وبراكبه من أن يحدث أمرا، والأمر بعد لله، والله معنا .» وترجل صاحبي وجاء هو كذلك إلينا يسير معنا، فقافلة الحمر لا تقف أثناء الصعود إلا كارهة، ولقد رأيتها تتخطى أمامي من صخرة إلى صخرة في حذر ليس كمثله حذر، ورأيتني تنزلق قدمي فوق الصخور حيث لا تنزلق حوافرها، وسمعت كأن هاتفا يهتف في أطواء قلبي: «لم تخاف ولكل أجل كتاب؟! ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا!» والأمر بعد أهون من أن أجعله موضع رجاء أصحابي، والتماس البدوي صاحب الحمار، ودقة الملاحظة لخطو الحمر، وهذه الفلسفة الجبرية التي بدأت تهتف بي، على أني مع ذلك آثرت أن أجعل عودي إلى امتطاء الدابة نزولا مني على إرادة صاحبها، ووقف الرجل الحمار في بطن النقب، وعلوت صخرة استويت منها إلى مركبي، وعادت القافلة تسير في نظام مطمئن.
وازددنا طمأنينة بعد ربع ساعة من مسيرنا، فقد استوى الجبل في صعوده واستوى النقب طريقا تجري الدواب فيه جريها في السهل، لا تخاف شيئا ولا تخشى، وظللنا كذلك فترة نسينا أثناءها ما استولى علينا من الصمت في الفترة الأولى؛ فهذا يقص أنباء كراء، وذاك يقص أنباء كر، وثالث يتحدث عن الصخرة الضخمة على سطح الهدة وما عليها من كتابة ونقوش، وآخر عن البركة الواقعة على منحدر كراء إلى الكر، ويشترك البدو أصحاب الدواب في هذا الحديث بما يعرفونه من أنباء هذه الأماكن، وإنا لفي مرحنا وفي قصصنا إذ آن للجبل أن يعتدل عموديا في ارتفاعه، وللنقب أن يعود شاقا مخوفا، وآن لنا أن نستأنف الصمت الأول، وأن نشد أبصارنا إلى مواقع الخطو من هذه الدواب الحذرة المجازفة، ويقوس الحمار ظهره إذ يعلو بقدميه الأماميتين صخرة نابية في نتوئها، ويبلغ من تقوسه أن يكاد الإنسان ينزلق هاويا وراء ذنبه لولا أن يشد اللجام بيد ويمسك البرذعة بالأخرى، ويخفق القلب لهذه الحركات «البهلوانية» المتئدة خفقا شديدا، وتتمتم الشفاه بعبارات الاستعانة بستر الله في همس لا تسمعه إلا أذن قائله، بل تتخيله هذه الأذن تخيلا.
ماذا عساي أصنع؟! أأترجل عن دابتي كرة أخرى أم أبقى متسنما ظهرها ويفعل الله ما يشاء؟! ترى كم بقي إلى غايتنا، ليكن ذلك بضعة أمتار، فالسقوط عن الدابة ودق الرقبة يتمان فيما دون الثانية الواحدة، وإذا ترجلت وعاد القوم يخاطبونني ويشجعونني وعاد البدوي صاحب الحمار يرجوني فيا خجلا! فإن لم يكن بعد ذلك بد من أن أستجيب لرجائهم فخير ألا أترجل أو أحدث في القافلة ما لا مفر أن يحدث من هرج ونحن في هذا المضيق الدقيق، ويستدير الحمار فوق صخرة يقف عليها بأربعه، وأكاد أراني هاويا متدحرجا على الصخور إلى رحمة الله، فيثب قلبي في صدري ويتعطل كل تفكيري وأشير إلى البدوي السائق ليدنو مني فأعتمد عليه وأهبط عن الدابة في صمت، وأسير بضعة أمتار على قدمي لا أحدث أثناء ذلك ضجة ولا جلبة، ولا يكاد يفطن أحد ممن معي لما فعلت، ويسبقنا الحمار ويسير البدوي إلى جانبي، ثم يشير إلي بعد قليل أنا صرنا على مقربة من القمة، وأن الطريق استقام أو كاد، وأني أستطيع في غير خوف أن أعود فأمتطي دابته، ويمسكها وأعلوها، وتسير في طريق ما يزال وعرا كما كان، لكنني كدت آلفه، ووعورته للسائر على القدم ليست دون خطره على ممتطي الدابة، فأنت منه بين أمرين أحلاهما مر؛ وأنا أداول بين الأمرين دراكا وما دمنا قاربنا الغاية فلأن أبلغها فارسا مع السادة خير من أبلغها ماشيا مع قادة الدواب.
وكنا على رأس النقب حين بدت لنا دار حمراء لم أدر أبنيت من الآجر أم من أحجار هذا النقب، دار قائمة في عزلة الصومعة شيدت على قمة عالية، وعلى صورة البرج، كيف الطريق إليها؟! انقطع النقب واستدارت الحمر على سطح للجبل مخضر تجري خلاله طرق ملتوية في تصعيدها، حيل بينها وبين خضرة الزرع بأحجار رصفتها أيد حريصة على هذا الزرع حذر أن تدوسه أقدام المشاة أو حوافر الدواب وأخفافها، وتلوت قافلتنا في هذه الطرق تسير صعدا نحو الدار في طمأنينة من أدرك غايته، قال صاحبي وهو يتبعني على أتانه حتى يكاد رأس الأتان يمس ساقي: «هذه الهدة هي السطح من جبل كراء، وهي ترتفع عن الطائف بستمائة متر، وعن سطح البحر بمائتين وألفين من الأمتار، أو ترى هذا الجبل المصعدة قمته في الجو هناك في الناحية الجنوبية؟ إنه جبل سفار، وهو أعلى قمة في هذه الناحية من جبال الطائف، ويبلغ ارتفاعه عن سطح الهدة خمسين ومائتي مترا، والبدو يرون البحر منه عند منحنى الليث الواقع على مقربة من جدة، وهم يرونه ساعة مغيب الشمس إذا كان الجو صفوا فلم يحل دون امتداد البصر إلى غاية الأفق حائل.»
وكان الجو في هذه الساعة رقيقا صفوا من كل شائبة، وكان هواء الجبل صحيحا منعشا يبعث إلى النفس الغبطة وإلى القلب المسرة، وكانت الشمس ترسل أشعتها المحسنة تحيي بها الكون وتفيض منها الدفء والنور، فتزيد النفوس غبطة والقلوب مسرة، وكان زملاؤنا جميعا فرحين أن بلغنا الغاية بعد ساعات تنقلنا أثناءها من الطائف إلى سد ثمالة، فإلى الطائف كرة أخرى، فإلى هذا المكان الذي بلغناه بعد جهد ومشقة، لعلي كنت أكثرهم اغتباطا ومرحا، فهذا كله جديد في حياتي وهو متداول في حياتهم، فإن لم يكن بعض ما يزاولونه كل يوم فهو بعض ما يتعرضون له الفينة بعد الفينة، ومنهم من تكاد تكون هذه المشقة بعض حياته، كالشريف حمزة الغالبي، وربما كان فرح هذا الرجل أن بلغ بنا ما نبغي، وأن حدثنا عن كثير مما أريد أن أسمع عنه، أعظم من فرحه لمرأى دار مضيفنا في الهدة، ولقد رأيت السرور يلمع في عينيه ونحن نترجل عند دار هذا المضيف وهو يسألني في شوق من يريد أن يطمئن: «لعلك لم يبلغ منك التعب؟»
ودلفنا إلى بيت مضيفنا محمود المغربي، فدخلنا بابا وارتقينا درجا وأوينا إلى غرفة أذكرتني بداوتها وسذاجتها منازل العزب في مصر، ولقينا أهل الدار مؤهلين فرحين، ودخل بعضهم معنا الغرفة الخالية، وجاء أحدهم بحصير من هنا وآخر بسجادة من نسج أيديهم من ها هنا، وفرشوا ما استطاعوا فرشه من جوانب الغرفة، ثم جاءوا بوسادتين أتكئ عليهما مبالغة في إكرامي، وأعد لنا القوم الغال - وهو طعام «التصبيرة» كما أسلفت - بيضا وخبزا وتمرا، وقام رب الدار على قدميه عند الباب لا يتناول معنا طعاما ولا يلقي إلينا نظرة، وكل همه أن يجيء بالماء للظامئين، وسمعته يتحدث إلى أهله.
جزيت يا مستر فلبي! أهذه اللغة العربية الفصحى الصميمة التي هديتني إلى موطنها؟! إنها لهجة لا أكاد أفهمها إلا كما أفهم أهل لبنان أو أهل المغرب إذ يتحدث بعضهم إلى بعض، يرحم الله شعراء ثقيف وخطباءها! ويرحم الله الحجاج بن يوسف الثقفي يوم قال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
متى أضع العمامة تعرفوني
ورحم الله أمية بن أبي الصلت الثقفي في الجاهلية! ورحم الله المغيرة بن شعبة، وغيلان بن سلمة، وعروة بن مسعود، والفارعة بنت أبي الصلت وغيرهم وغيرها من رجال ثقيف ونسائها الشعراء والحكماء، أين شعر هؤلاء وأين حكمتهم؟ وأين هم من أولئك الذين أرى اليوم فلا أكاد أستبين لهم حديثا أو أفهم لهم قولا؟! وأسأل السيد صالح القزاز في ذلك فيذكر لي أنه الجهل المطبق الذي خيم على البلاد أجيالا بل قرونا، والذي ألفه الناس حتى ما يفهمون غيره، فإذا أنشأت لهم الحكومة الفاتحة اليوم مكاتب للتعليم تلكئوا في الإقبال عليها واعتبروها عدوا لهم أي عدو، هذا على شعورهم بالحاجة إلى المعرفة بعد إذ رأوا السيارة والبرق، وأيقنوا أن الحياة في عصرنا الحديث بغير علم مستحيلة، وأن الجهل والبهيمية فيها سواء.
خرجنا بعد «الغال» من دار مضيفنا ندور في الهدة من سطح كراء، وأطلقنا للدواب أزمتها تجري مرسلة العنان لا تخاف وعرا ولا وعثا، ويدفعها أصحابها البدو الفرحون بجريها إلى مزيد منه، فهي تستبق ما انفسح الطريق أمامها، فإذا قام النبات عن جانبيها وضاق الطريق سارت بعضها في أثر بعض، ونبات الحنطة المزروع في هذا السطح من الجبل لا تجاوز مساحته المنثورة ها هنا وهناك بضعة الأفدنة لكل قطعة منها، وهي تقع أغلبها في حضن سفح أو على رأس هاوية، فأما ما وراء ذلك من سطح الجبل فخلاء منثورة فيه الأحجار المتباينة الأشكال والأحجام، وقد مررنا بحجر ضخم قائم في الفلاة يكاد ارتفاعه يبلغ ثلاثة الأمتار أو يزيد عليها، فذكرت لمرآه أحجار الهرم الأكبر بالجيزة، وإن لم يهذب ولم يسو ما هذبت وسويت، ووقف أصحابي أمام هذا الحجر فإذا عليه كتابة ونقوش، حاولوا قراءة ما يمكن قراءته منها، وحاولوا أن يردوه إلى عصور قديمة ترجع إلى صدر الإسلام وإلى ما قبل الإسلام، قال صاحبي وهو يحاورهم: «أوتحسبون صخرة كهذه الصخرة معرضة للريح والمطر تحتفظ ألوف السنين أو مئاتها بكتابة لم يعمق صاحبها نقرها؟! لشد ما تغلون! وإني لأظنكم تحرصون في غير موضع للحرص أن تخلقوا تاريخا منقوشا على صخور هذه الأماكن الغنية بما وعت من عهد الرسول فأغناها عن كل نقش، وحسب هذا المكان فخارا أنه - عليه السلام - مر به في مجيئه من مكة إلى الطائف يستنصر أهلها، فأما ما ترونه منقوشا على هذه الصخرة أو غيرها من الصخور فلا أحسبه يشفي غلة أو يروي ظمأ، وإن ألفى الذين يحلون طلاسمه تاريخ البشر مطويا في ألفاظه.»
كانت غايتنا من سيرنا أن نبلغ البركة القائمة عند منحدر جبل كراء إلى الكر، فمن هذه البركة يرى الإنسان الطريق إلى شداد فوادي نعمان فمكة، وهو الطريق الذي يسلكه المشاة وتسلكه الدواب بين مكة والطائف، وهو الطريق الأثري الذي سلكه الرسول من ستين وثلثمائة وألف سنة مضت، وهو هذا الطريق الذي نصح إلي الحاج عبد الله فلبي أن أسلكه لأسمع عربية البادية، أما ولم يتسن لي أن أتعدى ما بعد وادي نعمان يوم جئت إليه من مكة، فلأذهب إلى الكر من ناحية الطائف فأكون قد قطعت من هذا الطريق أكثره، وانطلقت الدواب بعد أن قرأ أصحابي ما استطاعوا وما لم يستطيعوا قراءته مما على الحجر الضخم حتى بلغت منحدر الطريق على سفوح كراء إلى البركة، هنالك عادت إلى مجازفتها وحذرها، ولم يطل بنا الطريق فيرتاع القلب من خشية الخطر والانزلاق، بل كنا عند البركة بعد دقائق من بدء المنحدر، وكان من البدو الذين معنا من سبقونا إليها ونادونا من عندها لنطمئن بندائهم إلى قصر الطريق ويسره .
والبركة مربعة، بنيت بناء محكما، ومهد إليها انحدار الماء من الجبل في قني أحسن نظامها، كما نظم انحدار الماء منها ليظل ماؤها جاريا ما نزلت السيول أو ذابت الثلوج، وشرب منها بعض رفقتنا تيمنا وتبركا، وأدرت المنظار المقرب فيما حولي، فألفيت انحدار السفح فيما دوننا وعرا عموديا أو يكاد، فسألت أصحابي في صعوده؛ فابتسم أحدهم وقال: «إن من أهل شداد الواقعة في السهل عند نهاية كر من يطيب لهم المجيء إلى هنا ليشربوا القهوة، وليتحدثوا ولينعموا بهواء الجبل ما طاب لهم، وليعودوا بعد ذلك مغتبطين بنزهتهم لم يصبهم نصب ولم يمسسهم تعب؛ وإنما تحسب أنت للأمر حسابه وترى فيه عسرا لأنك لم تتعوده، والحياة عادة، ولو كنت تصعد الجبل اليوم للمرة الأولى ولم تكن قد سبقت إلى صعود حراء وثور لوجدت من المشقة أضعاف ما تجد.»
وحق ما قال، وإني لأذكر يوما من سنة 1910 كنت فيه بلوسرن من أعمال سويسرا، وقد قضيت الليل بفندق في قمة جبل الپيلات، فلما تنفس الفجر خرجت أشهد مشرق الشمس على قمم الجبال، فألفيت جماعة من أهل الجبل في هذه المنطقة سبقوني وقد تسلقوا من أدنى السفح إلى أعلاه في بكرة الصبح خفافا يتغنون أغاني الجبل ويتصايحون صيحاته، وهم في جذل ومرح دونهما مرح الطير الطليق من عشه مع تباشير النور، وقديما ثقل هواء السهل على أهل الجبل، فكان تحنانهم إلى السفوح والقمم ينساب في شعرهم نغمات كتغريد الطير حين أوبته إلى عشه وأفراخه.
وعدنا إلى منزل مضيفنا نتناول العقال، فألفيناه ثرد الثريد وجعل عليه لحم الجزور كله، وهيأ بذلك لنا طعاما بدويا لذيذا، ولم يشاركنا في العقال كما وقف ساعة الغال بعيدا عنا يجيب مطالبنا ولا يلقي علينا نظره، ودارت القهوة بعد الطعام، ثم خرجنا فركبنا دوابنا ودرنا بها في أنحاء الجبل نستبق، وبدأت الشمس تميل نحو الغرب كل الميل، فعدنا إلى النقب الأحمر نهبط خلاله إلى وادي محرم، ولقد آثرت أن أقطع جانبا من النقب على قدمي مخافة السقوط من فوق الدابة وهي تنحدر في حذرها ملقية إلى الأمام برأسها وبكل جسمها، فلما استوينا بعد ذلك في «البكس» وأسرع يقطع بنا الطريق إلى الطائف تنفسنا الصعداء، وقدرت صدق الدعوة التي يدعوها بنو وطننا للمسافر: «يكتب الله لك في كل خطوة ألف سلامة.»
قال صاحبي ونحن نتناول طعام العشاء: سنذهب صبح غد إلى الشفا أرفع جبال الطائف، وهناك ترى البادية كما خلقت لم يعد عليها نظام ولم تعبث بها يد عابث، قلت: أوعبثت يد النظام بالهدة؟ وهل يرتفع الشفا عن كراء؟ وتبسم الشيخ صالح القزاز وقال: إنك سترى يوم غد ما يسرك، وستكون لك فرصة نادرة المثال في الموازنة بين بلادنا اليوم وما كانت عليه أيام الرسول وفي صدر الإسلام، وسترى في أعالي الجبال هناك من طبائع البداوة ما لم تره اليوم، وما هو خليق ببحثك ودرسك.
قلت: أونجد مكان اللات طاغية ثقيف في طريقنا إلى الشفا؟
وأجاب السيد صالح: لا يعرف أحد اليوم أين كانت تقوم اللات؟ وكل ما يذكرونه أن الصنم مسخ ونقل حجره أمام مسجد ابن عباس تدوسه أقدام الناس.
وذكرت لسماع هذا القول ما يذكره أهل مكة عن هبل، وأن حجره وضع أمام باب الصفا من أبواب المسجد لحرام ليدوسه الناس.
قال صاحبي: تلك كلها روايات لم يحفل التاريخ شيئا منها ولم يذكرها مؤرخ جاد في كتاب من كتبه.
وقمنا صبح الغد نقصد الشفا، وأقلنا البكس، وانطلقنا في طريق مستوية حتى حاذينا قرية المثناة، قال صاحبي: سألتني غير مرة عن المكان الذي لقي فيه الرسول عداسا النصراني وحرصت على أن تقف عنده، ففي المثناة مسجد سيدنا عداس، قلت: أولا ننزل فنزوره؟! لكن الشيخ صالح آثر أن نرجئ هذه الزيارة إلى حين العودة من رحلتنا، وانطلقت السيارة متخطية وادي المثناة في أرض مطمئنة يدل ظاهرها على خصبها، وهي مع ذلك غامرة لا زرع فيها ولا نبات، وبلغنا زراعة مخضرة ونباتا حسنا، فقيل: هذه «الوهط»، ورأينا بساتين تسقى من عين تجاورها، وتقوم منازل على مقربة منها أدنى إلى أن تكون ضيعة صغيرة ، يتعهد أهلها هذا الزرع القليل، قال الشيخ صالح: هذه الوهط التي لا تكاد تغل اليوم شيئا مذكورا كانت في صدر الإسلام مضرب المثل في الخصب والنماء.
ذكروا أن عمرو بن العاص اشترى فيها أملاكا أيام إمارته في عهد معاوية، وأن هذه الأملاك كانت تغل من الكروم والنبيذ ما يتحدث الناس عنه، جاء معاوية من الشام يوما ومر بهذه النواحي، فلما كان على مقربة من الوهط رأى على البعد ما ظنه أحجارا سوداء ناتئة في كثرة نتوء الحرار في مدينة الرسول، فسأل: ما هذه الحرار؟ وعلم أنها ليست حرارا وأنها خوابي النبيذ التي تعصر فيها كروم ابن العاص، فلما توسط بساتين الوهط قال لعمرو مرة أخرى: لي عندك يا عمرو طلبة لعلك لا تردها، قال عمرو: لك ذلك يا أمير المؤمنين، ولي عند أمير المؤمنين بعد ذلك طلبة أرجو ألا يردها، ووعده معاوية ما أراد، فأما الذي طلبه معاوية إلى عمرو فأن يهبه الوهط، قال عمرو: هي خالصة لأمير المؤمنين، وابتسم معاوية ثم قال: فسل يا عمرو ما بدا لك فأنت مجاب إليه، قال عمرو: أن ترد الوهط يا أمير المؤمنين.
وأردف الشيخ صالح: وسواء أصحت هذه القصة أم لم تصح فهي تدل على ما كان لهذه الأماكن القفرة اليوم من شهرة بخصبها وثمراتها، وتؤيد صحة رأيك في هذه البلاد، وأنها لم تعد إلى مكانتها في الحضارة والثروة منذ انتقل الملك إلى دمشق وبغداد والقاهرة.
ولعل الشيخ صالح القزاز لم يجزم بصحة الرواية التي حدث عنها لما تختلف عليه الكتب أكانت أملاك الطائف لعمرو بن العاص أم لابنه عبد الله، فقد ذكر صاحب لسان العرب ما نصه: «الوهط: مال كان لعمرو بن العاص، وقيل: كان لعبد الله بن عمرو بن العاص بالطائف، وقيل: الوهط: موضع، وقيل: قرية بالطائف.»
وجاوزنا الوهط إلى الوهيط القريبة منها والتي تشاركها في أن أهلها من ثقيف، وبالوهيط بستان كبير للشريف عون الرفيق يكاد يكون خلاء من الزرع لولا شجرة كبيرة من شجرة «اليوكالبتس» كان عون الرفيق قد جاء بها إليه، وهو يسقى من عين جارية تنحدر إليها المياه من سفوح الجبال القائمة على مقربة من البستان، والتي تميز طبيعة الوهيط عن طبيعة الوهط السهلة الفسيحة الرحاب في جوانب الوادي.
وانطلقت السيارة في طريق يقع أسفل جبل برد ويدور معه حتى يبلغا الموضع الذي يصعد منه الصاعد إلى الشفا، ووقفنا في منتصف هذا الطريق عند صخرة تفصل بين قريش وهذيل وسفيان؛ سفيان في الشرق وهذيل في الجنوب وقريش في الغرب، ونزل إخواني وحاولوا قراءة ما على هذه الصخرة من آثار لم أعن بمشاركتهم في قراءتها؛ لأنني لا أثق بقدمها؛ ولأنها إن تكن قديمة في حاجة إلى دراسة ليست في نطاق ما أقصد إليه من بحوثي، فلما رأى أصحابي انصرافي عن هذا الأثر عدنا إلى السير حتى بلغنا مكانا انفسح فيه الوادي، هنالك نزلنا، فإذا الدواب في انتظارنا، على أننا رأينا على مقربة منا خلايا للنحل زرناها، فإذا هي تذكرني تربية النحل عندنا في أوائل هذا القرن المسيحي؛ ولعلها هي الطريقة التي كانت تتبع في تربيته منذ قرون ترجع إلى أوائل الدهر.
ركبنا الدواب وسرنا في دروب بدأت سهلة مريحة، ثم بلغ من وعثها ووعورتها أن صار النقب الأحمر جنة بالقياس إليها، وطال الطريق، وبعدت الشقة، ونالني الجهد، وكدت أوقن أنا لن ندرك لهذا الجبل غاية، وكم مرة جال بخاطري أن ألوي عنان دابتي لأعود من حيث أتيت لولا أن غلبني الحياء! ويترجل الشريف حمزة الغالبي عن دابته ويسير إلى جانبي يشجعني إذا استقام الطريق، ويعاونني في المنحدرات وفي المرتقيات المخوفة، ويحاول أن يرفه عني ويهدئ ثائرة أعصابي، والطريق يطول ويزداد وعورة، ولا أجد في كلمة من حمزة أملا في قرب الغاية، فتعود إلى أعصابي ثورتها وأكاد أغالب حيائي وأتغلب عليه وأعود أدراجي، وهممت أن أفعل لولا أن أكد لي حمزة أن ما بقي من الطريق دون ما قطعناه منه بمراحل.
وانتهى بي الأمر أن استسلمت للأقدار، وآثرت أن أنعم حتى بالمشقة، وأن أجني منها خير ما فيها ، وأن أنعم بهواء هذه الساعة فوق الجبل بلغ من الصفو والعذوبة ما لعله سرى عني وجعلني أستمتع بما حولي، وتكبدت الشمس السماء، وأرسلت إلى الخليقة من باهر ضيائها ما زادني بما حولي متاعا، ثم آن لحمزة أن يزف إلي البشرى بأنا لم نضل الطريق وأنا أشرفنا على الغاية منه، وبعد نصف ساعة من ذلك تبدت لنا دار مضيفنا عامر الريعي قائمة وحدها في هذا المنقطع من ظهر الجبل، ويقال مع ذلك: إنها بقرية خماس من قرى الطلحات إحدى قبائل هذيل.
وتلقانا عامر وبنوه مرحبين، ودار بينهم وبين الشيخ صالح حديث سمعته ولم أفهم منه كلمة، وجلسنا في فناء الدار عند باب غرفة لعلها الوحيدة فيها، ثم انتقلنا إلى مخزن بعيد عنها بضعة أمتار، وهناك جيء لنا بالثريد صب عليه السمن بمقدار لم أستطع معه أن أتناول منه لقمة، ولم ينحر عامر جزورا؛ لأنا بلغنا داره بعد الظهيرة، وسنعود إلى الطائف قبل أن يتاح للحم الجزور أن ينضج، واكتفيت لطعامي ببعض ما جئنا به من الفاكهة والحلوى، وجمع من شاء بين صلاة الظهر والعصر، ثم أقمنا هنيهة نستريح، وفيما نشرب القهوة أغمضت عيني ورحت أفكر فيما رأيت، فهذه البادية، التي جست خلالها أمس واليوم، بادية الخصب غزيرة الماء بديعة الهواء في الصيف غير قارسة القر في الشتاء، ونحن الآن في شهر مارس والهواء فيها رقيق ينعش النفس ويبعث النشاط إلى الحواس كلها، وما رأيت بها من سدود ضخمة لحجز المياه كي ينتفع بها الزراع وترتفع بها مياه الآبار يشهد بأن الذين عمروها وأنشئوا هذه السدود كانوا ذوي حضارة وفن يعرفان كيف يفيدان من خصب الطبيعة وقوتها على الإثمار.
وتاريخ هذه البلاد وتراجم أبنائها الذين عاشوا في عصور مختلفة منذ صدر الإسلام إلى آخر عهد بني أمية يشهد بما كان لها من أدب رائع ومن فلسفة وشعر وحكمة، كما يدل على أنها أخرجت أولي مقدرة ودهاء في الحكم وسياسة الشعوب، فماذا دهاها اليوم فصارت إلى ما أرى من اضمحلال الثروة وتهدم المنشآت وجهل الناس وفساد الأمر فيها؟! كيف هوت من مرتبة الحضارة الرفيعة إلى هذه المراتب الأولى من البداوة، وكيف تعطل علمها وفنها فتحطمت فيها كل آثار العلم والفن؟! وكيف ذهبت لغتها العربية الصميمة الصحيحة وحلت محلها هذه الرطانة البدوية التي لا يصل بينها وبين العربية الأولى نسب؟!
ذهبت هذه الحضارة وذهب العلم والفن معها منذ تقلص السلطان من هذه البلاد، ومنذ هجرها أبناؤها ذوو السلطان إلى بلاد أخرى، فمن يوم انتقل الأمويون إلى دمشق، ومنذ استقر العباسيون ببغداد، والفاطميون بالقاهرة، حكم على هذه البلاد العربية بالاضمحلال والانحلال، أغرقت أول عهد الأمويين بأموال الفتح، وفاتها من أول عهد الأمويين شرف الفتح وفخاره، ملك ثروتها أبناؤها العرب الذين ارتحلوا عنها وأقاموا بعواصم الإسلام دون تفكير في العودة إليها، وما يغني المال إذا ذهب السلطان؟! وما يغني الماضي إذا تقلص ظل الحاضر؟! وكيف ينمو المال إذا غاب عنه رب المال؟! لذلك لم تلبث تلك البلاد التي كانت حاكمة فانقلبت محكومة، وكانت سيدة فصارت مسودة إلا قليلا، حتى تقلص عنها ظل النعمة إلى غيرها، وحتى انتقلت منها العروبة إلى الشام وإلى العراق وإلى مصر، وبقيت لها البداوة الساذجة والأعرابية التي فقدت كل مقومات الحضر العربي.
ثم كان الانحلال الذي بدأ منذ الأيام الأخيرة من العهد العباسي، والذي نقل السلطان من يد العرب إلى يد الفرس والترك والمماليك، هنالك انحلت اللغة وحلت محلها عجمة نكراء كانت بلاد العرب أول من اصطلى بنارها، فلما آل الأمر إلى الأتراك العثمانيين لم يبق لبلاد العرب من المكانة إلا أنها موطن البلاد المقدسة ومكان بيت الله وقبر رسول الله؛ من ثم أصبحت أدنى في نظر الحاكمين إلى أن تكون بلادا أثرية، فصار الرأي فيها أن تتجرد من زخرف الحياة كما يتجرد الحاج بيت الله من زينة هذه الحياة، بذلك غاضت قوة الحياة في البلاد العربية جميعا وأصبحت كلا على غيرها في كل مرافق الحياة، وما حاجة من أصبح كلا على غيره إلى السعي ؟! وما حاجة من لا يسعى إلى العلم أو الفن أو الحضارة؟! وتعاقبت القرون ونفسية أهل هذه البلاد هذه النفسية، وروحهم هذا الروح، ونظرة المسلمين إليهم هذه النظرة، لا عجب وذلك شأنهم أن تتهدم السدود، وأن يغيض الماء، وأن يرحل عنهم العلم، وأن يعودوا إلى بداوة الجاهلية الأولى، لقد أسفت واشتد أسفي لحال هذه البلاد، وما عسى أن يغني الأسف؟! هل تراه ينهض يوما بأمة من ضعفها وانحلالها إلى مواطن البأس والقوة؟! إنما ينهض بالأمة صائح من أبنائها يحرك فيها معاني الإنسانية ويدفعها إلى الأمام تبتغي الكمال العقلي والكمال الروحي، أما وقد تحرك أبناء هذه البلاد يريدون الحياة مؤمنين بالله وبالروح وبالحق، فما أجدرهم أن يعودوا إلى الحياة وأن يعيدوا مجد الأجداد!
آن لنا أن نعود أدراجنا، فامتطينا دوابنا وسرنا في الجبل نصعد حينا وننحدر آخر، ونترجل عن ظهور المطي إذا اشتدت وعورة الطريق، وأدركنا سيارتنا وأهبنا بالسائق أن يسرع لنزور المثناة، وأسرع بنا السائق، وأدركنا المثناة والليل وشيك أن يمد على الوجود رواقه، وانحدرنا نتسلل خلال الأزقة نريد مسجد عداس لنقف حيث وقف الرسول - عليه السلام - في ساعة من أدق ساعات حياته ورسالته، ولو أني لم أقف هذا الموقف ولم أدرك هذه الزيارة لخرجت من الطائف وكأن لم أحضر إليها ولم أقف بها، وما الطائف من غير زورة لمسجد عداس؟!
في المكان الذي يقوم هذا المسجد اليوم عليه وقف رسول الله بعد أن أخرجه أهل الطائف من ديارهم وقد أبوا نصرته وأغروا به سفهاءهم يسبونه ويلقون عليه الأحجار، لاجئا إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة يحتمي به من أذى هؤلاء السفهاء، وهناك جلس إلى ظل شجرة من عنب يقلب كفيه ثم يرفع رأسه إلى السماء ضارعا في شكاية وألم ويقول: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟! إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري؟! إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي، لكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو تحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.» ونظر إليه ابنا ربيعة وهو في هذه الحال وطال تحديقهما به، فتحركت نفساهما شفقة عليه، فبعثا غلامهما النصراني عداسا إليه بقطف من عنب الحائط، وتناوله الرسول ووضع يده فيه وقال: «باسم الله» ثم أكل، ودهش عداس لما سمع وقال: هذا كلام لا يقوله أهل هذه البلاد، وعلم محمد أنه نصراني نينوي فقال له: «أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟» قال عداس: وما يدريك ما يونس بن متى؟! قال محمد: «ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي»، فأقبل عداس على محمد يقبل رأسه ويديه وقدميه.
وقام الرسول - عليه السلام - بعد أن طعم العنب واستراح فانصرف عنه عداس، فتوجه إلى مكة سالكا طريق حمى النمور فوادي محرم فالثنية، لا أنيس له في طريقه غير إيمانه بالله وعياذه بنور وجهه الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
هذا موقف من مواقف الرسول الكبرى، هو الموقف الذي سبق الهجرة وكان مقدمة بيعة العقبة ثم الاختفاء بغار ثور، والذي هيأ الله به للرسول وجهة الدعوة إلى دين الحق، فلئن أجارت الحبشة المسلمين حين لجئوا إليها، ولئن أسلم بمكة عدد عظيم له قوته وله منعته، لقد جعل الله يثرب مدينة الرسول ولم يكتب لغيرها من بلاد العرب أن يسبقها إلى نصرته، فلن يكون الأنصار إلا أبناءها الذين يؤوون رسول الله ويمهدون للفتح ولكمال دين الله وتمام نعمته، أما الطائف فستظل آية الله في الأرض أن الإيمان سبيلنا إلى الله لينصرنا، وإن ينصرنا الله فلا غالب لنا.
ما الطائف إذن من غير زورة لمسجد عداس؟! لقد كانت المثناة التي يقوم المسجد بها قطعة من الطائف في عهد النبي، وأكبر الظن أنها كانت بعض أطرافها، فقبلها انصرف صبيان الطائف عن محمد وانقطعوا عن إيذائه؛ وبها كانت بساتين الطائف وكرومها، أما اليوم فتقع المثناة من الطائف على نحو ثلاثة أميال إلى الجنوب الغربي، ولا تزال المياه جارية في أنحائها، ولا تزال بساتينها ذات بهاء ونضرة، والكثير من دورها تحيط به البساتين، ويسقى معظمها من عين ينحدر ماؤها من جبل برد من مساكن قريش، أي قريش هذه؟! وما مبلغ صلتها بقريش مكة في عهد الرسول؟! هذا ما لم أقف على تحقيقه.
وقفت السيارة بنا في ميدان فسيح أمام دور المثناة، وانحدرنا نتسلل خلال الأزقة نريد مسجد عداس، وهي أزقة ضيقة بدت في هذه الساعة من موليات النهار ومقدم الليل موحشة على ضيقها، فلم يكن بها إنسان يؤنس وحشتها، ولولا البساتين المحيطة بها على الجانبين لبدت أشد وحشة، واستدرنا في هذه الأزقة غير مرة حتى بلغنا دارا خيل إلينا أن بها إنسا، وسأل صاحبي من بها عن طريق المسجد، فتقدمنا صبي تخطى جدارا فتبعناه، ثم استدار فإذا بنا أمام بناء ضيق، صورته صورة المساجد بمكة، ولكنه بالغ في الضيق حدا ضاق به الصدر حين علمنا أنه مسجد عداس.
يا عجبا! بل يا أسفا! أيكون هذا الأثر الضئيل ما أقامه المسلمون ذكرا لهذا الموقف العظيم الجليل؟! مسجد لم يقمه مقيمه ليذكر المؤمنون الله فيه، وإنما أقامه ذكرا لتوجه الرسول إلى ربه بهذا الابتهال المضيء بنور الإيمان، والذي يملأ القلب جلالا وروعة، أين هذا الأثر الصغير من هذا الدعاء المنير؟! ألا لو أن منارة ارتفعت ما ارتفعت إلى كبد السماء، وكانت كل جوانبها محاريب تمثل الركوع لله والسجود أمام وجهه لقصرت عن تمثيل هذا الموقف الفذ من مواقف الرسول، موقف السمو بالإيمان إلى حيث يتضاءل كل سمو، والإسلام لله إلى غاية حدود الإسلام، لكن، من ذا يقيم هذه المنارة؟! ومن ذا يصور فيها هذه المحاريب؟! ومن ذا يفكر في أثر غير المنارة ومحاريبها يبعث في النفس صورة هذا الموقف وما له من عظمة وجلال، وقد خيم الجهل على المسلمين فانقلب الإسلام في نفوسهم إذعانا لعباد الله، واتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله ، وآمنوا لمن لم يتبع دينهم، وجعلوا عبادتهم مظهرا لأوضاع يتعصبون لها، وحقت عليهم كلمة الله - تعالى - في الأعراب:
قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم .
وأين الحائط الذي كان لعتبة وشيبة ابني ربيعة؟! أين هذا البستان الذي بعث الفتيان منه بقطف العنب مع عداس إلى النبي؟! سألت في هذا حين رأيت أمام المسجد مكانا ضيقا مسورا به زرع لم أتبين في هذه الساعة من إقبال الليل ما هو؟ وقيل لي: إن البستان مملوك لرجل من أهل المثناة وإن كان فقيرا، وكأنه بستان المسجد، وعجبت لهذا واشتد بي العجب، فإذا لم يكن هذا المكان وقفا على تعبير الفقهاء، ومنفعة عامة على تعبير رجال القانون من أهل عصرنا، فأين يكون الوقف وأين تكون المنافع العامة؟!
وعدنا إلى الأزقة وسرنا خلالها حتى كنا بظاهر المثناة في ناحيتها المقابلة للميدان حيث وقفت السيارة، وتخطينا سدودا وقنيا تجري فيها المياه تسقي هذه البساتين والزروع، ودرنا حول القرية حتى وقفنا عند مسجد الكوع، وهو أفسح من مسجد عداس رقعة، ويبدو خيرا منه حظا عند الذين يتعهدونه، ولست أدري أيقيم أهل القرية فيه صلاتهم وهو على ما شهدت من ضيق؟ لكن الذي عرفته أنهم يعتبرونه مسجدا مأثورا؛ لأن النبي استراح عنده بعد مطاردة ثقيف إياه، ولعلهم يريدون أن ينحلوه هذه الصفة ليكون له ما لمسجد عداس من مكانة، فكتب السيرة كلها تقرر أن ثقيفا أبوا نصرته وأغروا به صبيانهم، وأنه فر منهم حتى بلغ حائط ابني ربيعة فلجأ إليه واحتمى به، وهناك وافاه عداس بالعنب، اللهم إلا أن يكون النبي وقف كرة أخرى في هذا المكان، مكان مسجد الكوع قبالة جبل المدهون، قبل أن يسلك طريقه إلى حمى النمور ووادي محرم عائدا إلى مكة، وهذا قول لم أقف عليه ولا أعتقد صحته، وأغلب الظن عندي أن ما يذكر عن مسجد الكوع لا يزيد من ناحية الثبوت العلمي على ما يذكر عن أكثر مساجد مكة.
وعدنا إلى الطائف وصاحبي يحاورني في مسجد الكوع، ويكاد يقرني على أن لا سند من التاريخ لما يذكر عنه، أما مسجد عداس فقد بقيت لدي منه صورة تبعث في النفس الألم، ولو أن لي من الأمر في هذه البلاد شيئا لحققت بكل وسائل العلم هذا المكان الذي لقي عداس النبي فيه، ولأقمت به أثرا يفاخر أعظم الآثار على التاريخ، لكنما يكون ذلك بعد أن تصلح الطائف وباديتها، ويعود لها من العمران والحضارة ما كان لها في صدر الإسلام وفي عهده الأول، هنالك تقوم السدود ويجري الماء ويرتفع في الآبار ويعود الخصب ويكثر الثمر، وترجع هذه البلاد كما كانت جنة شبه جزيرة العرب، عند ذلك يدرك القوم هذه المعاني الخالدة من مواقف الرسول الكريم وما لها من جلال وعظمة، وهنالك يقيمون لها من الآثار ما يتناسب يومئذ مع علمهم وحضارتهم من غير حاجة إلى من ينبههم إلى هذا الواجب.
عدنا إلى الطائف وقد أخذ منا التعب كل مأخذ، فتناولنا عشاءنا وأوينا إلى مضاجعنا على أن نبرح الطائف عائدين إلى مكة بكرة الغد، لكنا لن نعود إليها من الطريق الذي جئنا منه، فقد سمعت روايات كثيرة عن سوق عكاظ والمكان الذي كان العرب يقيمونها فيه، وتذهب بعض هذه الروايات إلى أنها كانت تقام عند العشيرة، فلنجعل طريقنا إلى العشيرة، ولنعد منها إلى ذات عرق فإلى السيل الكبير، فأكثر الرواة على أن عكاظا كانت بنخلة بين مكة والطائف، ونخلة هي السيل الكبير اليوم، ويزعم بعضهم أن آثارا قديمة باقية على مقربة من هذا السيل تؤكد هذه الرواية، فلعلنا إن مررنا بالأماكن التي اختلفت الروايات أيها كان موضع عكاظ، أن نرجح رواية في أمر هذه السوق وموضعها، ولئن لم يكن لدينا من أسباب التحقيق ومن فسحة الوقت ما يجعل ترجيحنا ذا قيمة من ناحية علمية، لقد يكون مع ذلك ذا فائدة عند من تواتيهم فسحة الوقت وأسباب التحقيق بما لم تواتنا به.
أسواق العرب
لست أريد أن أتحدث في هذا الفصل عن أسواق العرب في هذا العصر الحاضر، ولو أنني أردت لما وجدت غير ما قلته في الفصل الذي تقدم عن مكة الحديثة، وما ذكرته عن سوق منى حين الحج، وعن سوق الطائف، وما سأجعله موضع حديثي عند الكلام عن مدينة الرسول، ولست أريد أن أتحدث هنا عن أسواق العرب أيام الجاهلية وفي صدر الإسلام بوجه عام، وإنما أريد أن أتحدث عما له اتصال منها بحياة النبي العربي، وما يدخل لذلك في منزل الوحي، وهذه الأسواق ثلاثة: عكاظ، ومجنة، وذو مجاز أو ذو المجاز.
وسوق عكاظ هي التي تلفت نظر كل مسلم وكل عربي إذا ذكرت هذه الأسواق الثلاث، فمجنة وذو مجاز لم تذكرا في كتب التاريخ والأدب ما ذكرت سوق عكاظ، وهما إنما تذكران عند الكلام عن الحج وشعائره وتكادان تتصلان بهذه الشعائر، أما عكاظ فلا يخلو كتاب من كتب الأدب العربي من الكلام عنها، وقد صار اسمها علما على كل مجتمع يضم الآلاف وعشرات الآلاف من الناس، ويكون حديث الشعر والأدب مما يجري فيه، وكثيرون يذكرون هذا الاسم كما يذكر غيرهم اسم برج بابل على أنه مجتمع الأمم وملتقى الناس من مختلف أنحاء الأرض؛ من ثم كان لهذا الاسم من ذيوع الشهرة ما يجعل كل زائر بلاد العرب وكل متجول بأم القرى وما حولها حريصا على أن يعرف أين كان مكانه، وما صار هذا المكان اليوم إليه، ومتى بدأت سوق عكاظ تقام به، ومتى عفت الحوادث عليه؟
ومن عجب أن ليس لعكاظ على استفاضة شهرتها تاريخ مدون في بطون الكتب على نحو يستطيع الإنسان أن يطمئن إليه، فلم يحقق أحد الزمن الذي بدأ العرب يقيمونها فيه، وأدق ما يروى عن ذلك انها اتخذت سوقا في الجاهلية بعد عام الفيل بخمس عشرة سنة، والخلاف على عام الفيل وتحديده مستفيض كشهرة عكاظ، ولا أدل على ذلك من نسبة عام الفيل إلى مولد الرسول، فقد قيل: إنه - عليه السلام - ولد عام الفيل، ويقول ابن عباس: إنه ولد يوم الفيل، والمشهور أنه ولد في سنة 570 ميلادية، وإذن يكون عام الفيل كذلك سنة 570 ميلادية، لكن آخرين يقولون: إنه ولد قبل الفيل بخمس عشرة سنة، ويذهب غير هؤلاء إلى أنه ولد بعد الفيل بأيام، وبأشهر، وبسنين يقدرها قوم بثلاثين سنة ويقدرها قوم بسبعين، فما هو التاريخ الصحيح لعام الفيل؟ إن الذين يروون أن عكاظا أقيمت بعد الفيل بخمس عشرة سنة يذهبون إلى أنها أقيمت سنة 540 للميلاد، إذن لقد كان عام الفيل في رأيهم سنة 525م وقد ولد محمد سنة 570م، فهو إذن قد ولد على قولهم بعد عام الفيل بخمس وأربعين سنة، وهذا كلام يقع عليه خلاف شديد، ولا يسلم له إلا الأقلون.
وليس تحديد المكان الذي كانت عكاظ تقوم به بأيسر من تحديد التاريخ الذي اتخذ هذا المكان فيه سوقا، وأكثر الأقوال في هذا الشأن تواترا أن هذه السوق كانت بين نخلة والطائف، لكن ما بين نخلة والطائف يبلغ الخمسين ميلا أو يزيد عليها، فأين كانت السوق تقام من قطر هذه الدائرة؟ وهل كانت ثابتة في مكان بذاته أو متنقلة في أماكن مختلفة؟ أكثر الكتب على أنها كانت ثابتة في مكان بذاته، لكن تحديد هذا المكان أمر غير محقق، وعدم تحقيقه يبدو واضحا ويبدو محيرا لمن سار بين مكة والطائف وحاول أن يعرف موضعه بشيء من الدقة، فهو يجد نفسه أمام روايات تزيد على الخمس؛ منها أن عكاظا تقع بآخر وادي ركبة المتصل بوادي عشيرة، ومنها أنها بوادي عقرب في شرق الطائف بعد قليل من أم الحمد أو أم الحمض، ومنها أنها عند السيل الصغير بالموضع المعروف باسم القهاوي، ومنها أنه بالسيل الكبير إلى ناحية الشمال في موضع يقال له: الخر، في وادي غسلة، وهذه الأماكن كلها يصدق عليها أنها بين نخلة والطائف، ومع ما كتبه المتقدمون عن عكاظ وموضعها لا تستطيع أنت إذ تمر بهذه الأماكن جميعا أن تثبت رأيا دون رأي، فإذا رجحت رأيا هداك إليه بحثك لم يزد ذلك على أنه ترجيح لا يمكن القطع بصحته، وهذا ما فعلته بعد الذي قمت به من بحوث أعرضها في هذا الفصل.
على أن الخلاف في تحديد هذا المكان الذي تقوم به عكاظ والزمان الذي أنشئت فيه لا يتصل بتصوير ما كان يقع بها أثناء إقامتها ولا بالموعد الذي كانت تقام فيه، فاتفاق المؤرخين على أن العرب كانوا إذا أزمعوا الحج إلى مكة من أصقاع شبه الجزيرة جعلوا عكاظا موعدهم في هلال ذي القعدة فأقاموا بها عشرين يوما ثم انصرفوا إلى مجنة فأقاموا بها عشرا، فإذا رأوا هلال ذي الحجة انصرفوا إلى ذي المجاز فأقاموا أسواقهم به ثماني ليالي، ثم ترووا من مائها في اليوم الثامن وخرجوا إلى عرفة، وبدهي أن الذين كانوا يحضرون هذه الأسواق هم الذين كانوا يريدون التجارة، فأما من لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، وكان من لا يريد التجارة من أهل مكة يخرج من مكة يوم التروية، وظلت الحال على ذلك حتى جاء الإسلام وخلع على الحج من الجلال ما تضاءل إزاءه جلال هذا الفرض في الجاهلية، هنالك ظن قوم أن الحج والتجارة لا يجتمعان، وفكروا في إبطال الأسواق؛ فنزل قوله - تعالى:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين . فأباحت هذه الآية التجارة قبل الحج وأثناءه وبعده، وبذلك بقيت الأسواق، وبقيت عكاظ حتى نهبها الثوار الذين خرجوا من مكة في الثلث الأول للقرن الثاني من الهجرة.
وقل من أهل مكة من لم يكن يخرج إلى عكاظ، فأهل مكة ذوو تجارة، بل كانت التجارة حياتهم؛ ذلك بأن أم القرى وما حولها كانت ولا زالت بواد غير ذي زرع، وقد كانت في تلك العصور طريق التجارة بين الشام واليمن، كما كانت قوافلها تخرج في رحلتي الشتاء والصيف إلى الجنوب والشمال، تنقل تجارة الشرق إلى الغرب وتجارة الغرب إلى الشرق، ولعل أهلها كانوا أشد حرصا على شهود الأسواق والخروج إلى عرفة للتجارة منهم للحج، فالبيت الحرام في بلدهم، والطواف به ميسور لهم كلما أرادوا، وأصنام الجاهلية التي كان الناس يحجون إليها كانت داخل البيت وفيما حوله، ولم تكن بعرفة ولا بعكاظ ومجنة وذي المجاز، فالتجارة إذن هي التي كانت تستنفر أهل مكة للخروج إلى حيث يجدونها ليبادلوا قبائل العرب المختلفة ما شاءوا من العروض مقابل ما جاءوا به من الشام ومن اليمن، ولعل خروج أهل مكة زرافات إلى عرفة حين الحج حتى يومنا هذا إنما يرجع إلى ما اعتاده أسلافهم في تلك الأيام الخوالي، وإن يكن الدافع الذي يحفز أهل مكة لهذا الخروج اليوم لا يتصل بالتجارة كما كان يتصل في ذلك العهد.
وقد تعود المؤرخون إذ يذكرون عكاظا أن يقولوا: إن الشعراء كانوا ينتهزون فرصة انعقادها فيعرضون حوليات من نخب قصائدهم على الناقدين في احتفال عظيم تشهده الجماهير، وبذلك يذيع ما يقره الناقدون وأولو الحكم من هذ الشعر في أنحاء شبه الجزيرة جميعا، ويتغنى به العرب في كل ناد، وأن الخطباء كانوا يجعلون منها مثابة لعرض آرائهم وتعاليمهم، وصحيح أن الشعراء كانوا ينشدون في عكاظ، وأن الخطباء كانوا يتحدثون إلى الناس فيها، لكن ذلك لم يكن سببه أن هؤلاء وأولئك كانوا يتخذون من عكاظ حفلا أدبيا ومجتمعا خاصا بألوان البلاغة في الشعر والخطابة، بل كان يرجع إلى طبيعة الحياة في بلاد العرب، وإلى أن عكاظا كانت تضم من قبائلها من لا يجتمعون طيلة العام إلا أيام الحج، وقد كانت عكاظ تجمعهم لتبادل التجارة ابتغاء المنافع، وهذا التبادل في التجارة وهذا التنافس في ابتغاء المنافع وما كان يقع أثناء ذلك وبسببه من خصومات تتصل بعض الأحيان أعواما متتالية هو الذي كان يدعو الشعراء لينشدوا والخطباء ليقولوا.
أما أن هؤلاء الشعراء كانوا يجيئون ليعرضوا شعرهم للنقد، وأن هؤلاء الخطباء كانوا يتبارون بلاغة ليستعلي بعضهم على بعض في البيان، وأن ذلك كان يقع في الجاهلية أيام كانت لهجات العرب لا يزال بينها من التباين ما لم يزله استعلاء لغة قريش إلا بعد أن أنزل الله القرآن بها، فتجاوز في التصور يدعو إليه ما جبل الناس عليه من توهم الحياة في كل العصور والأمكنة على صورة حياتهم في البيئة المحيطة بهم، وقد ألف العالم العربي إبان ازدهار الإمبراطورية الإسلامية أن يرى الشعراء يتنافسون يبتغون الزلفى إلى ملك أو أمير، وأن يرى النقاد يتناولون الشعر في عهد قائليه أو بعد وفاتهم بالنقد والإبانة عن محاسنه ومساويه في الفصاحة والبلاغة، فذهبوا يصورون عكاظا وما كان يجري فيها هذه الصورة الذهنية التي ألفوا، والتي تختلف وما تثبته أنباء الحياة العربية في العهد الجاهلي اختلافا عظيما.
ولست أزعم أنني عثرت في أثر قديم أو مخطوط غير معروف على صورة تصف ما كان يجري بعكاظ على النحو الذي أريد أن أسطره هنا، لكنني انتزعت نفسي جهد الطاقة من بيئتنا الحاضرة وحملتها على تصور البيئة العربية قبيل الإسلام وفي فجره كما تصفها لنا أنباء التاريخ، وحاولت بذلك - وفي حدود الطبيعة الإنسانية - أن أرى ما كانت عليه عكاظ بالفعل وما كان يقع فيها، وأول ما وقفت عنده أن عكاظا تختلف بموقعها عن مجنة وذي المجاز، فهي تقع في الآفاق من مكة في حين تقع مجنة وذو المجاز منها في حدود مواقيت الإحرام؛ من ثم كان يباح بعكاظ ما لم يكن يباح بمجنة وذي المجاز من ألوان اللهو والمجون ومن ضروب التجارة والتبادل.
هذا إلى أن ذا القعدة الذي كانت عكاظ تعقد فيه لم يكن له من الحرمة ما كان لذي الحجة شهر المناسك، وكانت قبائل العرب تجتمع في عكاظ عشرين يوما من كل سنة لتبادل التجارة، وليس لها من الاجتماع غرض آخر؛ ولذلك يقول الأزرقي في «تاريخ مكة»: «وإنما كان يحضر هذه المواسم بعكاظ ومجنة وذي المجاز التجار ومن كان يريد التجارة، ومن لم يكن له تجارة ولا بيع فإنه يخرج من أهله متى أراد، ومن كان من أهل مكة ممن لا يريد التجارة خرج من مكة يوم التروية.» وهذا صريح في أن هذه الأسواق التجارية التي كانت تجمع قبائل العرب جميعا في مجيئهم لمناسكهم قد كانت أشبه بالمعارض العامة لتجارة شبه الجزيرة، والتطلع في طبيعة الناس من أهل الأمم كلها والعصور جميعا؛ وهم لذلك يقصدون هذه المعارض العامة ليروا فيها الجديد الذي لم يروه من قبل؛ وليقتنوا منها خير ما يريدون اقتناءه بأثمان تنزل بها المنافسة الشديدة في المعارض العامة إلى ما يفوق مثله في غيرها، وحيثما اجتمع الناس وتنافسوا اختلفوا وتخاصموا.
أما وبلاد العرب كانت إلى أن ألف الإسلام بينها وجمعها في سلطان واحد قبائل وحواضر، تستقل كل واحدة منها عن الأخرى، وتعتز لكل واحدة منها باستقلالها وتدافع عن كرامتها وكرامة أبنائها، فقد كان هذا مثار الجدل والفخر ومثار النزاع والحرب في كثير من الأحيان، فإذا آن للحرب أن تضع أوزارها، وللخصومات أن تهدأ ثائرتها، قام الحكماء يعظون المتخاصمين ويصلحون بين المختلفين، لا متباهين ببلاغتهم ولا مقيمين سوقا لها، بل عاملين لتهدئة الخواطر وإعادة السكينة والسلم حتى تتصل التجارة ويعم الرخاء شبه الجزيرة.
الطريق بين مكة والطائف وبين مكة والمدينة.
هذه صورة بسيطة لعكاظ وما كان يجري فيها، وهي عندي الصورة الطبيعية لهذه السوق التجارية العربية الجامعة، فأما ما يضاف إليها من صور محافل الشعر ومباريات الشعراء وتنافس الخطباء فخيال لا يصف الواقع، أبدعه الأدباء والكتاب بعد أن عفى الزمن على عكاظ، وهو خيال لا يتفق مع ما يروى عن عكاظ، وما كان يجري فيها من التجارة وما يتصل بالتجارة من لهو وعبث، وما يجر ذلك إليه من خصومات وحروب متصلة.
ذكروا أن شبابا من قريش وبني كنانة كانوا ذوي عرام، فرأوا امرأة من بني عامر جميلة وسيمة جالسة بسوق عكاظ، وقد ضمت عليها أطراف ثوبها وتبرقعت، وقد اكتنفها شباب من العرب وهي تحدثهم، فجاء الشباب من بني كنانة وقريش فأطافوا بها وسألوها أن تسفر فأبت، فقام أحدهم فجلس خلفها وحل طرف ردائها وشده بشوكة إلى ما فوق خصرها وهي لا تعلم، فلما قامت انكشفت، فضحكوا وقالوا: منعتنا النظر إلى وجهك وجدت لنا بالنظر إلى ما وراءك، فنادت: يا لعامر! فثاروا وحملوا السلاح، وحملته كنانة، واقتتلوا قتالا شديدا، ووقعت بينهم دماء، فتوسط حرب بن أمية واحتمل دماء القوم وأرضى بني عامر من مثلة صاحبتهم.
وكان لرجل من بني جشم بن بكر دين على آخر من بني كنانة طال اقتضاؤه على غير جدوى، فلما أعياه وافاه الجشمي في سوق عكاظ بقرد ثم جعل ينادي: «من يعطيني مثل هذا بما لي على فلان الكناني؟» رافعا بذلك صوته، فلما طال نداؤه وتعييره بني كنانة مر به رجل منهم فضرب القرد بسيفه فقتله، فهتف الجشمي: يا لهوازن! وهتف الكناني: يا لكنانة! فتجمع الحيان للقتال، ثم كفوا أن حمل ابن جدعان ما له بين الفريقين.
وكان بدر بن معشر الغفاري رجلا منيعا، مستطيلا بمنعته على من ورد عكاظا، فاتخذ مجلسا بها وقعد فيه باسطا رجليه وجعل يقول: «أنا أعز العرب، فمن زعم أنه أعز مني فليضرب هذه بالسيف فهو أعز مني.» فوثب رجل من بني نصر بن معاوية يقال له: الأحمر بن مازن فضربه بالسيف على ركبته، وقام رجل من هوازن فضربه كذلك، وفي هذه الضربة أشعار كثيرة روتها كتب الأدب.
هذه وأمثالها حوادث تقع في كل سوق عامة تعقد للتجارة أيا كانت المناسبة التي تدعو إلى عقدها، والأسواق التي تعقد على مقربة من المناسك التي يقصد الناس إليها للعبادة أو التبرك بعض ما يجده الإنسان في بلاد العالم كله، يجده في الموالد في مصر وفي فرنسا وفي إنجلترا وفي غيرها، وهذا طبيعي، فخير مكان تعقد فيه سوق التجارة إنما هو حيث يجتمع الناس في عدد عظيم، وحيثما اجتمع الناس في عدد عظيم وتبادلوا المنافع تجاذبتهم دوافع الهوى، وفاخر بعضهم بعضا، واختصموا وتحاربوا.
أما وهذه الأسواق تنعقد في موعد معين من السنة فالخصومات تتصل في كثير من الأحيان على السنين، والدعاية سلاح من أمضى أسلحة الخصومة، وأسباب الدعاية اليوم كثيرة، منها الصحف والإذاعة الجوية وألوان الأدب المختلفة، أما عند العرب فكان الشعر أقوى سلاح للدعاية، وكان يقوم مقام أسباب الإذاعة جميعا، وكانت الذاكرة العربية بالغة من القوة حدا فاخر به العرب، حتى لقد أعرض الكثيرون منهم عن الكتابة مخافة أن تجني على هذه الملكة فيهم، وكانت هذه الذاكرة تعي الشعر الجيد وتترنم به وتذيعه في كل مكان، فإذا اختلف قوم في عكاظ وكان مثار هذا الخلاف حسناء، اندفع الخيال العربي المتوثب الفسيح فسحة البادية يصور من ذلك ما يشاء، وقال الشعراء فيه، وتغنوا بما قالوا، فإذا كانت عكاظ ذاع فيها هذا الشعر وتناقله الناس كما يتناقلون اليوم في الأسواق أنباء الصحف وما تطيره الإذاعة، فلم يكن شعراء العرب إذن يعرضون شعرهم في عكاظ ولا في غيرها للنقد ولا للحكم، وهي إذن لم تكن سوقا للشعر والخطابة والتنافس فيهما كما يصور بعضهم، وإنما كان يجري فيها من ذلك ما يجري في الأسواق كلها من تناقل الحوادث، خاصة إذا اتصلت هذه الحوادث بالسوق وما وقع أو يقع فيها.
وإذا كان العرب الذين يفدون في الجاهلية إلى عكاظ لحج البيت لا يدينون لصنم واحد، بل تدين هذه القبيلة للات، وتلك للعزى، وثالثة لمناة، وأخرى لصنم آخر، فقد كان خلافهم يجر في كثير من الأحايين إلى التنابز بالألقاب والتفاخر بالأصنام، فإذا هدأت الخصومة وآن للحكماء أن يحسموها حاول بعضهم أن يقنع المتخاصمين بأنهم جميعا على حق في عبادة أصنامهم، وأنها تنفعهم ليتخذوها إلى الله زلفى، وحاول آخرون أن يهدئوا من أمر هذا الخلاف على الأصنام ولو أدى ذلك إلى التهوين من أمر الأصنام، دون طعن عليها، ودون إثارة لحفائظ النفوس بهذا الطعن.
وهذا عندي هو ما دعا إلى خطبة قس بن ساعدة الإيادي راهب نجران النصراني حين خطب من حضر عكاظا فقال: «أيها الناس، اسمعوا وعوا! من عاش مات، وما مات فات، وكل ما هو آت آت، ليل داج، وسماء ذات أبراج، وبحار تزخر، ونجوم تزهر، وضوء وظلام، وبر وآثام، ومطعم ومشرب، وملبس ومركب، ما لي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون؟! أرضوا بالمقام فأقاموا، أو تركوا فناموا؟! وإله قس بن ساعدة ما على وجه الأرض دين أفضل من دين قد أظلكم زمانه، وأدرككم أوانه، فطوبى لمن أدركه فاتبعه! وويل لمن خالفه!» فليس يحمل قسا على أن يلقي هذا الخطاب في سوق يتجر فيها الناس إلا خلاف شجر بينهم وبلغ التفاخر بأصنامهم، فلما هدءوا وآن لذوي الرأي أن يحسموه بالحكمة تحدث قس هذا الحديث متأثرا فيه لا ريب بعقيدته المسيحية، ولكن من غير حرص على الدعوة إليها دعوة قل أن تؤتي في مثل هذا الجمع ثمرتها.
كان أهل مكة يشهدون عكاظا كما قدمت، وكان أبناؤهم يخرجون معهم إليها كما يخرجون معهم اليوم إلى عرفات ومنى، وكان محمد يشهدها مع أهله ويشهد ما يجري فيها، وكان يشهدها بعد ذلك في سنين كثيرة: شهدها العام الذي خطب فيه قس هذه الخطبة، وسمعه يلقيها وأعجب به غاية الإعجاب، فلما بعثه الله نبيا وأكمل للمسلمين دينهم وآن لوفود العرب أن تجيء إلى النبي تعلن إليه إسلامها، قدم عليه وفد إياد يوما، فقال لهم: «ما فعل قس بن ساعدة؟» قالوا: «مات رسول الله.» قال: «كأني أنظر إليه بسوق عكاظ على جمل له أورق وهو يتكلم بكلام عليه حلاوة ما أجدني أحفظه.» قال رجل من القوم: «أنا أحفظه يا رسول الله.» وتلا عليه الخطبة، فقال رسول الله: «يرحم الله قسا! إني لأرجو أن يبعث يوم القيامة أمة وحده.»
ومن قبل ذلك حضر محمد عكاظا وشهد فيه حرب الفجار، وذلك حين عرض البراض بن قيس الكناني نفسه على النعمان بن المنذر؛ ليقود قافلة النعمان من الحيرة إلى الشام في حماية قبيلته كنانة، فآثر النعمان عليه عروة الرحال الهوازني ليتخطى إلى الحجاز عن طريق نجد؛ فأحفظ ذلك البراض، فتبع عروة وغاله وأخذ قافلته، ثم لقي بشر بن أبي خازم وقال له: «هذا القلاص لك على أن تأتي حرب بن أمية وعبد الله بن جدعان وهشاما والوليد بن المغيرة فتخبرهم أن البراض قتل عروة، فإني أخاف أن يسبق الخبر إلى قيس فيكتموه حتى يقتلوا به رجلا من قومك عظيما.» وأجابه بشر: «وما يؤمنك أن تكون أنت ذلك القتيل؟!» قال البراض: «إن هوازن لا ترضى أن تقتل بسيدها رجلا خليعا طريدا من بني ضمرة .» وكانت العرب إذا قدمت عكاظا دفعت أسلحتها إلى ابن جدعان اتقاء للحرب حتى يفرغوا من أسواقهم ومن حجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا، فلما أبلغ بشر رسالته قال حرب بن أمية لابن جدعان: «احتبس قبلك سلاح هوازن.» وأجاب عبد الله: «أبالغدر تأمرني يا حرب؟! والله، لو أعلم أنه لا يبقى منها سيف إلا ضربت به، ولا رمح إلا طعنت به، ما أبقيت منها شيئا، ولكن لكم مائة درع ومائة رمح ومائة سيف في مالي تستعينون بها.» ثم نادى في الناس: «من كان له قبلي سلاح فليأت وليأخذه.» وأخذ الناس أسلحتهم وسار حرب وهشام وأمية وابن جدعان راجعين إلى مكة اتقاء القتال مع هوازن، فلما بلغ أبا براء قتل البراض عروة قال: خدعني حرب وابن جدعان؛ وركب فيمن حضر عكاظا من هوازن في أثر القوم فأدركوهم بنخلة فاقتتلوا حتى دخلت قريش الحرم، وجن عليهم الليل فكفوا، ونادى منادي هوازن: يا معشر قريش! ميعاد ما بيننا هذه الليلة من العام المقبل بعكاظ.
وقدم البراض بالقافلة مكة، فلما استدار العام ذهبت قريش وأشياعها وهوازن وأشياعها إلى عكاظ فالتقوا بشمطة، وكان محمد مع قريش، وقد استحر القتل فيهم، فلما رأى ذلك بنو الحارث بن كنانة قاموا إلى قريش وتركوا مكانهم فانتصرت قريش، واستدار العام كرة أخرى فكان اليوم الثالث من أيام الفجار بعكاظ وفيه التقى القوم على قرن الحول بالعبلاء واقتتلوا، أما اليوم الرابع فكان بعكاظ، وفيه اقتتل القوم قتالا شديدا انهزمت قيس كلها على أثره، وقد ذكر النبي
صلى الله عليه وسلم
الفجار بعد رسالته فقال: «لقد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت.»
ولقد قيل في حروب الفجار هذه شعر كثير على أثر كل يوم من أيامها، وكان يذاع في الناس وينشد في عكاظ؛ ولا يبتغي قائلوه الاحتكام به إلى نقاد الشعر، بل يقولونه تفاخرا ودعاية وتقوية للروح المعنوية في قومهم، ولا تزال كتب الأدب القديمة وكتب السيرة تحفظ لنا من هذا الشعر الشيء الكثير.
ولم ينقطع النبي عن الذهاب إلى عكاظ بعد بعثه، ولعله لم يكن يذهب إليها في كل عام، لكن الثابت في كتب السيرة جميعا أنه ذهب إليها بعد أن ضاقت قريش به فحصرته وأصحابه في الشعب من جبال مكة، فلما نقضت صحيفة المقاطعة والحصار وعاد المسلمون يتصلون بالناس، فجع محمد بعد أشهر من ذلك في عمه أبي طالب وفي زوجه خديجة، فازدادت قريش له إيذاء، حتى كان من أيسر ذلك أن اعترضه سفيه منها فرمى على رأسه ترابا، هنالك خرج إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف، فلما ردته بشر جواب ازدادت قريش له أذى، ولم يصرفه ذلك عن الدعوة إلى دين الله، بل جعل يعرض نفسه في المواسم - وعكاظ أهمها - على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق وينبئهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه، وكان عمه أبو لهب عبد العزى بن عبد المطلب يتبعه أينما ذهب ويحرض الناس ألا يسمعوا له، فهو لم يكن يقف في هذه السوق خطيبا يدعو الجموع ببلاغته ليتبعوه، بل كان يتصل بهذه القبلة وبتلك، يحدثهم ويحاول إقناعهم بالحجة والمنطق، ويجادلهم بالتي هي أحسن، رجاء أن يهديهم إلى الحق وأن يجنبهم الضلال.
موضع كان للرسول الكريم به هذه المواقف؛ حضر فيه حرب الفجار صبيا واشترك فيها، وسمع فيه إلى قس بن ساعدة قبيل بعثه، وعرض نفسه فيه على قبائل العرب يدعوهم إلى الحق، جدير بأن يكون مأثورا وأن يظل سوقا للحج على مر العصور، لكن ما قام بمكة وما حولها بعد وفاة النبي وصاحبيه أبي بكر وعمر من الثورات التي انتهت بأن أصبحت الخلافة ملكا عضودا، وبأن انتقلت العاصمة الإسلامية من المدينة إلى دمشق فبغداد فالقاهرة، قد عفى كثيرا من هذه الآثار وذهب بكثير من العادات التي أقرها الإسلام بعد الجاهلية.
وعكاظ من المواضع التي عفتها الثورات فصار من المتعذر تحقيق موضعها، وكل ما ترويه الكتب عنها أنها كانت تعقد في مكان بين نخلة والطائف، فأما موضع هذا المكان على التحقيق فيقع عليه اليوم خلاف عظيم وترد فيه روايات تزيد على الخمس، كما قدمنا، أفلا يستطيع الإنسان ترجيح واحدة من هذه الروايات على الأخرى؟ أو لا يستطيع أن يصل من ترجيحه إلى القطع بصحة رواية ونفي ما سواها؛ وبذلك يتسنى أن يقوم في هذا المكان أثر لعل إقامته تعيد إلى عكاظ مكانتها الأولى؟!
دار ذلك بخاطري حين مقامي بالطائف، وفكرت في القيام ببعض البحث أثناء عودي منها إلى مكة لعلي أهتدي إلى شيء تطمئن له النفس، لقد ذكروا أن عكاظا تقع بين نخلة والطائف على يوم من الطائف وثلاثة أيام من مكة، يجب إذن تقسيم الطريق أربعة أقسام، وأن يكون ما بين مكة وعكاظ منه ثلاثة أمثال ما بين الطائف وعكاظ، إذا صح هذا فقد وجب أن نستبعد القول: بأنها بوادي عقرب شرق الطائف بعد قليل من أم الحمض، فأم الحمض لا يزيد ما بينها وبين الطائف على خمسة عشر ميلا، والطريق من الطائف إلى مكة طوله مائة وثلاثون، فما بين الطائف وأم الحمض دون الثمن من الطريق، ومهما يبعد وادي عقرب عن أم الحمض، ووادي عقرب هو الذي يقولون: إن عكاظا كانت تقام به، فهو لا يبعد عنها خمسة أميال فنحن إذن لا نزال دون السدس من الطريق، وهذا المكان ليس بعد ملتقى لطرق القوافل من أنحاء شبه الجزيرة بما يدعو الإنسان إلى التجاوز عن الدقة في تقدير الأبعاد، فلنلتمس عكاظا إذن في مكان آخر بين نخلة والطائف.
ويجب أن نستبعد كذلك ما يقال من أن عكاظا كانت تعقد على حدود وادي ركبة عند اتصاله بوادي عشيرة، فالعشيرة لا تقع بين الطائف ومكة على الطريق الذي سلكنا أو على طريق غيره، بل تقع شمال الطائف على مسافة تزيد على ستين ميلا، وتقع شمال السيل الكبير الواقع على طريق ما بين مكة والطائف بنصف هذه المسافة، إذ يتوسط مفرق عشيرة الواقع في جوار السيل الكبير ما بين الطائف وعشيرة.
لاحظت ذلك كله على إحدى الخرائط التي أهداها إلي المستر فلبي يوم رحيلي من مكة إلى البادية، لكنني لاحظت كذلك أن عشيرة تقع على طريق نجد، وتقع على أحد طرق القوافل إلى المدينة حين اتجاه هذه القوافل إلى اودي العقيق بدل أن تتجه إلى ذي الحليفة أو إلى قباء، إذ ذاك أزمعت الذهاب إليها لعلي أرى عندها ما يرجح قيام عكاظ بها، وزاد في إغرائي بهذا الذهاب ما دونته كتب السيرة من أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
ذهب إلى العشيرة في إحدى غزواته، أما وقد عزمت على السير في أثر الرسول فلتكن العشيرة بعض ما أتجه إليه تنفيذا لهذا العزم.
وذكرت هذا السبب الآخر لصاحبي، فأبدى من الشك في ذهاب النبي إلى العشيرة ما أثار عجبي، فأنا جد واثق من ذهابه إليها في إحدى غزواته، ورجعت إلى كتب السيرة أحقق، فألفيتني غير مخطئ، وألفيت صاحبي غير مخطئ، لكنه مع ذلك أدنى إلى الحق مني، فقد ذهب النبي إلى العشيرة من بطن ينبع في السنة الثانية من الهجرة في أكثر من مائتين من المسلمين، فأقام بها جمادى الأولى وليالي من جمادى الثانية «أكتوبر سنة 633» ينتظر مرور قافلة من قريش على رأسها أبو سفيان ففاتته، وإن لم يفته أن وادع بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة المقيمين على طريق التجارة بين مكة والشام، ليست هذه العشيرة إذن هي القريبة من الطائف والمتصلة بوادي ركبة، والتي يقال: إن عكاظا كانت تعقد عندها، وإنما هي من بطن ينبع على مقربة من البحر الأحمر؛ فشتان ما بينها وبين عشيرة وادي ركبة!
وشكرت لصاحبي ما أبدى من ريب كان له فضل رجوعي إلى كتب السيرة والأخبار، ولقد وقفت فيها على عشيرة أخرى ذكرها الأزرقي في آخر «تاريخ مكة» حين كلامه عن «شق مسفلة مكة الشامي وما فيه مما يعرف اسمه من المواضع والجبال والشعاب مما أحاط به الحرم»، فقد ذكر أن «العشيرة» حذاء أرض ابن أبي مليكة إذا جاوزت طرف الحديبية على يسار الطريق، فهذه العشيرة الثالثة مما يدخل إذن في حرم مكة، ولعل هذا الحوار بيني وبين صاحبي ما كان يقع لو أن العامية لم تجعل أهل الحجاز ينطقون العشيرة والعشيرة جميعا على أنها العشيرة، وهذا التشابه في الأسماء كثير في شبه الجزيرة، وأنت واجد وادي العقيق ببادية الطائف، وبهذه العشيرة الواقعة على مقربة منها، وبالمدينة، كما أنك واجد الاسم الواحد تشترك فيه أمكنة كثيرة غير العشيرة ووادي العقيق على نحو ما يشترك في الاسم الواحد أشخاص كثيرون.
لم يصدني ما عرفت أن العشيرة القريبة من الطائف ليست العشيرة التي نزلها النبي من ينبع عن عزم الذهاب إليها لتحقيق ما يقال عن قيام عكاظ عندها، فلما كنا عشية العود من الطائف إلى مكة اجتمعت كلمتنا على أن نسير بكرة الصباح من الطائف إلى العشيرة، ثم نرتد منها إلى السيل الكبير فالبهيتاء فاليمانية فالشرائع فمكة، والطريق إلى العشيرة هو بعينه الطريق إلى السيل الصغير، لكنه ينفصل عنه قبل الوصول إلى هذا السيل وبعد المرور بالمليساء ووادي لقيم وأم الحمض؛ لذلك أتيح لي حين اجتازت السيارة هذا الجزء من البادية صبح يوم الجمعة المتمم للعشرين من شهر مارس أن أرى هذا القدر من طريق الطائف، وكان الليل قد حجبه عني حين مجيئنا إليه، وأشهد أني لم أفد برؤيته شيئا جديدا.
ودعت الطائف ومن فيها، وانطلقت السيارة أثناءها يتبعها «البكس» فلم نر حولنا غير الوادي تقوم الجبال عن جانبيه عند مرمى النظر أكثر الأمر، والوادي خلاء أجرد قل أن تجد فيه للأشجار التي غرستها يد الإنسان أثرا، وطريق السيارة منخفض بعض الشيء متعرج لا يستقيم، فلما استوينا على طريق العشيرة استوى الوادي وانفسح واختفت الجبال كأنما ابتلعها الأفق، واخترقت أشعة الشمس الرقيقة هواء الصبح المنعش وانبسطت على البادية فكستها جميعا ضوءا ودفئا، والسيارة منبعثة في انطلاقها تطوي هذه المسافات المترامية من الأرض وليس يهدي سائقها الطريق أثناءها إلا حسه المرهف وعلمه بأنه يجب أن يسير دائما صوب الشمال في دروب من أثر دروب السيارات التي سبقته في هذا المهمه المترامي إلى ما وراء الخيال من آفاق النظر، واختلط الأمر على صاحبي لما رأى الدرب يتشعب أمامه طريقين، يتيامن أحدهما ويظل الآخر في استقامة انطلاقه، وأشار على السائق أن يتيامن، لكن الشيخ صالح القزاز أمره أن يتابع الدرب المستقيم، واتبع السائق مشورة الشيخ صالح؛ لأنه أدرى بدروب هذه المنطقة، ولأن السائق يذكر يوما منذ سنوات سار فيه في هذا الطريق إلى عشيرة ولم يتيامن.
وانقضت ساعة وتنصفت الأخرى ولم يلقنا في الطريق إنس ولا جان، وأغرانا صمت البادية بالحديث، فسألت أصحابي: أتنهمر السيول في فصول منتظمة حيث نسير؟ وكان جوابهم أن السيول تنهمر أحيانا حتى لا ضابط لها، لكنها غير منتظمة الفصول، وقد تنقضي السنة ولا يبلغ ما ينهمر منها ربع الشبر، وقد يبلغ هتنها في بعض السنين ما تضيق به البادية ذرعا، قلت: فما بالكم إذن لا تحاولون حكم الطبيعة بالعلم فتقيمون من السدود ما تدخرون به الماء إلى حين حاجتكم إليه؟! وتبسم القوم ابتسامة مريرة، وقالوا: «يجب قبل أن نحكم الطبيعة أن نبلغ من العلم حظا يطوع لنا حكمها، وأن يكون لنا مع العلم حظ من المال لإنفاقه فيما يقضي العلم أن ننفقه فيه، وأن يكون في البلاد مع العلم والمال استقرار ويد عاملة، وليس لدينا اليوم إلى شيء من ذلك كله سبيل، وقد ألف أهل هذه البلاد من حياة البادية ما لا يهون عليهم أن يستبدلوا به ما هو خير منه، ونجد التي حكمت الحجاز ليست أحسن منه حالا في العلم ولا في المال ولا في الرجال ولا في الاستقرار، أما وهذا قضاء الله وقدره في بلاد بها بيته الحرام وقبر نبيه - عليه الصلاة والسلام؛ فليس لنا إلا أن نذعن لأمر قضاه ولا مرد له من دونه، وحسبنا أن تهوي أفئدة من الناس إلى البلد الأمين حتى يقضي الله بأمره وهو أحكم الحاكمين.»
وبدت عن بعد صخور سوداء في لون الجرانيت البركاني الفاحم، تلك حرار عشيرة فيما قال صاحبي، وإذن فقد بلغنا غايتنا أو كدنا، ولوى السائق عنان السيارة إلى اليمين ثم انطلق بها ميمما نصبا قائما، وبدا فيما وراء النصب فوهتان لبئرين هما بئرا عشيرة ، أما الفوهتان فبنتهما حكومة ابن السعود بناء صالحا، وأما النصب فتذكار لهذا البناء نقش عليه ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم، أمر بعمارة هذه الآبار صاحب الجلالة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن فيصل آل سعود ملك المملكة السعودية العربية سنة 1353.
وعلى مقربة من هذا النصب ومن البئرين وقفت السيارة وهبطنا منها نجوس خلال هذا المكان.
وقلت لصاحبي: «أما أن المكان صالح لقيام عكاظ به فأمر لا ريب فيه؛ فهذه البادية الفسيحة تتسع لسوق عالمية تقام بها في عصرنا الحاضر، ووجود هذه الآبار يدل على أن الماء هنا يكفي حاجة الذين يقيمون السوق عشرين يوما أو يزيد، وها هنا طريق لنجد وآخر للمدينة، لكن بعد المكان عن الطائف وعن طريقها إلى مكة يجعلني في ريب من أن عكاظا كانت تقام به، ونحن ها هنا على مسيرة يومين من الطائف؛ فقد كانت السيارة أثناء مسيرنا تقطع ستين ميلا في الساعة وتزيد على ذلك أحيانا، وقد قضينا نحو الساعتين، فإذا قدرنا أن المسافة من الطائف إلى العشيرة مائة ميل، بل ثمانين، بل ستين، لم تستطع الإبل أن تقطعها في يوم واحد، ثم إن ما بين هذا المكان وميقات الإحرام لا يجعل الفرار منه إلى الحرم في سويعات ميسورا، وقد فرت قريش أول عام للفجار واحتمت بالحرم من هوازن، ولو أن عكاظا كانت في هذا المكان للحقت بها هوازن قبل أن تلوذ بالحرم، أما والروايات متفقة على أن الفجار وقعت بعكاظ وأن بين الطائف وعكاظ مسيرة يوم بالإبل، فالقول: بأن عكاظا كانت تقام به مرجوح عندي، وهو مرجوح أكثر من القول بأن عكاظا كانت تقام بوادي عقرب على مقربة من أم الحمض.»
ولم يبد صاحبي اعتراضا على هذا الرأي، وإن لم يمل إلى ترجيح أم الحمض على عشيرة، فإذا كانت أم الحمض في طريق الطائف إلى مكة، وكان ما بينها وبين الطائف أدنى بمسيرة الإبل يوما مما بين الطائف وعشيرة، فإن وقوع عشيرة على طريق القوافل من المدينة ونجد إلى مكة والطائف يجعلها أدنى إلى الترجيح، هذا إلى أن تقدير الأبعاد بمسيرة الإبل ليس مما يعتمد عليه أو يصلح حجة قاطعة في رأيه.
وإنا لنجيل الطرف في هذه الحرار المحيطة بعشيرة حينا ونعود إلى حوارنا آخر، إذ مرت بنا قافلة من الأعراب يركبون الحمر يقصدون نجدا فيما ذكروا، ولقد ترجلت امرأة منهم حتى رأتنا وأقبلت تسألني عن آلة التصوير، واستوقفت قافلتها كيما أصورهم، ولما رأتني أدخن طلبت إلي سيجارة، فأنكرت عليها أن تكون امرأة وتدخن، وأن يدخن من يكون في حكم النجديين، فابتسمت في خبث وقالت: إنها تريد أن تمضغ التبغ لتخفف بمضغه ألما بأسنانها، وسألتها: كم بينها وبين نجد؟ فأجابت إن الأمر في ذلك للمسير والمرعى، وعادت شعثاء غبراء فركبت حمارها وتقدمت القافلة، وسايرها كلب ظل ينبحنا حتى بعد القوم عنا.
وبينا نأخذ أهبتنا لتعود بنا السيارة إلى مفرق عشيرة فالسيل الكبير لنسأل أهلها: أحقا أن لعكاظ مكانا معروفا عنده، إذا سائق السيارة يذكر أنه سمع في إحدى جولاته قوما من أهل اليمن يقولون: إن عكاظا تقع في جنوب الطائف، وسألنا: أليس في برنامجنا أن ننحدر اليوم فنسأل عن موضعها هناك؟ وهل يعرفها أحد؟ وسخرت وسخر أصحابي من قوله وحسبناه يهذي، وأمره الشيخ صالح في لهجة حازمة أن يجعل السيل الكبير وجهته، وكيف يكون قد سمع شيئا من هذا الذي يقول والروايات مجمعة أن عكاظا تقع بنخلة بين مكة والطائف، والطائف تقع إلى الجنوب الشرقي من مكة، فحتم أن يكون ما بين مكة والطائف كله إلى ناحية الشمال من الطائف، على أن السائق أصر على أنه سمع ما روى لنا، وإن اتجه في طريق السيل.
وما كان أشد عجبي حين رجعت بعد ذلك إلى الكتب القديمة فألفيت روايته واردة في بعضها، وأيقنت لذلك أن أهل اليمن لم يكذبوه حين قصوا عليه هذه الرواية، فقد ذكر ابن رستة صاحب كتاب «الأعلاق النفيسة»، وهو من كتاب القرن الرابع، وصفا للطرق التي تصل بين مكة والطائف فقال في تصوير أحدها: «تأخذ على بئر ابن المرتفع ثم إلى قرن المنازل، وهو ميقات أهل اليمن للإحرام - وقرن المنازل في عصرنا الحاضر ميقات أهل نجد - ومنها تعدل إلى الطائف، والطائف مخلاف من مخاليف مكة وعمل مكة مما يلي نجد نجران، وقرن والفتيق وعكاظ والطائف ... إلخ.» وروى الأزرقي قال: «قال أبو الوليد: وعكاظ وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء في عمل الطائف على بريد منها، وهي سوق لقيس بن عيلان وثقيف وأرضها لنصر.» وللإدريسي خريطة وضعها لبلاد العرب قد يتعذر اليوم علينا أن نحل رموزها وأن نعرف على التحقيق مواضع الأماكن المبينة فيها؛ على أن العالم المستشرق الألماني مولر قد عني بدراستها ورسمها على النحو الذي ترسم به اليوم خرائطنا، وحرر عليها أسماء البلاد التي حررها الإدريسي على خريطته، وعكاظ تقع على هذه الخريطة إلى الجنوب من الطائف مع ميل قليل إلى ناحية الشرق، ووضعها هذا يصور ما أورده ابن رستة في أعلاقه النفيسة، وهذا تصوير لا يتفق مع ما قيل من وقوع عكاظ بين مكة والطائف، ويبعد كل البعد عن الروايات التي صورت مكانها بينهما سواء كانت بوادي عقرب أو بعشيرة أو بالسيل الصغير أو بالسيل الكبير.
أما المستر فلبي فيرجح السيل الصغير موضعا لعكاظ، وهو قد وضعها على خريطته في مكان هذا السيل إلى جانب موضع أسماه أثيرية، ولقد سألت أصحابي عن هذا الاسم فلم يذكروه، وإنما ذكروا المتواتر على ألسن الناس من أن عكاظا كانت تقوم بالسيل الصغير في مكان يعرف الآن باسم القهاوي، وهو في هذا الموضع الذي حدده المستر فلبي، والمستر فلبي إنما حدد هذا المكان لتواتر الرواية عنه؛ لا لأنه حقق مواضع عكاظ وحاول الترجيح بينها، وهو يعنى في وضع الخرائط بالواقع اليوم ولا يعنى بروايات التاريخ ولا بما فيها من خلاف، وهذا السيل الصغير صالح لقيام عكاظ به لكثرة مياهه ولانفساح البادية عنده، وهو يقع على مسيرة يوم من الطائف وثلاثة أيام من مكة بسير الإبل، فلا جرم أن رجحت الرواية المتواترة عنه غيرها من الروايات عن وادي عقرب وعشيرة وطريق اليمن، لكن رواية أخيرة تكاد ترجح عندي هذا التواتر ، أو هي على الأقل تدعو المتخصصين إلى مزيد من العناية والبحث لعلهم يهتدون إلى الحق في أمر هذه السوق التي كانت تعقد في الجاهلية، والتي ظلت تعقد أجيالا بعد الإسلام، والتي لا تزال علما على حياة ونشاط في التجارة والأدب يجعلان أهل العربية يتناقلون جميعا أنباءها.
وهذه الرواية الأخيرة هي التي تذهب إلى أن عكاظا كانت بالسيل الكبير أو على مقربة منه، ولم أقم لهذه الرواية كبير وزن حين سمعتها بعد الذي رأيته من تعدد الروايات السابقة وتهافت بعضها، غير أن الشيخ صالح القزاز كان يبدي من الميل لتصديقها ما جعلني أتطلع لتحقيق أمرها، وزاد في تطلعي ما قصه علينا، والسيارة تنطلق متجهة إلى ناحية السيل، من أنباء ترامت إليه عن وجود آثار باقية يذكر الذين رووها بأنها أبلغ دلالة على عكاظ من كل رواية أو نبأ، وبلغنا مفرق عشيرة عند ديار القمثة على مقربة من السيل الصغير، وانحدرنا من ريع ذات عرق، فاحتوتنا الجبال في ذلك المضيق الذي أعاد إلى ذاكرتي جبال أبواب الحديد على نهر الدانوب، وفي المضيق لقينا قطيع من الإبل قيل: إنه للأمير سعود ولي عهد المملكة العربية السعودية، وإنه يقصد نجد، وما كان أشد عجبنا أن تروع سيارتنا قطيع ولي العهد حتى ليلقي بعير منها براكبه أرضا، وطالما مررنا بقوافل يملكها رجال البدو فلم ترعها السيارة ولم تزعجها عن اتئاد مسيرها، قال صاحبي: «لعل هذه الإبل الناعمة بمراعي نجد والحجاز لم تعود من يمر بها مقتحما طريقها، فهي تفزع لمرأى من تحسبه يغير عليها، مثلها في ذلك مثل المترفين الذين لم يروا في الحياة عنتا فهم يضطربون لأيسر ما يفاجئهم منه.» وانفرجت الجبال عن السيل الكبير فتخطت السيارة إليه ووقفت في موقفها يوم مجيئنا من مكة إلى الطائف.
وتناولنا الشاي و«البسكوت»، ثم تناولنا شربة من ماء وجلسنا نتحدث، في حين أخذ السيد صالح القزاز يسأل عن موقع عكاظ القريب من هذا السيل، وبعد لأي دله القوم على عربي من بني سعد اسمه بادي ويقيم بالسيل، ووعدناه رزقا حسنا، فانطلق معنا يدل السائق على الطريق الذي يسير فيه، واستدرنا بالسيارة فيما وراء الجبل ثم اعتدلنا نقطع بطنا من الأرض كله حسك العشر وما إليه من شجر البادية، حتى خاف حسن أن يصيب السيارة من الحسك أذى، ووقفنا بإشارة بادي في موضع يقال له: «الخر» من واد يقال له: «غسلة» وراء جبل يسمى «دما»، وهبطنا من السيارة وسرنا خطوات وراء بادي، ثم وقفنا عند آثار بناء في تخوم الأرض مستوية مع سطحها يدل وجودها على وجود عمارة قديمة في المكان تتألف من ثماني غرف حسنة البناء ليست في شيء من منازل البدو، قال صاحبي بعد أن زرنا هذه الآثار: أشهد أني أميل إلى ترجيح قيام عكاظ بهذا المكان، وأحسب هذه الغرف الفسيحة كانت مقام سادة السوق، قلت: لعلك تبالغ إذ رجحت، وإن كنت أوثر أن تقوم هيئة علمية بحفريات تحقق بها تاريخ هذه الآثار والغرض الذي أنشئت له.
عدنا نقصد إلى مكة وأنا أفكر في هذه الآثار؛ فهي أول ما شهدت من نوعها في هذه البلاد، بنيت من الآجر ومن حجر أحمر جيء به من هذه الجبال المجاورة بناء يشهد ما بقي منه بإتقانه وحسن نظامه، ترى في أي عصر كان تشييده؟ وأي بطن من بطون العرب أقامه ها هنا حيث لا يمر اليوم أحد؟ إنه يرجح عندي قيام عكاظ بهذا المكان وإن لم يقم سندا علميا على هذا الترجيح، أم لعله رسم درس لمدينة قديمة عفت الأنباء على ذكرها وظلمها التاريخ بنسيانها!
بلغنا حرم مكة وهذه الأنباء عن عكاظ وتاريخها وموقعها تداعب خيالي، فلما تخطينا الشرائع وبلغنا مفرق الطريق إلى الجعرانة ذكرنا مجنة وذا المجاز، ولم أنس حين ذكرتهما قول الكلبي: «كانت هذه الأسواق بعكاظ ومجنة وذي المجاز قائمة في الإسلام حينا من الدهر، فأما عكاظ فإنما تركت عام خرجت الحرورية بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف الأزدي الإباضي في سنة تسع وعشرين ومائة، خاف الناس أن ينهبوا وخافوا الفتنة فتركت حتى الآن، ثم تركت مجنة وذو المجاز بعد ذلك، واستغنوا بالأسواق بمكة وبمنى وبعرفة.» أين كانت تقع إذن مجنة؟ وأين كان يقع ذو المجاز؟ نقل الأزرقي قول الكلبي: «ومجنة سوق بأسفل مكة على بريد منها، وهي سوق لكنانة وأرضها من أرض كنانة، وهي التي يقول فيها بلال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة
بفخ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوما مياه مجنة
وهل يبدون لي شامة وطفيل
وشامة وطفيل جبلان مشرفان على مجنة، وذو المجاز سوق لهذيل عن يمين الموقف من عرفة قريبة من كبكب على فرسخ من عرفة.»
سألت أصحابي عن مواقع هذين السوقين فيما نعرفه مما حول مكة، فلم يجدوا في تحديد موقع ذي المجاز مشقة، فهو على يمين الموقف من عرفة، وهو إذن في موضع سوق عرفة اليوم أو يكاد، أما مجنة فاختلف القوم في تحديدها، قال أحدهم: إنها تقع عند الجعرانة، وقال الآخر: إنها تقع فيما وراء التنعيم حيث الشهداء والزاهر اليوم.
ولم يثر بي التطلع إلى تحقيق موضع مجنة ما ثار بي إلى تحقيق موضع عكاظ، فقد خشيت أن أعود من بحثي بمثل ما عدت به من عكاظ من ترجيح رأي على رأي دون القطع بأي منها، ثم إن مجنة لم تكن يوما ذات أثر في الأدب العربي ولا في التاريخ العربي كما كانت عكاظ، فهي لم تزد على أنها سوق في جوار مكة يجيء إليها الحجاج بعد انصرافهم من عكاظ في العشرين من ذي القعدة ويجيئون إليها محرمين قد نسوا خصوماتهم ومفاخراتهم وتوجهوا بقلوبهم إلى ربهم، وهذا موقف تنكر النفس فيه التنافس والحسد، وترغب فيه عن الأذى والخصومة، وقد ألف الناس ألا يعرف تاريخهم إلا آثار الحسد والتنافس وما يجران إليه من حروب ومنازعات، وما ينشأ عنهما من تطور إلى الكمال، فكأنما كتب على هذه الإنسانية ألا تبلغ الكمال المنشود، وألا تبلغ الخير المحبب إلى النفس الفاضلة إلا من طريق الشر والأذى، ولو عرف الناس التضامن وأقاموه مقام التنافس وبنوا صلاتهم على الإخاء الحق، لكان خيرا لهم وأدنى إلى ما توجبه كرامة بني جنسهم.
أقمت بمكة بعد العود من الطائف أعد العدة للرحيل إلى المدينة أزور بها قبر الرسول الكريم وأقف فيها على آثاره الخالدة، لم يبق لي إذن غير يومين اثنين أقضيهما في البلد الحرام، والله وحده يعلم أقدر لي أن أعود إليه؟! فلأنهل إذن من ورد ذلك الجو الروحي المصفى ما استطعت النهل، ولأتزود منه، وخير الزاد التقوى.
في مساء اليوم الأول لقيت الملك ابن السعود، فاستأذنته في مغادرة مكة، وشكرت له معونته ومعونة حكومته إياي في بحوثي، وصعدت إلى غار ثور في اليوم الثاني، فلما كان اليوم الثالث وكنت على أهبة السفر ذهبت إلى المسجد الحرام أطوف بالكعبة طواف الوداع، وألقي على البيت العتيق نظرة رجاء أن أعود إليه يوما، لعله يكون قريبا؛ لأنهل من نبعه الروحي كرة أخرى، ولأجد في القربى منه تجردا من الدنيا وتقربا إلى الله.
حقق الله هذا الرجاء، إنه على كل شيء قدير.
الكتاب الرابع
بين الحرمين
طواف الوداع
أما واليوم موعد الرحيل عن مكة فهلم إلى طواف الوداع، وخرجنا مع المطوف فطفنا ودعونا الله أن يغفر لنا، وأن يجعل لنا من العود إلى البلد الأمين والطوف ببيته المحرم قسما ونصيبا، وملت إلى حجر إسماعيل بعد تمام الطواف فصليت فيه، ثم صليت في مقام إبراهيم، وبعد أن أقمت زمنا أدعو وأستغفر انتحيت ناحية الفيء، وأقمت أفكر في هذا الرحيل من مكة وأستذكر أيامي السعيدة بها، وأية سعادة كهذا النعيم الروحي الماثل في كل رحابها، يتضوع بأريجه هواؤها، وتتحدث عنه أنباء الماضي في تاريخها، وينشر البيت العتيق شذاه في كل أرجائها!
وصرف التفكير في هذه السعادة الروحية عني إحساسا طالما دب إلى نفسي كلما ودعت بلدا احتواني وأنا في شك من العودة إليه، فقد كنت أشعر في مثل هذه المواقف بأن ما أفارقه ينهار بالنسبة لي في لجة ما لا نرى ولا نحس إلا خيالا وحدسا، كما أشعر بأن ما مضى من حياتي إلى ساعة هذا الوداع ينهار في لجة الزمن الذي لا يذر العالم لحظة من غير مور ولا تجدد، أما اليوم فكان إحساسي وتفكيري، وأنا بمجلسي من المسجد الحرام، بعيدين كل البعد عن معاني الانهيار وعن تصور الزمن لجة تبتلع الحياة والأحياء، لقد انبسط الزمن أمام بصيرتي وحدة جمعت الماضي والمستقبل، وانكشفت أمام الروح في بساطة دونها بساطة المكان ووحدته، تدركها بل تراها إذا جلست في غرفة ضيقة للإذاعة اللاسلكية، تسمع فيها وتشهد منها عن طريق «التليفزيون» كل ما شئت أن تسمعه أو تشهده في أنحاء العالم المختلفة، ليس للزمن ولا للمكان إذن لجة، بل روحنا هي هذه اللجة التي تسع الزمان كله والمكان كله، ما عرفنا أن نسمو بها فوق مادة الحياة الدنيا المحدودة بالزمان والمكان، وأين يتيسر للإنسان هذا السمو ما يتيسر له أمام البيت العتيق وفي هذا المسجد الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا؟!
في الحق أن ليس في العالم كله موقف يطوع للروح أن تسمو فوق حجب الزمان والمكان ما يطوعه لها هذا الموقف الذي أنا فيه، وليس ذلك لسر في الحجارة التي بني البيت العتيق منها، فالحجارة مادة، والمادة تنهار وتتجدد، ولقد جدد بناء هذا البيت غير مرة، إنما يطوع للروح هذا السمو فكرة التوحيد التي قام البيت رمزا لها منذ رفع إبراهيم القواعد منه وإسماعيل، وفكرة التوحيد هي الحقيقة السامية، الحقيقة الأولى، الحقيقة التي تتفرع عنها كل الحقائق، والتي يهتدي بها العلم والفن، وتهتدي بها الحياة كلها إلى وجه الله الأكرم، يسبح له - جل شأنه - من في السموات والأرض، لا إله إلا هو الكبير المتعال، نعم! فكرة التوحيد هي المركز الذي تنجذب إليه العوالم وسننها والكون وأطواره، والذي تتجه إليه ذرات هذا الوجود كلها مسبحة مقدسة، والفكرة روح وليست مادة، ومعنى وليست جسدا؛ وهي لذلك سامية في خلودها فوق المادة المصورة والصورة المجسدة؛ ولذلك يبقى رمزها بيت الله العتيق لا تعدو عليه عادية، ولا يصرف الإنسان عنه صارف، وكيف تنصرف الإنسانية عنه وهو يمثل خير ما فيها وأسمى معانيها؟!
ولقد حاول غير واحد من أولي البأس والسلطان في عصور مختلفة أن يصرفوا الناس عن هذا البيت فذهبت كل محاولاتهم هباء، ذلك بأن فكرة التوحيد تستقر في أعمق الروح الإنسانية وإن اختلفت مظاهر العقائد التي تدين بها جماعاتها، وهذه المحاولات إنما دفع إليها التنافس التماسا للغلب المادي في الحياة الدنيا، والتوحيد لا يعرف التنافس ولا يرقى إليه الغلب؛ لأنه يسمو بطبعه فوق كل غلب، والتنافس على المادة من مظاهر هذه الحياة الدنيا وأعراضها الزائلة التي لا تتعلق الروح ولا الفكرة بها، بذلك بقي البيت العتيق رمز التوحيد، لم تعد على الحقيقة العليا التي يصورها أوهام الحياة، ولم تخفها الأكداس التي رانت عليها زمنا حين كانت الوثنية الجاهلية صاحبة الغلب؛ لأنها تسمو على الزمن ولا تأبه لما يجيء وينقضي مما لا بقاء له؛ ولأنها أزلية خالدة، فرمزها باق لذلك بقاء الخلود.
كان تبع بن حسان ملك ملوك حمير عائدا من حرب شن غارتها على الأوس والخزرج بيثرب، فلما كان على مقربة من مكة حدثته نفسه بهدم الكعبة - وكان يهوديا - فمنعه من كان معه من أحبار اليهود أن يهدم بيت التوحيد، فكساه وعاد إلى بلاده.
وبنت غطفان في القرن الأول قبل الهجرة حرما كحرم مكة وحاولت أن تصرف العرب إليه، وبلغ ذلك ملكا على العرب اسمه زهير بن حباب فقال: «لا والله، لا يكون ذلك أبدا وأنا حي.» واتبعه قومه حين قال لهم: «إن أعظم مأثرة ندخرها عند العرب أن نمنع غطفان من غرضها.» وقاتل غطفان وظفر بهم وأبطل حرمهم.
فلما استقل أبرهة الأشرم قائد نجاشي الحبشة بأمر اليمن، سولت له نفسه أن يقيم بصنعاء بيتا للنصرانية يصرف به العرب عن بيت مكة، وبنى القليس بها وزخرفه وجلب إليه فاخر الأثاث، وظن أنه صارف أهل مكة أنفسهم عن بيتها، فلما رأى العرب جميعا لا يتجهون إلا إلى البيت العتيق، ورأى أهل اليمن يذرون القليس ولا يعتبرون حجهم مقبولا إلا بمكة، تهيأ للحرب في جيش من الحبشة تقدمه على فيل عظيم وسار يريد هدم الكعبة ، وبلغ مكة وأنذر أهلها أن يخلوا بينه وبين البيت ليهدمه، وأخلى أهل مكة مدينتهم، وأصبح أبرهة يريد أن ينفذ عزمه، فإذا جيشه قد تفشاه مرض الجدري وبدأ يفتك به فتكا ذريعا، وأصيب أبرهة بما أصيب به قومه، فعاد أدراجه إلى اليمن فزعا؛ وبلغ صنعاء وقد تناثر جسمه من المرض ولم يقم إلا قليلا حتى لحق بمن مات من جيشه؛ وصدقت كلمة عبد المطلب جد النبي: «إن للبيت ربا يحميه.»
ولقد فشت الدعوة القرمطية بالعراق على عهد العباسيين، وجعل أصحابها يرمون بالكفر من لم يكن على مذهبهم في موالاة محمد بن الحنفية ابن علي بن أبي طالب، وكان أبو طاهر القرمطي أول من ظهر من هؤلاء الدعاة في أيام المقتدر العباسي، ولقد بنى أبو طاهر دارا في هجر، من مدائن البحرين، سماها دار الهجرة، وأراد أن ينقل الحج إليها، وكان يقصد الطرق المؤدية إلى مكة ويفتك بحجاج البيت الحرام، بل سارت عساكر القرامطة في جيش لجب إلى مكة أيام الحج، ودخل أبو طاهر الحرم ووضع السيف على بغتة من الناس في الطائفين والعاكفين والركع السجود، وقتل نحو ثلاثين ألفا بمكة وشعابها، واقتلع باب الكعبة وجرده مما كان عليه من صفائح الذهب، بذلك دب الرعب في القلوب، وصار الناس لا يجدون إلى الحج سبيلا آمنا فانقطعوا عنه؛ لكنهم لم ينصرفوا إلى دار هجر، فلما مات أبو طاهر ورأى قومه العبث في محاولته تحويل الحج عن الكعبة أعادوا الحجر الأسود إلى مكة، وكان أبو طاهر قد نزعه من الكعبة وأخذه معه، وعاد الحج إلى بيت الله كما كان.
ولما اهتم عبد الملك بن مروان بعمارة قبة الصخرة في جوار المسجد الأقصى، وبالغ في زخرفتها ظن بعضهم أنه يفعل ذلك ليصرف أهل مصر والشام إلى حج القبة والمسجد الأقصى، وذلك إذا تمت الغلبة لابن الزبير فرد الملك إلى الحجاز وإلى أهل بيت النبي، أما وقد تمت الغلبة لبني أمية وبقي الناس يحجون البيت العتيق، ويولون وجوههم شطره فالمسلمون في ريب مما نسب إلى عبد الملك بن مروان من هذه المقاصد، وهم كذلك في ريب مما ظنه بعضهم من أن المنصور العباسي بنى القبة الخضراء إلى جوار قصر الذهب الذي شاده ببغداد، وأنه بالغ في زخرفتها ليولي الناس وجوههم شطرها؛ إذ لم يرد في التاريخ من أعماله ما يؤيد هذا الظن.
وإنما باء أبرهة ومن سبقه ومن لحقه بالإخفاق في مآربهم من صرف الناس عن بيت الله؛ لأنهم كانوا يرمون من ورائه إلى غاية سياسية، والغايات السياسية موقوتة مصيرها إلى الزوال؛ وهي لذلك لا تستند إلى أساس ثابت في قرارة النفس الإنسانية، ولا تمثل المعنى الروحي ولا الحقيقة العليا التي يتعلق بها الفؤاد ويتوق إليها القلب، يستوي في ذلك قلب الساذج وقلب العليم، ونفس الغوي ونفس الطهور، أما فكرة التوحيد التي يقوم هذا البيت العتيق رمزا لها فهي الفكرة الخالدة المبرأة من الهوى، والتي تمثل الحقيقة في أسمى صورها؛ ولذلك تتحطم على جوانبها كل محاولة ترمي إلى إفسادها ثم يبقى رمزها خالدا تتعلق به القلوب وتتوجه إليه الأبصار من أقطار الأرض جميعا.
دار ذلك بخاطري وأنا بمجلسي من فيء المسجد أرنو بعينين سعيدتين إلى هذه البنية التي رنا إليها خاتم الأنبياء والمرسلين، والتي رفع أبو الأنبياء خليل الله قواعدها، وانقطعت عن التفكير هنيهة كأنما كنت أهضمه أثناءها وأسيغه وأستمتع بجماله وسحره، وإني لكذلك إذ أشرق أمام بصيرتي نور خلته منبعثا من هذه الكعبة المشرقة القائمة أمامي، وخلتني أقرأ خلال هذا النور وأحدث نفسي بما يلي: «الآن أدركت لماذا حرم الله مكة وجعلها مدينة السلام لا يحل فيها القتل والغزو والأسر، ولا يحل فيها سفك الدم ولا التعرض لصيدها أو نباتها أو حيوانها، وأدركت لماذا قال - عليه الصلاة والسلام - وهو يخطب الناس يوم الفتح: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما أو يعضد فيها شجرا.» ذلك بأنها رمز التوحيد وبيتها هيكله، والتوحيد سلام لذاته، ولا سلام إلا أن يجمع الناس على الإيمان به، فأما التعدد فتنافس ولو في الخير، والتنافس نضال، والنضال حرب.
فإذا جاز لبلد في العالم إذن أن يكون مدينة السلام فذلك مدينة التوحيد، بالتوحيد تتوجه الإنسانية كلها إلى وجه واحد، هو وجه الله - جل شأنه، فإذا صدقت في توجهها إليه تحاب بنوها، وسموا بالحب فوق المنافسات، وما تجر إليه المنافسات من حقد وبغضاء وتحاسد، وبرءوا مما تدفع هذه العواطف الدنيا إليه من تنابز بالألقاب، وتكاثر بالأموال، وتسابق إلى الجاه والسلطان، وكيف يهوي إلى هذا الدرك من يبغي وجه الله وحده، ومن يجعل تقوى الواحد الأحد رداءه في أعماله وأقواله ودخائل نفسه؟! وكيف يهوي إلى هذا الدرك من يكمل إيمانه فيحب لأخيه ما يحب لنفسه، وكيف لا تسمو الإنسانية إلى مقام الحب والسلام إذا آمنت بالتوحيد وجعلته سنتها، وجعلت بيت الله رمز التوحيد قبلتها؟! ألا ما أبلغ هذه العبارة التي يرددها الإنسان من أعماق قلبه أول ما يدخل الحرم ويستقبل الكعبة لطواف القدوم: «ربنا، منك السلام وإليك السلام، فحينا ربنا بالسلام.» ما أبلغ هذه العبارة وما أعمق معناها وما أعظمها سموا لقوم يعقلون! اللهم هداك خلقك وزدني تثبيتا وإيمانا.»
وانطلقت أفكر بعد أن أتممت هذا الحديث النفسي: لقد أفضيت أول ما نزلت بالبلد الحرام إلى وزير المالية وإلى الملك ابن السعود برأيي أن تكون مكة مقرا لعصبة الأمم الإسلامية، وهذا واجب تقضي به حياة المسلمين في عالم اليوم، ولكن! ترى لو أن الإنسانية كلها التمست يوما مقرا لعصبة الإسلام، أفتجد خيرا من مكة بلدا ليكون هذا المقر؟! لقد اختارت عصبة الأمم الأوروبية جنيف من أعمال سويسرا مقرا لها؛ لأن سويسرا محايدة، ولقد طمعت عصبة الأمم الأوروبية في أن تقر السلام فيما بينها عن طريق التفاهم في جنيف وإن لم تفز بإقرار السلام في ربوع العالم مما وراء أوروبا، إلا أن يهدد اضطراب السلام مصالح الأمم الأوروبية، ولقد بذلت الدول المشتركة في العصبة جهودا كبيرة في سبيل السلام، فقررت وسائله في عهد العصبة وفي ميثاق التحكيم وفي محكمة العدل الدولية، وحاولت أن تجعل من التفاهم المشترك بينها جميعا حينا، ومن التفاهم الثنائي حينا آخر، سببا للاحتفاظ بالسلام، مع ذلك ذهبت جهودها هدرا، وباءت من مقاصدها السلمية بالخيبة، وارتدت إلى سياسة التسلح والسلام المسلح، وإلى النظرية القائلة بأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب.
ارتدت إلى هذه السياسة طوعا أو كرها وهي تعلم أنها سياسة كاذبة خاطئة، فلماذا؟ لأن فكرة السلام ليست قائمة في أنفس بنيها وساستها على أساس من الإيمان بالسلام، وليست تصل السلام بمبدأ أسمى يكون من أمر الله وسنته في الكون، ويجعل السلام غرض الإنسانية في توجهها إلى الكمال، إنما تحركت النفوس في أوروبا إلى السلام رهبا من أهوال الحرب، وفزعا مما تجني الحرب على المصالح المادية، اقتصادية ومالية، وأهوال الحرب تنسيها متع السلم، وكما تجني الحرب على المنافع المادية فالحرب تحقق هذه المنافع وتشحذ النفوس إلى طلب المزيد منها، طبيعي إذن أن تخفق سياسة السلام إذا قامت على هذا الأساس، وإنما تنجح هذه السياسة وتستقر يوم تجمع الإنسانية على التوحيد ويكمل إيمانها به، ثم يكون الأساس لكمال هذا الإيمان أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، وأن يذكر الناس جميعا أن سعادتهم في إيمانهم الحق بالله، وأن يكون ذكرهم هذه الحقيقة عن علم ويقين، لا عن ترويج ودعاية غايتهما تحكم طائفة في طائفة أو استعلاء قوم على آخرين.
يوم تجمع الإنسانية على هذا مؤمنة بأنه من أمر الله، ويوم تئوب به إلى الله من خطاياها، يومئذ تتم كلمة الله ويكون الدين كله لله، ويومئذ تكون مكة رمز التوحيد ومقام هيكله، مثابة الناس قاطبة من أمم الأرض جميعا، فتكون بذلك مقر السلام المطمئن طمأنينة الإيمان، ومقر عصبة الأمم الإنسانية كلها.
تاقت نفسي حين بلغت من تفكيري هذا المبلغ أن أقوم فأطوف بالبيت كرة أخرى شكرا لله وحمدا، واستعانة إياه على مزيد من الهدى وعلى معرفة الحقيقة من كل جوانبها لعلها أن تنكشف لي كاملة، فأستطيع بعونه أن أحدق في نورها وأن أبلغ الرضا بالنهل من باهر ضيائها، وطوقت ثغري ابتسامة سعيدة حين هممت أن أفعل، فقد كنت أسأل نفسي عن الطواف ما حكمته؟ فأقف عند قول بعضهم: إنما الحج ومناسكه أمور تعبدية تغيب عنا حكمتها ولا سبيل للعقل إلى فهمها، لشد ما يخطئ أصحاب هذا القول! فنحن إنما نطوف بهيكل التوحيد لنرى حقيقة التوحيد من كل جوانبها، صحيح أن هذا الهيكل رمز وأن جوانبه كلها تتشابه، لكننا لا نستطيع أن نواجه الحقيقة لذاتها قبل أن نرى رمزها، ولا نستطيع أن نحيط بها كاملة دون أن نطوف بها من كل جوانبها، فإذا فعلنا أتيح لنا أن نبلغ لبابها وصميمها، كما أن الحاج لا يدخل الكعبة قبل أن يطوف بها، فالطواف إذن طريق الإحاطة بالحقيقة العليا التي يقوم البيت العتيق رمزا لها وعلما عليها.
على هذا النحو فكرت في أمر الطواف وحكمته، وإن لم أر شيئا من مثله فيما قرأت من الكتب، ولعلي لا أجد فيها شيئا يشبهه إلا أن يكون ذلك في كتب الفلاسفة والمتصوفة ومن إليهم ممن يرون الفكرة حقيقة ملموسة، بل يرونها وحدها الحقيقة الملموسة دون سواها، فأما المادة وأطوارها ومظاهرها فإلى مور دائم واستحالات متصلة لا يقر لها معها قرار، ونحن نعيش في بيئة من المادة، فنحن متأثرون بها وبأطوارها، وتفكيرنا متصل بما حولنا منها اتصالا يحول بين الأكثرين والتجرد للسمو إلى ما فوق هذه البيئة التي تجعلنا نرى الأشياء في ضوئها وبالنسبة لها، ولا نرى الحقائق الخالدة مما وراءها.
ولئن كشف العلم اليوم عن حقيقة قررها القرآن وكررها، وهي أن سنن الكون ثابتة، وأنك لن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنته تحويلا، لقد بقي التفكير الإنساني متأثرا بنسبية البيئة المادية تأثرا لا يسهل التخلص منه والسمو عليه، والأقلون الذي يستطيعون هذا السمو ممن عالجوه في الماضي لم يعالجوه على طريقتنا العلمية الحديثة التي تقرب الحقيقة إلى العقل - وإن دقت واستعصت - بل على طريقة ذاتية فيها التجرد وفيها بلوغ مراتب الإشراق الروحي مما لا يتيسر للمجموع دركه، ولو أن طرائقنا العلمية استطاعت أن تقرب الحقائق التجريدية إلى الأذهان على نحو من الثبوت يصور الأمور المجردة للحس، كما قرب الأثير إلى الذهن وحدة المكان عن طريق الإذاعة، إذن لهان أن يبلغ مجموع الإنسانية من إدراك الحقيقة العليا والحقائق المتصلة بها ما لم يصل إلى إدراكه في الماضي، وما كان وقفا على طوائف قليلة من المثقفين، بل على أفراد معدودين من هذه الطوائف.
أما والطواف رمز للإحاطة بالتوحيد ابتغاء الوصول إلى لبه، أما وللتوحيد بوصفه عقيدة ما رأيت من أثر في حياة الإنسانية وسعادتها وسلامها، فللطواف - وهو ركن من أركان الحج - حكمة بالغة.
والطواف الواجب طواف العمرة، وهو طواف القدوم، وطواف الحج وطواف الإفاضة، ويجمع بعضهم بين طواف الإفاضة وطواف الوداع؛ ذلك بأن طواف الإفاضة لا موعد له بعد عرفة ومنى، فمن الناس من يقوم به يوم النحر - كما فعلت - ومنهم من يرجئه إلى ما بعد أيام النحر، ولقد طاف النبي طواف العمرة وطواف الإفاضة وطواف الوداع في حجة الوداع، فكانت هذه أسوة ثابتة يجري عليها المسلمون يؤدون بها الركن والواجب والسنة، بل إنهم ليطوفون بالبيت طول مقامهم بمكة ما استطاعوا الطواف؛ فهم يطوفون قبل كل صلاة من الصلوات الخمس، وهم يطوفون كلما دخلوا المسجد، ويطوفون وهم في المسجد مرات عدة قبل الصلاة وبعدها، ولا عجب أن يفعلوا وقد رأى ابن بطوطة حين وجوده بمكة وزير غرناطة وكبيرها أبا القاسم محمدا الأزدي يطوف كل يوم سبعين مرة.
خرجت من المسجد بعد طواف الوداع وبعد أن دعوت الله أثناءه أن يكتب لي العودة إلى بلده الحرام والطواف ببيته العتيق، أعد العدة للخروج من مكة إلى المدينة، وأودع بعد البيت أصدقاء كانوا أثناء مقامي عندهم خير ما أرجو كرم ضيافة وحسن لقيا ودوام تأهيل وترحيب، كما كان الكثيرون منهم نعم العون لي في بحوثي، بما أسدى بعضهم من معلومات، وما أهدى بعضهم من كتب، وما أرشد إليه بعضهم من مصادر.
وقد ودعتهم وودعت مكة راجيا أن يكتب الله لي العودة إليها راضي النفس مطمئن القلب سعيدا أن فتح الله لي أثناء المقام بها آفاقا من الشعور والتفكير ما كان أحوجني إلى أن تنفتح أمامي! لأرى من خلالها هذا العالم العظيم الجليل؛ عالم الحقيقة والرضا.
طريق المدينة
خرجنا إذن من مكة عصر يوم الإثنين الثالث والعشرين من شهر مارس بعد أن ودعني بدار مضيفي من أنست إليهم وأنسوا إلي من شباب مكة، وصحبنا مضيفي في السيارة إلى دار وزير المالية بجرول، واستقبلنا الشيخ عبد الله سليمان بترحاب، وزودني بعد القهوة بخطابات من جلالة الملك إلى أمير المدينة عبد العزيز بن إبراهيم وإلى أمير خيبر ليعاوناني فيما أريد أن أقوم به من مباحث، وأهدى إلي ساعة ذهبية عليها اسم جلالة الملك ابن السعود، وستارا من كسوة الكعبة، وخرج يصحبني ويصحب الشيخ عباس قطان إلى باب الدار، فلما أردت أن أستأذنه مودعا وأشكره على جميل ضيافته ألفيته يشير إلي كي أركب معه سيارته، ولقد تأثرت نفسي لهذا التلطف غاية التأثر، وذكرت إذ ذاك هذا البيت الذي تمثل به الشيخ محمد صالح القزاز ساعة وصلنا الطائف:
يا ضيفنا لو زرتنا لوجدتنا
نحن الضيوف وأنت رب المنزل
وأبديت ما خالج فؤادي من عرفان الجميل لوزير المالية، فرد تحياتي بأحسن منها في لسان عربي بدوي وقع من نفسي أبلغ موقع، وأقلتنا سيارته حتى جاوزنا أبواب مكة، هنالك نزلت منها وكررت آي الشكر له ولمضيفي الشيخ عباس قطان، وركبت سيارتي مع والدتي والشيخ عبد الحميد حديدي ومطوفنا الشيخ إبراهيم النوري، فلما بلغنا الشميسي وقفت السيارة أمام فندقها، وألفينا عنده جماعة من أصدقائي شبان مكة؛ ليودعوني على حدود موطنهم بالمدينة المقدسة، وبعد أن تبادلنا التحية والشكر كروا بسياراتهم راجعين إلى مكة، وعادت السيارة تجري بنا في الطريق صوب جدة، لكننا ما نزال في وضح النهار، وهذه الشميسي هي الحديبية حيث كانت بيعة الرضوان، وحيث عقد الرسول أول عهد له مع قريش، فنزل فيه الوحي بسورة الفتح، ولقد حال الجهد وتقدم الليل والشوق إلى دخول مكة دون وقوفي عندها يوم نزلت الحجاز، أما وفي مقدوري الآن أن أنزل بها وأقف عندها فهذه فرصة لن أضيعها.
ولم يثنني عن ذلك ما قرأته أثناء وجودي بمكة في «شفاء الغرام» للفاسي من أن مسجد الشجرة والحديبية لا يعرفان الآن، فلو أن مثل هذا القول صدني عن الوقوف عند أثر مأثور لوليت وجهي عن الآثار المأثورة جميعا فيما خلا الحرم وحراء وثورا؛ لذلك نزلت بعد قليل من مغادرة السيارة فندق الشميسي قبالة مسجد الرضوان فإذا هو مشيد من حجر أزرق متين على طراز مساجد مكة؛ لكن متانته وحسن عمارته يجعلانه يبدو للنظر أكثر اتصالا بالحياة منها، وهو أفسح رقعة من أكثرها؛ لذلك قامت به ثلاثة عقود وضعت فوقها البواكي لتمسك سقفه، ومحرابه أدق فنا من محاريب تلك المساجد. ولا عجب في ذلك وبناؤه لا يرجع إلى أكثر من مائة سنة بشهادة ما نقش بأعلى هذا المحراب مما نقلته في فصل «ظاهر مكة».
والمشهور - على رغم ما يقوله الفاسي - أن هذا المسجد يقوم في الموضع الذي كانت تقوم فيه شجرة الرضوان؛ وهي الشجرة التي نزل فيها قوله - تعالى:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ، ولم تبق هذه الشجرة في موضعها بعد وفاة الرسول إلى أكثر من عهد عمر بن الخطاب حين خشي أن يتخذها المسلمون إلى الله زلفى كما كان يفعل الجاهليون بأصنامهم، فأمر بقطعها.
ولنزول هذه الآية في المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة سميت البيعة بيعة الرضوان والشجرة شجرة الرضوان، ولا عجب أن يخشى عمر تقديس المسلمين هذه الشجرة؛ فقد كانت بيعة الرضوان من أروع ما عرفه التاريخ في سيرة الرسول - عليه السلام، ولقد تمثل لي هذا المشهد في كل روعته وأنا بموقفي فوق الهضبة التي قام المسجد عليها، فازددت له إكبارا وبه إعجابا، فها هو ذا محمد على رأس المسلمين قد خرجوا جميعا من المدينة محرمين لا يحمل أحد منهم سلاحا إلا ما يحمل المسافر من سيف مغمد، وها هم أولاء قد انطلقوا في طريق مكة يلبون وقد ساقوا الهدي أمامهم سبعين بدنة بعد أن مازوا جوانبها اليمنى.
انظر إليهم؛ لقد قطعوا البيداء حتى بلغوا عسفان؛ وهذا رجل يجيب الرسول إذا سأله عن أنباء قريش: «قد سمعوا بمسيرك فخرجوا معهم العوذ المطافيل قد لبسوا جلود النمور ونزلوا بذي طوى يعاهدون الله لا تدخلها عليهم أبدا، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموها إلى كراع الغميم.» ويعجب الرسول لأمر قريش ويقول: «يا ويح قريش! لقد أهلكتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر العرب، فإن هم أصابوني كان ذلك الذي أرادوا، وإن أظهرني الله عليهم دخلوا في الإسلام وافرين، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة، فما تظن قريش؟ فوالله، لا أزال أجاهد على الذي بعثني الله به حتى يظهره الله أو تنفرد هذه السالفة.» إنه الآن يرى فرسان مكة على مرمى النظر فينادي في الناس: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» وهو يفعل إيمانا منه بحرمة مكة مدينة السلام وحرصا منه لذلك على أن يدخلها معتمرا لا مقاتلا، ويخرج رجل من المسلمين فيسلك بهم طريقا وعرا بين شعاب مضنية حتى يبلغ بهم سهلا عند منقطع الوادي، ثم يخرج بهم على ثنية المرار مهبط الحديبية من أسفل مكة.
والآن ماذا أرى؟ لقد كان ما شهدت حتى الساعة أدنى إلى صورة ترتسم أمام الخيال ثم تتجسم وتدب فيها حياة كحياة صور السينما، أما الآن، فإنني أرى! نعم! أرى بعيني، وأسمع بأذني، ويهتز كل وجودي لما أرى وأسمع، فهؤلاء ألفان من المسلمين مقبلين علي وأنا بموقفي من هضبة الحديبية، محرمين كلهم، يلبون كلهم، وعلى رأسهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ممتطيا ناقته القصواء يتقدمهم ومن فوقه غمامة تظله ... رحماك ربي! ماذا عسى أن أصنع؟ أأتقدم من هذه الناقة وأمسك بخطامها وألتمس من الرسول الكريم دعوة صالحة تشفع لي عند ربي؟ أأجثو أمامه ضارعا إليه أن يبارك علي؟ أأسرع إلى قدمه فأمسك بها وأوسعها تقبيلا؟
جالت هذه الخواطر برأسي وأنا مضطرب النفس شارد اللب لا أكاد أعي أين أنا؟ ولا من أنا؟ ثم استجمعت كل قوتي ورفعت بصري فحدقت في معالم هذا الوجه، فإذا نور ينبعث من عينيه الوضاءتين، وابتسامة عذبة راضية تطوق ثغره الجميل، وإذا أذناي تسمع في وضوح وجلاء:
إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد ، وإذا هو يلتفت إلي ويقول ما كان يقوله لأصحابه إذ يقومون حين يقدم عليهم: «لا تقوموا كما يقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضا، ولا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم؛ إنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا: عبد الله ورسوله.»
وإذا أصحابه من حوله ينظرون إليه نظرة حب وإجلال وتقديس وإكبار، لكنها نظرة أخوة خالية من كل عبودية، ونظرة إسلام لله وما يوحيه إلى عبده ورسوله، لا ترى على سيما أحدهم مذلة، ولا تلمح في نظر الذين ينظرون إلى النبي وجلا أو خوفا، بل ترى محبة دونها كل محبة، لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، لا يسقط من شعره شيء إلا أخذوه، وهم يتسابقون إلى ذلك أمامه كما يتسابق الأبناء البررة إلى محبة أبيهم البر الرحيم، هم إذن لا يقبلون قدمه، ولا يفعلون شيئا مما يفعل الأعاجم الذين اعتادوا النظر إلى كسرى وإلى عماله كأنهم آلهة الشر يخشونهم كخشية الله أو أشد خشية، بل يحبونه كما يحب أحدهم نفسه وأهله، وأكثر مما يحب نفسه وأهله، هنالك تراجعت ووقفت أحدق في هذا الجمع حول الرسول وأنتظر ما عساهم يصنعون.
وبدت آيات الغضب على سيما بعضهم والتفكير في منازلة قريش حتى يحكم الله بينها وبينهم، أما الرسول فاستمسك بخطة السلم والجنوح عن القتال إلا أن تهاجمه قريش وتستبيح حرمة مدينة السلام، وترسل قريش رسلها فيحاولون صرف المسلمين بالحسنى عن دخول مكة، ثم يعودون وقد رأوا بأعينهم أن المسلمين إنما جاءوا زائرين للبيت معظمين لحرمته، ثم يحاولون إقناع قريش بأن يخلوا بين هؤلاء المسلمين والبيت العتيق.
ولم ترض قريش رأي رسلها، فبعث محمد إليها برسول من عنده ، فأساءت إليه وعقرت بعيره، ولم ييأس محمد مما صنعوا ، فبعث إليهم عثمان بن عفان يفاوضهم، وطال احتباس عثمان عن المسلمين، فظنوا أن قريشا غدرت به في الشهر الحرام عند المسلمين وعند العرب جميعا، ودخل في روع النبي ما دار بأخلاد القوم جميعا فقال: «لا نبرح حتى نناجز القوم.» ونادى فيهم ليبايعوه على ذلك.
انظر إنهم يتزاحفون إليه يريد كل أن يسبق صاحبه إلى البيعة، لقد امتلأت نفوسهم حماسة ونظراتهم حدة وعزما، وهو واقف تحت الشجرة يتلقى بيعتهم مغتبط النفس مطمئن القلب مما يرى، ها هم أولاء فرغوا من البيعة، وها هو ذا يضرب بإحدى يديه على اليد الأخرى بيعة لعثمان كأنه حاضر معهم، والآن انصرف القوم ينظمون صفوفهم ويعدون للقتال عدتهم، يا لهم من جنود بواسل في سبيل الله! ما أعذب ابتسامة أبي بكر! وما أحد نظرة عمر! ما هذا؟ إنهم يحدقون إلى ناحية مكة كأنما يريدون أن يحرقوا أهلها بلهب نظراتهم، أم تراهم يلمحون عند الأفق شيئا أو شبحا؟ نعم! إنه رجل ... إنه عثمان بن عفان مقبلا، لم تقتله قريش إذن، بل هو يبلغ للنبي رسالتهم أنهم أيقنوا أنه وأصحابه إنما جاءوا حاجين معظمين للبيت، وأنهم لا يملكون منع أحد من العرب عن الحج والعمرة في الأشهر الحرم، ولكن ما حدث من مناوشات بينهم وبينه يجعل العرب تتحدث إذا خلت قريش بينه وبين مكة بأن قريشا انهزموا أمامه، وفي هذا من تهوين أمرهم في نظر العرب ما لا طاقة لهم باحتماله، فليرجع المسلمون هذا العام وليعودوا عامهم المقبل، فلن تحول قريش بينهم وبين البيت.
ويرضى النبي عن سفارة عثمان، وتوفد قريش سهيل بن عمرو للمفاوضة وتدوين شروط الصلح، وتقع محادثات طويلة يغيظ بعض المسلمين أمرها، ويبلغ من ذلك أن يقول عمر بن الخطاب لأبي بكر: «علام نعطي الدنية في ديننا؟!» ويجيبه أبو بكر: «يا عمر، الزم غرزك؛ فإني أشهد أنه رسول الله.» ويجيب عمر: «وأنا أشهد أنه رسول الله.» وهو لا يرضى عما يرى، ويتم عهد الحديبية ويوقعه الرسول ، ويعود المسلمون منصرفين إلى المدينة وأكثرهم لهذا الصلح كارهون ، وإنهم لفي طريقهم إذ نزل الوحي على الرسول بقول الله - تعالى:
إنا فتحنا لك فتحا مبينا * ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا
إلى آخر سورة الفتح؛ وفيها يقول الله - تعالى:
لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما . ويقول - تعالى:
إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها وكان الله بكل شيء عليما * لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين لا تخافون فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا * هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا * محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما .
وسمع المسلمون إلى كلام الله في سورة الفتح فاطمأنوا ورضوا، وذهب عن الغاضبين منهم الغضب، وعادوا إلى المدينة ينظرون اليوم الذي يعودون فيه إلى مكة العام المقبل.
لا عجب، وذلك ما حدث، أن يخشى عمر تقديس المسلمين شجرة الرضوان تقديسا يبلغ عبادتها وأن يأمر لذلك بقطعها، وما له لا يفعل وهو الذي قال وهو يقبل الحجر الأسود بالكعبة: «أنا أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقبلك ما قبلتك!» وهو الذي لم يرض أن تجمع أحاديث الرسول وسنته اكتفاء بكتاب الله، وهو الذي أراد أن يظل الإسلام لله مطهرا، مظهره الإيمان العقلي المبرأ من كل مظهر من مظاهر الوثنية.
وآن لنا أن نعود إلى السيارة في طريقنا إلى جدة، ولقد بلغناها والليل ساج والأماكن القليلة التي تضيئها الكهرباء هي وحدها المنيرة وسط الدجنة المنتشرة لا يهون منها ضوء مصابيح الطرقات إلا قليلا، ولقينا أصحابنا المصريون بجدة، ودعاني قنصل مصر لتناول طعام العشاء عنده مع جماعة أزمعوا ركوب البحر في غدهم إلى أرض الوطن، وأقمت لحظة عند صاحب الدعوة، وغادرته إلى منزل الشيخ عبد الله سليمان بجدة حيث تركت متاعي، وعرفت مكان نومي، ثم عدت إلى بني وطني وأنا مشوق أي شوق للقياهم، وتحدثنا وتناولنا طعام العشاء، ثم جلسنا نسمع الإذاعة من مصر ونلتمس في موسيقيها وفي أغاني المغنين من بنيها وبناتها النشوة والطرب، فالإذاعة محرم سماعها بمكة؛ لأن مذهب ابن عبد الوهاب يحرم الطرب، فلا أقل من أن يحرمه الوهابيون في الحرمين، أما جدة فمرفأ يباح للناس من كل الأديان أن ينزلوا به، فلا تثريب عليهم أن يسمعوا الإذاعة من مصر ومن باريس ومن لندن ومن حيث شاءوا، هذا تصور قد يبدو عجيبا لأولي المنطق، فالحرام حرام حيث كان، والحلال حلال حيث كان، لكن المنطق يجب أن يتسع لمناطق الشك، وأن يعتبرها حرما آمنا تتجاور فيه الحرمات، وجدة ومرافئ الحجاز كلها من مناطق الشك حيث تتجاور حرمات الشرق وحرمات الغرب، وحرمات الله وحرمات حضارة هذا الجيل، فليتجاور فيها طرب المذياع الذي يسمعه الناس جميعا مع الطرب المستور بين الجدران والطرب الحلال عند أهل نجد، وليتسامح أهل هذا الطرب وأهل ذاك، فالتسامح وحده سبيل اليسر في عيش الجماعة.
وفي بكرة الصباح أقلتنا السيارة وتبعها «البكس» فخرجنا من جدة في طريق المدينة، وسألت صاحبي: أين نلتقي بطريق القوافل الذاهبة من مكة؟ فقال: إنما نلتقي بها عند القضيمة بعد أن تتخطى القوافل وادي فاطمة فعسفان إليها، وسألت: أللمدينة طريق غير هذه التي نسلكها اليوم وتسلكها القوافل؟ فعلمت أن لها طرقا أربعا: هذه التي نسلكها وتسمى الطريق السلطاني، والطريق الفرعي، وطريق الغاير، والطريق الشرقي، وإنما غايتي من هذا السؤال أن أعرف الطريق التي سلكها الرسول في هجرته، وفي عمرته، وفي فتح مكة، قال صاحبي: ليس التحديد الدقيق يسيرا، فهذه الطرق تختلط بعضها ببعض كما تختلط طريق السيارة وطريق القوافل، ومن اليسير على من شاء أن يعدل عن أي الطريقين إلى الأخرى أثناء سيره، وسترى من أسماء الأماكن التي تمر بها ما تستطيع معه أن تعين ما مر به الرسول - عليه السلام - منها.
كانت السيارة تنطلق مسرعة فوق أرض رملية خطتها دروب من عجل السيارات التي تجري طول أشهر الحج فيها، وإلى يميننا امتدت الرمال إلى الأفق فما تقف دون النظر هضبة ولا قمة، وامتد البحر الأحمر عن يسارنا مطمئنا هادئ الموج يحول البعد عنه بيننا وبين صريف أمواجه، وحاذينا محلة قال صاحبي: إنها الكراع فيما يسمونه اليوم، وكراع الغميم على عهد الرسول، ها هنا إذن وقف فرسان مكة وعلى رأسهم خالد بن الوليد عام الحديبية، ومن هنا اتجه النبي على رأس أصحابه إلى طريق الحديبية اتقاء الالتقاء بخالد وجيشه حتى لا يقاتل المسلمون وهم محرمون بعمرة، لكنا لم نبلغ القضيمة بعد، أفكانت الطريق على عهد الرسول غير الطريق اليوم؟ أم أن خالدا وفرسانه أرادوا أن يحصروا محمدا وأصحابه بينهم وبين مكة؟ أغلب الظن أن تكون الطريق قد تغيرت إن صح أن هذا الكراع كراع الغميم، فقد نادى الرسول في أصحابه حين رأوا فرسان قريش: «من رجل يخرج بنا على طريق غير طريقهم التي هم بها؟» وقد سلك المسلمون إلى الحديبية طريق ثنية المرار، فوجدوا في سلوكها جهدا ومشقة، هم إذن خرجوا من الطريق المألوفة لهم والتي لم تصبح طريق القوافل في يومنا الحاضر.
وتخطينا بعد الكراع دهبان ثم تول وبلغنا القضيمة، وكنا أثناء ذلك على مقربة من الشاطئ لا يكاد يغيب عنا، وأغراني ذلك بالسؤال عن القديد أين هي؟ فللقديد في نبأ هجرة الرسول ذكر وأثر، عندها أدرك سراقة بن جعشم محمدا وأبا بكر ليعود بهما إلى مكة أسيرين أو يقتلهما فيفوز في الحالين بالإبل المائة التي جعلتها قريش لمن يرد محمدا إلى مكة حيا أو ميتا بعد فراره منها وإخفاق فتيانها في العثور عليه، وعندها كبا جواد سراقة بفارسه كبوة عنيفة طرحت الفارس أرضا وجعلته يتطير ويؤمن بأن الآلهة مانعة منه ضالته، هنالك وقف ونادى المهاجر العظيم وصاحبه: «أنا سراقة بن جعشم، أنظروني أكلمكم، فوالله لا أريبكم ولا يأتيكم مني شيء تكرهونه.» وطلب إلى محمد، فأمر أبا بكر فكتب له كتابا يكون آية بينه وبين النبي، وأخذ سراقة الكتاب وعاد أدراجه، وجعل يضلل الذين يطاردون محمدا وصاحبه كيلا يلحق بهما منهم أحد.
وزاد في إغرائي ما ذكره الأزرقي عن القديد عند كلامه عن مناة صنم الأزد وغسان، فقد ذكر أن عمرو بن لحي نصب مناة على ساحل البحر مما يلي قديدا، وقد أثبتت الخرائط قديدا على مقربة من عسفان، على أن صاحبي لم يجد ما يجيبني به، مما دلني على أن قديدا ليست معروفة عند أهل الحجاز من معاصرينا، هذا على أنهم أكثر الناس تعليقا على سيرة الرسول، حتى لتراهم يضيفون إليها ما لم يرد في رواية ولا في كتاب، وتفسير إغضائهم عن قديد وغيرها من الأماكن المتصلة بالسيرة أن هذه الأماكن ليست مواضع لزيارة الحجاج وتبركهم، فهي لا تدر أخلافها من الرزق ما يدعو أهل الحجاز إلى تحقيق أمرها وإضافة الروايات والأحاديث إليها.
انطلقت السيارة من القضيمة ميممة رابغا - بعد وقفة يسيرة في «مقهى» تناولنا فيه الشاي والقهوة - وانطلقت في سرعة دونها سرعة البرق؛ لأن مياه البحر تغمر رمال الشاطئ في هذه المنطقة فتجعله صلبا صلابة الأسفلت، وتجعله تحت عجل السيارة أكثر لينا ونعومة، ولولا أماكن في الطريق بعد ما بينها وبين الشاطئ فلم يكسبها تسرب الماء إليها ما أكسب الرمال القريبة منه من تماسك وصلابة، ولولا أماكن أخرى تعاون السيل والسيارات الثقيلة فيها فقلبا رمالها ظهرا لبطن، إذن لبلغنا رابغا من القضيمة فيها دون الساعتين، لكن هذه الأماكن المتقطعة في الطريق كانت تضطر السائق ليسير الهوينى بين حين وآخر، فإذا استوى إلى أرض صلبة أطلق لعجلات السيارة العنان فانطلقت تسبق الريح وتذرها وراءها تصفر من شدة الغيظ، ولولا هذه الأماكن المتقطعة لما أملنا جدب الطريق، جدب لا تقع العين فيه على شيء يلفت النظر، لكن هذه الأماكن المضطربة بالرمال المتقلبة، وهذا الجدب الممحل الذي يمل النظر، جعلانا نشعر إذ نبلغ رابغا بحاجة إلى الراحة لا تقل عن حاجتنا إلى الطعام.
وزاد في سأمنا الطريق منظر كان يتكرر كلما هون السائق السير ووقف ليرى ما يصنع بالرمال المحيطة بعجلات السيارة، ذلك منظر المتسولين من أهل البلاد، فهم يعدون بالمئات وبالألوف، بل هم يخطئهم العد، وأنت ترى الطريق خاليا منهم، حتى إذا هدأ سير السيارة رأيتهم نبتوا على جانبيها، وما تدري أأنبتتهم الأرض أم قذفت بهم الهضاب من أعاليها كما تحط السيول الأحجار من القمم العالية، ومنظر هؤلاء المتسولين قل أن يثير في النفس عاطفة الرحمة، وإن كانوا يجيئون إليك عراة أغلب أمرهم ليس عليهم لباس إلا ما يستر العورة، فأما النساء والبنات فيتقدمن كاسيات ولكنهن لسن دون الرجال والشبان إلحافا ومسألة، وهم يقبلون على السيارة تسابقها سيقانهم الدقيقة وقد مدوا أيديهم يصيحون: «يا حاج، يا بويا، هلله، وحياة النبي، بالسلامة ...» إلى آخر الأنشودة التي حفظوها على كر السنين عن ظهر قلب، يتوارثها الأبناء عن الآباء، والحفدة عن الأجداد، ولولا أن الحجاج، والحاجات بنوع خاص، يشعرون بأن الإحسان إلى هؤلاء المتسولين من تمام الحج، وأن فيه استجابة لقوله - تعالى:
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم
لرغب أكثرهم عن بذل الصدقة لهؤلاء المتسولين، وأكثرهم أصحاء مفتولو العضل أقوياء البنية، وأكثرهم يرى هذا التسول صناعة مباحة للارتزاق، ويرى فرضا على هؤلاء الحجاج أن يحسنوا ويعطوهم، وإذا كان شيء في هذه الظاهرة النفسية يثير الإشفاق فليس ذلك ما عليه هؤلاء المتسولون من فقر لا يعلم أحد مداه، بل ما هم عليه من جهل وتدل في مراتب الإنسانية إلى حضيض ما أجدر القائمين بالأمر في الحجاز أن ينزهوا أهل الحجاز عنه! سموا بالإنسانية عن المذلة، وبالإسلام عن الهوان.
فهؤلاء المتسولون إنما هم بعد من بني الإنسان، وهم بعد مسلمون، والإسلام يأبى على بني الإنسان أن يبلغ التفاوت بينهم حتى يكون أحدهم حيوانا أو دون الحيوان مكانة، في حين ينعم الآخر ببلهنية العيش ومتع الحياة وبأسباب الترف جميعا، وهؤلاء المتسولون دون الحيوان في تصورهم الحياة وفي إدراكهم ما حولهم، أقبل أحدهم يلهث نحو حاج ويقول مستجديا: «وحياة النبي!» فسأله الحاج: ما اسم النبي؟ فبهت السائل في بله ولم يحر جوابا، هو إنما يكرر كلمتين - وحياة النبي - تكرارا آليا كما يكررها الببغاء أو «الفونوغراف» دون أن يعرف لهما معنى أو مدلولا، وهو يجري سائلا يلتمس القوت كما يلتمسه الكلب، وقد كان صاحبه قاطع الطريق يجري قبل عهد الوهابيين يلتمس القوت نهبا كما يلتمسه الذئب، بل لعل هذا السائل أحط في قدر الإنسانية من المجرم إن جاز أن تعقد مثل هذه الموازنة، فالمجرم حيوان مفترس والمتسول حيوان مهين، فإذا هما تساويا في الحيوانية فالمفترس - لا ريب - خير مكانا من الذليل المهين.
وأحسب هذه المراتب الإنسانية الدنيا منتشرة ها هنا حيث الجهل ضارب أطنابه، لقد سمعنا جميعا اسم رضوى يتكرر في الشعر العربي القديم، ولا يزال الكثيرون منا يتغنون بثبير ورضوى كما يتغنون بجبلي نعمان، ولعل من شعرائنا المصريين في العصور المتأخرة من ورد اسم رضوى في شعره، ذكره حين أراد أن يتخيل جبلا أو يتمثل ما يدل الجبل عليه فكان اسم رضوى أقرب إلى ذاكرته من اسم سيناء، ذكر لي من عرفت بالحجاز حديثا عن رضوى أثار مني كوامن الدهشة جميعا، فهذا الجبل يمتد في طريق المدينة إلى ينبع، ومنطقة المدينة وما حاذاها أكثر اتصالا بالحضارة من كثير من مناطق بلاد العرب؛ لأنها أدناها إلى الشمال وأيسرها اتصالا بالشام ومصر، كذلك كانت في عهد النبي وفي صدر الإسلام، وكذلك هي اليوم، ولقد زار وزير المالية الشيخ عبد الله سليمان رضوى منذ سنوات قليلة، واستصحب معه أمين مكة الشيخ عباس قطان، كما استصحب قوة من الجند، وعدة للمقام من خيام وأدوات للطهي وطهاة ومن إليهم، وتسلق القوم إلى قمة رضوى فرأوا عجبا: رأوا قوما لم ينزلوا السهل حياتهم، ويرون في نزوله المعرة الكبرى، فإذا احتاجوا إلى شيء مما فيه فأتباعهم وضعافهم هم الذين ينزلون، ورأوا هؤلاء القوم يعيشون في الكهوف والمغارات عيش الحيوان المفترس، ورأوا أحدهم إذا ظفر بغنيمة مما كانوا يذبحون فر بها إلى كهفه وأوى إليه وانبعث ينهشها كما ينهش الحيوان المفترس فريسته، وجعل يذب عنها من يحاول اقتحام الكهف عليه بأن يدفعه برجله كما يفعل الذئب أو النمر، أفيتصور أحد هذه الحياة في بلاد العرب وعلى مقربة من المدينة؟! أما أنا فدهشت لها أول ما سمعت نبأها، ثم خفت دهشتي حين ادكرت من رأيت من الأعراب بالشفا من جبال الطائف، وما أحسب الفرق بين هؤلاء وأعراب رضوى ببالغ أن يثير الدهشة.
يأبى الإسلام أن يبلغ التفاوت بين بني الإنسان حتى ينكر بعضهم بعضا، ذلك أساسه في أمور الرزق، وهو أساسه في الحياة الروحية؛ فهو دين إخاء يرتفع بالإخاء إلى أسمى مراتبه، ويرى لذلك أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأين الإيمان في أمة يتناكر بنوها فينكر أحدهم أمر صاحبه، فإذا عرف أمره دهش له وأخذ منه العجب؟ وأين الإخاء في أمة يعيش نصف أبنائها حفاة عراة، رزقهم من التسول، وسعادتهم في الجهل، وطمأنينتهم إلى العيش في قنن الجبال، ويعيش النصف الآخر في حضر أو ما يشبه الحضر؟ ليس هذا من دين محمد في شيء، بل الإسلام عدو لهذا التفاوت الظالم وهذا التناكر الذي يمقت الإخاء ويمقته الإخاء، وإن دينا يدعو عمر بن الخطاب ليقول لعلي بن أبي طالب وقد اقتضاه غريم أمرا: «ساو خصمك يا أبا الحسن.» فيساوي علي خصمه في مجلس القضاء، وينكر على عمر أن يدعوه «أبا الحسن»؛ لما في الكنية من تعظيم لا يتفق مع المساواة، لأثبت أساسا من أن يقر تفاوتا مبلغه من الجور ما ذكرت، ويأبى هذا الدين أن يقر التفاوت الروحي؛ فهو لا يجعل لطائفة من الناس فضلا على طائفة إلا بالتقوى، ويجعل العلم وما يدعو إليه من تحاب في الله وقضاء على غرور النفس ببلوغ المعرفة الحقة أساس الهدى ومنارة الإيمان؛ لذلك كان العلماء فيه ورثة الأنبياء، والعلماء الصادقون كالأنبياء الصادقين يؤثرون هدى الناس على طمأنينة أنفسهم بل على حياتهم، ويبذلون من ثم للناس كل أسباب العلم حتى يبلغوا به غاية ما يستطيع المرء بلوغه من الهدى.
بلغنا رابغا بعد زوال الشمس بساعة أو نحوها، فلبغنا بذلك حضرا لم نر شيئا منه منذ تركنا جدة، وهو على تواضعه حضر يقف النظر عنده، فقد وقفت بنا السيارة أمام بناء فسيح يشبه السوق، في جانب منه مقاعد لمقهى يجلس الناس فيه يتناولون الطعام والشاي والقهوة، وإلى الجانب الآخر من الطريق قامت مبان أحدها مخفر البوليس، وبعضها حوانيت تعرض للبيع ألوانا شتى من الطعام وغير الطعام، وسألت أصحابي: أين نلتمس الراحة ونتناول الطعام؟ فأشاروا إلى بناء متصل بالسوق زعموه فندقا ... ودرنا نلتمس في هذا الفندق غرفة نأوي إليها، فإذا أنا أمام غرف حقيرة لا أدري مم بنيت، وليس يغطي أرضها حصير ولا ما دون الحصير، على أن أصحاب المقهى توسموا فينا الخير فجاءوا بحصير قديم نشروه في إحدى الغرف، وجئنا من متاعنا بسجاجيد الصلاة ففرشناها فوقه، وذكر أصحابي من أهل مكة أن برابغ سمكا صالحا للطعام يطهى لساعته، فطلبت إليهم أن يجيئونا منه بما يكفينا، وإنا لنعد لراحتنا ولطعامنا إذ أقبل علينا رجل الجندية فتقدم بالتحية وعرض علي ضيافته، وشكرته وأبديت له أني مطمئن حيث نزلت، وأن حاجتي إلى الراحة تمسكني دون القيام ودون اتباعه إلى شاطئ البحر أو إلى المخفر أو إلى أي مكان غير هذا المكان الذي أنا به، وابتسم الرجل وبادلني من التحيات ما ضاعف شكري، ثم تركنا وانصرف مكررا ساعة انصرافه أنه يود لو يكون في خدمتنا فيكون بذلك سعيدا.
وبعد صلاة الظهر تناولنا السمك الذي جاءوا به، ما أشهى الطعام على جوع وما أطيبه وأصحه! وملت بعد أن نلت شبعي فتمطيت على سجادة الصلاة أبتغي الراحة، فإذا بي أسرع إلى عالم النوم، واستيقظت وقد عاد لي نشاطي، والتمست الخريطة أقيس عليها ما قطعنا من جدة وما بقي لنا لنبلغ المدينة، قال صاحبي: «وما تجدي الخريطة في طريق شديد التفاوت بين الاستواء والوعث، وتستطيع السيارة أن تقطع عشرات الفراسخ كل ساعة في بعضه، وهي تعيا في البعض عن قطع فرسخ واحد في ساعة أو ساعات؟! وإنا لن نبلغ المدينة الليلة، والمسيجيد غاية ما نستطيع أن نبلغه إذا بلغ لطف الأقدار غايته، وقد نبيت بآبار بني حصان وقد لا ندركها، والأمر في ذلك كله لله، بيده تصريف الأمور.»
لم يثنني هذا الحديث عن الاطلاع على الخريطة، يا عجبا! كيف نسيت أن الجحفة على عهد النبي هي رابغ اليوم، أو أنهما تتجاوران؟ ومذ رأيت اسم رابغ نسيت حديث صاحبي وعدت بذاكرتي إلى عهد الرسول، وذكرت حديثا لهند بنت عتبة زوج أبي سفيان إذ يتشاور قومها من قريش قبيل خروجهم إلى غزوة أحد ويختلفون أتسير النسوة معهم، فتصيح هند بمن يعترض خروج النساء: «إنك والله سلمت يوم بدر فرجعت إلى نسائك، نعم! نخرج فنشهد القتال ولا يردنا أحد كما ردت الفتيات في سفرهم إلى بدر حين بلغوا الجحفة فقتلت الأحبة يومئذ.» نحن ها هنا إذن في الطريق الذي سلكته قريش إلى بدر وإلى أحد، ونحن ها هنا في الطريق الذي سلكه الرسول عام الفتح، فقد ترك العباس بن عبد المطلب قريشا وهي في جدل ماذا تصنع لاتقاء عدوة محمد على مكة، وسار يريد المدينة، فلقي جيش الفتح بالجحفة، هذا إذا كان الطريق المسلوك بين مكة ويثرب إلى الشام؛ وهذه الجحفة التي نقف الآن بها كانت موقعا ذا شهرة فيه، أما ولرابغ الشهرة اليوم فقد أنست الناس الجحفة وما وقع على عهد الرسول بها.
وقمنا بعد العصر، فانطلقت بنا السيارة إلى مستورة في طريق مستو يجاور البحر فهي تجري فيه تخطفه خطفا، وفي حذاء مستورة تيامنت السيارة مشرقة نحو بئر الشيخ، ومذ تيامنت بدأ الطريق يتعذر السير فيه؛ ذلك أننا كنا نبعد عن البحر إلى داخل تهامة، وكانت الرمال التي تسير السيارة عليها خلال هذه الصحراء غير مستقرة لكثرة ما تقلبها السيارات الثقيلة إذ يكثر مرورها بها في موسم الحج، وحيثما تعذر السير نبت المتسولون من جوف الأرض أو انحطوا من المرتفعات.
وبلغنا بئر الشيخ بعد غروب الشمس فجلسنا إلى مقهى بها تناولنا فيه الشاي وأقمنا حتى سجا الليل، فليس يضيق سائقو السيارات بشيء ضيقهم بالسويعة التي تلي غروب الشمس حين تختلط موليات النهار بإقبال الليل فينبهم النور وتنبهم الظلمة ويضطرب ضوء السيارة بينهما، وسأل السائق عن الطريق بين بئر الشيخ وآبار بني حصان ومبلغ صلاحها للسير بها، فاختلف أهل المقهى رأيا، وأشار أحدهم إلى أن طريقا منها لا يزال صالحا للسير فيه، وأن الطريق الآخر أفسدته السيول فلم يبق السير فيه مستطاعا.
ولم يكن إلى المبيت ببئر الشيخ سبيل إلا أن نظل ليلتنا في هذا المقهى، وإن أطقت أنا هذا المبيت وغامرت به فما عسى أن يكون أثره في صحة والدتي؟ ولقد ذكر القوم أن بالمحلة التي تلينا، محلة آبار بني حصان، فندقا للمبيت فيه، في ذلك استخرنا الله وقمنا إلى سيارتنا، لكنها لم تسر بنا إلا قليلا حتى ساخت في الرمل ولم تستطع حراكا، وأضاء السائق فنارها فإذا أمامنا ثلاث سيارات أصابها ما أصاب سيارتنا، ولقد جعل سائقوها يتعاونون ويعاونهم ركابها على دفعها للمسير، واللوريات في مثل هذه المواقف أسعد حظا، لارتفاع جسمها فوق الأرض على عجلاتها الكبيرة، وسموها لذلك عن أن يغوص بطنها في الرمال، وأقمنا حيث نحن، وذهب أصحابي يعاونون الذين تعطلت سياراتهم أمامنا ليقابلونا بالمثل فيعاونوا سيارتنا على الخروج من ورطتها، وقد أقمنا ساعة أو نحوها، ثم أذن الله بالفرج وخرجت السيارات من هذه العسرة التي أصابتها، وسرنا منطلقين في طريقنا وكل رجائنا أن نبلغ آبار بني حصان قبل منتصف الليل لعل النوم بفندقها يعوضنا عن جهد هذا النهار.
وانقضت ساعة أخرى والسيارة تجري ونحن ننعم بنسيم ما أرقه وأعذبه! نسيم البيداء الطلق الجاف الصحيح الذي يبعث إلى النفس النشاط والغبطة، والذي ينسي المسافر كل نصب وكل مشقة، وفيما نتحدث عن المدينة ومتى نبلغها غدا إذ السيارة تغوص مرة أخرى في الرمال، وحاول السائق مذ شعر باللجة الخطرة تحت مزالق العجلات أن ينجو منها بتحريك عجلة القيادة يمنة ويسرة لعل في تحرك العجلات ما يجنبها الغوص العميق، لكن هذه المداورة لم تفلح، وساخت السيارة وجعلت عجلاتها تدور حول نفسها في حركة رحوية غير مجدية، ونزل أصحابي يحاولون دفع السيارة إلى الأمام لعلها تجاوز منطقة الخطر، ومع ما بذلوا في ذلك من جهد شاق لقد ذهب جهدهم عبثا، وخيل إلي أني أستطيع معاونتهم، ودفعت معهم ولكن على غير جدوى، وبعد ساعتين ذوى فيهما الرجاء وذهب ما أنفقنا خلالهما من جهد سدى رأيت أن أستريح إلى اليأس من السير هذه الليلة وأن أسلم الأمر لله وأن أنام فوق الرمل على مقربة من السيارة، وسحبت سجادة الصلاة فجعلتها فراشي، وجئت بغطاء من الصوف التحفته وتمطيت وتغطيت راجيا أن تعيننا يقظة النهار على اجتياز هذه العقبة، وطاب لي هذا المقام، وذكرت به عشية عرفة لولا غياب القمر وانتشار الظلمة، وإن آنستنا نجوم السماء ببريقها الجذاب.
وإني لفي أحلام ما قبل النوم، أحلام حلوة مسعدة زادها صفو السماء في هذه الساعة حلاوة وإسعادا، إذ جاء إلي من أصحابي من يخبرني أن السيارة خرجت من لجة الرمل وأنها وشيكة أن تسير، ولما رأى مني الريبة في قوله ذكر أن عربة كبرى بها مفتش للطرق أدركتهم، وأن بها أداة خاصة لإنقاذ العربات المنكوبة في لجة الرمل، وأنها ردت عربتنا إلى الحياة والسير، وقمت بين مصدق ومكذب، فلما رأيت السيارة انتقلت من مكانها أيقنت أنها خلصت من براثن هذه الرمال، وأنها وشيكة أن تسير حقا، فأسرعت إليها، وسارت بنا تقصد آبار بني حصان ونحن في أشد الخوف أن ينشب الرمل براثنه في عجلاتها كرة أخرى، ولم تهدأ ثائرة الخوف في نفوسنا حتى رأينا أنوار آبار بني حصان، فلما بلغناها نادى مناد أن نميل لننام عنده، ولكن عنده مقهى لا يفضل مقهى بئر الشيخ، ونحن نريد الفندق، فندق آبار بني حصان، وأهبنا بالسائق أن يقصد توا إليه، وأنا أصور لنفسي غرفتي به وما سأناله بها من نوم مريح.
ووقفت السيارة أمام بناء اشتملته الظلمة قيل: إنه «الأوتيل»، ودق أحد الرفاق بابه ونادى أهله وطال به الدق والنداء، ولئن كنا في الثلث الأخير من الليل لقد عجبت كيف ينام الموكلون بفندق يأوي إليه الناس ساعات الليل وقلما يقفون عنده بالنهار؟! قال صاحبي: لا تعجب؛ فالفندق للحكومة والموكلون به عمالها، وهم يقتضون منها لذلك مرتبا لا يزيد بزيادة من ينزلونه ولا ينقص بنقصهم، وفتح الباب رجل عليه أمارات النوم، فلما عرف أمرنا جاء بمصباح ضئيل النور وتقدم يهدينا إلى غرف المنزل، وخطوت في أثره من الفضاء الذي كنا به بين جدران البناء وغرفه، ووسوست لي نفسي أن أرجع أدراجي وأن ألتمس تحت العراء مبيتا، أين هذا الهواء الطلق اللذيذ السائغ، هواء البادية الجاف الجميل، من هواء حبيس راكد بين الجدران؟! ولكني رأيت أحد أصحابي ينادي الخادم ليجيء بالطعام من «البكس»، وأحسست الجوع الشديد، فأهبت بالقوم أن يفتحوا نوافذ الغرف جميعا، ومددت بصري خلال نور المصباح إلى داخل الغرف فارتد يدعوني أن أهم بالعودة إلى العراء وهوائه الحر الطليق، فهذه الغرف الخالية من كل أثاث وفراش إلا من رمل لا شك أن رمل العراء أنقى منه، لا تشجع على المكث ولا على المبيت، لكن الجوع والجهد وما خافه أصحابي من أثر العراء في الصحة، كل ذلك ثناني عن تنفيذ ما أردت، قال أحدهم: لو أن معنا خيمة نضربها لكان الخير فيما تشير به، وشقادف الجمال تغني عن الخيام، أما وليس معنا هذا ولا ذاك «فالأوتيل» خير مكان لمبيتنا.
وتناولنا طعامنا، وفرشت سجادتي على حصير أكرمنا القوم بإحضاره، وأغفيت السويعة التي تفصل بيننا وبين الفجر، فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود قمنا جميعا إلى فرض الله، ثم تناولنا الشاي وبعض الطعام وخرجنا إلى الفضاء الطلق ننعم فيه بالهواء الحر والنور الوليد، وألفينا أمامنا واديا فسيحا تكتنفه الجبال وقد انحط بطنه عن الفندق بضعة أمتار، فالفندق يقع منه على أكمة تتحكم فيه، ورآني رجل من أهل الفندق أميل منظاري المقرب أهبط به إلى بطن الوادي تارة وأرتفع به إلى أعلى الجبل أخرى، وسمع أثناء ذلك حديث صاحبي عما لقينا من عنت أصابنا به غوص السيارة في الرمل، فقال: إنها سيول هذا العام أفسدت الطريق وكان من قبل صالحا، فقد انهمرت وبلغ انهمارها حدا لا عهد لنا به مذ عرفنا الحياة، وكات من ذلك أن ارتفعت المياه في هذا الوادي حتى غمرت سيارة من سيارات اللوري فمات بها اثنا عشر من راكبيها، وأن بلغت هذا الفندق وكادت توهن جدرانه لولا متانة بنائه.
عجبت لما سمعت وقلت: «وماذا كان يفعل آباؤكم الأولون وقد كان هذا طريقهم من مكة إلى يثرب وإلى الشام؟»
سكت رجل الفندق ولم يجب، إذا ذاك تولى صاحبي الجواب فقال: قل أن تنهمر مثل هذه السيول الجارفة المخربة، فسيول هذه البلاد هتانة حقا، لكنها سريعة أن تمسك سرعتها إلى أن تنهمر، فإذا أمسكت ابتلع الرمل الماء في دقائق، أما آباؤنا الأولون فلم يكونوا يعرفون السيارات، فلو أن سيلا جارفا كسيل هذا العام نزل بهم لصعدوا بالإبل في دروب الجبال حتى يبلغوا قننها إن أعوزهم الأمر.
وأمسك صاحبي هنيهة ثم قال: «هذا طريق ما بين مكة ويثرب؛ وغنك لحريص مذ هبطت الحجاز على أن تمر ما استطعت حيثما مر الرسول - عليه السلام، أفتذكر كم مرة مر بهذا الطريق؟»
قلت: نعم! ووجمت هنيهة أفكر: لقد مر بهذا الطريق ولا يزال طفلا في السادسة من عمره حين ذهب مع أمه آمنة يزور قبر أبيه بيثرب، فلما آن لهما أن يعودا منه ماتت أمه ودفنت بالأبواء، ومر به حين ذهب في الثانية عشرة مع عمه أبي طالب إلى الشام، كما مر به في الخامسة والعشرين حين ذهب في تجارة خديجة، وأقام بعد ذلك خمسا وعشرين سنة تباعا لا يقطعه، ولما هاجر من مكة والصديق معه جاوزه إلى طريق يساحل البحر خيفة أن تدركه قريش، لكنه عاد بعد ذلك منه عام الحديبية، ثم عام عمرة القضاء، ثم عام الفتح، ثم في حجة الوداع، ما أحفل هذا الطريق بالذكريات! لقد رأى النبي العربي طفلا، ورآه صبيا، ورآه شابا، ورآه نبيا، ورآه مجاهدا، ورآه حاجا بيت ربه مستغفرا إياه ضارعا إليه، ولقد رآه يوحي إليه ربه من كتابه هدى ونورا، وأنا أسير اليوم فيه ويسير عشرات الألوف من المسلمين فيه كل عام، وقل من يذكر منا ما يحفل به أو يذكر هذه الحوادث من أيام النبي، وكل واحدة منها عبرة، وفي كل واحدة منها مدكر، أوليس هذا نسيانا يجب أن نتنزه عنه إكبارا لذكرى الرسول الخالدة والتماسا لموضع العبرة والأسوة من سيرته وحياته؟!
ولو أن علم هذا العصر الذي سخر لنا قوى الطبيعة، استطاع أن يحلل ما ينطوي عليه الماضي، وأن ينقل إلينا ما نشاء من ذكريات على موج الزمن كما ينقل إلينا الأصوات التي نشاء من أقصى الأرض على موج الأثير، إذن لرأينا في هذا الطريق ما تهتز له القلوب وما تطير له الأفئدة تقديسا وإعجابا، إذن لرأينا الصغير محمدا يجلس مع أمه آمنة والبعير يسير بهما وبحاضنة الغلام أم أيمن قاصدا يثرب بخطاه الهادئة البطيئة، وآمنة تقص على ابنها نبأ أخوال أبيه من بني النجار بالبلد الذي إليه يقصدون، وتقص عليه كيف ارتحل أبوه إلى الشام في تجارته، وكيف عاد منها، وكيف مرض ومات ودفن عند أخواله، والصغير ينصت مأخوذا يدري ولا يدري، لقد رأى القوافل التي تذهب في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام، فهذا الرجل الذي تحدثه عنه أمه، عبد الله بن عبد المطلب، قد ذهب مع قافلة الصيف لا ريب، ترى كيف كان؟ وتجيبه الأم الرءوم أنه كان جوادا شجاعا وشهما كريما، بل كأن الشهامة والجود صور رجلا، وتقص عليه الأم من أخبار عبد الله ما ترجو أن يكون أسوة للابن ومثلا، فما أكبر أملها أن ترى هذا الصغير يكبر ليكون كأبيه؛ محبوبا من قومه، مقدرا منهم، عزيزا عليهم، حتى ليقفون دون إرادة جده حين أراد أن يذبحه وفاء لنذره وبره بقسمه! وما له لا يكون كأبيه وفي نظرته من قوة البريق ما كان في نظرة عبد الله، وفي نبرة صوته من الرقة والقوة ما كان في نبرة صوت أبيه؟!
وينقضي اليوم ويتلوه غده فينقضي كانقضائه وهم يقيمون ثم يسيرون لا يعجلون بعيرهم ولا يسأمون طول الطريق، وكيف يسأمون حياة هي حياتهم وبيئة هي بيئتهم؟! وكيف تسأم آمنة وهي تسير إلى قبر حبيب وهبت له نفسها، وكان لها في الحياة منه أمل عريض، فلم يمهله القدر أن اختطفه منها، وهي تتعلق - على رغم القدر - بأملها وتريد أن تصل بين الثاوي في القبر وقلبها، ويبلغون يثرب، وتزور آمنة القبر وتزيره صغيرها وتتحدث وإياه عنه، وتأوي معه إلى دور بني النجار، وهي ترى في الطفل محمد أحب صورة إليها من عبد الله، وترى فيه الحياة وبهجتها، والعزاء عن ألم الحياة وقسوتها، لا يجول بخاطرها أنها عما قريب ستلحق بعبد الله، لكنها لا تلبث حين تتحمل مع ابنها وحاضنته عائدة إلى مكة أن يصيبها المرض وأن يخترم حياتها، فيتعاون دليلها وأم أيمن على دفنها بالأبواء، ويلتمسها الصغير لتحدثه عن عبد الله فلا يجدها، ويلتمس من يحدثه عنها فتسري عنه أم أيمن لوعة اليتم من أبيه وأمه، حتى إذا بلغ مكة وجد في جده عبد المطلب وفي حنوه وعطفه أبا وأما.
ثم لرأينا محمدا في الثانية عشرة من عمره يسير مع عمه أبي طالب في هذه الطريق التي كنا نسير فيها، لكنه يسير هذه المرة في قافلة ذاهبة في رحلة الصيف كالقافلة التي سار فيها أبوه، ولا يسير وحيدا بل معه عمه كما كان مع أمه، وتتخطى القافلة سرف، وتتخطى وادي فاطمة، وتساحل البحر فتبلغ يثرب، ثم تتخطاها متخذة دروب البادية إلى الشام، وتحط القافلة رحالها ها هنا وهناك، ويسأل محمد حيثما سار وأينما نزل عما يحيط به ، فيجيبه عمه حينا، ويجيبه رفاقه في القافلة حينا آخر ، وأية وسيلة يقطع بها راكب الجمل طول الطريق كالتحدث وقصص الماضي والتندر بالأنباء؟! ولكل محلة تنزل بها القافلة حديث ونبأ، ولكثير من الأماكن قصص تذهب في بطون التاريخ إلى حيث يكاد التاريخ يضل فيها، ومحمد الصبي ينصت وقلما يتكلم، ويقلب ما يسمع على أوتار فؤاده ليرى مبلغ اتساقه مع ما يرى، وتبلغ القافلة حدود فلسطين ويرى فيها قوما غير الذين ألفهم في البادية؛ قوما عرفوا الحضر وصناعته، والاستقرار ونظمه، يتحدثون عن رومية وعن بزنطية وعن أديانهما ورسلهما، ويذكرون اليونان والرومان وحكمتهما وتشريعهما، ويذكرون موسى وعيسى والنبيين من قبل، وليس يشغله من أمر التجارة التي جاء قومه بها ما يصرفه عن التفكير فيما يرى ويسمع وعن استذكاره، ثم ينصرف مع القوم قافلين إلى مكة مارين بيثرب وبوادي فاطمة، وهو لا يفتأ يسأل عما يرى وإن كان أدنى في عودته إلى الصمت إمعانا في التفكير فيما رأى وسمع.
ويعود في الخامسة والعشرين إلى مثل هذه الرحلة في تجارة خديجة مع قافلة الشام، وتربح تجارته ويتزوج خديجة، لكن رحلة الصيف إلى الشام لا تستهويه ليعود إليها كرة أخرى، لقد عرف أنباء الشام واتصل بأهلها، وفكر فيما وقف عليه من ذلك كله، وهو رجل تأمل في المثل الأعلى، وليس تاجرا يغريه المال والاستزادة منه، فلترسل خديجة في تجارتها من تشاء وليقم هو بمكة على مقربة من البيت العتيق مفكرا متأملا منقطعا إلى تفكيره وتأمله، ثم ليتحنث في غار حراء حتى يوحي إليه ربه الأكرم أنه علم الإنسان ما لم يعلم.
وينصرف محمد عن هذا الطريق سنوات متوالية حتى يأذن له ربه بالهجرة، فإذا ارتد من غار ثور سلك طريقا غير الذي نسلكه نحن اليوم، نجاة بنفسه وبصاحبه من مطاردة قريش إياهما واقتفائها أثرهما.
ويعود إلى هذا الطريق بعد ذلك عام الحديبية، يعود إليها شيخا توجت الرسالة وتوجت السنون رأسه، ويعود مع أصحابه حتى يبلغ منه ذا طوى، ثم يضطر إلى الخروج إلى طريق الحديبية حتى لا يصطدم بجيوش قريش.
ويسلك هذا الطريق بعد عام في عمرة القضاء، يسلكه ملبيا نداء ربه مناديا مع أصحابه: «لبيك اللهم لبيك.» وتتجاوب أودية البادية وهضابها بهذا النداء تنفرج عنه شفاه ألفين من المسلمين يسيرون وراء نبيهم وكلهم شغف بهذا اليوم الذي انتظروه منذ سنين، فهو اليوم الذي يطوفون فيه ببيت الله ويؤدون مناسك العمرة، والرسول في مقدمتهم على القصواء تسير به، وهو في طمأنينته إلى نصر ربه أكثر من كل من معه شكرا لله وإذعانا. وتنيخ القافلة ثم تستأنف سيرها حتى تبلغ مكة، فإذا هي خالية غادرها أهلها، ويجوس المسلمون خلالها طائفين مصلين مهللين مكبرين، أين هم اليوم منهم يوم أخرجتهم مكة منها وأقصتهم عنها وضنت عليهم بدخولها وأنكرت حقهم من الوجود أو أداء شعائر دينهم؟! لكنهم صبروا وصابروا فنصرهم الله من فضله، والعاقبة للصابرين.
وينقضي عامان من يومئذ، فيسلك محمد هذا الطريق على رأس عشرة آلاف من المسلمين ليفتحوا مكة، أين مسيرته اليوم من مسيرته صغيرا، ومن مسيرته صبيا، ومن مسيرته تاجرا، ومن مجيئه حاجا؟! لقد دانت له العرب وبقيت مكة على عنادها، لكنها اليوم على أهبة أن تدين وأن تسلم مفاتحها وأن تؤمن بالله ورسوله وأن يطهر بيتها من الأوثان وأن تعود إليه قداسة التوحيد والإيمان.
فأما المرة الأخيرة التي سلك محمد هذا الطريق فيها فهي حجة الوداع، حين سار من المدينة على رأس مائة ألف من المسلمين الذين جاءوا من أنحاء شبه الجزيرة رجالا وعلى كل ضامر ينسلون من كل حدب، وأقاموا ليلتهم بذي الحليفة؛ فلما أصبحوا أحرموا وانطلقوا جميعا ينادون: «لبيك اللهم لبيك.» وتتصل روح الرسول بأرواحهم جميعا وهو يلبي على رأسهم فيزدادون إمعانا في توجههم إلى ربهم وسموا إليه، أين من هذا الرجل الذي أكمل الله له وللمسلمين جميعا دينهم وأتم عليهم نعمته ذلك الطفل مع أمه، وذلك الصبي مع عمه، يسير في هذا الطريق لا يعرف في المرة الأولى أنه ذاهب إلى قبر أبيه يزوره، ويسائل رفاقه في المرة الثانية عن كل ما يرى؟! أين من هذا الرسول الذي نقل العالم من الضلال إلى الهدى ومن الوثنية إلى التوحيد ذلك الصغير الذي كانت تنظر إليه أمه نظرة الحب والإعزاز لوحيدها اليتيم الذي فقد أباه، وغاية ما ترجو أن يكون كهذا الأب أيدا وكرما ورجولة؟! ويصل هذا الجمع الزاخر مكة فيشاركه أهلها في الإحرام بالحج وأداء مناسكه متأسيا في ذلك بمثل الرسول، سائرا في خطاه، داعيا دعاءه، مستغفرا استغفاره ... ألا إنها الحياة الإنسانية بلغت غاية السمو من إنسانيتها، ثم سمت فوق الإنسانية إلى حيث رفعتها مراتب النبوة والرسالة، وبقيت مثلا تحاول الأجيال أن تجعل منه أسوتها؛ وهيهات هيهات أن تبلغ من ذلك إلا يسيرا!
قال صاحبي: «ما أعظم العبرة وأبلغ الموعظة فيما تذكر! ولو أن المسلمين الذين يسيرون كل عام في هذا الطريق ذكروا من ذلك بعض ما ذكرت لازدادت نفوسهم بالحج طهرا، وإنه في الحق لطريق لو حدثت رماله وحدثت هضابه بما شهدت لأنصت العالم كله بأرضه وبحاره لأروع ما شهد على التاريخ من جلال الحق وانتصاره.»
كان رجالنا قد أعادوا رحالنا إلى «البكس» وإلى السيارة حين أتم صاحبي عبارته، وشكرنا لأهل «أوتيل آبار بني حصان» ظرفهم، وانطلقنا في طريقنا نبغي المسيجيد، آخر محلة نقف بها قبل أن نبلغ المدينة، وبلغناها، ونزلنا فندقا بها يشبه فندق الآبار، فأخبرنا رجاله أن السيد عبد العزيز الخريجي مضيفنا بالمدينة بعث مساء أمس وصبح اليوم من ينتظرنا، وأقمنا بالفندق ريثما تناولنا الشاي والقهوة، وشكرنا أصحابه ثم انطلقنا كرة أخرى في طريقنا إلى غايتنا، يا عجبا! لقد اختلفت طبيعة البيداء كرة أخرى، لقد كنا نسير من جدة إلى رابغ وإلى مستورة على رمال شدت مياه البحر بعضها إلى بعض فهي صلبة متينة، فلما استدرنا من مستورة مشرقين إلى بئر الشيخ وآبار بني حصان تفككت الرمال ولم تبق لها صلابتها؛ لذلك غاصت عجلات السيارة، وغاص بطن السيارة فيها غير مرة، واطرد الطريق على هذا النحو من الآبار إلى المسيجيد، فأما بعد المسيجيد فقد انقلبت البيداء صخرية على رغم ما يكسوها من الرمال، واطمأن السائق إلى أنا لن نغوص في الرمل، فأطلق العنان لسيارته، فلما قضينا بعض الساعة إذا الطبيعة تختلف من جديد، وإذا جبال سود تقف منا عند مرمى النظر، وأدركت السيارة سفوح الجبال وتخطت خلالها مرتقية حينا منحدرة آخر، ثم انطلقت من جديد في بيداء تكتنفها الجبال.
ووقفنا عند محلة أناخت بها قوافل للحجاج الذين يقصدون المدينة، وجاء حسن بماء للسيارة احتياطا للجبال القريبة منا، وأثار منظر القوافل في نفسي حنينا وذكرى: حنينا لأيام الطفولة حين كنت أمتطي الجمل مع جدتي وأسير في القافلة الذاهبة في صحبة جدي إلى السيد البدوي بطنطا، أو إلى مولد ابن العاص القريب من قريتنا، وذكرى أولئك الذين سبقونا من آبائنا وأهلينا إلى هذه الديار قبل أن تغير السيارة على الجمل فيها، وحين كان الجمل سفينة الصحراء، وفكرت حين ألح بي الحنين وألحت الذكرى فيما يكتبه الغربيون عن القاهرة وعن الآستانة وعن غيرها من بلاد الشرق، وما يبدون من أسف أشد الأسف أن أضاعت هذه البلاد طابعها الشرقي القديم الجميل، وتحدثت إلى نفسي أسائلها: كم أضاع الحجاز وأضاعت بلاد العرب بغزو السيارة إياها من طابعها، وكم يضيع منه غدا حين تغزوها الطيارة، فنجيء على متنها من مكة إلى المدينة في ساعتين كما فعلت الأميرة خديجة حليم هذا العام؟! ترى ماذا كانت تترك في نفسي رحلة القافلة من مكة إلى المدينة في الدرب الطويل أقضي فيها أسبوعين كاملين؟!
لقد قرأت ما كتبه كثيرون عن مثل هذه الرحلة في مختلف الدروب التي تنساب في البادية، قرأت ما كتبه برتن الإنجليزي، وبورخارت السويسري، وإبراهيم باشا رفعت، وقرأت رحلة البتانوني، إنهم جميعا قد أتيح لهم أن يدرسوا من طبيعة البادية ونفسية أهلها ما لا يتسنى لراكب السيارة أن يعرف إلا القليل منه، وهم قد استمتعوا من حياة الصحراء وواحاتها ومن صحبة أهلها بما لم أستمتع أنا بشيء منه، اللهم إلا حين نزلت رابغا، وحين قضيت الليل بآبار بني حصان، أما راكب الطيارة فلن يرى من ذلك كله إلا ما يراه الطائر من علية سمواته، ولن يستمتع منه بغير المنظر السريع التغير، السريع إلى الزوال، ومن الحق إذن أن غزو السيارة للجمل وتعريضها إياه للزوال وحلولها محله سفينة للصحراء خسارة يأسف لها رب الفن الحريص أن ينعم على هون بكل ما في البادية من حياة ومعنى وجمال.
أوليس من الحق كذلك أن غزو الطيارة للسيارة يعرض الإنسانية من ناحية الفن لمثل هذه الخسارة؟ أم أنا يجب علينا في سبيل ما نسميه التقدم ألا نقيم لهذه الخسارة وزنا، وأن نغتبط أن عوضنا الله خيرا منها وأعظم جدوى، وإذا انقرض الجمل وبقيت السيارة دابة الحمل واختصت الطيارة بالسفر، فلا خسارة في ذلك على الإنسانية ولا على الفن؟ ولم أجد جوابا على ذلك كله إلا أن محاولة الجواب لهو وعبث ما أشبههما بالأسف! لأن الطفل صار رجلا؛ أو لأن الهرم الفاني مات ليخلفه غيره، مع أن هذا وذاك سنة الطبيعة، فما حدث اليوم لا مفر منه وهو لا بد كائن.
ورجل الفن الصادق العاطفة والموهبة لا يأسف على ما فات، ويجد من آثار الفن فيما حوله خير منزل لوحيه وإلهامه، وميراثنا مما خلفه الأولون من آثار الفن بعض ما هو كائن، شأنه في ذلك شأن ما حولنا من آثار العلم، فإذا نحن أسفنا على ما فات فلن يجدي أسفنا شيئا، ولئن دل على شيء لعلى أنا كسالى في الفن، نريد أن ننهج نهج من سبقونا ونتأثر خطاهم، بدل أن نبدع جديدا من إلهام الحاضر وحياته، فأما الذين يريدون أن يبقى الشرق الحي متحفا لصور الماضي فأولئك يجهلون ما في النفس الشرقية من توثب ونزوع إلى الطفرة، وما تحرص عليه مع ذلك من توثيق عرى الحاضر بالماضي؛ لأن الحاضر والماضي والمستقبل مرتسم فيها منذ الأزل، مصور في أطوائها على أنه وحدة تتطور حياتها كما تتطور حياة الكائن الحي، لا على أنه أجزاء منفصل بعضها عن بعض، لا تتسق في كل ولا تربطها وحدة الزمان والمكان.
وانطلقنا، ولم يطل بنا السير حتى كنا ندور في الجبال مصعدين نسلك طريقا لا بأس بفسحتها ، وإنا لفي إحدى استدارات السيارة إذ انطلق إلى السماء أمامنا جبلان عن اليمين وعن الشمال لفت انطلاقهما النظر، قال صاحبي: «هذه جبال المفرحات، وهي طلائع المدينة المنورة.» هنالك اتجهت بكل ذهني وجناني إلى ناحية مدينة الرسول - على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وجعلت أحدق بنظري وحده تارة، وأستعين بالمنظار المقرب أخرى، أريد أن أجتلي بشائرها، وكأنما شعر السائق بأنا نستعجل بلوغها والدخول إليها، فدفع بالسيارة في طريق استقام حتى كأنه قد نحت في الجبل نحتا، ورصف فيه رصفا، فلما أوفى على غاية هذا الطريق استدار إلى طريق آخر، ثم وقف فجأة بعد استدارته فيه ومد إصبعه إلى ناحية الشرق مشيرا، وقال: هذه القبة الخضراء.
الله أكبر ولله الحمد! بلغنا إذن مقصدنا، فالقبة الخضراء قبة الحرم النبوي، وهي الآن أمامي وعلى مرمى نظري، فليسرع حسن إذن حتى نقوم بزيارة الحجرة التي صارت قبر الرسول الكريم بعد أن كانت سكنه في الحياة، والمكان العزيز عليه في دار عائشة، وليسرع حتى نمتع النفس والقلب بالوقوف خشعا أمام هذه الحجرة ونسلم على صاحبها، ونشهد أنه بلغ رسالة ربه، ونحاول أن يتصل روحنا الضعيف الرازح تحت أعباء الحياة ومادتها في عالم الدنيا بروحه القوي الأمين الذي سما بفضل من الله ومغفرة إلى مقام الرسالة الأسنى، فكان صاحبها الأسوة والمثل في حياته، وكان بعد مماته نور الجمال والكمال والسر والجلال والوحدة والضياء الوضاء الذي غمر العالم فأنار له السبل وهداه محجة الحق، وليسرع فالنفس مشوقة والقلب يود أن يطير إلى هذا الموقف يشهد عن كثب منبع هذا النور، وأن يمتلئ من إشراق سناه، هذه لذة كبرى بدأت أشعر بها وأريد أن أنهل منها وأبلغ الري الروحي ريا لا أظمأ بعده أبدا.
والسيارة تجري، والقبة الخضراء تزداد وضوحا ويزداد النظر بها تعلقا، وها هي ذي بشائر المدينة المنورة كلها تبدو، لقد صرنا إذن منها قاب قوسين أو أدنى.
وحي المدينة
وقف حسن بالسيارة فجأة بعد أن استدار صعدا من الطريق المستقيم إلى طريق يليه، ثم مد إصبعه إلى ناحية الشرق مشيرا وقال: «هذه القبة الخضراء.» وقال صاحبي: «نعم، قبة الحرم النبوي.» ومددت بصري فإذا هذه القبة أمامي تقوم حولها مآذن ترتفع في الجو، وتحيط بها قباب أصغر منها حجما، ولم يعلق النظر بالمآذن ولا بالقباب الصغرى إلا ريثما ارتسمت في خاطري صورة منها، أما القبة الكبرى فقد شد إليها نظري ما يكاد يتركها؛ وقد استرعى انتباهي كل ما جل ودق من أمرها، ووجهت المنظار المقرب نحوها أريد أن أقف على تفاصيلها، ولم يكن ذلك حرصا مني على اجتلاء ما بها من دقائق الزخرف في عمارتها، ولا أملا في أن أستشف شيئا مما وراء النوافذ التي أحاطت بقاعدتها، وإنما دفعت إليه حركة نفسية مبعثها الشغف بكل ما يتصل بالرسول وقبره، وشدة التوق إلى معرفة كل آثاره.
وذكرت أن من ولاة مصر من كان لهم حظ في هذا الأثر، فقايتباي هو الذي أمر بإنشاء هذه القبة، ومن بني وطني رجال العمارة من شاركوا في تشييدها، وشعرت لذلك بغبطة أفعمت قلبي سرورا ورضا، على أني سألت نفسي: «فيم الغبطة أن يأمر وال مصري بتشييدها؟! وإنما شأنه في ذلك شأن كثيرين من أمراء المسلمين وملوكهم ممن لهم في عمارة هذا المسجد حظ وأثر.» لكن هاتفا وجدانيا هتف بي: «الأقربون أولى بالمعروف، وبنو الوطن هم الأقربون الأولون، وبينك وبينهم مع إخاء العقيدة الروحي إخاء القربي وإخاء التاريخ والشركة الوثيقة في أرض الوطن ونهره وسمائه.»
وتنطلق القبة بشاهدها المدبب في السماء، ويلمع على سطحها الأخضر وهج الشمس الوضاء، فيزيدني منظرها تعلقا بها حتى ما أكاد أجد لي منصرفا عنها، وتتقدم السيارة في الطريق وتتلوى مع بعض أجزائه فتغيب القبة عن ناظري وتقوم أمامها أبنية متواضعة حينا وهضاب قليلة الارتفاع حينا آخر، ويذكر صاحبي بعض ما يعرف من أمر هذه الأبنية وهذه الهضاب وأسمع له، لكن القبة تبقى مع ذلك مرتسمة أمام ذهني وكأن لم تغب عن ناظري، أليست القبة منارة القبر الذي يثوي فيه رسول الله؟! أوليست المدينة هي التي أوى إليها فنصرته من يوم هجرته إلى أن اختاره الرفيق الأعلى؟! فما الجبال وما الهضاب وما الأبنية التي يحدث عنها صاحبي إلى جانب ما تحدث القبة عنه مما يملأ القلب روعة وهيبة وجلالا؟!
وذكرت ما دار بخاطري من يومين وأنا بمجلسي من المسجد الحرام بعد طواف الوداع، وقلت في نفسي: إذا كانت مكة مدينة السلام فهذه المدينة لا ريب مدينة الجهاد، كذلك كانت يوم هاجر النبي إليها، وكذلك بقيت من بعده طيلة عهد خلفائه الراشدين. هذان وصفان أفاء الله أحدهما على مكة، والآخر على المدينة، فبقي لهما على عهد النبي، لم يتغير ولم يتبدل، وكان حقا أن يبقى ما بقي للمسلمين على الأرض سلطان، ولقد فتح الله مكة على محمد وعلى المسلمين، فخشي الأنصار العاقبة وقال بعضهم لبعض: أترون رسول الله إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ وكان جواب النبي حين علم ما قالوا: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم»، ولما قسم محمد فيء حنين ورأى الأنصار كيف تألف النبي أبناء مكة وكيف أجزل لهم العطاء، ظنوا أنه سيقيم بينهم، وقال بعضهم لبعض: لقي والله رسول الله قومه، فكان مما تحدث به إليهم حين بلغته قالتهم: «ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟!» ومن قبل جنح الرسول إلى السلم عام الحديبية لم يثنه عنه تحرش أوشاب مكة بالمسلمين ولا غضب أصحابه من تجهز أهل مكة لقتالهم.
أما المدينة فبقيت بعد الفتح كما كانت قبله، مدينة الجهاد، منها وجه النبي قواده بعد الفتح إلى ناحية الروم في غزو تبوك، ومنها جهز جيش أسامة بن زيد كي يأخذ بثأر أبيه من قتل الروم إياه في غزوة مؤتة، ومنها كان قد جهز قواده قبل الفتح في بدر وأحد وقريظة وخيبر حتى ضم العرب جميعا في دين واحد وتحت لواء واحد، أما مكة فبقيت حراما كما كانت منذ أقيمت قواعدها لم يسفك فيها دم ولم يعضد فيها شجر، وبقي شعار الذين يدخلونها ويؤدون التحية لبيت الله فيها: «ربنا منك السلام، وإليك السلام، حينا ربنا بالسلام.»
أدت بي هذه الموازنة بين البلدين وما أفاء الله على كل منهما من حظ إلى التفكير في الإسلام، أدين سلام هو أم دين جهاد؟ وأعانني على التفكير ونحن على أبواب المدينة أنا وقفنا ننتظر «البكس» حتى لا يقفه الموكلون بأسوار المدينة عند بابها، فللمدينة، فيما ذكر لي أصحابي، سور وأبواب، ولا يتخطى أحد إليها إلا أن يبرز جواز مروره لحراس أبوابها، وأدى بي تفكيري في هذه السويعة إلى أن الإسلام دين سلام في بدئه وغايته، وأنه مع ذلك دين جهاد متصل في سبيل السلام، فقد نزل الوحي الأول في بلد السلام على غار حراء، وقد أكمل الله للمسلمين دينهم وأتم عليهم نعمته في بلد السلام بعد حجة الوداع، وكانت الدعوة إلى هذا الدين عن طريق الجهاد السلمي في بلد السلام حتى الهجرة، فلما لم يجب أهل مكة داعي السلام، وأعرض عنه رجال القبائل الذين يجيئون حاجين بيتها، هاجر النبي إلى يثرب جهادا في سبيل السلام، وكانت خطته أن يدعو إلى السلام وأن يذود عن حياضه من يريدون أن يصرفوا الناس عنه، وإن اقتضى زيادة نضالهم وقتالهم، ومن ثم كان ما حدث من مغاز وسرايا أثناء مقام الرسول بيثرب جهادا في سبيل السلام لا يبلغ غايته حتى يظل الناس كافة بلوائه، فإذا آمنوا أصبحوا إخوة وتحابوا بنور الله بينهم وبلغوا بالإنسانية الكمال الذي تنشده، وهذا الكمال هو الإيمان عن علم بالله - جل شأنه، والبلوغ عن طريق العلم إلى معرفة سنته في الكون، فهذه المعرفة هي التي تزيد الإيمان تثبيتا وتجعل طريق الإيمان ضياء ونورا.
الإسلام إذن هو الجهاد في سبيل السلام؛ سلام الروح للفرد من طريق الرضا عن علم، وللجماعة عن طريق التحاب في الله وبنور الله، وللإنسانية كلها من طريق الأخوة التي تدعو المرء ليحب لأخيه ما يحب لنفسه، ذلك هو الكمال الذي يدعو الإسلام إليه، وإلى الجهاد في سبيله، وطريق الجهاد شاق طويل لمن يظنون الحياة تبدأ بميلادهم وتنتهي بموتهم، وجيز هين لمن يبتغون الدار الآخرة دار السلام والرضا، ويرون للإنسانية كلها من الوحدة في حياتها ما للفرد من الوحدة في حياته، أولاء يرون في الجهاد ما يرون في السعي والعمل من عبادة لله وتقوى إياه يثاب العامل عليها ويجزى الجزاء الأوفى.
الإسلام جهاد في سبيل السلام، وجهاد المرء نفسه لينعم روحه بالسلام ليس دون جهاد الجماعة من يحاول العدوان عليها والحد من حريتها في سعيها وعملها، فحياة الفرد موجز كامل من حياة الجماعة ومن حياة الإنسانية، والسعيد من لم تخدعه المسرة العاجلة ولم تحل بينه وبين إشراق الروح بالمسرة الدائمة وضياء القلب بالمعرفة في أكمل صورها، والجماعة السعيدة من عرفت طريق الحق والعدل المجرد من الهوى، ولم تخدعها المذاهب الزائفة، ولم تدفعها إلى طريق البطش الغرور الذي يجعل الحياة نضالا على متع العيش ولذاذاته، والذي يسخر الجيوش ويجند ليسلب القوي طعام صاحب الحق في هذا الطعام.
تجلى لي وأنا عند هذا الموضع من تفكيري ما كان من جهاد الرسول بمكة ومن جهاده بالمدينة، إذ ذلك ادكرت ما يعقده قوم من الموازنة بين هذا الجهاد وذاك، ومن تفضيل أحدهما على الآخر، وادكرت ما ترويه كتب السيرة عن عهد مكة ومبلغه من الإيجاز بالقياس إلى ما ترويه عن عهد المدينة، وإن جماعة من المستشرقين ليعقدون الموازنة بين الجهادين، فيشيدون بجهاد مكة ويرونه دعوة خالصة إلى عقيدة أيقن محمد أنها الحق، وآمن فيما بينه وبين نفسه أن الله أمره أن يبلغها الناس؛ وهي لذلك دعوة جديرة بالاحترام، والجهاد في سبيلها جهاد مبرأ من كل غاية ذاتية؛ وفيه لذلك من مظهر السمو الروحي ما هو جدير بالإكبار؛ ولذلك سما بمحمد في نظرهم إلى مرتبة العظماء الذين خلد التاريخ ذكرهم، أما جهاد المدينة فيراه هؤلاء المستشرقون جهادا في سبيل السلطان، دفع إليه الحرص على الانتقام من قريش؛ لأنها أخرجته ومن تبعه من ديارهم، وأغرى الظفر فيه على الاستئثار بالقيادة والملك، وقد كان محمد يعف عنه ويتسامى عليه أيام مقامه بمكة، وهذه غاية ينزل الجهاد في سبيلها منزلة مثله من جهاد ذوي الأطماع من القادة والغزاة، وفوز محمد في هذا الجهاد بالانتقام من قريش وببلوغ الملك والسلطان في جزيرة العرب كلها هو الذي أضفى على تاريخه البريق وجعل الإنسانية تشخص إليه إجلالا وإعجابا، لكن فوزه في هذا الجهاد المدني قد ألقى على غايته من دعوته المكية ألوانا من الشبهة ذهبت بالكثير من جلالها وجمالها وهون من مبلغ الإكبار لجهاده الشاق الطويل في سبيلها.
ربما خدعت هذه الموازنة من تسحرهم الحجة المنمقة عن تنطس الحقيقة وتصرفهم عن الإحاطة بها من كل نواحيها، وهي في الحق موازنة خادعة ساحرة، ألم يكن محمد بمكة فقيرا ضعيفا عاجزا عن دفع الأذى عن نفسه، معرضا أن يغتاله خصوم دعوته لولا حماية أهله من بني هاشم إياه، وهو لم يهاجر إلى المدينة إلا بعد أن عقد حلفا بينه وبين الأوس والخزرج أن يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم، فهم بهذا الحلف قد عاهدوه على أن يقاتلوا دونه وأن يكونوا في قيادته، وبعد أن هاجر وجه السرايا والغزوات الأولى ليقطع الطريق على قريش إلى الشام؛ وليغنم أصحابه ما تحمل قريش في رحلة الصيف من أموال وتجارة، وغزوة بدر التي أشاد القرآن بها وببلاء المؤمنين فيها، والتي يعتبرها المسلمون علما على الجهاد في سبيل الله؛ فهم لذلك يذكرونها ويملئون مواضغهم فخرا بآثارها، إنما تحرك محمد وأصحابه إليها ليأخذوا على أبي سفيان طريقه من الشام إلى مكة ولينهبوا تجارته، ولم يخف محمد ذلك، إذ ندب المسلمين حين بلغه عود أبي سفيان من الشام وقال لهم: «هذه عير قريش فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها.» وما حدث بعد ذلك في أحد وفي الخندق، وما كان من إجلاء اليهود عن المدينة تمهيدا لإجلائهم عن بلاد العرب، ذلك كله إنما حدث دفاعا عن العاصمة التي اتخذها محمد مقرا لملكه، وفتح مكة وغزاة حنين وحصار الطائف، إنما حدثت بعد أن استقر لمحمد الأمر واستتب له السلطان، أما ما حدث بعد ذلك وأثناءه من تحطيم الأصنام ومن مداومة الدعوة للدين الجديد فشأن محمد فيه شأن نابليون حين زعم وهو يدوخ البلاد ويفتح الأمصار أنه ينشر مبادئ الثورة الفرنسية، وشأن الدول المستعمرة اليوم حين تقر النظم القائمة عندها في البلاد التي تغزوها وتفتحها مستعمرة حاكمة، زاعمة أنها تقيم الحضارة بين أهل هذه البلاد، فجهاد محمد بعد هجرته إلى المدينة إنما كان جهاد انتقام وغلب، دفعت إليه العواطف الإنسانية القوية في هذا الرجل الموهوب، ولم يكن في شيء من جهاده بمكة للدعوة إلى حقيقة آمن بها.
كذلك يقول جماعة من المستشرقين حين يوازنون بين الجهادين، وموازنتهم كما ترى خادعة ساحرة، لكنها خاطئة كاذبة، والحقيقة التي يلمسها من أخلص للتاريخ ولله وجهه أن غاية النبي العربي من جهاديه كانت واحدة، كان بمكة يجاهد للدعوة، وكان بالمدينة يجاهد لحمايتها والدفاع عنها، ولم يكن له وراء هذا الجهاد بكلتا المدينتين غاية إلا أن يبلغ رسالة ربه للناس كاملة، ولم يرد الله أن تشوب هذا الجهاد شائبة، فهو إذ هاجر إلى يثرب بعد بيعتي العقبة إنما هاجر بعد سائر المسلمين - إلا من آثر البقاء بمكة - وهو قد نصح للمسلمين أن يهاجروا إلى يثرب كما نصح إلى إخوانهم من قبل أن يهاجروا إلى الحبشة، فرارا إلى الله بدينهم حتى يجعل الله لهم فرجا مما هم فيه، وهو قد اختار الحبشة للهجرة الأولى؛ لأن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وقد اختار يثرب للهجرة الثانية؛ لأن الإسلام انتشر بين أهلها فآمن به منهم كثيرون كفلوا أن يمنعوا من كان على دينهم أن يناله الأذى أو أن يفتن عن دينه، وقد انتشر الإسلام بيثرب بعد العقبة الأولى حين بايع اليثربيون النبي على: «ألا يشرك أحدهم بالله شيئا، ولا يسرق، ولا يزني، ولا يقتل أولاده، ولا يأتي ببهتان يفتريه بين يديه ورجليه، ولا يعصيه في معروف، فإن وفى ذلك فله الجنة وإن غشي من ذلك شيئا فأمره إلى الله، إن شاء عذب وإن شاء غفر.»
ولما تمت بيعة العقبة الكبرى، واختار الذين بايعوا النبي من الأوس والخزرج نقباءهم، قال النبي لهم: «أنتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل على قومي.» وكانت بيعتهم الثانية هذه أن قالوا: «بايعنا على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا ومنشطنا ومكرهنا، وأن نقول الحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم.» لم تكن أي البيعتين إذن بيعة حلف على حرب، بل عهد صدق على نشر الحق والدعوة إليه، وإن لامهم اللائمون، أو آذاهم المشركون، شأنهم في ذلك شأن من سبقوهم إلى الإسلام من أهل مكة الذين أصلتهم قريش من ألوان العذاب ما تنهد له العزائم، فلم يلن لهم عود، ولم تهن منهم عزيمة.
وأراد الله ألا تشوب جهاد المسلمين بيثرب شائبة، فهم لم يخرجوا إلى بدر مقاتلين، وإنما خرجوا ليأخذوا عير قريش من أبي سفيان جزاء ما فعلت قريش بهم حين أخرجتهم من ديارهم واستصفت أموالهم، وأراد الله أن يفوتهم أبو سفيان وعيره، وأن تخرج قريش لدفعهم بكل ما لديها من قوة، ولقد كان لهم مندوحة عن قتالها حين لم يبق لهم من وراء هذا القتال مطمع، وفي هذا فكر بعضهم حين رأى المسلمين أقل من قريش عددا وعدة، ولو أنهم عادوا إلى المدينة لما كان عليهم جناح وهم لم يخرجوا إلى قتال كما خرجت قريش ولم يأخذوا للحرب عدتها، أما وقد فاتت الغنيمة فقد وقف الجيشان في بدر أحدهما إزاء الآخر في مثل موقف محمد وأصحابه من قريش حينما كانوا بمكة قبل الهجرة، وقفت الدعوة إلى الدين الجديد تواجه الوثنية وأصنامها وحماة هذه الأصنام، وقف الإيمان بالله وحده لا شريك له في وجه الشرك والأصنام يتخذها عبادها إلى الله زلفى وعباد الأصنام يومئذ أكثر عددا وأعز نفرا، أفيغلب الإيمان الشرك، أم يغلب الشرك الإيمان؟ هذه كانت المسألة يوم بدر، لم تبق عير ولم يبق مطمع في غنيمة، وإنما يلتقي الإيمان والكفر يقتتلان، يريد الكفر العتيق أن يسحق الإيمان الناشئ بقوة عدده، ويرجو الإيمان الناشئ أن يدفع بغي الكفر بقوة بأسه وسموه بالنفس فوق دنيا الحياة، والعشرون الصابرون من المؤمنين يغلبون مائتين من خصومهم، والمائة المؤمنون يغلبون ألفا، وكذلك تم الغلب للمؤمنين.
ويحاول الشرك من بعد ذلك أن يحطم الإيمان في أحد، وأن يقضي على المسلمين بالحصار في غزوة الخندق؛ والإيمان أثناء ذلك ينتشر وكلمة الله تعلو، ويحاول الشرك أن يصد الإيمان في الحديبية، وأن يحول دون دخول المسلمين مكة، فلا يرضى الرسول أن يقتحم الحرم ويؤثر أن ينتظر عاما فيدخلها المسلمون آمنين، وتبقى مكة حرما للسلام، ويزداد الإيمان قوة ويسير جيشه لفتح مكة، فلا يرضى الرسول أن تهدر حرمتها، ويفتحها الله عليه ولا يراق دم ولا تزهق في حرب نفس، ويعفو الرسول عن خصومه جميعا، فلما استتب للدين الجديد الأمر وآمن الناس جميعا برسالة محمد، لم يغير محمد من حياته ولم يعرف الملك وسلطانه، بل ترك الأمر كما كان في شبه الجزيرة: نرك كل أمير على إمارته، وكل رئيس على رياسته ما آمن بالله وبرسالته على لسان نبيه ورسوله.
أين هذا كله مما يقولون أولئك المستشرقون؟! وهم قوم أوتوا نصيبا من العلم وفي مقدورهم أن يميزوا الخبيث من الطيب والحق من الباطل، فما لهم يدعون إلى موازنة كاذبة خاطئة، كذبها بين وخطؤها صراح؟! إنا لا نحسبهم نقموا من محمد أن يؤمن بالله العزيز الحميد، لكنهم إذ يلتمسون أسرار الكون والحياة يلتمسونها في الأحياء الدنيا وفيما ألف الناس من طبقات الإنسانية، وهم يريدون أن تخضع القوى العليا لسنن هذه الكائنات؛ فهم لذلك يخطئون إن حسنت نيتهم، ويكذبون إن ساءت هذه النية.
أما وهذا مبلغ الخطأ في تلك الموازنة فمن عجب أن تكون بعض كتب السيرة مثارها، فقد ألف قوم أن يجعلوا من مغازي الرسول بعد الهجرة موضع عنايتهم كلها، وأن يظهروه
صلى الله عليه وسلم
مظهر القائد الذي يستنفره الظفر في القتال إلى ابتغاء ظفر مثله، يريد بذلك أن يخضع الناس لجبروته رهبة له، ولا شيء من ذلك البتة في مغازي الرسول وسراياه، فمن قبل بدر كانت المناوشات مقصودا بها إلى إقناع قريش ليرعووا عن غيهم ويكفوا عن الأذى، وكانت بدر ما رأيت ، ومن بعد بدر وقف المسلمون موقف المدافع عن بيضتهم، وعن عقيدتهم وعن حرية الدعوة إليها، وكلما كانت لهم القوة وتم لهم الغلب جنح الرسول إلى السلم والعفو، وترك للناس أمور الحكم والسلطان في حدود ما أمر الله به وما نهى عنه، جاعلا كل همه إلى بث تعاليمه السامية، وإلى أن يكون للناس الأسوة والمثل.
وإنما دعا بعض كتاب السيرة إلى الإفاضة في المغازي والحديث عنها أن انتشرت جيوش المسلمين وامتد فتحهم بعد الرسول إلى حيث تضاءلت الإمبراطوريتان الفارسية والرومية صاحبتا الحضارة إذ ذاك، وكان سلطانهما قائما على الغزو والفتح للاستعمار لا للحضارة، على نحو ما يحدث في عالمنا الحاضر، وقد أراد هؤلاء الكتاب أن يقرنوا الفتوح الإسلامية إلى عمل الرسول في نشر الدعوة، هذا إلى أن المؤرخين قد ألفوا إلى عهود ليست بالبعيدة ألا يذكروا من جهاد الإنسانية إلا ما أريقت فيه الدماء أثناء الحروب والثورات ابتغاء الحكم والغلب، أما الجهاد السلمي العظيم المتصل، والذي قطعت به الإنسانية ما قطعت من الخطى نحو الكمال، فذلك ما لم يألفه التاريخ ولا المؤرخون، من ثم رأيناهم يقولون: «إن الأمة السعيدة لا تاريخ لها.» فكأنما تاريخ الإنسانية قصة بأسائها وشقوتها، وكأن ما قام به الأنبياء والمرسلون والعلماء وأرباب الفن والمكتشفون والمخترعون، وما مكنوا به من صلة الإنسان بالكون واجتلائه سننه وأسراره، غير جدير بأن يكون فصلا من تاريخ الإنسانية، وهذا هو الخطأ البالغ والضلال المبين، فالحروب ليست إلا نزوات طيش، أو جهادا لمغالبة نزوات الطيش، أو مصرفا لما فضل عن جهاد الإنسانية لا تستطيع هضمه، أما الحق الذي يجب أن نعرفه وأن نعلمه أبناءنا وإخواننا، فذلك أن الجهاد الحق في سبيل الكمال، هو الدأب في ظلال السلم لمعرفة الحق والإيمان به، والحق هو ما دعا محمد إليه مخاطبا العقل والقلب، دافعا كل وهم يحول دون إدراك العقل والقلب لهذا الحق الذي دعا إليه بأمر ربه بالحجة البالغة والمجادلة بالتي هي أحسن.
مرت هذه الخواطر بنفسي في مثل لمح البصر ونحن بموقفنا ننتظر «البكس »، وكان حسن واقفا إذ ذاك إلى جانب السيارة، فلما سمع ضجة البكس في سيره استوى إلى مقعده ودفع السيارة على هون إلى ناحية باب العنبرية من أبواب المدينة، ما العنبرية هذه؟ لا أدري! ولكن كذلك قالوا، وتبدت أمامنا القبة الخضراء حين استدرنا كرة أخرى وبدت مباني المدينة تنكشف كلها، هذا بناء منها بالغ من الجمال حتى لتحسبه من مباني القاهرة أو بعض المدن الجديدة، وسألت صاحبي عنه فقال: «هذه «الأستاسيون» القديمة.» فهمت إذن السبب في جمال بنائها، فهي المحطة الكبرى لسكة الحجاز الحديدية في بلاد العرب، وقد تعطلت سكة الحجاز الحديدية أثناء الحرب الكبرى وبقيت محطة المدينة أمامها السكة الحديدية تنتظر يوما تعود فيه إليها الحركة والحياة.
والسيارة تتقدم ومنازل المدينة وطرقها تبدو أمام النظر، فأما هذا الخلاء الفسيح أمامنا فتلك المناخة، وأما ما بينها وبين محطة السكة الحديدية فجبال ومساجد وهضاب حاولت أن أعرف شيئا من أمرها، فاعتذر صاحبي عن ذلك بأنها جميعا أثرية يجب أن تزار، ويجب أن نقف عندها، وأن يتحدث لي هو أو يتحدث لي العارفون عنها، قلت: أين أحد إذن وأين سلع؟ قال: هما في الناحية الأخرى من المدينة، وستراهما غدا أو بعد غد، وسترى أثر الخندق وما شئت من آثار خالدة يذكرها المسلمون ويزورونها للتبرك بها، وهذه الهضاب والمساجد القائمة عليها والعيون المجاورة لها ثابتة في بطون الكتب القديمة ثبوتا يجعلها أصدق نبأ عما تحدث عنه مساجد مكة، وأحسبها لذلك ستثير من عنايتك بها أكثر مما أثارت مساجد مكة.
وبلغنا باب العنبرية فاستوقفنا حراسه، وباب العنبرية بالمدينة كباب النصر بالقاهرة، وباب الساهرة بالقدس، وأمثالها من الأبواب التي كانت تحيط بالمدن في عصور خلت، والتي كانت تجعل منها حصونا منيعة تصد المغير عليها دون اقتحامها؛ وهي لذلك قد بنيت من حجر متين بناء محكما، وقامت فوق جدرها السميكة عقود من الحجر تبعث إلى النفس المهابة وإلى القلب الرهبة، ولما عرف الحراس أمرنا بادلونا أحسن التحيات وأخبرونا أن مضيفنا قد أقام بنفسه ينتظرنا، وأنه طلب إليهم أن يرشدوا السائق إلى داره، وابتسم السائق حسن وذكر أنه يعرف الدار خير معرفة، ومن ذا الذي لا يعرف دار الخريجي بالمدينة، أكبر تاجر وأعظم سري فيها وصهر وزير المالية؟! وانبعث حسن بعد أن تخطى العنبرية في طريق فسيح حتى بلغ بيتا حديث البناء ووقف قبالته وقال: هذه دار الخريجي الجديدة، لكن بناءها لم يتم بعد، واستأنف سيره فمر بميدان أو ما يشبه الميدان، ثم استدار في طريق ضيق أدى به إلى زقاق أشد ضيقا، تنفس عن رحبة ليست بالفسيحة، ولكنها تبدو كذلك بالقياس إلى ما يتفرع عنها من الأزقة؛ هنالك وقفت العربة ووقف البكس ونزلنا، وكأنما شعر أصحاب الدار بوقوفنا فخرجوا إلينا واستقبلونا بأجمل التحية.
عجب أمر السفر في هذه البلاد الإسلامية المقدسة، إن لنا الآن لستا وأربعين ساعة مذ غادرنا مكة لم نذق أثناءها للراحة طعما، بلغنا جدة أمسية الإثنين ولم أنم بها خمس ساعات، وقضينا طيلة يوم الثلاثاء بين جدة وآبار بني حصان، ولم نقض ب «أوتيل آبار بني حصان» سوى ثلاث ساعات كان المبيت بالعراء خيرا منها، وها نحن أولاء نبلغ المدينة والعصر وشيك أن يؤذن أو لعله قد أذن المؤذن به، مع ذلك أراني جم النشاط أود لو أخرج لتوي لزيارة المسجد النبوي والحجرة النبوية فأؤدي بذلك تحية المسلم إلى مقام الرسول الكريم - عليه الصلاة والسلام.
وأفضيت إلى مضيفي برغبتي، قال: بل استرح قليلا وأزل عنك غبار السفر، فإذا تناولنا الطعام خرجنا للزيارة، قلت: ما بي الآن إلى الطعام حاجة وأؤثر أن أتناوله بعد صلاة العشاء، وصعدت مع ابن المضيف الكريم إلى الطابق الأول حيث غرفنا ومتاعنا، هنالك أقمت ريثما اطمأننت إلى دار المقام، وتوضأت وأخذت أهبتي للزيارة، ونزلت ونحن من صلاة المغرب على نحو نصف الساعة، وقمت مع مضيفي فسرنا في زقاق ضيق استدرنا منه إلى آخر وإلى طريق أكثر سعة ينتهي بعقد من البناء فوقه، وهبطنا درجة واستدرنا إلى اليمين فإذا بنا نستقبل باب السلام من أبواب المسجد.
وسرنا نحو الباب نقطع بضعة الأمتار التي بيننا وبينه، وسرنا في زحمة جمع جاء يؤم المسجد لصلاة المغرب يريد أن يقضي فيه الفرض والسنة ويجلس في الروضة النبوية ليثاب عن صلاته أضعاف ما يثاب عنها في سائر أنحاء المسجد، كذلك عرفت مذ كنت بمكة، وكذلك ذكر أصحابي وأنا بمصر قبل أن أسافر إلى الحجاز، وبذلك تجري روايات كثيرة، أنا إذن على خطوات من الروضة النبوية، ومن الحجرة النبوية، وفي هنيهة سأتخطى باب السلام فأكون في حماها وحرمها.
يا لجلال الموقف! أخذت به قبل أن أبلغه وأن أقف فيه ... وبلغ من شغلي به أن لم أعن بما حولي، بل أطرقت إلى الأرض وغاب عني كل شيء إلا ما أنا مقبل عليه، لقد حاولت وأنا بمكة أن أعرف أين ولد الرسول وأين مقامه فلم أجد لشيء من ذلك أثرا ثابتا، فلما وقفت أمام الغار في قمة حراء حيث نزل عليه الوحي، ولما أويت إلى غار ثور حيث اختفى من قريش عند هجرته، اهتز كل وجودي ورأيت من أمري عجبا، ترى ما عسى أن يكون من أمري ساعة أقف أمام الحجرة، وحين أقف في الروضة أصلي حيث خطب الرسول وحيث صلى بالمسلمين الأولين؟! ها أنا ذا سأرى ولم يبق بيني وبين أن أراه غير لحظة.
الكتاب الخامس
مدينة الرسول
في المسجد النبوي
تخطيت باب السلام أتبع مضيفي وفي ذهني من هذا المسجد النبوي صورة خيلها فيه ما اطلعت عليه من كتب الرحلات إلى الحجاز، وما في هذه الكتب من أوصاف وصور شمسية، وتخطيت باب السلام وكلي التوق للوقوف أمام الحجرة النبوية والسلام على صاحبها - عليه أفضل الصلاة والسلام، وكنت أحسب بعد الذي رأيته بمكة والطائف وطريق المدينة من آثار أنني ألفت هذه الآثار، فلم يبق منها ما أخشى النظر إليه بعين الباحث، لا أستثني من ذلك إلا قبره الكريم حين أقف أمامه؛ لذلك أقمت داخل الباب أنتظر «المزور» الذي أومأ مضيفي إلي بانتظاره، وأكاد أحسب أني لن أرى في طريقي إلى الحجرة النبوية إلا ما أعرف، لكنني ما لبثت حين تقدمت في المسجد خطوات فاشتملني شفقه الرهيب أن نسيت ما كان ماثلا في ذهني من صور المسجد والحجرة مما اطلعت عليه في الكتب أو سمعته من حديث من سبقوني إلى هذا المكان، فما كان من ذلك في نفسي، إنما كان صورة وعاها خيالي، وها أنا ذا الآن أواجه الحقيقة ذاتها، أشهدها بعيني وألمسها بجوارحي، وما عسى أن تغني الصورة عن الحقيقة أو يغني الخيال عن الحس؟!
انجابت الصورة وانجاب الخيال وسرت أتبع مزوري نحو الحجرة، مأخوذا بما حولي، منصرفا مع ذلك عن كل ما حولي، امتدت عن يساري غابة من العمد الضخمة البديعة الصقل، وهبط من نوافذ المسجد الرفيعة في جداره القائم عن يميني ضوء مبهم لم يحجب الأشعة المنبعثة من مصابيح الكهرباء منبسطة على السجاجيد الثمينة التي نسير عليها، مع ذلك لم يشخص بصري إلى العمد ولا ارتفع إلى النوافذ ولا استقر على السجاجيد، بل سرت مندفعا أمامي كاسر الطرف خشوعا ورهبة، ممتلئ القلب من سيرة الرسول الكريم، تتواتر في نفسي دراكا مواقف العظمة والجلال مذ بعثه الله نبيا حتى اختار الرفيق الأعلى، ثم تقف النفس عند هذا المكان الذي أخطو فيه والذي خطا
صلى الله عليه وسلم
فيه سني مقامه بالمدينة، والذي شهد من أمر الله ووحيه إلى نبيه ورسوله، ومن وقوف المسلمين الأولين حافين من حوله، ما جعلني أنسى كل شيء إلا هذه المواقف التي غيرت وجه العالم بعظمتها وجلالها، وبفضل الله ومشيئته، وبإيمان المسلمين الأولين بالله وبرسول الله.
وبلغنا الحجرة النبوية، ووقف مزوري واستوقفني قبالة قبر الرسول الشريف، فلما اطمأننت مكاني إزاء المقصورة الجميلة أشار إلى فتحة فيها هي شباكها، ثم تلا وتلوت من بعده: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.» ثم تحركنا خطوة صغيرة وقفنا بها من المقصورة إزاء قبر الصديق أبي بكر وسلمنا عليه، وتحركنا خطوة صغيرة أخرى وقفنا بها إزاء قبر الفاروق عمر بن الخطاب وسلمنا عليه، ثم تلونا الفاتحة.
أقمت مكاني هنيهة شاخصا إلى هذه الحجرة، مأخوذ الذهن عن التفكير، متجها بقلبي إلى هذا الدليل الذي يتلو أمام ما يقتضي الموقف تلاوته، حذرا أن يفوتني منه شيء، وكأنني في حضرة ملك أؤدي مراسم الإجلال والإكبار، كلا، بل كان الموقف أكبر من حضرة ملك، فقد لقيت ملوكا وتحدثت إليهم، ولقيت بعضهم وما أزال في صدر الشباب، فلم أجد للقياهم مثل هذه المهابة، ولا امتلأت نفسي أمامهم بشيء من هذا الإكبار، ووقفت أمام قبور لملوك وفراعين وأباطرة وعظماء فلم أشعر بشيء من الجلال الروحي الذي أخذ على تفكيري المسالك وأنا في هذا الموقف، وأشهد لقد كنت في حيرة ما أصنع، وإنما أنقذني من هذه الحيرة أن دعاني المزور لأذهب إلى الروضة النبوية فأؤدي بالصلاة فيها تحية الحرم وأصلي فيها وراء الإمام فريضة المغرب، وتقدمني مضيفي عائدا نحو باب السلام، فكان جدار المسجد الذي به محراب القبلة إلى يساري، وكان إلى يميني حاجز يرتفع إلى ما فوق قامة الرجل صنع من أعواد صفر لعلها من النحاس أو من حديد طلي بلون النحاس، واتصل بينها شبك من لونها، وهذا الحاجز يقوم على حدود الرواق الجنوبي الذي نسير فيه فيفصله عن الروضة النبوية، ويمتد على طول الطريق من الحجرة إلى مقربة من باب السلام، على أنا لم نكد نتوسط هذا الطريق حتى دخلنا الروضة من باب في الحاجز لم تعني الفرصة على الوقوف عنده وإنعام النظر في صنعه، فقد ألفيتني وسط جمع زاخر جلس في صفوف متراصة ليس بينها مكان لواقف.
أأتخطى هذه الصفوف لعلي أجد لي فيما وراءها مكانا؟ وهممت أن أفعل لولا أن أومأ إلي مضيفي فوقفت، وأسر حديثا إلى رجل من خدم المسجد فأرشدني الرجل إلى مكان أقف به في الصف الأول من الروضة إلى جوار منبر لم أشك أنه منبر الرسول ، وهم يناولني كتابا في يده، فألفاني أسرعت إلى إقامة الصلاة تحية للحرم وللروضة وسلاما على صاحبها - عليه السلام، فلما فرغت من الصلاة مد إلي يده بالكتاب، وفتحته فإذا هو مصحف مخطوط مذهب جميل، والتفت فرأيت في يد جاري اليمين كتابا صغير الحجم أدركت أنه دلائل الخيرات؛ لأنني عرفت من قبل أن بعضهم يتلوها حينا ويتلو في المصحف حينا آخر كلما جاء إلى الروضة، ومددت البصر إلى اليمين فوقع على مقعد فوقه عدد عظيم من المصاحف والدلائل، وإلى جانبه كراسي من الخشب يستعين بها بعضهم فيجعل عليها المصاحف أو الدلائل أثناء التلاوة فيها، وتستند المصاحف والدلائل الموضوعة فوق المقعد إلى المنبر النبوي الذي تنتهي الروضة بعده، ولم أحاول التحديق في المنبر تحديق الفاحص؛ لأن حالي النفسية في هذه اللحظة لم تكن حال فحص أو تحقيق، بل كانت حال عبادة وتهجد وتوجه خالص إلى الله.
ونادى المؤذن لصلاة المغرب، فانتظم الناس صفوفا في الروضة وفيما أمام الروضة من الرواق الذي به المحراب العثماني وفيما وراء الروضة لا ريب، وصلينا مع الإمام ركعات المغرب ثم صلى السنة من شاء، وأقمت بعد ذلك وبي إلى أن أطيل المقام بالروضة هوى ألح بي أن أبقى إلى صلاة العشاء لعلي أجد في هذه الفترة فرصة التأمل فيما حولي وتدبره، لكن مضيفي أقبل نحوي ودعاني، فتبعته خلال الروضة نحو باب السلام، على أنه انفتل قبيله متجها إلى داخل المسجد مجاورا الجدار الغربي، فلم تخامرني الريبة في حرصه على المرور بي في أنحاء المسجد كله لأحيط به في نظرة إحاطة عامة، ووقف عند مكان من الجدار كأنه الباب عليه إطار وكتابة، وقال: «هذه خوخة أبي بكر.» وذكر معي ونحن نتلو الكتابة ونعجب بخطها الجميل ما كان لدور الصحابة على عهد النبي من أبواب تفتح على المسجد حتى أمر رسول الله بسدها وقال: «لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر.» فسدت وبقيت هذه الخوخة التي وقف مضيفي أمامها وقرأ معي هذا الحديث الذي كتب على بابها، على أنه لم يلبث أن قال: «إن هذه الخوخة لا تقع حيث كانت خوخة أبي بكر على عهد الرسول - عليه السلام - فقد وسع المسجد مرات بعد ذلك، ورد هذا الجدار الغربي إلى حيث هو الآن بعد أن كان هناك عند ذلك العمود الذي يحدد مسجد النبي.» وبعد أن أشار إلى عمود عليه إطار مذكور فيه أنه حد المسجد النبوي أضاف: «والخوخة الآن تقابل موضعها الأول تماما.»
وعدنا نسير بعد الخوخة حتى بلغنا باب الرحمة الواقع في الجدار الغربي كباب السلام، فلما رأيت مضيفي اتجه إليه لنغادر المسجد رميت ببصري لعلي أحيط بالمسجد في نظرة، فإذا الناس حولي في زحمة الخروج يدفعونني نحو الباب ولا يجعلون لي إلى الإحاطة بالمسجد سبيلا ولا من الخروج بدا.
أكثرت من التردد من بعد ذلك على المسجد وأحطت بكثير مما فيه خبرا، ولقد أعانني على ذلك أنني اتصلت منذ نزلت المدينة بالأستاذ عبد القدوس الأنصاري صاحب كتاب «آثار المدينة المنورة»، وأستاذ الأدب العربي بمدرسة العلوم الشرعية، كما اتصلت بكثيرين كان لهم في إرشادي ومعاونتي فضل أذكره لهم وأشكره أجمل الشكر.
أول ما يلفت النظر في المسجد موقع الحجرة النبوية، فهي لا تتوسطه كما تتوسط الكعبة الحرم المكي، بل تقع في ركنه الجنوبي الشرقي على مقربة من باب جبريل، ولم تكن الكعبة تتوسط الحرم المكي إلى عهد الوليد بن عبد الملك الذي أصر على أن تكون في وسطه، ولو أنفق في ذلك ما في خزائن بيت مال المسلمين، ولعله قد حرص على ذلك في شأن الكعبة ولم يحرص هو ولا حرص غيره عليه في أمر الحجرة النبوية؛ لأن الكعبة قبلة المسلمين من نواحيها جميعا، إليها يولون وجوههم حيثما كانوا، فمن الحق أن تتساوى جوانب المسجد الذي بني حولها، أما الحجرة النبوية فلم تدخل المسجد إلا سنة ثمان وثمانين من الهجرة، وكان للاعتبارات السياسية دخل في ضمها إليه، وتقوم دور أثرية على مقربة من الحجرة النبوية، كدار عثمان، ودار أبي أيوب، وديار آل عمر، رئي لاعتبارات سياسية كذلك ألا تضم إلى المسجد، ويقع باب جبريل في الجدار الشرقي للمسجد في موضع ينحدر إلى الشمال بعض الشيء عن مكان الحجرة، ومكانه متوسط بين باب السلام وباب الرحمة في الجدار الغربي.
ويقع بعد باب جبريل باب النساء في الجدار نفسه، وتقع فيما بينهما دكة الأغوات، وباب النساء في هذا الجدار يقابل باب الرحمة في الجدار الغربي، وعلى الخط الموصل إلى هذين البابين أو وراءه قليلا يقع حد المسجد كما أقام النبي بناءه الثاني، وفيما وراء ذلك يمتد المسجد في مستطيل غير متوازي الأضلاع تزيد مساحته على ضعف مساحة مسجد النبي ويتناول زيادة عمر وزيادة عثمان وزيادة الوليد وزيادة المهدي، وهذا المستطيل مكشوف لا سقف له، ويسمى الحصوة، وكان به فيما مضى بعض أشجار من نخيل يطلقون عليها اسم بستان السيدة فاطمة، وبه الآن ساعة زوالية دقيقة الصنع، وتقوم حول هذا المستطيل المكشوف عمد ضخمة فوقها قباب من طراز عمد المسجد وقبابه تحيط بها سائر جدران المسجد، وهذا الإطار الذي يحيط بالحصوة تشمل ناحيته الشرقية زيادة الوليد وزيادة المهدي، وتتناول الناحية الغربية فضلا عن ذلك زيادة عمر وزيادة عثمان، وعمر وعثمان هما اللذان زادا الرواق الممتد من الحجرة إلى باب السلام فيما أمام الروضة.
والزخرف في عمارة المسجد لا يقاس إليه شيء مما في الحرم المكي، وقلما يضاهيه زخرف في غيره من مساجد العالم الإسلامي، سواء في ذلك زخرف العمارة وزخرف المحاريب، وزخرف السجاجيد وزخرف الثريات، وما اجتمع بالروضة النبوية من هذا الزخرف ينسي ما سواه في سائر أنحاء المسجد، ولا عجب، فقد تبارى الملوك والسلاطين والأمراء، فجلبوا إليها من ذلك ما يستهوي اللب وما يزيد الناظر إليها إكبارا وإجلالا، يقول برخارت في وصفها حين رآها في سنة 1815 ما ترجمته:
1 «يجري حاجز من خشب يبلغ ارتفاعه ثماني أقدام نقش نقشا عربيا بديعا مبتدئا من أعواد الحجرة الغربية موازيا الجدار الجنوبي على نحو خمس وعشرين قدما منه، حتى يبلغ أدنى باب السلام، ويمتد بذلك من الحجرة إلى عرض المسجد كله تقريبا، وفي هذا الحاجز أبواب عدة، وهو قد أقيم ليفصل بين الروضة والرواق الذي يمر منه الزائرون حين دخولهم من باب السلام متخطين إلى الحجرة خلال العمد القائمة بين هذا الحاجز والجدار الجنوبي، وهذا الجانب الذي تقوم فيه العمد الجنوبية مما يقع شمال الحاجز يعتبر أقدس مكان في المسجد بعد الحجرة ويسمى الروضة، وهو اسم خلعه عليه محمد لقوله: «بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة.» ويقع منبر المسجد على مقربة من هذا الحاجز في الوسط ما بين الحجرة والجدار الغربي، واسم الروضة مقصور على المكان الذي بين المنبر والحجرة، وإن غلب اعتبار المكان الذي تقوم به العمد الجنوبية جزءا منها، ولقد نقشت عمد الروضة بالأزهار إلى ارتفاع خمس أقدام أو ست ليعاون هذا النقش الخيال، فلا يعجز عن إدراك الشبه بين هذا المكان ورياض جنة عدن، ويقوم على جانبي المنبر محرابان هما كالمنبر آية في دقة صناعة التطعيم وبراعة جمالها، وقد أهدى قايتباي أحد المحرابين من مصر إلى المسجد، وبعث السلطان سليمان بن سليم بالآخر من الآستانة.
وأرض الروضة مفروشة بعدد من السجاجيد الثمينة من صنع الآستانة، وهي كمثيلاتها بمكة أثمن ما رأيت بالمسجد، وقد تبلغ قيمتها جميعا نحو ألف من الجنيهات، ومدخل الروضة من ناحية باب السلام رائع المظهر، فالألوان المختلفة المنبعثة من كل ناحية، والعمد البراقة الصقل كأنها البلور، والسجاجيد البديعة، والرصف الثمين، والكتابة الذهبية المنقوشة على الحائط الجنوبي، وتلماع أعواد الحجرة فيما وراء ذلك، هذا كله يبهر النظر لأول وهلة، لكنه ما يلبث بعد هنيهة أن يبدو على حقيقته ظاهرا من الزخرف البراق ليس فيه شيء من النفائس الصحيحة.»
ويضيف الحاج عبد الله برخارت: «فإذا ذكرنا أن هذا المكان من أقدس أماكن العالم الإسلامي كله، وأنه اشتهر بروعته وفخامته ونفاسة حليته، وأنه زخرف بكل ما اجتمع من هدايا الغلاة في هذا الدين، ازددنا دهشة وعجبا أن يكون ذلك كل مظهره، فهو لا يقاس إلى مثوى بقية من رفات قديس، وإن هان شأنه، في أية كنيسة من كنائس أوروبا الكاثوليكية، وهو بهذا ينهض دليلا مقنعا على أن المسلمين لم يساووا المسيحيين الغلاة في هباتهم الدينية في أي عهد من العهود، ودع عنك أحوالا كثيرة أخرى تؤيد الاعتقاد أنه مهما يكن من تعصب المسلمين وأوهامهم، فإنهم لم يبدوا قط ميلا للبذل والتضحية المالية من أجل منشآتهم الدينية، كما يضحي الكاثوليك، بل كما يضحي المسيحيون البروتستنتيون من أجل منشآتهم.»
سقنا هذه الملاحظة الأخيرة للسويسري المسلم المدفون بالقاهرة لموازنتها بما كتب غيره ممن ولدوا مسلمين، من هؤلاء صاحب الرحلة الحجازية محمد بك لبيب البتانوني الذي رأى الحجاز عام 1907 في صحبة خديو مصر عباس حلمي الثاني، وهو قد تحدث عن الروضة حين حديثه عن المسجد النبوي، فأشار إلى موضعها من المسجد وإلى أن داربزينا من النحاس الأصفر يبلغ ارتفاعه نحو متر يفصل بينها وبين زيادتي عمر وعثمان اللتين في جنوبها، ثم قال: «والروضة على الدوام غاصة بالناس لشرف مكانتها، وفيما يلي هذا الدرابزين ربعات قرآنية كثيرة، وعدد كبير من المصاحف المختلفة الحجم، منها ما هو بحرف الطبع، ومنها ما هو بخط اليد الجميل، وإلى جانبها نسخ كثيرة من دلائل الخيرات، وكل ذلك موقوف عليها للقارئين من الزوار، وفي غرب الروضة الشريفة قبلته
صلى الله عليه وسلم ، وهي آية من آيات الله في كمال بهجتها، وجمال صنعها، وهي على استقامة المقصورة الشريفة من جهة القبلة، وضعها - عليه الصلاة والسلام - يوم الثلاثاء الموافق نصف شعبان من السنة الثانية للهجرة عندما أمره الله - تعالى - بالصلاة إلى الكعبة المكرمة، وإلى غرب القبلة المنبر الشريف، وهو من الرخام المنقوش بالليقة الذهبية الفاخرة وعلى غاية في الجمال ودقة الصناعة، أرسل هدية من السلطان مراد الثالث العثماني إلى الحرم سنة ثمان وتسعين وتسعمائة للهجرة، فوضع في مكان المنبر الذي كان به منبر قايتباي، وهو في نفس المكان الذي كان به منبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم .»
ويذكر إبراهيم رفعت باشا في كتابه «مرآة الحرمين» ما في الروضة من الأعمدة الجميلة المفرغة ويذكر «نجفة» كبيرة، ويخص بالذكر نجفتين على أطرافهما تنانير يوقد منها الشمع أهداها إلى المسجد النبوي عباس باشا الأول، والكبيرة منها معلقة في السقف القبلي مما يلي الروضة، كما يذكر أن عباسا هذا أهدى إلى المسجد أربع شجرات على أعمدة من البلور مفرعات بأغصان مائلة عليها تنانير صافية وضعت بالروضة المطهرة وما يليها من الغرب في صف واحد من الأساطين.
ويصف عبد القدوس الأنصاري اثنتين من هذه الشجيرات الأربع فيقول: «وبجانبي المحراب نخلتان صفر، مثبتتان في الأرض، ولكل جذر وجذع وساق وغصون، وهما مثمرتان وذواتا أكمام، ولكن ثمرتهما قطع البلور الصافي، وأكمامهما المصابيح الزجاجية الملونة.» أما وصف الروضة وما فيها فلم يتناوله صاحب «آثار المدينة المنورة» في اتساق كما فعل السويسري برخارت، بل تحدث عن بعض ما فيها فذكر المحراب النبوي وأنه في شرقي المنبر: «تزينه الآيات المرقومة بماء الذهب، وقطع ملونة من الرخام، وناهيك بجمال العمودين بجوانبه، فهما من الرخام الأحمر ذي اللون الإثمدي، وفي الجانب الغربي من المحراب مكتوب: «هذا مصلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» وشكل بناية هذا المحراب ينبئ على أنه قرين المحراب السليماني في تاريخ العمارة، والمحراب السليماني يقع في غربي المنبر، وبظهره كتابة تنبئ أنه بني سنة 938ه، وأن بانيه السلطان سليمان، أما المنبر فيقع بين المحرابين، وبه اثنتا عشرة درجة، ثلاث بخارجه وتسع بالداخل، مصنوع من المرمر، وظاهره مغمور بالتذهيب وبالنقوش الفائقة، وفوقه قبة لطيفة قائمة على أربعة أعمدة من المرمر، وفوق بابه شرفات آية في الإبداع، وإن لماء الذهب لبريقا حتى لكأن الصانع فرغ من صنعه بالأمس، وتاريخ عمارته وإرساله من قبل السلطان مراد هو سنة 998ه، كما تنطق به الأبيات المنقوشة على بابه، وأمام المنبر مقصورة المبلغين وتسمى المكبرية، وبينها وبينه إلى الشمال نحو خمسة أمتار ومنها يقيم المبلغون الصلوات، وهي عبارة عن مربع رخامي قائم على ثمانية أعمدة رشيقة، ستة منها محلاة بصبغ أحمر عقيقي اللون، واثنان أبيضان.»
سقت هذه الأوصاف لما في الروضة اكتفاء بها عن الوقوف أمام كل أثاث فيها أو زخرف، فهذا الوقوف يقتضي من أراد الإحاطة بجمال الفت في دقة تفاصيله ساعات طويلة وعلما مستفيضا بفنون شتى، ما لم يكن ممن يكفيهم إبداء الإعجاب بهذا الجمال والبهر لمرآه، ثم إني على كثرة ترددي على المسجد والروضة لم أكن حريصا على دراسة التفاصيل في عمارته وزخرفه حرصي على دراسة ما تبعثه الروضة، وما يبعثه المسجد كله إلى النفس الإسلامية في عهدنا الحاضر من أثر في خشوعها وتعبدها، فهذا الرجل الجالس إلى جوار المحراب النبوي ملصقا نفسه به حتى يكاد يصبح جزءا منه مخافة أن يزحزح عن مكانه، مؤمنا أنه يدنو بذلك من رياض جنة الخلد، وهذا الآخر الذي ينفح خادم الحجرة بما ينفحه ليختصه بمكان إلى جوار منبر الرسول يجلس فيه كلما جاء إلى الروضة، وهذه الصفوف الأولى من الجالسين الذين يبدو عليهم أثر النعمة والوجاهة بالقياس إلى الجالسين في الصفوف التي وراءهم، هذه المظاهر وأمثالها هي التي عنيت بملاحظتها ودرسها في هذا الجانب الأقدس من مسجد النبي العربي الذي نادى في الناس بكلمات من ربه:
إن أكرمكم عند الله أتقاكم ،
فأينما تولوا فثم وجه الله . وما لي وتفاصيل المنبر والمحاريب والنجف والسجاجيد وما طعمت به، ومم صنعت، وأين نسجت، وهي كلها في نفاسة صنعها ترجمان حالات نفسية في الروح الإسلامي خلال تطوره على العصور؟! وما تحاط به اليوم من تقديس، وما تبعثه إلى النفس من أثر في خشوعها وتهجدها، إنما هو صورة النفس الإسلامية في طورها الديني الحاضر، وهذا عندي أجدر بالدرس والعناية من الآثار الفنية لذاتها.
ومما لا ريب فيه أن الأكثرين ممن يجيئون إلى الروضة ويختارون أماكنهم منها يحسبون أنها كانت على الصورة التي يشهدونها منذ برأ الله الأرض ومن عليها، أو أنها كانت كذلك على الأقل من عهد النبي - عليه الصلاة والسلام، وقل منهم من يفكر في الأدوار التي مرت بها من حيث العمارة والزخرف، ولا ريب كذلك في أن لعمارة الروضة ولزخرفها في نفوس هؤلاء الأكثرين أثرا تعبديا يتغير إذا تغيرت هذه العمارة وهذا الزخرف، كتغيره حين انتقالهم من الروضة إلى المكان المحيط بصحن المسجد مع شدة الشبه بين ما في هذا المكان وما في الروضة من عمد وما فوق هذه العمد من قباب، ولو أن النفس الإسلامية كانت اليوم كما كانت في عهد الرسول وخلفائه الأولين صفاء وطهارة وقوة لما تأثرت في خشوعها وتهجدها وتوجهها إلى الله بمكان، وإن بلغت الذكريات التي يثيرها هذا المكان فيها غاية الطهر والسمو، ولكان الاجتماع بمسجد الرسول أدنى أن يبعث فيها من معاني المحبة والقوة والجهاد أسوة بصاحب هذا المكان وأصحابه الأولين ما يزيدها على الحياة قوة، وما يجنبها أن تعبد إلا الله وحده لا شريك له.
يحسب الأكثرون أن الروضة كانت دائما كما يشهدونها اليوم، أو أنها كانت كذلك منذ عهد النبي - عليه الصلاة والسلام، والحق أنها لم تكن إلا في عصور متأخرة، وأن هذا المسجد النبوي قد مر به من الأدوار التي تمثل التفكير الإسلامي في تطوره أكثر مما مر بالحرم المكي، بل لقد كان هذا المسجد خاضعا للتطور السياسي والديني أكثر من الحرم منذ صدر الإسلام وفي عهد الخلفاء الأولين.
فقد كان المكان الذي يقوم المسجد فيه مربدا لغلامين يتيمين في المدينة هما سهل وسهيل ابنا عمرو يوم جاء النبي مهاجرا إليها، والمشهور أنه
صلى الله عليه وسلم
انتهى من هجرته إلى قباء على فرسخين من المدينة فأقام بها ومعه أبو بكر أربعة أيام، وفي هذه الأيام الأربعة أسس مسجدها، وكان آخر الأيام الأربعة يوم جمعة، وفيه سار ومعه أبو بكر وعلي بن أبي طالب حتى دخل المدينة وأهلها في انتظاره يتحرقون شوقا لمشاهدته، وهناك في المسجد الذي ببطن وادي رانوناء أقبل عليه مسلمو يثرب وكلهم الإيمان والمحبة الصادقة، وصلى الجمعة معهم، واعتذر لمن عرض عليه منهم أن يقيم عندهم في العدد والعدة والمنعة، وامتطى ناقته القصواء وألقى لها خطامها وتركها تسير وأهل المدينة من حولها في حفل حافل، فلما كانت عند مربد سهل وسهيل ابني عمرو بركت، فقال رسول الله: «هذا إن شاء الله المنزل.» ودعا: «اللهم أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين»، وسأل عن المربد فأجابه معاذ بن عفراء أنه ليتيمين في رعايته، وأنه سيرضيهما، ورجاه أن يتخذه مسجدا، وقبل محمد على أن يدفع ثمنه، وأقام أثناء بناء المسجد في دار أبي أيوب خالد بن زيد الأنصاري، وشارك أصحابه في بناء المسجد وعمل فيه بيديه، وبني المسجد يومئذ فناء فسيحا، جدرانه الأربعة من الآجر والتراب، وسقف جزء منه بالجريد، وترك الجزء الآخر مكشوفا، وخصصت إحدى نواحيه لإيواء الفقراء الذين لا يملكون مسكنا.
وقد أورد السمهودي في كتابه «وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى» روايات لا تختلف عن هذه ولكنها تزيدها وضوحا وتفصيلا، فقد أحاط المسلمون بالناقة في مسيرها حتى وقفت أمام المربد، وكان يومئذ يصلي فيه جماعة من المسلمين، وكان أبو أمامة سعد بن زرارة ذا آصرة قربى باليتيمين وكانا في حجره، وكان قد اتخذ بعض هذا المربد واتخذ أرضا له متصلة به مسجدا واتخذ عليه عريشا، وقد أقام النبي اثني عشر يوما بعد وصوله إلى المدينة وإقامته بدار أبي أيوب يصلي فيه، ثم إنه سأل سعدا أن يبيعه أرضا تجاور ذلك المسجد مملوكة لليتيمين سهل وسهيل ليزيد فيه حتى يتسع للمسلمين حين صلاتهم، وكان هذا المربد للتمر يجفف فيه، وكان به نخل وغرقد وقبور للجاهلية، فأمر الرسول بالنخل والغرقد فقطعت، وبالقبور فنبشت، وبعظامها فغيبت، وكان به ماء فسيره فذهب، فلما تم ذلك بدأ بناءه كأبسط ما يكون البناء باللبن، وسقفه بالجريد، وجعل عمده من خشب النخل.
وذكروا أن محمدا لما قدم المدينة قال: «ابنوا لي عريشا كعريش موسى ثمامات وخشبات، وظلة كظلة موسى، والأمر أعجل من ذلك.» قيل: وما ظلة موسى؟ قال: «كان إذا قام أصاب رأسه السقف.»
وبدءوا يبنون المسجد والرسول يبني معهم ينقل اللبن والبناءون يبنون، لقيه رجل وهو يحمل لبنة فأراد أن يخفف عنه بأن يحملها وقال: أعطينيها، فأجابه: «اذهب فخذ غيرها فلست بأفقر إلى الله مني.» وجاء رجل من حضرموت يحسن عجن الطين فنحى رسول الله غيره عن هذا العمل وقال للرجل: «الزم أنت هذا الشغل فإني أراك تحسنه، ورحم الله امرأ أحسن صنعته .» ولما رأى كبار الصحابة إقبال رسول الله على العمل أقبلوا عليه جميعا ولم يكن لأغنيائهم قبل ذلك بهذا عهد، وكان علي بن أبي طالب يعمل ويرتجز:
لا يستوي من يعمر المساجدا
يدأب فيها قائما وقاعدا
ومن يرى عن الغبار حائدا
وكان عثمان بن عفان على واسع ثروته وعظيم جاهه، وعلى أنه كان رجلا نظيفا متنظفا، يحمل اللبنة فيجافي بها عن ثوبه، فإذا وضعها نفض كمه وما يكون قد أصاب ثوبه من التراب، وكان سائر المسلمين يعملون ويرتجزون:
لئن قعدنا والنبي يعمل
ذاك إذن للعمل المضلل
وسرعان ما تم بناء المسجد، فقد كان بسيطا، جدره من اللبن، وسقفه من الجريد، وعمده من خشب النخل، وقيل: إنهم صنعوا من النخل قبلة له إلى ناحية المسجد الأقصى، وبقيت كذلك حتى عدل بها إلى ناحية الكعبة.
وكان هذا المسجد الأول كافيا على بساطته للغاية التي قصد إليها من بنائه، فقد كان الإسلام كما دعا إليه الرسول دين قوة على الحياة وزهد فيها مع السعي للرزق وجني ثمراته؛ لكيلا ينسى الإنسان نصيبه من الدنيا، وكان المسلمون يومئذ يدركون هذه المعاني إدراكا دقيقا أن كان لهم في رسول الله أسوة حسنة، وأين يكون الزهد في الحياة الدنيا وزخرفها إذا لم يكن في مساجد الله ودور عبادته؟! وكيف يقتل المرء غرور النفس إذا لم يشعر ساعة وقوفه مصليا بين يدي ربه أنه يتصل بخلق الله لا حائل بينه وبينه، تشرق الشمس ويصفو الهواء، فينعم من هذا ومن ذاك بفضل الله، ويقصف الرعد ويهتن المطر، فيحتمل هذا وذاك ساعة عبادته صابرا شاكرا؛ لهذا لم يكن في مسجد النبي شيء من الزخرف، ولم يكن فيه وقاية من قسوة الجو وانهيار السيل، وكثيرا ما هتنت السماء والنبي يصلي في المسجد والمسلمون من ورائه، فلم يصدهم هتنها ولا صدهم ما بالمسجد من طين عن صلاتهم؛ بل لقد رئي
صلى الله عليه وسلم
وبه من طين المسجد أثر كان يسرع بعد الصلاة إلى إزالته وتنظيفه.
وبقي المسجد على هذه الحال وجدرانه من اللبن وسقفه من الجريد، وأكثره غير مسقوف، وعمده من جذوع النخل ست سنوات تباعا، لم يغير منه ما كان من انتشار الإسلام ولا غير منه ازدياد الرخاء بالمدينة وما أفاء الله على أهلها من بسطة الرزق، فلما غزا المسلمون خيبر في السنة السابعة للهجرة وفتحها الله عليهم كانت المدينة قد أصبحت خالصة للمسلمين وكان أهلها قد ازداد عددهم بمن سكنها ممن هداهم الله للإسلام، فلم يكن من توسيع رقعة المسجد بد، عند ذلك زاد النبي في مساحته مائة متر مربع، فقد كان إلى يومئذ خمسا وثلاثين مترا في ثلاثين، فجعله النبي مربعا، وفي رواية أنه جعله خمسين مترا في خمسين، لكنه لم يفعل أكثر من ذلك، ولم يغير من عمارته باللبن والجريد وجذوع النخل شيئا.
وهذا المنبر الذي صار من بعد آية في الفن وإتقانه على ما رأيت، والذي يسمى منبر رسول الله لم يفكر النبي حين وسع المسجد في تغييره ولا في زخرفته، وما حاجته
صلى الله عليه وسلم
إلى هذا الزخرف المادي وكل دعوته إلى كمال الروح وسموها ودأبها للقربى من بارئها؟! وهو لم يتخذ لنفسه منبرا أول الأمر، وما كان ليتخذه لولا أنه شعر بالحاجة إليه، فقد كان يخطب الناس إلى جذع في المسجد حتى شعر بأن القيام قد شق عليه، فلما عرف أصحابه ذلك منه قال تميم الداري: أنا أعمل لك منبرا كما رأيت يصنع بالشام، وقال العباس بن عبد المطلب: إن لي غلاما يقال له: كلاب أعمل الناس، قال النبي: مره يعمل، فأرسله العباس إلى أثلة بالغابة فقطعها ثم عملها درجتين ومجلسا.
وقد جعل النبي للمسجد حين بناه ثلاثة أبواب؛ باب بالجهة الغربية دعي باب عاتكة - وهو باب الرحمة الآن، وباب بالجهة الشرقية دعي باب آل عثمان - وهو باب جبريل الآن، وباب بالجهة الجنوبية بقي سبعة عشر شهرا حين كانت قبلة المسجد في جداره الشمالي لتواجه المسجد الأقصى؛ فلما تحولت القبلة إلى الكعبة سد الباب الجنوبي ووضعت القبلة مكانه، وفتح في الجدار الشمالي باب مكان القبلة الأولى.
وبقي بناء المسجد على ذلك حتى اختار النبي الرفيق الأعلى، ولم يحدث في خلافة أبي بكر إلا ما روي من أن سواري المسجد نخرت فبناها، فلما كان عهد عمر بن الخطاب واطردت الزيادة في عدد المسلمين لم يكن من توسيع المسجد كرة أخرى بد، ولقد كان الشعور بضرورة الزيادة واضحا منذ دانت للإسلام بلاد العرب كلها في عهد الرسول، حتى لكان يقول: «ينبغي أن نزيد في المسجد.» ولقد اعتمد عمر إلى هذا الحديث حين استقر عزمه على الزيادة فكان يقول: لولا أني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «ينبغي أن نزيد في مسجدنا.» ما زدت.
ودعا عمر كل من كان له إلى جوار المسجد دار فقال لهم: اختاروا مني بين ثلاث خصال: إما البيع فأثمن، وإما الهدية فأشكر، وإما الصدقة على مسجد رسول الله، فأجاب الناس، وكان للعباس بن عبد المطلب دار عن يمين المسجد، فلما خيره عمر بين هذه الخصال الثلاث رفض أن يجيبه إلى شيء منها، قال عمر: إذن أهدمها، قال العباس: ما لك ذلك، فاحتكما إلى أبي بن كعب وانطلقا إليه فقصا عليه القصة، فقال لهما: إن شئتما حدثتكما بحديث عن رسول الله، وذكر أنه سمعه
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن الله أوحى إلى داود أن ابن لي بيتا أذكر فيه، فخط داود خطة بيت المقدس، فإذا تربيعها ببيت رجل من بني إسرائيل، فسأله داود أن يبيعه إياها فأبى، فحدثت داود نفسه أن يأخذها، فأوحى الله إليه أن يا داود أمرتك أن تبني لي بيتا أذكر فيه فأردت أن تدخل في بيتي الغصب وليس من شأني الغصب، إن عقوبتك ألا تبنيه، قال: يا رب فمن ولدي؟ قال: فمن ولدك، وبناه سليمان بن داود.» فلما سمع عمر حديث أبي أخذ بمجامعه وسار به حتى دخل المسجد فوقفه على حلقة من أصحاب رسول الله فناشد أبي الحاضرين أن يذكر منهم من سمع هذا الحديث، فشهد بعضهم أنه سمعه، فأرسل عمر أبيا؛ فالتفت إليه وقال : يا عمر! أتتهمني على حديث رسول الله؟ قال عمر: والله يا أبا المنذر ما اتهمتك، ولكني أردت أن يكون الحديث عن رسول الله ظاهرا، وقال للعباس: اذهب فلا أعرض لك في دارك، قال العباس: أما إذ قلت فإني قد تصدقت بها على المسلمين أوسع عليهم في مسجدهم، فأما وأنت تخاصمني فلا، وبنى له عمر دارا بدلها من بيت مال المسلمين.
بدأ عمر توسيع المسجد في السنة السابعة عشرة للهجرة، فزاد فيه خمسة أمتار من الناحية الجنوبية ونقل القبلة إليها، وزاد نحو ذلك من الناحية الغربية، وزاد خمسة عشر مترا من الناحية الشمالية، ولم يزد شيئا من الناحية الشرقية، إذ كانت بها بيوت أمهات المؤمنين، وكن ما يزلن يقمن فيها، وفي بيت عائشة منها كان قبرا النبي وأبي بكر، وقد دخلت دار أبي بكر في هذه الزيادة لوقوعها في ناحية المسجد الغربية، ويقال: إن هذه الدار خرجت من ملك أبي بكر في حياته حين احتاج إلى شيء يعطيه بعض من وفد عليه فباعها حفصة بنت عمر أم المؤمنين بأربعة آلاف درهم، وإن جزءا منها أدخل في زيادة المسجد أيام عمر، وأدخل جزء منها في زيادة عثمان.
لم يحدث عمر حين أنشأ هذه الزيادة في عمارة المسجد أكثر من أنه زاد في رقعته وزاد في عدد أبوابه، فقد بنى الجدر كما بناها رسول الله من قبله، جعل الأساس من الحجارة، وما فوقه من اللبن، والعمد من الخشب، والسقف من الجريد، وجعل للمسجد ستة أبواب: اثنين منها في الجهة الغربية يحاذيان باب الرحمة وباب السلام الحاليين، واثنين في الجهة الشرقية يحاذيان باب جبريل وباب النساء، وبابين في الجهة الشمالية غيرا من بعد في الزيادات التي حدثت.
لم يكن بناء عمر المسجد على هذا النحو حرصا منه على احتذاء سنة الرسول في العمارة وكفى؛ بل كان كذلك لأن الفكرة في فن العمارة عند هؤلاء العرب الصميمين كانت مستمدة من الحاجة أكثر مما كانت مستمدة من المتانة أو الزخرف، وحاجة هؤلاء المسلمين الأولين كانت إلى سعة المسجد كي يجمعهم للصلاة، فلم يكن يدور بخلد عمر أمر وراء ذلك.
هذا، ثم إن الصلاة عندهم كانت توجها خالصا إلى الله يطهر الإنسان له بالوضوء ويأخذ زينته عند كل مسجد، من غير أن يجعل منه وسيلة تأنق أو سبيلا إلى فخر أو كبرياء؛ لذلك لم يكن الزخرف معروفا في العمارة العربية قبل الإسلام ولا في الصدر الأول منه، كان بناء الكعبة قبل عهد النبي وقبل بعثه أبسط صورة للبناء، وكان مسجد النبي بالمدينة كما كانت مساكنه ومساكن المسلمين جامعة إلى النظافة التقشف، وإلى الطهر الرغبة عن الحياة الدنيا وباطل غرورها، فإذا كان الفتح الإسلامي قد امتد في عهد عمر وكانت غنائم المسلمين قد ملأت بيت المال بما سهل معه بناء بيت للعبادة له من الفخامة ما لكنائس الشام في ذلك العهد، فما كان الذهن العربي ليتجه يوم ذاك إلى هذه الناحية، ولا كان عمر ليبني المسجد إلا في هذه الصورة البسيطة البالغة في تقشفها والتي جعلها الرسول رمز المودة الجامع للمسلمين في تحابهم بنور الله بينهم حين قيامهم وركوعهم وسجودهم في حضرة ذي الجلال والإكرام.
على أن تطورا حدث يومئذ لا ينبغي أن نغفله، ذلك أن عمر اتخذ مكانا إلى جانب المسجد يدعى البطيحاء وقال: «من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا فليخرج إليه.» وسبب ذلك أن عمر سمع ناسا من التجار يذكرون تجارتهم والدنيا في المسجد فقال لهم: «إنا بنينا هذه المساجد لذكر الله، فإذا ذكرتم تجاراتكم ودنياكم فاخرجوا إلى البقيع.» وسمع عمر رجلا يرفع الصوت في المسجد فقال له مغضبا: أتدري أين أنت؟! كأنه كره الصوت، وتلاحى رجلان في المسجد فقال عمر: أفي مسجد رسول الله تقولان الهجر وما لا يصح من القول ... وبينما هو في المسجد عشاء إذ سمع رجلا يضحك، فأرسل إليه فقال: من أنت؟ قال: رجل من ثقيف من أهل الطائف، فتوعده قائلا: لو كنت من أهل البلد لنكلت بك! إن مسجدنا هذا لا ترفع فيه الأصوات، ومر بحسان بن ثابت وهو ينشد في المسجد فلحظ إليه، فقال حسان: قد كنت أنشد وفيه من هو خير منك، فانصرف عمر وقد عرف أنه يريد النبي، وكان ما قال حسان حقا، روت عائشة أن رسول الله كان ينصب له منبرا في المسجد يقوم عليه فيهجو الكفار، وذلك أن رسول الله حين نهى عن تناشد الأشعار في المساجد لم ينه عما لا يشغل من فيها مما يتصل بالإسلام ويزيد الشعور به قوة، وفي المسجد أنشد كعب بن زهير رسول الله قصيدته: «بانت سعاد».
هذا التطور الذي أدى بعمر ليأمر من أراد أن يلغط أو يرفع صوتا أو ينشد شعرا أن يخرج من المسجد إلى البطيحاء يتفق مع روح الإسلام ونص الكتاب وتعاليم الرسول، فإن يكن قد حدث في عهد الرسول تجاوز بإنشاد الشعر، فلم يكن ذلك للإباحة وإطلاقها، وإنما كان استثناء في أحوال بذاتها، فكعب إنما أنشد «بانت سعاد» يوم جاء مستجيرا بالنبي يعلن إليه إسلامه، وهجاء حسان الكفار بقصائده نوع من الجهاد في سبيل الله جائز في المساجد، والمسلمون في عهد النبي كانوا يتحدثون في غزواتهم وفي شئون خصومهم حين وجودهم بالمسجد فلا يعترض عليهم أحد؛ لأنهم يتحدثون في شئونهم العامة، فلما كثر عددهم تجاوزوا الشئون العامة، وأراد بعضهم أن يتخذ المسجد مجلسا لأحاديثهم الخاصة في تجارتهم وشئون دنياهم، وخشية عمر أن يغلب الحديث في هذه الشئون الخاصة هي السبب في أنه أمر من شاء أن يلغط أو يتحدث في شئونه الخاصة بالخروج إلى البطيحاء.
ولما آلت الخلافة إلى عثمان بن عفان سنة أربع وعشرين من الهجرة كلمه الناس أن يزيد في مسجدهم وشكوا إليه ضيقه يوم الجمعة، فشاوروا أهل الرأي من الصحابة في ذلك، فأجمعوا على أن يهدمه ويزيد فيه، ولم يكن إحساس الناس بضرورة الزيادة في المسجد عجيبا بعد أن امتد الفتح الإسلامي وازداد سكان المدينة بامتداده زيادة عظيمة، وصعد عثمان المنبر يوما بعد أن صلى الظهر بالناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: «أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وأزيد فيه، وأشهد لقد سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة.» وقد كان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب، كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه.»
وحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا إليه، فزاد عثمان بقدر زيادة عمر في الناحية الجنوبية من المسجد، وكذلك فعل في الناحية الغربية، أما في الناحية الشمالية فكانت زيادته دون زيادة عمر، وكانت تزيد على ما أحدثه في الناحيتين الجنوبية والغربية بما يعدل قرابة الضعف من كل من هاتين الزيادتين، لكنه أحدث من التطور في عمارته ما لم يحدثه عمر، فهو لم يجدده باللبن ولم يجعل عمده الخشب وسقفه الجريد أسوة برسول الله، بل بنى جدره بالحجارة المنقوشة والقصة، وجعل عمده من حجارة منقورة أدخل فيها عمد الحديد وصب فيها الرصاص ونقشها من خارجها، أما سقفه فقد جعله من الساج، وهذا تطور عظيم في العمارة العربية، إن لم يخرج بها عن فكرة المسجد على ما صوره رسول الله، فقد أحدث فيها فكرة المتانة والبقاء، وقد أنكر جماعة من المسلمين يومئذ على عثمان ما فعل من ذلك، وأرادوا أن يبنوا المسجد على نحو ما بناه رسول الله؛ فلم يحفل بقولهم.
ولم يزد عثمان في المسجد من ناحية الشرق؛ لأن بيوت النبي كانت ما تزال قائمة، وكان من أزواجه من لا يزلن يقمن بها، وكان أقرب هذه البيوت من المسجد بيت عائشة الذي دفن به رسول الله وخليفتاه أبو بكر وعمر؛ لذلك لم تكن الحجرة النبوية في المسجد، ولم يكن به موضع معين للروضة النبوية، بل كان كله مسجد الرسول تتساوى جوانبه جميعا في ثواب الصلاة فيه.
وبقي المسجد على ما بناه عثمان إلى سنة ثمان وثمانين من الهجرة لم يزد في نظامه وبناء عمر إلا المقصورة التي اتخذها عثمان ، والتي ما تزال تعرف بمحراب عثمان، وكانت صغيرة من لبن، وفيها كوة ينظر الناس منها إلى الإمام، وكذلك تعاقبت عهود علي ومعاوية ويزيد بن معاوية ومروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان والمسجد على بناء عثمان لا يفكر أحد في الزيادة فيه ولا في تغيير عمارته، وكان مرجع ذلك إلى قيام الثورات عند مقتل عثمان، وإلى انتقاض أهل الحجاز على معاوية وخلفائه بالشام، واستمرار الحرب لذلك بين الأمويين والعلويين ومن شايعهم من الصحابة وأهل بيت النبي ومن انضم إلى ممثلهم عبد الله بن الزبير من المسلمين حين لحق بمكة وتحصن بها بعد مقتل الحسين بن علي بالعراق، فلما قتل ابن الزبير في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة وتم الأمر لبني أمية في عهد عبد الملك بن مروان انصرف تفكيرهم إلى تقوية الوحدة الإمبراطورية للدولة الإسلامية بعد أن كانوا منصرفين إلى نضال خصومهم، حتى لقد فكر عبد الملك زمنا في اتخاذ قبة الصخرة مثابة لحج المسلمين من أهل مصر والشام والعراق إذا بقي الأمر لابن الزبير بمكة، ومنذ انصرفوا إلى تقوية الإمبراطورية الإسلامية امتد الفتح حتى بلغ الأندلس في عهد الوليد بن عبد الملك.
لم يقض انتصار بني أمية الحاسم على اعتقاد العلويين أنهم - وهم أهل بيت النبي - أصحاب الحق في الخلافة، ومتى قضى ظفر ملك بخصومه على إيمان المغلوبين بحقهم؟! ومتى قضى ظفر نظام بنظام على رجاء المغلوبين في أن يكون الظفر لهم من بعد؟! إن انتصار الجمهورية في فرنسا لم يقض إلى اليوم على أنصار الملوكية فيها، ولم ينزع الرجاء من نفوسهم أن ينتصر اعتقادهم بحقهم على باطل غيرهم، والظافرون يعرفون هذا ويجعلون عيونهم لذلك على خصومهم لكي لا تقوم لهم قائمة، فإذا أبطرهم الظفر وغفلوا، ثار هؤلاء الخصوم بهم وولوا الأمر مكانهم.
كان ذلك شأن بني أمية مع بني هاشم من العلويين والعباسيين، ظفروا بهم، فلم تنسهم نشوة الظفر أنهم خصومهم وأنهم يتربصون بهم الدوائر، كان أبناء فاطمة ابنة رسول الله وحفدتها يقيمون في بيت جدتهم إلى جوار المسجد النبوي، وذلك بعد مقتل الحسين، وبعد أن استقر الأمر لبني أمية، وكان الوليد بن عبد الملك قد استعمل عمر بن عبد العزيز على المدينة، وقدم الوليد حاجا بعد ولايته أمر المؤمنين، فزار المدينة، وفيما هو يخطب الناس يوما على قبر رسول الله حانت منه التفاتة إلى ناحية بيت فاطمة، فإذا بحسن بن حسن بن علي بن أبي طالب في يده مرآة ينظر فيها، فلما نزل الوليد أرسل إلى عمر بن عبد العزيز وقص عليه الأمر وقال: «لا أرى هذا قد بقي بعد، اشتر هذه المواضع وأدخل بيت النبي في المسجد واسدده.» روي أن حسن بن حسن وفاطمة بنت الحسين وولدهما أبوا أن يخرجوا من البيت حين علموا بأمر الوليد، فأرسل إليهم إن لم تخرجوا منه هدمته عليكم، فلما أصروا على إبائهم أمر بهدمه عليهم وفيه حسن وفاطمة وولدهما، ونزع العمال البيت وهم فيه وهددوهم قائلين: «إن لم تخرجوا قوضناه عليكم.» فخرجوا، ونفذ عمر بن عبد العزيز أمر الوليد بضم بيوت النبي إلى المسجد.
وفي رواية أن الوليد كان يبعث كل عام رجلا إلى المدينة يأتيه بأخبار الناس وما يحدث بها، فقال له الرجل يوما: «لقد رأيت أمرا لا والله ما لك معه سلطان ولا رأيت مثله قط.» قال الوليد: ما هو؟ قال: «كنت في مسجد النبي
صلى الله عليه وسلم ، فإذا منزل عليه كلة، فلما أقيمت الصلاة رفعت الكلة وصلى صاحبه فيه بصلاة الإمام هو ومن معه، ثم أرخيت الكلة وأتي بالغداء فتغدى هو وأصحابه، فلما أقيمت الصلاة فعل مثل ذلك، وإذا هو يأخذ المرآة والكحل وأنا أنظر، فسألت فقيل: إن هذا حسن بن حسن.» وقال الوليد: «ويحك! فما أصنع؟ هو بيته وبيت أمه فما الحيلة في ذلك؟» قال: «تزيد في المسجد وتدخل هذا البيت فيه.» فكتب الوليد إلى عمر بن عبد العزيز يأمره بالزيادة في المسجد وشراء هذا البيت وإدخاله فيه، وأبى حسن بن حسن أن يأخذ الثمن، فكتب عمر إلى الوليد في ذلك، فأمر بهدم البيت، وهدم وطرح الثمن من بيت المال، فانتقل حسن وانتقلت فاطمة بنت الحسين إلى دار بالحيرة فابتنتها.
قرر الوليد بن عبد الملك أن يزيد في المسجد وأن يدخل هذا البيت فيه، لكنه بعد أن فكر في الأمر مليا رأى أن يدخل فيه بيوت النبي جميعا، وكانت هذه البيوت ممتدة من شرق المسجد حيث الحجرة النبوية، متجهة نحو الشمال إلى موضع ليس تعيينه اليوم بالأمر اليسير، وكانت موضع رعاية كبرى من المسلمين في ذلك العهد، ومذ خلت كلها من ساكنيها بعد أن اختار الله عائشة أم المؤمنين كان الناس يهرعون لصلاة الجمعة فيها مؤتمين بإمام المسجد، ثم يحيطونها فيما وراء ذلك برعايتهم على اعتبار أنها الآثار التاريخية الباقية للنبي الكريم ولحياته في المدينة؛ لذلك حزنوا أشد الحزن حين علموا بأمر هدمها، روي عن نصار الخراساني قوله: «أدركت حجرات النبي
صلى الله عليه وسلم
من جريد على أبوابها المسوح من شعر أسود، فحضرت كتاب الوليد بن عبد الملك يقرأ ويأمر بإدخال حجرات أزواج النبي
صلى الله عليه وسلم ، فما رأيت يوما كان أكثر باكيا من ذلك اليوم، وسمعنا سعيد بن المسيب يقول: والله لوددت أنهم تركوها على حالها.» ولعل منهم من فطن إلى أن الوليد أمر بهدم حجرة فاطمة غضبا على أبنائها، ثم أمر بهدم سائر الحجرات حتى لا يتهم بأنه هدم حجرة فاطمة انتقاما من أبناء علي بغيا بغير حق متخذا من توسيع المسجد حجة له، فقد سبقه عثمان وعمر إلى توسيعه فتركا حجرات أمهات المؤمنين لم يمسساها وزادا في المسجد من سائر نواحيه.
كيف يقيم الوليد المسجد: هل يكتفي بالزيادة في نواحيه الشرقية والشمالية والغربية، فقد بقيت الناحية الجنوبية لم تمسسها زيادة من بعد عثمان، أم يهدمه ويعيد بناءه؟ لقد شاده عثمان بناء متينا قويا على الزمن، ولم يكن قد مضى على ذلك ستون سنة، لكن الوليد كان بالشام، وكان له في العمارة وزخرفها رأي غير رأي العرب، لم يكن رأيه في العمارة منتزعا من فكرة الحاجة كما كان عند العرب يوم بنى النبي المسجد، بل كانت العمارة عنده فنا جميلا مداره رضا النفس من طريق الحس والسمو بها في درجات هذا الرضا إلى حسن المتاع بالحياة، وقد تأثر الوليد كما تأثر أسلافه الذين أقاموا بالشام بما رأوا من الآثار المسيحية التي أقيمت على طراز ما سبقها من الآثار الوثنية إذ تأنق مقيموها في تجميلها إرضاء لآلهتهم وتقربا بها إليهم، وكان من أثر ذلك أن أقام عبد الملك بن مروان قبة الصخرة ببيت المقدس على نحو من البراعة في الفن المعماري عنت له كثير من الكنائس البارعة، وذلك بعد أن رصد لعمارتها خراج مصر سبع سنين، أما والأمر كذلك فلا بد للوليد من هدم المسجد النبوي وإعادة بنائه متأثرا بالفكرة الفنية التي ملكت نفسه وكانت ذات سلطان عظيم عليها.
ولم يكن في بلاد العرب، ولا كان بين رجال المعمار المسلمين، من يكفي لإرضاء هوى الوليد وذوقه الفني في عمارة المسجد؛ لذلك كتب إلى ملك الروم يقول له: «إنا نريد أن نعمر مسجد نبينا الأعظم، فأعنا فيه بعمال وفسيفساء»، وبعث ملك الروم بأحمال من فسيفساء وبعمال اختلف في عددهم، فقيل: عشرة وقيل: أربعون من الروم وأربعون من القبط، وبأحمال من سلاسل القناديل، وبقدر كبير من الذهب، ذهب قوم إلى أنه ثمانون ألف دينار، وذهب آخرون إلى أنه ألف مثقال.
وهدم عمر بن عبد العزيز المسجد في سنة ثمان وثمانين، أو في سنة إحدى وتسعين - على اختلاف في الرواية - ثم أدخل فيه حجرات أزواج النبي، وبنى له أربع مآذن، وفرش أرضه بالرخام، ووشى حوائطه بالفسيفساء، وكسا سقفه بالذهب، وجعل أساطينه من المرمر، فلما صار إلى جدار القبلة دعا مشيخة من أهل المدينة من قريش والأنصار والعرب والموالي وقال لهم: «تعالوا احضروا بنيان قبلتكم، لا تقولوا: غير عمر قبلتنا.» وجعل لا ينزع حجرا إلا وضع مكانه حجرا، وقد بالغ عمر في تجميل المسجد وعني بذلك حتى كان العامل إذا عمل الشجرة الكبيرة من الفسيفساء فأحسن عملها نفله عمر ثلاثين درهما، ولما تم بناء المسجد جاء الوليد وجعل يدور في المسجد مغتبطا معجبا ويبدي لعمر ما يعن له من الملاحظات، وكان عمر قد عني بسقف المقصورة النبوية عناية جعلته بدعا في الفن، فلما رآه الوليد قال لعمر: ألا عملت السقف كله مثل هذا! قال عمر: إذن يا أمير المؤمنين تعظم النفقة جدا - وكانت نفقة هذا السقف أربعين ألف دينار - قال الوليد: وإن، ولم يكن ما قاله الوليد من ذلك عجبا بعد الذي زخرف عمر به المسجد في هذه العمارة من المحراب والشرفات والمنابر مما لم يكن للعرب به عهد، وإنما كان اقتباسا مما في الكنائس أتمه العمال العرب بوحي ما رأوا في الشام، وعاونهم العمال الروم والقبط على إتقانه.
وكان أبان بن عثمان يطوف بالمسجد مع الوليد، فلما استنفد الوليد النظر إلى المسجد واطمأنت نفسه إلى عمارته نظر إلى أبان وقال: «أين بناؤنا من بنائكم؟!» فكان جواب أبان: «إنا بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.»
هذه الكلمة التي قالها أبان عميقة المغزى لمن ينعم الروية فيها، فهي تصور تطورا في العمارة العربية يقابله تطور من نوعه في التفكير الإسلامي، انتقلت العمارة في بناء الوليد المسجد من طرازها البسيط الذي أوحته الحياة العربية في بساطتها وقوة اتصالها بالطبيعة، وأوحته الفكرة الإسلامية في دعوتها إلى الصلة المباشرة بين المرء وخالقه على أساس من الإيمان الذاتي وتحاب المؤمنين بنور الله بينهم، إلى هذا الطراز المركب المليء بالزخرف، ركز الإنسان فيه صورة من جمال الطبيعة انتزعها خياله من كل ما يحس ويرى من مظاهر هذا الجمال، ثم تقرب بها إلى الآلهة في العهود الوثنية إرضاء لهم بجلالها واتقاء غضبهم بجمالها، وقد أراد رجال الكنيسة المسيحية أن تقرب هيبة هذا الفن من النفوس صورة المعجزة التي تقوم المسيحية على أساسها.
أما الإسلام فكان في صفائه بريئا من هذه المظاهر، فكان المسجد في بساطته صورة لبساطة الإسلام وقوته، وإنما كان هذا التطور مظهرا لتأثر المسلمين بالتفكير الكنسي الذي أحاط بهم في الشام، والذي تسرع النفس الإنسانية إلى مثله حين لا تجد سندا من الإيمان بالله يعصمها من الضعف لسلطان الطبيعة، فالنفس الإنسانية محتاجة في سذاجتها إلى مظاهر قريبة منها يدركها الحس وترى فيها صور الكون والحياة مجتمعين، وهي لا تستطيع السمو إلى الحقيقة المجردة التي تمثل هذا المعنى، ولا تستطيع امتثالها في كل صفائها، ما لم تكن لها في ذلك أسوة كما كان للمسلمين الأولين في رسول الله أسوة، أو تبلغ من المعرفة التي تؤهلها للاتصال بالكون حظا عظيما، أما وقد انتهى عهد الأسوة واتصل المسلمون بجيرانهم من أهل الحضارات الأخرى، فكان من الطبيعي أن يتأثروا بما اتصلوا به، وأن يشغلوا عن تمحيصه بالمنازعات السياسية والثورات التي فرقت كلمتهم من عهد عثمان بعد أن مهدت لها أسباب سبقتها طوعت للإسرائيليات وغير الإسرائيليات أن تندس إلى الإسلام وأن تشوب صفاءه.
بقي المسجد بعد زيادة الوليد على حاله إلى أن غلب العباسيون الأمويين على الملك وقاموا مقامهم في الخلافة، إذ ذاك فكر ثاني خلفائهم أبو جعفر المنصور في أن يكون له من فضل الزيادة في المسجد ما كان للأمويين، ودار يومئذ بأخلاد قوم أن يأخذ العباسيون بالثأر من بني أمية فيهدموا دار عثمان ويدخلوها في المسجد، كما هدم الوليد حجرات أمهات المؤمنين وأدخلها في المسجد، من أجل ذلك كتب الحسن بن زيد إلى المنصور ينصح له أن يزيد في رقعة المسجد وأن يجعل القبر النبوي في وسطه، وبذلك تدخل دار عثمان في المسجد لمجاورتها للحجرة، لكن المنصور لم يقبل هذا الرأي وكتب إلى الحسن بن زيد يقول: «إني قد عرفت الذي أردت؛ فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان.» وتوفي أبو جعفر ولم يزد في المسجد شيئا، ولما خلفه ابنه المهدي على الملك حج سنة ستين ومائة للهجرة، وقدم المدينة منصرفه عن الحج، فاستعمل عليها جعفر بن سليمان، وأمره بالزيادة في المسجد، ولم يزد جعفر في نواحي المسجد من الجنوب والغرب والشرق شيئا، وحصر الزيادة في ناحيته الشمالية حيث صحنه المعروف بالحصوة، وكانت الزيادة في هذه الناحية فسيحة بلغت نحو الثلث من مساحة المسجد كله، وأحيطت بأروقة من العمد والقباب من طراز ما صنع الوليد، فأما ما خلا هذه الزيادة فقد اقتصر عامل المهدي على التعمير والتجميل، متخذا طراز الوليد إمامه، متأثرا في الفن بفكرة كفكرته.
واستقرت رقعة المسجد على زيادة المهدي من بعد، لكن بناءه أعيد غير مرة بعد ذلك، واستمر التعمير فيه إلى يومنا هذا، فقد احترق كله أول شهر رمضان من سنة 654 للهجرة، إذ ترك موقد المصابيح مشتعلا في مخازن المسجد فامتدت النار منه إلى ما حوله وتعلقت بحصر وبسط وأقفاص وقصب كان في المخزن، ثم امتد اللهب إلى سقف المسجد وسرى منه إلى المسجد كله، فلم يبق منه على خشبة واحدة كاملة، ونزل أمير المدينة واجتمع معه معظم أهلها فلم يقدروا على مقاومة الحريق، وأكلت النار جميع ما احتوى عليه المسجد من المنبر النبوي والأبواب والخزائن والشبابيك والمقاصير وما اشتملت عليه من كتب، وامتدت إلى كسوة الحجرة، وقد عزا القطب القسطلاني هذا الحريق إلى أن الزخارف التي بالمسجد لم ترضه
صلى الله عليه وسلم ، وإلى أن القلوب أحلت المساجد الثلاثة: الحرام والأقصى والنبوي، منها فوق قدرها، ونسيت أن عظمته - تعالى - فوق الجميع، وأنه الواحد القهار، فوقع الحريق في الكعبة وبيت المقدس قديما، ووقع هذا الحريق في المسجد النبوي، وقيل في هذا المعنى شعر وجد منه بعد الحريق بيتان على جدران المسجد هما:
لم يحترق حرم النبي لريبة
تخشى عليه وما دهاه العار
لكنها أيدي الروافض لامست
تلك الرسوم فطهرتها النار
ولم يسلم من هذا الحريق سوى قبة كانت أقيمت بصحن المسجد في القرن السادس الهجري لحفظ ذخائر الحرم من مثل المصحف العثماني وبعض صناديق أودعتها هذه الذخائر، أما عمد المسجد فبقيت قائمة كأنها جذوع النخل تتمايل إذا هبت الرياح، وذاب الرصاص من بعض الأساطين فسقطت، ووقع السقف الذي كان بأعلى الحجرة على سقف بيت النبي فوقعا جميعا في الحجرة وعلى القبور التي بها، وكتب بذلك إلى الخليفة المستعصم وهو ببغداد فأرسل الآلات مع الصناع من العراق ولم يبد رأيا فيما يصنعون، فقد كان منصرفا إلى صد التتار عن بغداد بعد أن استولوا على أعمالها؛ لذلك اضطرب الصناع وأهل المدينة واختلفوا ما يصنعون بالحجرة، وهل يذرون بها ما سقط فيها أم يرفعونه جميعا حتى يبلغوا سطح الأرض إلى التراب الذي فوق القبر، وقد انتهوا إلى ترك ما سقط ولم يزيلوه مهابة لساكن الحجرة - عليه الصلاة والسلام.
يقول السمهودي: إنه كان يرى «أن الواجب في سلوك الأدب مع هذا النبي العظيم والقيام بما وجب على الأمة من تعظيمه وتعظيم قبره الشريف هو إزالة ذلك عنه وقمه من حجرته الشريفة.» فلما حضر العمارة الثانية للمسجد شاهد بين الجدارين في الفضاء الذي خلف الحجرة أمرا مهولا من الهدم نحو القامة، فعلم أن القوم لم يتركوه إلا لعلمهم بأن إزالته لا تتأتى إلا بانتهاك الحرمة، فتوقفوا عنه ومدوا سقفا فوقه على رءوس السواري التي حول الحجرة.
لم تكن بغداد ولا كان المستعصم شرا مكانا من سائر أنحاء الدولة الإسلامية والقائمين عليها في ذلك العصر، فقد انتشر فيها الاضطراب واستولى عليها القلق، فلم تبد أي منها في عمارة المسجد رأيا، وإن بعث أكثرها من مواد العمارة ما أرضى به هوى عقيدته، وصلت الآلات من مصر بأمر المتولي عليها الملك المنصور نور الدين علي ابن الملك المعز عز الدين أيبك الصالحي، ووصلت الآلات والأخشاب كذلك من صاحب اليمن الملك المظفر شمس الدين يوسف بن منصور، وجعل أهل المدينة والعمال فيها يقومون من العمارة بما يستطيعون القيام به ولا يلبثون إذ يتقدمون فيها حتى تبلغهم الأنباء بقتل هذا أو هزيمة ذاك من ملوك المسلمين وأمرائهم، استولى التتار على بغداد وقتلوا المستعصم، ثم عزل صاحب مصر وقام فيها مملوك ابن الملك المظفر سيف الدين قطز المعزي، وقتل هذا فيما دون السنة من ولايته، وكان لهذه الأحداث أثر واضح في عمارة المسجد، فكانت تتقدم حينا، وتسير دائما على غير خطة مرسومة، فلما تولى الملك الظاهر بيبرس البندقداري أمر مصر بعد ست سنوات من الحريق جهز الأخشاب والحديد والرصاص وجهز الصناع وما يمونهم وأرسلهم بذلك كله إلى المدينة، وصار يمدهم بما يحتاجون إليه من الآلات والنفقات حتى أتموا المسجد كما كان قبل الحريق.
لم يزل المسجد على ذلك حتى جدد سقفه في سنتي خمس وسبعمائة وست وسبعمائة بأمر ملك مصر الناصر محمد بن قلاوون الصالحي، ثم زيد في السقف بأمره في سنة تسع وعشرين وسبعمائة، وقد أصلح الملك الأشرف برسباي هذه الزيادة في سنة إحدى وثلاثين وثمانمائة حين طرأ الخلل عليها، كما جدد الظاهر جقمق بعض سقف أخرى في سنة ثلاث وخمسين وثمانمائة، وفي سنة تسع وسبعين وثمانمائة قام الملك الأشرف قايتباي بعمارة في المسجد تناولت بعض سقفه وعمده وجدرانه ومآذنه.
لم يبق من أثر لهذه العمارات في وقتنا الحاضر، فقد انقضت صاعقة على مئذنة المسجد الرئيسية في سنة ست وثمانين وثمانمائة فلم تبق منها شيئا، وانتقلت النار من المئذنة إلى سقف المسجد فالتهمته، وتخطت من السقف إلى المسجد فتهدمت جدرانه وتداعت أكثر أساطينه، واحترقت المقصورة والمنبر والكتب والمصاحف، ولم يسلم من الحريق إلا الحجرة والقبة التي بالصحن، لكن ما بقي من أنباء هذه العمارات يشهد بأن التطور الذي بدأ من عهد الوليد بن عبد الملك استمر مطردا في العمارة، وأكثر اطرادا في التفكير، لم تكن للحجرة النبوية قبة قبل القرن السابع، فأقامها المنصور قلاوون سنة ثمان وسبعين وستمائة، ولم يكن ما بين الحجرة والمنبر النبوي يمتاز في عمارته عن سائر المسجد، فلما حدث الحريق من هذا القرن السابع، وأعيدت عمارة المسجد بعده، بدأ هذا الجزء من المسجد، وهو الروضة، يلقى من العناية حظا تزايد على الزمان، وبعد أن كانت الخصومات السياسية بين الأمويين والعباسيين ذات أثر ظاهر في تعديل رقعة المسجد والزيادة فيها، انصرف التفكير في عمارة المسجد عن السياسة إلى ناحية أخرى يقصد منها إلى المثوبة والزلفى، وإلى تصفيد التفكير الإسلامي على الإيمان بهذه المثوبة وهذه الزلفى من غير تمحيص أو اجتهاد.
وقد وقع الخلاف على ما حدث من هذا: أهو يتفق مع روح الإسلام؟ وبلغ الخلاف من الشدة في بعض الأحيان ما اقتضى تدخل ولي الأمر لقمعه، لما بنى المنصور قلاوون القبة على القبر النبوي اختلف الناس رأيا، فقال بعضهم: «قصد خيرا وحصل ثوابا.» وقال آخرون: «أساء الأدب بعلو النجارين القبر ودق الحطب.» وتفاقم هذا الخلاف حتى جعل الوالي عقوبة على من يقول: أساء الأدب، وذهب بعض أولي الرأي يومئذ إلى تحريم إقامة القبة لما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك أن رسول الله خرج فرأى قبة مشرفة أجابه أصحابه بأنها لرجل من الأنصار، فأعرض عن الرجل مرارا حتى عرف الرجل الغضب فيه والانصراف عنه، ولما شكا إلى أصحابه إعراض رسول الله عنه وسأل عن السبب في ذلك قالوا: «خرج فرأى قبتك.» فرجع الرجل إلى قبته فهدمها حتى سواها بالأرض، وخرج رسول الله يوما فلم ير القبة فسأل عنها فقال من حوله: شكا صاحبها إلينا إعراضك عنه فأخبرناه فهدمها، فقال
صلى الله عليه وسلم : «كل بناء وبال على صاحبه إلا ما لا بد منه.» وهذا الخلاف هو الذي لا يزال قائما إلى يومنا هذا بين الوهابيين وغيرهم من سائر المسلمين، وقد كان النصر في القرون الخمسة الهجرية الأخيرة حليف الذين يقولون بإنشاء القباب تبركا والتماسا للمثوبة؛ لأن هذا الرأي أدنى إلى إدراك الجمهور، ولعل النصر يظل حليف هذا الرأي لاعتبار آخر، ذلك أن العمارة العربية بلغت من دقة الفن وبراعته في إقامة هذه القباب مبلغا يدعو حماة الفن الجميل إلى نصرها من غير نظر إلى اعتبار المثوبة أو التبرك.
كان التطور الذي أشرنا إليه أكثر وضوحا في عمارة المسجد بعد حريق الصاعقة، لما بلغ خبر هذا الحريق الملك الأشرف قايتباي بمصر وجه الأمير سنقر الجمالي إلى المدينة ومعه أكثر من مائة صانع وما يلزم للعمارة، فبدءوا بالمئذنة، ووسعوا المحراب العثماني وجعلوا فوقه قبة أقاموها على رءوس الأساطين التي حوله، وجعلوا على جدر الحجرة النبوية وفوق السقف الذي كان عليها قبة شادوا فوقها قبة أخرى أقيمت على الأساطين والدعائم التي زخرفوها، وبنوا باب السلام بالرخام الأسود والأبيض وزخرفوه، كما زخرفوا محرابا مجوفا للرسول في دعامة أقاموها بين المنبر والقبر على حد مسجده الأصلي، وزخرفوا هذا المحراب بالرخام الملون، وأعادوا ما سوى ذلك من بناء المسجد على صورة تأنقوا فيها غاية التأنق، حتى بلغ ما أنفقه قايتباي على هذه العمارة نحو ستين ألفا من الجنيهات، والله أعلم كم يعادل هذا المبلغ من نقدنا في الزمن الحاضر.
كانت مصر في الفترة التي انقضت بين حريق المسجد في القرن السابع إلى حريقه بالصاعقة في القرن التاسع هي القائمة بأمر عمارته، فلما انتقلت الخلافة إلى آل عثمان بالآستانة ودخلت بلاد العرب، كما دخلت مصر في سلطانهم، خلفوا مصر في القيام على المسجد وعمارته، ففي سنة ثمانين وتسعمائة من الهجرة عمره السلطان سليم الثاني وشيد به محرابا جميلا هو القبلة القائمة اليوم غرب المنبر النبوي، وقد وشى هذا المحراب بالفسيفساء المنقوشة بماء الذهب، وكتب اسم السلطان سليم على ظاهره بخط الثلث الجميل، وفي سنة 1232 بنى السلطان محمود القبة ثم أمر بترميمها في سنة 1255 فرممت ودهنت باللون الأخضر، على أن العمارة الكبرى التي قام بها سلاطين آل عثمان هي عمارة السلطان عبد المجيد، فقد كتب إليه شيخ المسجد داود باشا بأن المسجد قد انقضى على عمارته أربعة قرون لم تحدث به أثناءها عمارة هامة حتى آل كثير منه إلى التخريب، فأرسل السلطان من قبله من فحص المسجد وعرف حقيقة حاله، ثم أمر بهدمه وعمارته، وتم ذلك بأن جعل المهندسون يهدمون جزءا من المسجد ويقيمون مكانه ما يحل محله، ثم يهدمون بعده جزءا غيره ويعيدون تشييده، حتى أتموا عمارة المسجد كله فيما بين سنة 1265 وسنة 1277ه، وقد تناولت هذه العمارة المسجد كله خلا المقصورة وما فيها، وبعض الجدر المتينة البناء القوية الأساس، ولم ينقض محراب عثمان لإتقانه وحسن صنعه، أما العمد القديمة فأبدل منها غيرها، وأكثرها من قطعة واحدة، وأقيمت عليها عقود من الحجر الأحمر المنحوت شيدت فوقها قباب جعلت فيها نوافذ يهبط النور خلال زجاجها الملون المحاط بشبابيك النحاس، وأعيد بناء باب السلام بناء غاية في الفخامة، وجعلت أمامه من الداخل قبة عظيمة ، أما الجدار الشمالي للمسجد فزيد فيه ما كفى لبناء مخازن ومكاتب، وبنيت خارجه أحواض للوضوء بها صنابير، وشيدت المئذنة المجيدية على طراز بالغ غاية الروعة والإبداع، وعلى الجملة بذت هذه العمارة كل ما سبقها حتى بلغت نفقاتها ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات المجيدية.
ومن خير الآثار التي سجلتها هذه العمارة وحافظت عليها ما كتب على جدران المسجد من سورة الفتح وقصيدة البردة وأسماء الله الحسنى وأسماء النبي - عليه السلام، فلقد نفى الإسلام عنه التماثيل والصور منذ حطم محمد تماثيل الكعبة ومحا صورها، فلم يكن إلى بعثها بين الفنون الجميلة سبيل، على رغم ما رآه المسلمون منها بكنائس الشام وبيزنطة، فحرب الوثنية أساس العقيدة الإسلامية، والتماثيل والصور أقدم آثار الوثنية وأبقاها؛ لذلك أنشأت الحضارة الإسلامية فنا جميلا يحل محل التماثيل والصور في التعبير عن الجمال كما يبدو للنظر، واستمدت هذا الفن من التفكير الإسلامي؛ لذلك كان الخط العربي والتفنن فيه والبلوغ به غاية البراعة في الجمال مما تفردت به هذه الحضارة؛ ولذلك تقدم السلطان عبد المجيد إلى الخطاط العظيم عبد الله بك زهدي فقضى عشر سنوات في كتابة سورة الفتح وسائر ما كتب على جدران المسجد مما لا يزال زينة جدرانه البديعة الأخاذة بالنظر.
بقي المسجد النبوي على هذه العمارة إلى اليوم، على أن محرابيه النبوي والسليماني رمما عام 1336ه كما رممت أرض المسجد بأمر الحكومة العربية السعودية الحاضرة عام 1348ه، وتقوم الحكومة المصرية بتعمير المسجد في هذا العهد الأخير منذ عدة سنوات.
حرصنا على استقصاء الأدوار التي مرت بها عمارة المسجد؛ لأنها تصور التطور الذي حدث في العمارة الإسلامية وفي التفكير الإسلامي، وهي أدق تصويرا لهذا التطور؛ لأن المسلمين لم يبذلوا لمسجد من العناية ما بذلوا لمسجد المدينة، ولم يجعلوا للمسجد الحرام بمكة إلا بعض هذه العناية، كان ذلك شأنهم من عهد الوليد بن عبد الملك، وظل شأنهم في ذلك يزداد على العصور، حتى صار مسجد مكة لا ينظر في عمارته إلا لما تقضي به الضرورة، ثم يخلع على مسجد المدينة من الترف الفني ما رأيت، فإذا ذكرت ما أشرت إليه حين الحديث عن مسجد مكة ومغزى التطور في عمارته في فصل «الجمعة في الحرم»، تبدى لك هذا التطور الآن في مبلغ من الجسامة يلفت النظر ويستوقف الفكر لتدبره والنظر في أمره.
ربما وقف القارئ موقف الحيرة لذكري «العمارة الإسلامية» بديلا من «العمارة العربية» حين الحديث عن المسجد النبوي، والواقع أن عمارة هذا المسجد لم تبق عمارة عربية بعد الوليد بن عبد الملك، فقد احتفظت العمارة العربية بطابع من البساطة ما يزال الإنسان يراه في الحرم المكي، أما مسجد المدينة فقد تعاقب عليه من ألوان العمارة ما اقتبسه المسلمون من مختلف الأنماط التي وجدوها في الآثار القائمة بالبلاد التي فتحوها، ولقد رأوا من هذه الأنماط شيئا كثيرا في الشام ومصر والروم والعراق وفارس منذ القرن الأول للهجرة، ثم رأوا كذلك شيئا كثيرا في الهند وصقلية والأندلس وحيث امتد الفتح الإسلامي على توالي العصور، من هذه الأنماط اقتبس المسلمون طرازا ليس بالعربي المستمد من فكرة الحاجة، فشيدوا العمد وقواعدها وتيجانها على طراز لا عهد للعرب به، وأنشئوا المحاريب المجوفة وكانت محرمة في الإسلام، حتى كره عبد الله بن مسعود الصلاة فيها نزولا على قوله
صلى الله عليه وسلم : «اتقوا هذه المذابح.» يعني المحاريب، وقوله: «ما تزال هذه الأمة بخير ما لم يتخذوا في مساجدهم مذابح كمذابح النصارى.» وجعلوا زخرف المساجد وسيلة إلى المثوبة بعد أن كان كعب يقول لأسلافهم في الصدر الأول: «يكون في آخر الزمان قوم يزينون مساجدهم ويتخذون بها مذابح كمذابح النصارى، فإذا فعلوا ذلك صب عليهم البلاء.» أما وذلك شأن هذه العمارة فلا حق في أن تسمى العمارة العربية.
وإنما تأثر المسلمون في نمط بنائهم بما رأوا من هياكل ومعابد؛ لأن الفكرة الإسلامية تطورت بحكم الحوادث وتقلبها، فسارت من البساطة التجريدية الأولى إلى تركيب وتعقيد ماديين أدى إليهما الاختلاط بالروم والفرس والنظر في عقائدهما، وما أكبر الفرق بين هذا التركيب وهذا التعقيد الماديين وبين بساطة الإيمان بالله وحده إيمانا مصدره القلب والعقل، الأعمال في هذا الإيمان بالنيات، ونية المؤمن فيه خير من عمله؛ لأن النية متعلقة بالذات الإنسانية، والعمل خاضع لأحداث الحياة وأهوائها، أما التركيب والتعقيد الماديين فيجعلان من المظاهر المادية كل شيء في الحياة؛ قيام المرء وقعوده، ركوعه وسجوده، لباسه ومظهره ... هذه وأمثالها من الأمور المحسوسة هي التي يقيم لها هذا التفكير من الوزن أكثر مما يقيم للنية التي صدرت عنها، ومن ثم كان البناء المزخرف أدعى إلى التقرب إلى الله في رأي ذوي التفكير المادي، وإن أدت إليه نية الظفر بخصوم سياسيين، كما كان شأن الوليد يوم ضم بيوت النبي إلى المسجد، أو دفعت إليه سياسة مرماها شغل المسلمين عن التفكير والاجتهاد لخيرهم وغايتها حبسهم في حدود التفكير المادي حتى يسهل حكمهم حكم بغي واستبداد، كما كان شأن الملوك والسلاطين منذ بدأت في العالم الإسلامي عصور الانحلال.
أين هذا من التفكير الصريح يدعو إليه الإيمان الصادق في مسجد بسيط العمارة مثل مسجد النبي كما بناه هو، وكما بناه عمر وعثمان؟! أين هذا من تفكير خالص لله يتصل فيه الإنسان ببارئه من غير وساطة إلا إيمانه الصادق به، وحرصه الخالص على التقرب منه بالعمل الصالح وبالتقوى؟! وحدثتني نفسي: أفكنت أفكر فيما تلا القارئ من هذا الفصل لو أن المسجد بقي بناؤه على نمط بناء النبي يجاور قبره ويستضيء الناس فيه بنور الوحي الذي نزل عليه؟ وهل كنت ألتمس المغفرة لذنوبي بالعكوف على مكان في المسجد أعتقده أدنى إلى مغفرة الله ذنوب عباده؟! أم كنت أشعر بروحه الكريم يملأ المكان مهابة وجلالا وقوة، ويمد المؤمنين من قوته بما يجعلهم يلتمسون المغفرة في العمل الصالح أكثر مما يلتمسونها في دعاء لا يعقبه عمل؟!
اللهم إني أعوذ بك من الزلل، وأتوب إليك من الخطأ، أنت العليم بأني إلى وجهك الكريم أقصد، ومن حب إخواني المؤمنين حقا أستمد رضاك وأرجو عفوك، فاغفر لي وارحمني ولا تجعلني من القوم الخاطئين .
المدينة الحديثة
ماذا بالمدينة غير المسجد النبوي؟ أما الآثار المتصلة بالرسول وأهله وبالصحابة والتابعين فكثيرة نتناولها بالحديث من بعد، لكنني لم أقصد إلى هذه الآثار حين ألقيت سؤالي إلى أهل المدينة الذين أقبلوا إلى دار مضيفي في المساء، وإنما قصدت إلى المدينة الحديثة، فماذا بها من مظاهر نشاط أهلها؟ وماذا بها من أثر الحياة الحديثة التي يصبو شباب مكة إليها بوجدانهم؟ قال أحدهم: «وماذا كنت ترجو أن يكون لنا من ذلك وسكان المدينة لا يزيدون على ثلاثة عشر ألفا؟!» دهشت إذ سمعت هذا الجواب، فهذا العدد من السكان متداول في كثير من قرى مصر، وهو لا يبلغ السدس من سكان مكة، فكيف يكون عددا لسكان هذا البلد الذي يجذب إليه عشرات الألوف من المسلمين في كل عام؟! أولا يجد أهل المدينة كل رزقهم إلا في موسم الزيارة، ولولا هذا الموسم لخلت من ساكنيها؟ لقد قرأت في «الرحلة الحجازية» للبتانوني أن عدد سكان المدينة يزيد على ستين ألفا، فكيف هوى هذا العدد إلى خمسه؟! أفأصاب المدينة وباء أهلكها، أم أن حرب الوهابيين أتت على خمسين ألفا من سكانها رجالا ونساء وأطفالا؟!
وأجاب الذي حدثني: «بل هوى سكان المدينة إلى هذا العدد الذي تراه ضئيلا منذ عطلت سكة الحجاز الحديدية أثناء الحرب الكبرى، ولو أن هذه السكة عادت سيرتها لصارت المدينة في عداد مدائن الشرق الكبرى، لقد كان سكانها عشرين ألفا قبل إنشاء سكة الحجاز الحديدية، فلما افتتحت هذه السكة عام 1907 ووصلت بين المدينة والشام، وقربت ما بين المدينة ومصر، أسرع عدد السكان إلى الزيادة في سرعة تثير العجب، إذ ارتفع من عشرين ألفا عام 1907 إلى ثمانين ألفا أول الحرب، أي: عام 1914، وبذلك زاد إلى أربعة أضعافه في سبع سنوات، فلما حدثت ثورة النهضة في هذه البلاد بزعامة الحسين بن علي على تركيا خربت السكة الحديدية وبقيت مخربة إلى الآن، من ثم عاد سكان المدينة يهوي عددهم إلى ثلاثة عشر ألفا، ولو أن هذه السكة بقيت لم تخرب لأربى سكان المدينة على مائة ألف، ولا عجب؛ فهذه السكة شريان حيوي لهذا البلد لا تقل قيمتها بالنسبة لنا عن قناة السويس عندكم لإنجلترا، وحسبك أن تعلم أنا كنا نصرف حاصلاتنا في الشام ونبادلها حاصلاتها، ونتجر مع مصر ونتصل من ثم بالعالم؛ لتقدر الأمر قدره الصحيح، لقد كانت خضر المدينة ترسل إلى الشام، وكانت فاكهة الشام تجيء إلينا، وكانت صلاتنا التجارية قد نمت نموا جلب من الرخاء ما لا يسهل اليوم تصوره، وكثر التعامل وارتفعت الأسعار، فبلغ ثمن قطعة الأرض التي كانت تباع بثلاثة جنيهات قبل السكة الحديدية عشرة جنيهات بعد سيرها، واليوم هبط هذا الثمن إلى جنيهين ولا تجد من يشتري.
هذا والسكة الحديد لا تزال أكثر أجزائها صالحة، ولا يحتاج تعميرها إلى مجهود كبير أو نفقة طائلة، وقد فاوضت حكومة البلاد كلا من إنجلترا في فلسطين وفرنسا في سوريا للاشتراك مع البلاد العربية في تعميرها كي تعيدها سيرتها الأولى، فقامت في سبيل المفاوضة عقبات سياسية يتصل بعضها بملكية السكة لمن تكون، وبنفقات التعمير من يتحملها، ومن يتحمل نفقات التعهد والصيانة، ويجيء وراء ذلك اعتبارات حربية لا نسمو إلى إدراكها، ولو أن هذه الصعاب ذللت لعاد إلى مدينة الرسول من البهجة ما يعيد إلى الذهن صورة العاصمة الإسلامية الأولى، أما ما بقيت في هذه العزلة المفروضة اليوم عليها فستظل كما هي، وكما ستراها حين تجوس خلالها، فقيرة إلى العون الذي يأتيها من الخارج، مهددة بمثل المجاعة التي هددتها منذ سنين، والتي جعلت الحياة فيها بؤسا وضنكا لولا تبرع المحسنين من المسلمين.»
ألقيت بكل سمعي إلى هذا الحديث الذي حز في نفسي وأثار شجني، مدينة رسول الله يكون ذلك شأنها والمسلمون ساهون لاهون! يا للعار ويا لهوان كل نفس مؤمنة! أولا يرى المسلمون في هذا نذيرا من الله لهم كيما يغيروا ما بأنفسهم ليغير ما بهم؟! وليس هذا النذير ابن أمس، فقد سمت المدينة شأنا في كثير من الأحيان، ثم أصابها مثل هذا الذي أصابها ولما تكن السكة الحديدة هذه قد أنشئت، ولما يكن التفكير فيها قد بدأ، يقول برخارت في كتابه الذي وضعه عام 1815 عن جولاته في بلاد العرب: «المدينة حسنة البناء، فكل مبانيها من الحجر، وتتألف منازلها في أكثر الأمر من طابقين عاليين، وسقفها مسطح، وهي ليست مبيضة، والحجر الذي شيدت به قاتم اللون؛ ولذلك كانت طرقاتها أدنى إلى العبوسة، وأكثر هذه الطرقات بالغة في الضيق حتى لا تزيد على ذراعين أو ثلاث أذرع، وقليل من طرقاتها الرئيسية مرصوف بأحجار مستديرة كبيرة، وهذا ترف قلما يتوقعه السائح في بلاد العرب، وهي على العموم من خير البلاد التي شهدت في الشرق بناء، وتجيء لذلك في هذا المضمار ثانية لحلب، على أن مظهرها اليوم يبعث إلى النفس الأسى لما يهدد منازلها من الدمار، ذلك بأن ملاك هذه المنازل كانوا يحصلون على أرباح طائلة من أحشاد الزوار الذين يجيئون إليها على اختلاف فصول السنة، أما الآن وقد نقصت مواردهم لا يقدمون على ما يكلفه البناء من عظيم النفقة وهم يعلمون أنهم لن يستردوا نفقاتهم بتأجير منازلهم؛ لذلك ترى المنازل الخربة والجدران التي توشك أن تنقض في كل مكان؛ ومن ثم كان منظر المدينة كأكثر مدن الشرق مما يبعث إلى القلب الحسرة ولا يعيد إلى الذهن من بهائها القديم إلا صورة ذابلة.»
1
الحرم النبوي
ليست السكة الحديدية وسيرها وانقطاعها كل السبب إذن فيما أصاب المدينة من تفاوت الحظ، أفأصاب هذا التفاوت غيرها من مدن الشرق جميعا، أم أنها خصت منه بنصيب تفردت به؟ وإن يكن ذلك حقا فما سببه؟ أمسيت أفكر في هذا أحاول رده إلى موقع المدينة حينا وإلى تأثير هذا الموقع في طباع أهلها حينا آخر، ولقد بدا لي أثناء تفكيري ما زادني حرصا عليه وإمعانا فيه، فقد كانت يثرب حتى هجرة النبي إليها مقام الأوس والخزرج من أهلها، واليهود الذين سبقوهم إليها وأقاموا بها، وكان الأوس والخزرج إلى يومئذ ما يفتئون يقتتلون فيزيد قتالهم وتناحرهم ما لليهود بالمدينة من سلطان بقدر ما يصيبهم هم من ضعف وانحلال، فلما جمع الدين الجديد الأوس والخزرج بعد أن هاجر إليهم الرسول وأصحابه من مكة وصاروا معهم بفضل الله إخوانا متحابين متضافرين انحل سلطان اليهود وضعفت شوكتهم، ثم انتهوا إلى الجلاء عن المدينة بقضهم وقضيضهم.
لكن الأمر في المدينة لم يعد إلى الأوس والخزرج من أبناء الأنصار منذ الهجرة، وما كان هذا الأمر ليعود إليهم ورسول الله بينهم وقد آمنوا به واتبعوه ونصروه، ثم إنه لم يعد إليهم بعد أن اختار الرسول الرفيق الأعلى، على ما كان لهم فيه من مطمع، فقد انحاز حي من الأنصار عقب وفاة الرسول إلى سقيفة بني ساعدة يتمالئون على الأمر يريدونه لأنفسهم؛ فلما ذهب أبو بكر وعمر على رأس المهاجرين قام خطيب الأنصار فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد؛ فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام، وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا، قد دفت دافة من قومكم، وإذا هم يريدون أن يحتازونا من أصلنا ويغصبونا الأمر.» لكن أبا بكر لم يرض هذا القول فتحدث وختم حديثه بهذه العبارة القوية: «فأما العرب فلن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فمنا الأمراء ومنكم الوزراء.» ولم يغن عن الأنصار ما طلبوا من أن يكون منهم أمير ومن المهاجرين أمير بل انتهى اجتماع السقيفة ببيعة أبي بكر بالخلافة، وقبيل وفاته عهد بالخلافة إلى عمر بن الخطاب، فبايعه الناس بها ولم ينازعه أحد من الأنصار فيها، وتولى عثمان الخلافة بعد عمر وقد اطمأن الأنصار إلى أن العرب لن تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، فلما قتل عثمان وبدأ النزاع على الخلافة بين القرشيين من بني أمية وبني هاشم لم يكن لأحد من أهل المدينة فيه مطمع.
وقتل علي بن أبي طالب بالكوفة، فجعلها أبناؤه موضع نشاطهم على بني أمية، وجعل بنو أمية عاصمتهم دمشق، ثم جعل عبد الله بن الزبير مكة عاصمة ثورته، وانحلت بذلك عن المدينة صفة العاصمة، مع ذلك لم يقم من يطالب بأن تظل المدينة عاصمة المملكة الإسلامية كما كانت في عهد النبي؛ وكان لمن يطالب بذلك الحجة البالغة ، فقد تخوف آباؤهم بعد فتح مكة أن يعود النبي إلى أهله وبلده، فكان جوابه إذ بلغته قالتهم: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم.» وقد نزل بالمدينة من وحي الله إلى رسوله أكثر مما نزل بمكة وبأي بلد آخر، ولئن يكن بمكة بيت الله لقد مات رسول الله بالمدينة ودفن بها، لكن الأنصار آثروا العافية من يوم سقيفة بني ساعدة، وتركوا الأمر لتصريف غيرهم؛ لذلك جعلت مدينتهم تزدهر حينا وتبتئس حينا، فأين ترى موضع السر في ذلك؟!
لعل هذا السرد الوجيز السريع قد كشف عن شيء من هذا السر، فليس موقع المدينة وما له من أثر في أخلاق بنيها هو الذي أدى إلى ما أصابها من تفاوت الحظ، ولو أن الموقع كان أعظم أثرا من أحداث التاريخ لكانت المدينة - طيبة الحجاز - أسعد على الزمان حظا؛ فهي ترتفع على سطح البحر أكثر من ستمائة متر، وجوها لذلك أدنى إلى الاعتدال - على رغم وقوعها على خط العرض الذي تقع عليه الأقصر طيبة مصر الفراعنة - ثم لا ترتفع الحرارة فيها صيفا إلى ما ترتفع إليه في القاهرة أو في الإسكندرية، وتصل برودة الشتاء إلى القدر الذي يتجمد فيه الماء في الآنية ساعة الصباح، وسلسلة الجبال التي تنحدر من الشام إلى اليمن تمر شرقيها ويخرج منها جبل أحد فيكاد يجاور ضواحيها، لكن الشمال والغرب والجنوب منبسطة، كلها تنبع فيها مياه الآبار وتجري إليها مياه العيون فتخصبها وتحيطها بحدائق ونخيل وخضرة يانعة منورة في ابتسامها للحياة.
وفي هذه الجبال الواقعة حول المدينة وفي الحرار المحيطة بها يتوسم الكثيرون وجود أحجار نفيسة ومعادن مختلفة، ومهد الذهب الذي استغل إلى عهد العباسيين والذي يستغل اليوم يقع على مقربة منها، أما وذلك خصب الأرض وثراؤها، فالطبيعي أن تكون المدينة متطلع الناس لسكناها، فإذا تفاوت حظها في هذا الأمر على ما قدمنا فيجب أن نبحث عن السر في غير الموقع الطبيعي من الأسباب.
وتاريخ يثرب قبل الإسلام وبعد العصور الأولى يؤيد هذا الرأي، فهي قد كانت في الجاهلية الأولى وحين هجرة النبي إليها مقصودة لحسن موقعها، وكانت ذات أسواق وأيام، والسابقون إلى الإقامة بها هم اليهود، ولعلهم هبطوا إليها كما هبطوا إلى مدن الحجاز الواقعة في شمالها فرارا من حكم رومية وبزنطية في فلسطين، فلما حطم سيل العرم سد مأرب باليمن وهاجر أزد اليمن إلى الشمال، مالت قبيلتا الأوس والخزرج منها إلى يثرب وأقامتا بها، ورضيت القبيلتان حكم اليهود أول الأمر، ثم خرجتا عليهم وأوقعتا بهم بمعونة ملوك غسان، وظل الأوس والخزرج يتنازعان السلطان على يثرب بعد ذلك وتقع بينهما حروب ما يزال التاريخ يحدث عنها، حتى كانت هجرة النبي إليها بعد بيعتي العقبة، من يومئذ بقيت يثرب عاصمة إلى خلافة علي بن أبي طالب، هنالك اعتصم معاوية بالشام، واتخذ علي الكوفة عاصمته حتى قتل بها، عند ذلك أتيحت للمدينة فرصة تسترد بها مكانتها، فكما أدى مقتل عثمان إلى انتقاض كثيرين على علي لعدم إسراعه إلى القصاص من قتلة عثمان، فقد أدى مقتل علي ثم مقتل الحسين ابنه إلى انتقاض كثيرين على بني أمية، ولقد كان عبد الله بن الزبير من أشد أعوان الحسين إلى يوم قتله بكربلاء، فلما وقعت هذه المأساة الفاجعة ترك ابن الزبير الكوفة ولحق بمكة ودعا الناس لينضموا إليه، فخرجت مكة وخرجت المدينة على الأمويين وانضمتا إلى داعية بني هاشم، وقد جرد يزيد جيشا إلى المدينة وآخر إلى مكة، أما جيش المدينة فغزاها في وقعة الحرة وانتهك حرماتها، وأخضع أهلها، وحطم أملها في أن تعود عاصمة الإسلام كما كانت في عهد النبي، وأما جيش مكة فظل يحصر أهلها حتى مات يزيد، ثم فتحها الأمويون وقتل ابن الزبير سنة ثلاث وسبعين للهجرة.
من يومئذ أذعنت المدينة لحكم بني أمية ومن قام بعدهم مقامهم، وكفى أهلها أن يكونوا موضع عناية الخلفاء وأمراء المؤمنين، وزادهم قناعة بهذه العناية أن أفنت الحروب والثورات أكثر أبنائها العرب وأحلت غيرهم من شتى الأقطار الإسلامية محلهم فيها، فلم يكن من هؤلاء من يهتز لمجدها القديم أو يثور لإعادته، وبلغت هذه العناية بالمدينة في القرون الثلاثة الأولى من الهجرة مبلغا سما بها أثناءها إلى مقام محسود من الرقي المادي والرقي الأدبي، ومن يومئذ بقيت تعتمد في حياتها على حسن توجه الملوك والأمراء والمسلمين جميعا إليها بسبب مكانتها الدينية، وفقد أهلها الاعتماد على أنفسهم.
رأيت في الفصل الأخير صورة واضحة من ذلك الاعتماد على الغير في عمارة المسجد النبوي من بعد بناء عثمان، فلما بدأت عصور الاضطراب وتداعت أركان الدولة الإسلامية، كان أهل المدينة قد فقدوا ملكة الاعتداد بالذات وأصبحوا يعيشون كلا على غيرهم من المسلمين؛ ولهذا السبب بدأ حظ بلدهم يتفاوت من اليسار أيام الاستقرار في البلاد الإسلامية، وكثرة زوار المدينة تبعا لذلك، إلى الشدة والإعسار أيام الاضطراب وانصراف المسلمين عن أداء فرض الحج وسنة الزيارة، وما حدث من انكماش سكان المدينة بعد تعطيل السكة الحديدية منذ الحرب الكبرى في سنة 1914 للميلاد يرجع إلى انقطاع سبيل الزوار أكثر مما يرجع إلى قلة التجارة، فقد انقطع الحج أو كاد أيام الحرب من خوف مفاجآت البحر؛ إذ كان يصيب «الطوربيد» السفن، ولما كان من شغل العالم بالمجزرة المروعة المنتشرة فيه عن كل شيء سواها، فلما انقطعت السكة الحديدية لم يكن عود الناس من أهل مصر والشام إلى الزيارة الرجبية ميسورا، ولما كانت الثروات التي حصلها أهل المدينة في السنوات القليلة التي سبقت الحرب وحين سارت إليها السكة الحديدية لم تستقر، فقد أصابتها الحرب والأزمة التي أعقبت الحرب بصدمة عنيفة أحدثت هذا الانكماش الذي رد سكان المدينة من ثمانين ألفا إلى ثلاثة عشر ألفا، ولو أن أهلها ألفوا الاعتماد على أنفسهم ولم يجعلوا من موسم الزيارة ومن صدقات المسلمين مورد حياتهم، لما أصابهم من الجهد ما أصابهم، بل لاحتملوا الشدة بالصبر والتمسوا الخروج منها بالحيلة، لكن الذين جاءوا إليها بعد سير السكة الحديدية إنما جاءوا يبتغون تجارة هينة ورزقا ميسورا، فلما تعذرت أسباب الرزق فروا منصرفين إلى بلادهم آملين فيها رزقا أكثر بسطة وتجارة أوفر ربحا.
ومن عجب أن الذين ظلوا مقيمين بالمدينة من أهلها لم يفيدوا من هذه الشدة عبرة ولم يذروا ما ألفوا من الاعتماد على الصدقات وما ينفقه الزائرون لقبر النبي، ولم يفكر أحد منهم في أن ينزع بها منزع الاعتماد على مواردها الذاتية، ولقد رأيت ذلك بنفسي حين نزلت إليها وجست خلال أزقتها الضيقة وسرت في أسواقها أشهد حوانيتها الصغيرة فلم أر فيها تجارة غير ما يحتاج إليه زوارها، وأعجب من ذلك أن هذه التجارة مجلوبة كلها من الخارج، فأما ما تنبته المدينة فليس يتجر منه في غير البلح الكثير الأصناف، الذي يبتاعه الناس تبركا أكثر مما يبتاعونه لجودته، هذا على أن أصنافه الجيدة كثيرة وصالحة للتجارة كل الصلاح، لكن أهل المدينة لم يعن منهم أحد بأمر هذه الأصناف وحسن تهيئتها للتصدير، لا من حيث اختيارها، ولا من حيث عرضها في علب أو صناديق تسترعي النظر، ولا من حيث الإعلان عنها، ولا من حيث نقلها للتجارة في بلد آخر.
وليس يسترعي النظر في أسواق المدينة شيء يقف الإنسان عنده، ولولا التبرك وما له على النفوس من سلطان لما عاد إليها من مر بالأزقة الضيقة التي تحويها، فهذه الأزقة أكثر ضيقا من مثلها في أصغر القرى بأرياف مصر، وهي مكتظة أثناء موسم الزيارة على نحو يدعو إلى الفرار منها حذر الاختناق بها، ولقد شقت بعض شوارع فسيحة في المدينة أثناء الحرب، لكنها ليست مقصودة كتلك الأزقة، ولعل الناس لا يرون فيها ما بالأزقة من بركة، أم لعل الحوانيت بها أعلى أجرا وأهل المدينة أحرص على ألا يبسطوا أيديهم كل البسط في هذه السنين التي أصابت المجاعة فيها بلدهم المقدس غير مرة، وقد يفسر ذلك بعضهم هذه الظاهرة من التمسك بالأزقة والإقامة بها بقربها من المسجد النبوي قربا يحرص كل على أن يبلغ منه غاية ما يستطيع.
وضيق الأزقة بالمدينة مضرب للمثل، فما يكاد يضاهيه مما بمكة شيء على ما أسلفنا من ضيق طرقها، فمن أزقة المدينة ما لا يتسع لأكثر من اثنين يسيران جنبا إلى جنب، فإذا لقيهما غيرهما لم يكن بد من أن ينتحي أحدهما وأن يسير وراء صاحبه ليفسح للعابر بها سبيلا، وهذا على سعة رقعة الأرض فيما حول المدينة سعة تطوع لعشرات الألوف حين الرخاء أن يشيدوا المباني بها، لكنما ألف الناس من أهل المدينة هذا النوع من العيش في الأزقة الضيقة، فإذا عضت سنو الشدة بلدهم وغادرها من ليس أصيلا بها ظل أبناؤها في الدائرة المحيطة بالمسجد، لا يفكر أحد منهم فيما يفكر أهل هذا العصر فيه من توسيع الطرق لتهوية البلد كفالة لصحة أبنائه.
تهامة والحجاز.
يذكر لبيب بك البتانوني في رحلته الحجازية من أسماء أزقة المدينة: زقاق البقر، وزقاق الخياطين، وزقاق الحبس، وزقاق عنقيني، وزقاق السماهيدي، وزقاق البدور، وزقاق الأغوات، وزقاق ياهو، وزقاق الكبريت، وزقاق القماشين، وزقاق الحجامين، وزقاق مالك بن أنس، ثم يقول: «وعلى كل حال فحارات المدينة نظيفة، وضيقها يساعد كثيرا على تلطيف الحرارة فيها زمن الصيف كما هو الشأن في أغلب بلاد الشرق، وسوق المدينة يبتدئ من الباب المصري إلى الحرم الشريف في شارع ضيق طوله خمسمائة متر تقريبا، يقطعه على المارة تقابل جملين فيه مع بعضهما، والحركة فيه تكاد تنحصر في مدة الحج والموسم الرجبي، وهو موسم الزيارة الرسمية في بلاد العرب.» هذا ما كتبه لبيب بك من أكثر من ربع قرن تغير فيه وجه العالم بالحرب وحلول السيارة محل الجمل وبتنظيم الطيران وبتغيير نظام المدن، مع ذلك بقيت المدينة لم يتغير فيها شيء، وبقي سوق المدينة على ضيقه من أكثر أزقة المدينة سعة ونشاطا، وبقي نشاطه ونشاط المدينة كلها محصورا في مدة الحج، أما الموسم الرجبي فلم يبق في مثل نشاطه الأول.
ولقد أعانت عوامل كثيرة على بقاء الحال في المدينة لم يصبها تطور خلا حلول السيارة محل الجمل بمقدار ما حدث في بلاد العرب كلها، على حين أصابها أذى وشر كثير، من هذه العوامل ما حدث أثناء الحرب وبعدها من قلق واضطراب في هذا البلد المقدس زاد على مثله في سائر بلاد العرب، بدأ ذلك حين انتقض الشريف حسين على الأتراك واتفق مع إنجلترا على استقلال العرب، إذ ذاك تحصن الأتراك بالمدينة واتخذوا قلاعها ملاذهم، فلما رأوا الأمر وشيكا أن يخرج من أيديهم أخذ فخري باشا خير ما فيها من نفائس فبعث بها إلى الآستانة؛ أخذ الجواهر التي بالحجرة النبوية، وأخذ أنفس ما في مكتبات المدينة من المخطوطات والكتب النادرة، وتركها للأشراف يحتلونها مجردة من هذه المفاخر التي كانت لها، والتي كانت ذات أثر عظيم في توجه العالم الإسلامي إليها.
ولئن لم يكن هذا الأثر شيئا مذكورا إلى جانب المسجد النبوي وقبر الرسول فيه، لقد كان للكوكب الدري ولهذه النفائس المتصلة بالحجرة، وكان لكتب السلف المحفوظة بمكتبات المدينة سلطان على النفوس لا سبيل إلى إنكاره، فلما استقر الأمر للأشراف في الحجاز بدءوا يفكرون في الإصلاح، لكنهم لم يلبثوا أن دهمتهم الحرب السعودية التي أصابت المدينة بمثل ما أصابتها ثورة النهضة، بل بشر مما أصابها به، كانت المدينة من ناحية العمارة الأثرية متحفا نفيسا بالغا غاية الجمال، كانت القباب المقامة على قبور أمهات المؤمنين وعلى قبور الصحابة بالبقيع بعض ما يشهد لفن العمارة الإسلامية بسبق يغبطه عليه أكثر الناس تقدما في العمارة، حتى لقد كان الأتراك يطلقون على هذه المجموعة البديعة في فن المعمار اسم «جنة البقيع»، وكان على قبر سيد الشهداء حمزة عم الرسول مسجد وقبة تهوي إليهما النفوس، ويفاخر بهما الفن، وكان ثمة من هذه العمارة الفنية كثير كان يشغل الناس عن ضيق الأزقة بالمدينة وعن كثير مما لا يجاري العصر فيها، فجاء الوهابيون من أشياع ابن السعود على هذه الآثار الفنية هدما وتحطيما؛ لأنها لا تتفق مع عقيدتهم الإسلامية من وجوب تسوية القبور بالأرض، ومن تحريم التبرك بالقبور وقبابها، أو اتخاذ أصحابها إلى الله شفعاء وزلفى؛ ففي ذلك إشراك بالله لا يقره التوحيد ولا يرضاه الإسلام في رأيهم.
وقف أهل المدينة إزاء هاتين الحركتين؛ حركة الأتراك، وحركة الوهابيين، مشدوهين حيارى لا يعرفون ما يصنعون، أنى لهم أن يعرفوا مدينتهم تضمحل مذ عطلت الحرب مواصلاتها مع الشام، والرخاء يزايلهم بانقطاع الزيارة أثناء الحرب وبعدها، وأحوالهم تنحدر سراعا إلى أسوأ ما يتصور الإنسان! لا عجب إذن أن تقف المدينة دون التطور الذي أعقب الحرب في العالم كله، وأن يكون بقاؤها حتى اليوم عامرة بمن ظلوا مقيمين بها رغم القحط والمجاعة وسوء الحال معجزة من المعجزات لا يفسرها إلا ما يملأ قلوب هؤلاء الناس من إيمان بالرسول ورسالته وإعزاز لقبره، وحرص شديد على المقام في جواره.
لأهل المدينة العذر وهذا ما نزل ببلدهم إذا هم لم يجاروا تطور العالم بعد الحرب، لكن من الواجب ألا ننسى عوامل أخرى كانت في هذه الأحوال وفيما سبقتها سببا في وقوف المدينة دون مجاراة العالم في تطوره، وفي مقدمة هذه العوامل روح الاعتماد على الغير باسم التوكل على الله، وروح الإذعان باسم الإسلام لقضاء الله، فقد بقيت المدينة تعتمد - وقد زالت عنها صفة العاصمة للمملكة الإسلامية - على حسن توجه الملوك والأمراء إليها بسبب مكانتها الدينية لوجود القبر النبوي بها أكثر من اعتمادها على جهود أبنائها وحسن سعيهم لخيرها، وترى فيما يبذله المسلمون في مختلف بقاع الأرض لها من هبات وأوقاف مصدر حياتها ورزقها، وليتها استعانت بذلك على تنمية مواردها أو المزيد من جمالها أو حسن تنظيمها، بل أمسك الجهل أهلها دون القيام بشيء من ذلك كله، وحبسهم في حدود هذه المعونة الواردة إليهم من غير أن يكون لهم أي فضل في الإبقاء عليها، بله المزيد فيها.
من الظلم أن نلقي التبعة عن هذه الحال على أهل المدينة وحدهم، ولعل الحظ الأوفى منها يقع على أولي الأمر في عواصم الإسلام ممن كان لهم على المدينة الحكم والسلطان، هؤلاء حرصوا على أن يظل أهل المدينة في غيابات الجهل حتى لا يكون لهم من العلم قوة تضاعف بأسهم بمجاورتهم قبر الرسول، فلو أنهم تعلموا وعلموا الحق الذي جاء محمدا من ربه مبرأ من كل شائبة لكان لهم شأن غير شأنهم منذ انحل سلطان العاصمة عن مدينتهم، إذن لعلموا أن الإسلام لله والتوكل عليه أول شرائطهما السعي وبذل غاية الجهد لدرك الغاية التي يجعلها الإنسان هدف حياته، ولأيقنوا أن الله في عون العبد ما دام العبد في عون نفسه وفي عون أخيه، ولأدركوا أن هذه الحياة الدنيا فترة هيأها القدر ليقوم المرء فيها بواجبه لنفسه ولإخوانه، فإن هو قصر في أداء هذا الواجب فقد قصر في أداء حق الله ولم يبلغ الحظ الذي يتيح له الرضا في الحياة، لكنهم إن أدركوا هذا وآمنوا به أصبح حكم الاستبداد إياهم محالا؛ لذلك حجب الحكام المستبدون عنهم نور العلم وغشوا دونهم ضياءه.
يدلك على ذلك أن أرقى مدرسة بالمدينة اليوم هي مدرسة العلوم الشرعية، واسم هذه المدرسة ضخم يكبر حقيقتها، ولقد حسبتها أول ما سمعت هذا الاسم من نوع مدرسة القضاء الشرعي بمصر، فلما زرتها ألفيتها مدرسة ابتدائية تدرس أحكام الشريعة في الفصول العليا منها، وزرت مدارس أخرى فإذا هي دون هذا الطراز مكانة، وإذا هي تعنى بالصناعات اليدوية الأولية - كصناعة الجلود والنسيج البسيط - أكثر من عنايتها بأمور العلم، وهذه المدارس كلها تجرى عليها النفقة من هبات وأموال تجيء من الهند، وغاية مطمعها من ناحية الحكومة القائمة أن تنال عطفها، فكثيرا ما لقيت أمثال هذه المدارس العنت في العهد العثماني، وكثيرا ما اتهمت بأنها أقيمت لأغراض سياسية تناوئ مرامي الدولة ولم تقم لوجه الله ورسوله.
وثم مدرسة أنشئت في عهد هذه الحكومة الحاضرة، ولها من رعايتها الحظ الأوفى، تلك مدرسة الأيتام، ولقد دعيت إلى حفلة أقيمت لخيرها حضرها أمير المدينة وأعيانها، عرضت فيها مصنوعاتها لمن يشتريها، وألقى فيها تلاميذها مقطوعات وخطبا دربوا عليها، ولقد لمحت في هؤلاء التلاميذ - ومنهم بدو لم يألفوا الحضر قبل التحاقهم بهذه المدرسة - نجابة واستعدادا للعلم يدلان على أن المستبدين لم يخطئوا حين خافوا مغبة العلم على سلطانهم في هذه البلاد، لكن ما يتعلمه تلاميذ هذه المدرسة لا يزيد على المعلومات الأولية التي تلقى في غيرها، ولا يقصد منه إلى أكثر من المعلومات العملية ذات النفع البدائي في الحياة.
ماذا عسى أن ينشأ عن هذه الحال من ألوان التفكير وألوان العيش؟! يذكر الذين زاروا المدينة وعاشروا أهلها أنهم قوم على جانب عظيم من دماثة الطبع ورقة الخلق، وهذا طبيعي في البلاد التي تعيش على السياحة والسائحين أيا كان سبب السياحة، ويزيد بعضهم أن في مجاورة أهل المدينة قبر الرسول ومسجده ما يبث في نفوسهم هذه الدماثة وهذه الرقة، ولست أدري مبلغ الصحة في هذه الحجة بعدما ذكر لي غير واحد ممن اتصلت بهم أن كثيرين من أهل المدينة ينظرون إلى الحياة بعين مستهترة بالحياة مشغوفة بمتعها المادية ولذاذاتها الدنيا، وأن منهم من ينفق ما يكسبه في موسم الحج والزيارة في هذه المتع واللذاذات غير حاسب للغد حسابا، مطمئنا إلى الموسم المقبل وما تدره عليه أخلافه من رزق، ولست أتهم الذين حدثوني بهذا الحديث، وقد دعيت إلى غداء في بستان المصرع على مقربة من قبر حمزة، فكان مما أراده إخواننا أن يدعو مضيفنا مغنيا أو قينة وضارب عود، ولم يتردد مضيفنا في الأمر بادئ الأمر، لكنه خشي من بعد غضب أمير المدينة النجدي الوهابي المتزمت عبد العزيز بن إبراهيم، وذلك حين علم أن الأمير أتاه نبأ من هذه الدعوة وأسماء المدعوين فيها، وأنه سيقف أغلب الأمر على حديثها وعلى كل ما يجري أثناءها.
ولقد أذكرتني الوليمة ببستان المصرع قول البتانوني في رحلته: «ومن عادات أهل المدينة الرياضة والتنزه بين البساتين خارج المدينة، فيخرجون إليها في يوم الثلاثاء والجمعة بعد صلاة العصر جماعات جماعات ويعودون في المساء، وقد يخرجون إلى الرياضة من أول اليوم ومعهم غداؤهم فيمضون نهارهم بأحد البساتين التي بضواحي المدينة في سرور وحبور، ويسمون هذه الفسحة مقيالا.»
والطبيعة المحيطة بالمدينة تعاون على هذا اللون من الحياة، فالبساتين حولها كثيرة، والخضرة بسامة، والحياة ضحوك، ولولا أحداث الزمن وما أصاب هذا البلد الطيب من بأساء وما تركه ذلك في نفوس أهله من أثر لما تعرضوا لما يصيبهم من تفاوت الحظ. ومقام أهل المدينة إلى جوار الرسول والحجرة النبوية، وتأثرهم بالتطور الذي حدث في التفكير الإسلامي أكثر من سواهم، وهذا التوكل المطلق الذي أصبح بعض خلقهم، يجعلهم أدنى إلى الصبر والرضا وأقل جزعا لكوارث الدهر، من ذلك ما لاحظه غير واحد من أنهم لا ينوحون على موتاهم ولا يبكونهم، وأنهم يسرفون في التجلد والصبر إسراف المصريين في الجزع لدى الفاجعة والحزن لها، وهم في توكلهم لا يحسبون لغد حسابا، وماذا ينفعهم أن يحسبوا وقد ألفوا من فجاءات الدهر بالسراء والضراء ما يضل معه كل حساب؟! وقد علمهم تعاقب الأجيال أن الأمر في مدينتهم ليس لهم، بل للحاكم الأجنبي عنهم، الذي يعنى بسياسته وتطبيقها عندهم أكثر من عنايته برقيهم ورخائهم.
ولقد كان من أثر ذيوع الأمية والجهل بالمدينة أن لم يعن أحد من أهلها بتنظيم المكتبات العامة الموجودة بها، فبالمدينة مكتبات عامة تحتوي من المخطوطات والكتب المطبوعة على ألوف المجلدات، ومكتبة السلطان محمود ومكتبة السلطان عبد الحميد مكتبة بشير أغا من المكتبات التي يتحدث الناس في المدينة عنها، فأما أكبر مكتبة بها فمكتبة شيخ الإسلام عارف حكمت، وفي وصف هذه المكتبة يقول البتانوني: «هي قريبة من باب جبريل إلى جهة القبلة، وهذه الكتبخانة آية في نظافة مكانها وحسن تنسيقها وترتيب كتبها، وأرضها مفروشة بالسجاد العجمي الفاخر، وفي وسط حوشها نافورة من الرخام فيها صنابير للوضوء، وفيها كتب ثمينة جدا، لا يقل عددها عن أربعة وأربعمائة وخمسة آلاف كتاب، ولقد رأيت بها شيئا من غرائب الصناعة النادرة في بابها، وهو كتاب أسفار فارسية مكتوب بالخط الأبيض الجميل لملا شاهي، وبينا نحن نعجب من جودة الخط وإتقان الصناعة ونظافتها وحسن تنسيق حروفها على صغرها ودقتها لفت نظرنا حضرة مدير الكتبخانة إلى أن حروف الكتابة إنما هي ملصوقة على الورق، فتأملناها فوجدنا شيئا يبهت الطرف لرؤيته ويعجز اللسان عن نعته، خصوصا عندما أخبرنا أنهم كانوا يكتبون هذه الكتابة ثم يفصلونها عن ورقتها بظفرهم ثم يلصقونها على ورقة أخرى.»
ولقد حرصت على زيارة هذه المكتبة لكثرة ما سمعت عنها بمكة، فلما زرتها أعجبت بالسجاد العجمي ونافورة المياه التي ذكرها البتانوني، لكنني حرصت مع ذلك على أن أقف على نظامها، فسألت أمينها عن فهارسها وعن طريقة القراءة والمراجعة فيها، ولم يثر دهشتي نقص الفهارس ولا أثارها عدم العناية بتنظيم الانتفاع بالمكتبة بعد الذي عرفته من انتشار الأمية بالمدينة، والواقع أن أمين الدار، وهو شيخ حسن الحديث، واسع الاطلاع على محتوياتها، يكاد يكون هو الفهارس وهو المرشد إلى كل ما دق وجل فيها، وقد دلني حينئذ على قلة رواد المكتبة من أهل المدينة، ومن الحجاج، وأن الذين يجيئون إليها يجيئون يدفعهم التطلع للإحاطة بها في نظرة عامة أكثر مما يدفعهم الحرص على مراجعة كتبها أو الانتفاع بها، ومعظم ما يطمع الأمين فيه أن يجد من يعنى بمخطوط من المخطوطات فينقله مأجورا؛ وهو لذلك جد حريص على أن يؤكد صحة المخطوطات التي بالمكتبة ودقة اتفاقها مع الأصل الذي نقلت عنه إن لم تكن هي هذا الأصل بالفعل، وقد أطلعني على «معجز أحمد»، وهو شرح أبي العلاء المعري لديوان المتنبي، وأكد لي صحة نسبته إلى الأصل ودقة نقله، وأوشكت أن أطلب إليه استنساخه لولا أنني علمت من أحد أبناء المدينة حين طالعته بما دار من ذلك بخلدي أن هذه النسبة إلى المعري موضع ريبة وأن القول بدقة النقل مبالغ فيه.
وتمنيت مذ عرفت تعدد المكتبات بالمدينة أن يبنى لها جميعا دار واحدة تجمع كل ما فيها وتنظم تنظيما حديثا يكفل الاستفادة منها، لكنني إذ عدت إلى نفسي ألفيت أن ما أطلبه من ذلك أدنى إلى المنى التي لا تحقق، فأهل المدينة يحسبون هذه المكتبات زخرفا، وقل منهم من يقدر ما تعود به المكتبات من فائدة إذا وجدت المنتفعين بها الحريصين على نشر كنوزها وتبويب ما فيها تبويبا علميا صحيحا.
وكيف يتسنى لبلد لا يزيد سكانه على ثلاثة عشر ألفا، وهو ليس مركزا علميا، أن يفكر في مثل هذا الأمر؟! وكيف يتسنى له أن يفكر فيه ومبلغه من العلم ما رأيت؟! حسبه أن يكون متحفا لآثار تظل محفوظة رجاء يوم يسعد الحظ فيه المدينة فيكون أهلها من العلم أوفر نصيبا، ويكون زائروها أكثر على البحث والدرس توفرا؛ ليكون هذا التفكير بعض ما يدخل في حيز الممكنات .
ولعل هذا اليوم يكون قريبا! فقد تعود سكة الحجاز سيرتها، فيعود إلى المدينة الرخاء ويكثر فيها السكان، ويزداد النشاط، ويطرد ذلك زمنا تستقر فيه الأمور وتصبح غير ما هي اليوم، ألا ما أكثر ما أتمنى ذلك! وما أكثر ما يتمناه كل محب لهذا البلد! بل ما يتمناه كل محب للإنسانية! لقد تنقلت خارج أسوار المدينة حيث كانت تقوم الدور والأحياء حين بلغ سكان المدينة ثمانين ألفا، فأسفت لحالها الحاضرة، وعجبت كيف تطاوع ساسة الغرب أنفسهم على التآمر لقتل بلد مثله من اليسير إحياؤه بما لا يضر أحدا وما يعود بالخير على الجميع، ولولا أني أكبر هؤلاء الساسة وأحسبهم أسمى نفسا من أن يدفعهم التعصب الديني إلى محاربة المدينة لوجود قبر نبي الإسلام بها لخلت هذا الدافع أقوى ما تتأثر به نفوسهم، ومهما يكن من الأمر فما أراني أسيغ هذه الصعاب التي يقيمونها دون تعمير السكة الحديدية وقد استطاعت السياسة بأوضاعها المرنة أن تحل ما هو أعسر منها وأشد تعقيدا!
والسور الذي كانت هذه المباني قائمة فيما وراءه والذي يحيط بالمدينة القديمة ما يزال قائما إلى اليوم، ولقد كان عضد الدولة أبو شجاع وزير الطائع لله أول من أنشأه في سنة 360ه اتقاء لغزو الأعراب المدينة، ثم كان الأمراء يقيمونه كلما تداعت أركانه، حتى عمره محمد علي باشا بعد انتصار جيوشه على الوهابيين، وجدده السلطان عبد العزيز سنة 1285ه، وبنى فيه أربعين برجا تشرف على ضواحي المدينة للدفاع عنها؛ وما تزال القلاع قائمة في بعض نواحيه اليوم على قلة ما ينتظر من فائدتها في الدفاع ضد الأسلحة الحديثة.
أويصبو شباب المدينة كما يصبو شباب مكة إلى الحياة الحديثة في التفكير والعيش؟ هذا الأمر لا ريب فيه، لكن الناس من أهل المدينة لا تنفسح مطامعهم لما تنفسح إليه مطامع المكيين وبلدهم عاصمة الحجاز ومقر الحكم والسلطان، على أن طبيعة المدينة أدنى إلى الحضر، وموقعها أدنى إلى مواطن الحضارة من مكة، وشبان المدينة شديدو التوق لذلك إلى المعرفة والتزيد منها، لولا أنهم لا يجدون إليها الوسيلة، ولو أنهم وجدوها، ولو أن المدينة اتصلت بالعالم اتصالها قبيل الحرب، لكان لها في الاندفاع إلى الحياة الحديثة ما يزيد على ما لمكة فيما أظن.
أما وحالها الحاضرة ما رأيت والحكم فيها للنجديين القريبين من البداوة، فالحديث عن هذا التفوق وعن اندفاع المدنيين إلى الحضارة أدنى إلى أمنية لا يدري أحد ما كتب القدر لها في لوحه، وإذا ذكرت حكم النجديين بالمدينة فلا تقس إليه حكمهم بمكة، هم بمكة في عاصمة أكثر الأمر فيها إلى أبناء الحجاز وليس للنجديين فيها إلا الرياسة العليا، وهؤلاء النجديون لا يقيمون بمكة إلا أيام الحج وبعض أيام أخرى من السنة، وفيما خلا ذلك تصفو مكة لأهلها، أما أمير المدينة النجدي فيقيم بها طول العام، وهو فيها الحاكم المباشر النافذ الكلمة المطاع، من ثم يرتقب أهل المدينة إرادته، وتدعوهم دماثة أخلاقهم إلى مصانعته، إنه يود من ناحيته لو استطاع أن يدرك الحياة الحديثة وأن يجمع بينها وبين عقائده وميوله النجدية، وهو بذلك يدنو منهم بعض الشيء، لكن مكانته، بوصفه ولي الأمر في البلد، وطبيعته البدوية الصميمة، تمسكانه دون بلوغ الكثير من ذلك، وتدعوان أهل المدينة إلى متابعته أكثر مما يتابعهم.
زرت الأمير عبد العزيز بن إبراهيم غير مرة، زرته في ديوان الحكم، وزرته في داره، وتناولت طعام الغداء على مائدته، وشاركته في طعام خفيف آخر الأمسية دعاني إليه ابنه إبراهيم، ولم يدهشني ما رأيت من مظهر حياته النجدية بدار الحكم ولا في غرفة استقباله بالمدينة، فقد ألفت أن أرى من ذلك في مصر وفي غير مصر ما لا يدع للدهشة موضعا، وأنت لا ترى على باب الوزير من مظاهر البأس العسكري المتبجح ما تراه على باب مأمور المركز، وأنت كذلك لا ترى من مظاهر هذا البأس على باب قصر الملك أو دار وزير المالية أو أمين العاصمة بمكة ما تراه في مجلس أمير المدينة، ففي هذا المجلس جند من النجديين علمهم الأمير الحرص على أن يظهروا للناس بأسه وبطشه، فإذا دعا أحدهم دعاه في شدة كما يدعو المأمور أحد جنود المركز، ولبى الجندي في اندفاع وتطلع واستعداد لتنفيذ أي أمر، ولقد تناولت على مائدته طعام الغداء فكانت مائدة بدوية يجلس الناس حولها ويتناولون طعامهم بأيديهم، فيجدون منه طعاما لذيذا، فوق شبعهم، أما يوم دعاني ابنه في الأمسية فقد صعدنا إلى دار الأمير وتناولنا «بسكويتا» ومربات وحلوى، وقد حرص الأمير على أن يتناول الطعام بالشوكة ليدل بذلك على حسن استعداده لحياة العصر، وأهل المدينة يجارونه في بداوته وفي محاولته الحضارة، وإن كان أكثرهم قد عرف أيام حكم العثمانيين من مظاهر الحضارة ما لم تعرف نجد البعيدة عن الحضارة العثمانية.
وإبراهيم ابن الأمير فتى لما يجاوز الخامسة عشرة فيما أرى، وهو وسيم الطلعة في زيه العربي، حاد النظرة من عينين سوداوين فيهما حور، ممشوق القوام، رقيق المظهر، ليس فيه شيء من هذه الخشونة وهذا البأس اللذين يبدوان في نظرة أبيه وفي حديثه، واللذين جعلا منه مثل القسوة الباطشة في الحجاز كله، ولم أسمع حديث الفتى لأقف على مبلغه من العلم، وإن رأيت منه صرامة في توجيه الأوامر إلى تابعيه، هي لا ريب بعض ما ورث عن أبيه وبعض ما يقضي به مركزه وهو ابن الأمير الباطش الشديد.
وتناولت طعام الغداء يوم سفري من المدينة على مائدة أحد أعيانها، فرأيت فيها من نظامنا الحديث ما لا يتفق مع هذا الذي رأيت عند الأمير وما أذكرني أن القوم لم ينسوا بعد أيام الأتراك، وهذا الرجل من أعيان المدينة ليس في سعة من الثروة تعاونه على المبالغة في بسط العيش، هذا ما قصه علي بعض من وثقت بهم ممن عرفت بالمدينة، وإني لأقرأ يوما في كتاب «برخارت» إذ وقفت فيه على ما يقال من أن أهل المدينة أحرص على التظاهر من أهل مكة، وأنهم يميلون إلى شظف المأكل في حياتهم الخاصة، لكنهم ينفقون على أثاث منازلهم وعلى ملابسهم التي يقابلون الناس بها نفقات طائلة.
ترى هل تطوع الأقدار للمدينة أن تبلغ غايتها فيما تتوق إليه من الحياة الحديثة ومظاهرها ؟ وما عسى أن يكون أمرها إذا بلغت هذه الغاية؟ إنهم ليتحدثون عن إعادة سكة الحجاز الحديدية سيرتها الأولى، وأهل المدينة يشرئبون بأعناقهم إلى هذا اليوم ويدعون الله من كل قلوبهم أن يكون قريبا، وإني لأشاركهم في هذا الدعاء، وأرجو أن تسمو تقديرات الساسة حين النظر في هذا الأمر إلى الاعتبارات الإنسانية، وألا تقف في حدود التفكير الاستعماري والتنظيم الحربي، ولئن تأثرت في هذه الدعوة بأن المدينة من الأماكن الإسلامية المقدسة؛ لأنها مهاجر النبي العربي؛ ولأن بها قبره، إنني لشديد الرجاء ألا يبلغ تأثر ساسة الغرب بميولهم المسيحية حدا يحول دون بلوغ المدينة ما يمكن أن تبلغه من أسباب الرخاء والتقدم مما يطوع لأبنائها أن يشاركوا بمجهودهم في العمل المثمر لرخاء الإنسانية وتقدمها.
ما أشد شوقي أن يتحقق هذا الرجاء وأن يتاح لي إذا أعيد طبع هذا الكتاب أن أشير إلى نجاح المسعى لإعادة السكة الحديدية التي تعاون المسلمون من أقطار الأرض جميعا على إنشائها! يومئذ يتاح للمدينة أن تخطو نحو حضارة العصر خطوة واسعة، وأن تتصل بسائر أنحاء العالم كما اتصلت من قبل بها، وأن تجد في موقعها الطبيعي عونا على تقدمها السريع في الاضطلاع بأعباء الحضارة، فهذا الموقع الطبيعي على ما رأيت حضر كل الحضر، لا يدانيه موقع مكة من هذه الناحية ولا يقاس إليه؛ وهو لذلك صالح لمقام عدد عظيم جدا من السكان يستطيع التعاون والعمل المثمر والاعتماد على خيرات هذه الطبيعة الخصبة الجواد، ومبادلة العالم مبادلة لا تقف عند المنتجات التي تجود بها هذه الطبيعة، بل تتعداها إلى نتاج العقل الإنساني وآثار الفن والفكر، وتكون بذلك عظيمة الأثر جليلة الفائدة.
لم أشر إلى شيء من ذلك وأنا أتحدث في هذا الفصل عن المدينة الحديثة؛ لأن حال المدينة وحظها ما رأيت، لكن رقعتها قد اتسعت حين ابتسم الدهر لها لثمانين ألفا يقيمون بها ويعيشون فيها عيش رخاء وسعة، لم ينقصها الغذاء يومئذ وقد كان حولها من البساتين والمزارع ما طوع لأهلها أن يعيشوا عيش الترف، وأن يقيموا القصور الشاهقة وأن يحيطوها بالحدائق الغناء، ولا يزال الأثر الباقي من قصر سعيد بن العاص شهيدا بذلك، والتاريخ يذكر قصورا بوادي العقيق خلد الشعر على حقب العصور أسماءها، ولم ينقص الماء المدينة والعيون والآبار فيها بالغة من الكثرة حدا يثير تطلع «الجيولوجيين» إلى معرفة طبقات الأرض وما تحتوي عليه فيها، ولئن بقيت العين الزرقاء مصدر الماء لسقيا أهل المدينة إلى هذا الوقت الحاضر.
لقد يقف الإنسان أمام العيون والآبار المنثورة داخل المدينة وفيما حولها دهشا متسائلا عن منابع هذا الماء أين تكون؟! وكيف تختلف كل هذا الاختلاف الذي يعيد إلى الذاكرة صورة من بلاد المياه المعدنية بأوروبا؟! وأنت تقف من هذه الآبار اليوم عند بئر أريس بجوار مسجد قباء، وبئر رومة الواقعة بالعقيق قريبة من مجمع الأسيال، وبئر غرس، وبئر حاء، وبئر بضاعة، وبئر السقيا، وبئر أبي أيوب، وبئر ذروان، وبئر عروة بن الزبير، ويذكر البتانوني في رحلته بئر الأعواف، وبئر أنس بن مالك، وبئر القويم، وبئر العباسية، وبئر صفية، وبئر البويرة، وبئر فاطمة، ولعل من هذه الأسماء التي ذكرها البتانوني ما يتفق في مدلوله مع أسماء الآبار التي وقفت عندها، وإنما اختلفت التسمية باختلاف العصور.
وكانت المدينة تسقى من هذه العيون إلى أن جرت فيها العين الزرقاء بأمر معاوية بن أبي سفيان في مستهل النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، في ذلك الوقت أمر معاوية عامله على المدينة مروان بن الحكم فأجرى هذه العين التي سميت الزرقاء؛ لأن مروان كان أزرق العينين فيما يقول المؤرخون، يقول الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه «آثار المدينة المنورة»: و«أصل العين من بئر الأزرق في بستان الجعفرية غربي مسجد قباء، وقد أضيفت إليها آبار في أوقات متفاوتة، كبئر أريس، وبئر الرياض، وبئر بويرة، كما أنها مدت بينابيع حفرت في جنوبي بئر الأزرق أيضا، وتسير من مصادرها المذكورة إلى بئر الشلالين فتفيض فيها، ثم إلى بئر الغربال، فبئر جديلة، وهنا تمدها بئر السرارة وبئر القلعجية وبئر السيد عبد الرحيم السقاف، ومن هنا تأتي إلى المدينة ولها بها عدة مناهل، وتخرج من المدينة إلى الشمال، وحذاء بستان داود باشا تنقطع ويسير فائضها مع الماء الملح الآتي معها مع بئر جديلة إلى البركة شمال الجرف وهناك مغيضها.»
لم ينقص الماء ولا نقص الغذاء المدينة في أبهى عصورها وأكثرها سكانا بل كان الأمر على الضد من ذلك؛ فكانت أيام الوفرة في السكان أيام رخاء ونعيم، ولسنا في حاجة إلى الإيغال في التاريخ التماسا للدليل على هذا وإن كان التاريخ خير دليل عليه، وحسبنا ما يذكره أهل المدينة اليوم عن رخائها بين سنة 1907 وسنة 1914 حين سارت سكة الحجاز الحديدية، فهم يتحدثون عن هذه الأيام القريبة منا وملء قلوبهم الحسرة على ذهابها والرجاء الحار في عود مثلها لتعود لمدينة الرسول بهجتها، وللذين يجاورون الرسول ابتسامة الحياة.
وهم يتحدثون كذلك عما كان لمصر في عصور كثيرة من شرف المعاونة لبلوغ مدينة الرسول غاية ما ترجو، فقد كانت التكية المصرية بها مصدرا من مصادر خيرها وتقدمها، وهي تقوم اليوم بهذا الواجب كما تقوم تكية مكة بمثله، والمصريون القائمون بأمرها يشاركون أهل المدينة في رجائهم الحار أن يعود إليها الرخاء وأن يعود اتصالها بالعالم.
وإنا كرة أخرى لنشاركهم جميعا في هذا الرجاء، ولو أن العالم الإسلامي كان مسموع الكلمة اليوم كما كان شأنه أيام معاوية وفي العصور الإسلامية الزاهرة الأولى، وكما كان شأنه أيام بني عثمان حين كانت للمسلمين عاصمة تتجه إليها أنظارهم، إذن لما أصاب مدينة الرسول ما أصابها بعد أن تشتتت أهواء المسلمين وتفرقت كلمتهم بما أطمع فيهم الاستعمار إذ جعل قلوبهم شتى، أفيجيب السميع العليم رجاءنا ويعيد إلى مدينة الرسول مكانتها، أم أنه - جلت حكمته - يريد أن يري المسلمين من آياته حتى يدركوا أنه لا تبديل لسنته وأنه لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟!
إن لنا في رحمة الله لأملا أعظم الأمل، ومن رحمته أن يبعث المسلمين بعد طول رقدتهم إلى الحياة، لقد وعد رسوله - ووعده الحق - أنه سينصر دينه على الدين كله، والمسلمون يتوجهون اليوم إلى ربهم من أقطار العالم جميعا تائبين منيبين يدعونه تضرعا أن يهديهم سبيل رضاه، وأن يلهمهم الهدى، وأن يفيض عليهم من فضله، وأن يسبغ على مدينة الرسول نعماءه، إنه سميع مجيب.
آثار المدينة
لما اختار رسول الله الرفيق الأعلى اختلف أصحابه أين يدفن؟ قال جماعة من المهاجرين: يدفن في مكة مسقط رأسه وبين أهله، وقال غيرهم: بل يدفن في بيت المقدس حيث دفن الأنبياء قبله، ثم رأوا أن يدفن بالمدينة التي آوته ونصرته والتي استظلت قبل غيرها بلواء الإسلام، ترى لو رجح الرأي الأول ودفن بمكة إلى جوار البيت العتيق، أو رجح الرأي الثاني ودفن ببيت المقدس، أفكان الناس يزورون المدينة اليوم؟! وهل كان المسلمون يفكرون في سكة حديدية تصل بين المدينة والشام ويكتتبون لها بمئات الألوف من الجنيهات وينشئونها، فإذا عطلتها الحرب في سنة 1914 عادوا إلى التفكير في أمرها؟! أم كانت المدينة تصير إلى ما صارت إليه الطائف وغير الطائف من مدائن بلاد العرب فلا يقيم بها إلا من تكفي مواردها لقوتهم في حدود قدرتهم البدوية على استغلال هذه الموارد، وقل أن يزورها أحد من غير أهلها، وبذلك يبقى أهلها عربا خلصا بدل أن يمتوا بأصولهم إلى بلاد العالم الإسلامي المختلفة في الهند والجاوة وفي مصر والشام وفي تركيا وأوروبا وفي غير هذه من البلاد التي يقيم بها المسلمون شأن أهل المدينة اليوم؟!
لست في حاجة إلى الإجابة عن هذا السؤال، وليس يختلف فيها اثنان، على أن السؤال لذاته فرض جدلي، فدفن النبي بالمدينة كان أمرا مقدورا كما كانت هجرته إليها أمرا مقدورا، وأحدث الآراء في العلم تثبت هذا المقدور كما تثبته الآراء المقررة في الدين، فما يحدث في الكون أثر من سنة الكون التي لا تبديل لها والتي تنتظم كل عوامل الحياة فيه، ولو أننا ذهبنا نتقصى النتائج التي تترتب على هذا الفرض لطال بنا الجدل، أفكانت الخلافة الإسلامية تقوم بالمدينة إذا دفن النبي بمكة أم كانت العاصمة تنقل إلى أم القرى؟ أفكان ما حدث من الفتح الإسلامي يسير في الاتجاه الذي سار فيه أم في اتجاه غيره؟ وإنما أردنا من هذا السؤال في أول حديثنا عن آثار المدينة أن يذكر القارئ أن ما بهذه البقعة المباركة من الآثار يتصل كله بهجرة الرسول إليها ومقامه بها ودفنه فيها، واتخاذ خلفائه الأولين إياها عاصمة للإسلام كما اتخذها هو له منذ الهجرة مقرا.
والحق أن ما بالمدينة اليوم من آثار يتصل كله بالرسول، فهو له ولأهله وأصحابه، والقليل القليل منه لخصومه من اليهود الذين كانوا أولي ثروة وسلطان بالمدينة يوم هاجر إليها، ثم لم يلبث أن أجلاهم عنها إلا من آمن به منهم واتبعه، وأنت إذ تسير في المدينة أو بظاهرها تشعر بأن الحياة الباقية لهذه الآثار هي التي تقف نظرك وتسترعي انتباهك ويهتز لها قلبك، وهي التي جذبتك إليها لتزورها، وهي التي أمسكتك لتقيم حولها، أما حياة الحاضر بالمدينة فتتعلق بآثارها وتكاد تكون حميلة عليها، من ثم كان تفكير الناس وحديثهم بالمدينة منصرفا إلى هذه الآثار الخالدة على الزمن، لا يغير منها تفاوت حظ المدينة بين الرخاء والشدة والبؤس والنعمى.
أوتحسب أن لهذه الآثار شواهد عليها عني الناس بإقامتها وأسبغوا عليها من صور الفن قوة وفخامة تتفق مع ما تثيره في النفس من ألوان الذكرى؟! لقد تحدثت عن المسجد النبوي وعمارته وما أضيف من الزيادات إليه، والمسجد كل ما في المدينة من أثر الفن في العمارة والنقش، فأما ما سواه من شواهد الآثار القديمة فلا يعدو أكثره هذا النمط للمساجد القائمة بمكة، والتي لا تزيد على مربع من الأرض تحيط به جدران غاية في البساطة، يعلوه من ناحية المحراب سقف ساذج يستند إلى عمد ليست دونه سذاجة في بنائها، أما بعضها فخير من مساجد مكة بناء، ولبعض هذه المساجد الحسنة البناء قباب ومآذن، وفي بعضها تقام الصلاة أحيانا، على حين تقام في المسجد النبوي دائما، لما أثر عن النبي
صلى الله عليه وسلم
أنه صلى في تلك المساجد، وبالمدينة كما بمكة آثار غير المساجد، بها آبار وعيون ودور وأمكنة وجبال وأودية مأثورة، لكن هذه الآثار تختلف دلالتها جميعا عن دلائل آثار مكة اختلافا ظاهرا، آثار مكة تتصل كلها بأيام الدعوة الأولى، وما أصاب الرسول وأصحابه من الأذى والمساءة في سبيلها، وليس يشذ عن ذلك من آثار مكة إلا ما اتصل بحياته
صلى الله عليه وسلم
في المدينة، كمسجد الرضوان الذي أقيم ذكرى لعام الحديبية، حين ذهب المسلمون من المدينة إلى مكة حاجين البيت معظمين حرمته، ومسجد الراية الذي أقيم حيث ركز الرسول رايته حين فتح مكة، فأما آثار المدينة فتكاد تتصل كلها بجهاد المسلمين في سبيل الله، ولا غرابة في ذلك، والآثار إنما تصور الجلائل من أحداث العصر الذي وقعت فيه، واتصالها بالعظيم الذي وجه العالم في ذلك العصر وجهته، ثم كان له بعد ذلك الأثر الباقي على الدهر، وقد كان محمد بمكة داعيا إلى الحق الذي بعثه الله به باذلا حياته في سبيل دعوته، وكان بالمدينة مدافعا عن هذا الحق وحرية الدعوة إليه، مجاهدا في سبيل انتشار هذه الدعوة ليظل الخافقين علمها.
ولست أجد في العالم بلدا يحوي من جلائل الآثار ما تحوي المدينة، فبيت المقدس مثوى الأنبياء وبلد المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومبكى اليهود، وطيبة عاصمة مصر الفراعنة الأقدمين، والقاهرة عاصمة مصر الإسلامية، ورمية التي شهدت قيام الإمبراطورية الرومانية العظيمة وسقوطها، وباريس ولندن وسائر عواصم العالم تقصر آثارها دون التعبير عما تعبر عنه آثار المدينة من المعاني.
هذا، على أن آثار المدينة لا شيء فيها من عظم العمارة إلا في المسجد النبوي، أما سائرها فهو البساطة كل البساطة، ولست أدري لعل أبسط الآثار عمارة أعمقها في النفس أثرا، فجبل الزيتون وطريق الآلام في بيت المقدس يهزان القلب بما يحدثان عنه من تاريخ المسيح أكثر مما يهزه كنيسة المهد وكنيسة القيامة، وما يحدث عنه هذان الأثران الفخمان في العمارة من معجزات، والآثار القائمة في المدينة والتي انمحى بعضها فما يكاد يبقى إلا اسمه ، تبعث أمام الذهن من صور الجهاد في سبيل العقيدة والحق ما يهتز له وجود الإنسان كله إشفاقا تارة، وإعجابا طورا، وإيمانا بالله وثقة بنصره الحق في كل حال.
من هذه الآثار طائفة تحيط بالمسجد النبوي لم تدخل في عمارته حين زيادات عمر وعثمان والوليد والمهدي، وأكثر هذه الآثار كانت دورا لأصحاب النبي أو لجماعة من حكام المدينة تولوا أمورها في عصر بني أمية، وما بقي من هذه الآثار اليوم لا يشهد بما كانت عليه أيام أصحابها الذين تنسب إليهم، بل أصابها من التحول على الزمن ما أصاب كل شيء في المدينة، فبعضها اليوم أربطة محبوسة وقفا على طوائف من الفقراء، وبعضها أحيلت مدارس في عصر ما، ثم أصبحت مخازن أو ما إليها، وبعضها تهدم فما يجد الإنسان من أثره شيئا يقف عنده.
وأول ما يلفت الذهن من أسماء هذه الآثار دار أبي أيوب الأنصاري، لقد كانت منزل رسول الله أول ما بلغ المدينة في أثر هجرته من مكة، على مقربة منها بركت ناقته إزاء مربد سهل وسهيل ابني عمرو حيث كان المسلمون يصلون في المسجد الذي أقامه ابن عفراء، وفيها نزل إذ كان صاحبها أبا أيوب أحد بني النجار من الخزرج، وبنو النجار هم أخوال جده عبد المطلب، وقد أقام الرسول من هذه الدار بالسفل ثم انتقل منه إلى العلو، وظل زمنا يتراوح بين سبعة أشهر واثني عشر أوى بعده إلى مساكنه؛ فلا جرم وذلك تاريخها أن تكون أول ما يلفت الذهن من كل باحث في آثار المدينة ومبلغ صلتها بالرسول الكريم.
وتقع دار أبي أيوب شرقي المسجد من ناحيته الجنوبية؛ فهي بذلك قبالة الحجرة النبوية لا يفصل بينها إلا الطريق، وهي تلاصق دار جعفر الصادق الواقعة في جنوبها، ويفصل بينها وبين دار عثمان بن عفان الواقعة في شمالها زقاق يعرف بزقاق الحبشة، ويقوم اليوم في موضعها مسجد ذو قباب ومحراب، وقد كتب على جداره الخارجي بحروف بارزة مذهبة: «هذا بيت أبي أيوب الأنصاري موفد النبي - عليه الصلاة والسلام - سنة 1291.» مما يدل على أنها بنيت مسجدا في هذا التاريخ، أما قبل ذلك فليس يعرف عنها إلا أن مدرسة أقيمت في موضعها سميت المدرسة الشهابية، نسبة إلى بانيها الملك شهاب الدين غازي، وذلك بعد أن بقيت خربة زمنا طويلا.
أما تاريخها القديم فكل ما جاء عنه في «الروض الأنف» للسهيلي أنها آلت بعد أبي أيوب إلى مولاه أفلح، وهذا تركها حتى تخربت ثم باعها للمغيرة بن عبد الرحمن الذي قام بترميمها ثم تصدق بها على أهل بيت من فقراء المدينة أقاموا بها هم ومن بعدهم إلى أن تهدمت، ثم تركوها عرصة ليس فيها أثر لبناء.
أين الشبه بين هذا المسجد القائم اليوم وتلك الدار التي أوى إليها رسول الله؟ لا شيء من الشبه البتة بينهما، ومع ذلك يثير هذا المكان في النفس صورة ما حدث في اليوم الأول لنزول الرسول دار أبي أيوب، وما حدث في الأشهر التي عقبت ذلك اليوم، قف بنا أمام هذا المسجد الذي كان دارا لأبي أيوب وانظر، لقد كان ما حول هذه الدار خاليا من الجهات الأربع، وكان يجاورها إلى الغرب مربد سهل وسهيل ابني عمرو يجفف فيه التمر، وليس به إلا القليل من النخيل والغرقد وقبور جاهلية تركد أثناءها مياه لا يعنى أحد بتصريفها، وكان هذا المكان مقصودا من مسلمي المدينة الذين اتخذوه مصلى منذ جعل ابن عفراء فيه عريشا للصلاة، وكان هؤلاء المسلمون ما يزالون في عدد قليل، لا يتجاوزون بضع المئات عدا، وهم على ذلك موضع إجلال أهل المدينة واحترامهم، إلا من أقفل التعصب قلبه من اليهود أو المشركين، وها نحن أولاء اليوم يوم الجمعة الذي أقبل الرسول فيه من قباء ومعه أبو بكر وحولهما جماعة من مسلمي المدينة رجالا وفرسانا في جنوبهم السيوف، وها هم أولاء أهل المدينة جميعا قد خفوا إلى طرقاتها يريدون أن يروا هذا الرجل الذي يتحدث أهلهم المسلمون عنه في إكبار وإعظام ليس مثلهما إكبار أو إعظام.
انظر إلى هذه اليهودية الواقفة هناك فوق ربوة بين صاحبات لها تسأل: «أي الرجلين محمد؟» واسمع إلى جارتها الخزرجية تجيبها: «كيف لا تحزرينه؟! أوتحسبينه هذا الأبيض النحيف الخفيف العارضين الناتئ الجبهة؟ كلا! فهذا أبو بكر.» وتردف اليهودية في إعجاب: «هو الآخر؟ إذن ما أبهى طلعته وما أعظم وقاره! إن له لعينين نافذتي النظرة من حدقهما الأسود اللامع بين أهدابهما السود الطوال.» ورجال المدينة وفتيانها يسيرون حول النبي في مظاهرة ابتهاج كلها الجلال، وهي لا تخلو مع ذلك من حوار أيهم يكون له شرف ضيافته، وكلما مر بقوم من أنصاره استوقفوا ناقته، وعرضوا عليه أن ينزل عندهم في العدد والعدة والمنعة، فيقول لهم: «دعوها بارك الله فيكم؛ إنها مأمورة.»
لقد أدركوا الجمعة إذ هو ببطن وادي رانوناء من أودية المدينة، فنزل فصلاها بالناس بعد أن خطبهم قائلا: «أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلون الجنة بسلام.» وها هي ذي ناقته تنطلق كرة أخرى فيندفع أتباعه حوله، وأهل المدينة أشد لأمره عجبا، وبه إعجابا، وأصحابه الأنصار ما يزالون يتحاورون أيهم يكون منزله منزلا لرسول الله، والآن بركت الناقة عند مربد سهل وسهيل، واجتمع كبار الأنصار حول الرسول يحتكمون إليه أيهم ينزل عليه، قال رسول الله حسما لنزاعهم: «إني أنزل على أخوال عبد المطلب؛ أكرمهم بذلك، فأي بيوتهم أقرب؟» هذا أبو أيوب يقبل فرحا مستبشرا يقول وهو يشير إلى داره: «أنا يا رسول الله، هذه داري وهذا بابي!» ويأخذ رحل النبي إلى داره وينطلق به ليهيئ للضيف الكريم مقيلا.
ما لهؤلاء المتظاهرين لا ينصرفون؟! إن عيونهم لا تدع النبي لحظة، كأنما يزداد شوقهم إليه وشغفهم به، والآن ها هم أولاء يتطلعون إلى ناحية الدور المجاورة، لقد طرق سمعهم صوت لفت نظرهم، ذلك صوت فتيات من ربات الخدور صعدن الشرفات يتغنين:
طلع البدر علينا
من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا
ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا
جئت بالأمر المطاع
ترى من ذا صاغ لهن هذا القول الحلو ولحن لهن هذا النشيد العذب؟ لعله فتى من شعراء المدينة، أولع بالنبي حبا من قبل أن يراه، ولعله أحد هؤلاء الفتيان المتظاهرين يتدافعون بالمناكب حوله وهم يتنادون نشوة وفرحا: «جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم .» والحبشة يلعبون أثناء ذلك بحرابهم فرحا بقدومه، فيطلق اسم الحبشة لذلك على الزقاق المجاور لدار أبي أيوب.
وأولئك جوار من بني النجار يقبلن يضربن بالدفوف ويقلن:
نحن جوار من بني النجار
يا حبذا محمد من جار
ويبتسم لهن محمد ويقول: «أتحببنني؟» فيجبن: نعم يا رسول الله، فيردف: «يعلم الله أني أحبكن!»
أية غبطة هذه الغبطة؟! وأي فيض من السرور أضاء المدينة في هذا اليوم الخالد في صحف التاريخ؟! لقد نسي الناس طعامهم فما يريدون الانصراف إليه، وهم لم ينصرفوا حتى قام النبي إلى بيت أبي أيوب يقيل فيه من حر ذلك اليوم القائظ من الصيف، هنالك بدءوا ينصرفون ولا حديث لهم إلا مقدم رسول الله وما اختار الله للمدينة من فضل بمهاجرته إليها.
لم يكن هذا اليوم على جلاله هو الذي خلد لدار أبي أيوب كل ما لها من جلال الذكرى، إنما خلد لها ذلك مقام النبي بها شهوره الأولى بالمدينة، وما أتم أثناء هذه الشهور من عمل كان له في الإسلام وسياسته الأثر الباقي على التاريخ، أثناء مقام محمد بهذه الدار آخى بين المسلمين مهاجريهم والأنصار، ووضع سياسة المعاهدة بينه وبين اليهود، وأقام في المدينة بذلك نظاما لم يكن مألوفا من قبل، ولم يدر بخلد أحد يوم وضع أنه يصور سياسة بعيدة المدى تنتهي بالمدينة إلى وحدة أساسها الإخاء والتضامن، وتنتهي باليهود إلى الجلاء عنها، ثم تنتهي بالإسلام إلى الانتشار في بلاد العرب كلها لينتشر منها بعد ذلك في أنحاء العالم وربوعه جميعا.
وهذا نوع من التفكير السياسي كان جديدا يومئذ في حياة محمد، فهو لم يرم حين مقامه بمكة إلى تنظيم سياسي، أو أن يجعل من التنظيم السياسي وسيلة إلى الدعوة للدين الذي ألقي عليه تبليغه للناس، لكنه ما لبث حين أقام بدار أبي أيوب واتصل بالمسلمين من أهل المدينة أن قدر ما بين العقيدة ونظام الحياة من صلة، وأن العبادات التي تدعو العقيدة إليها تتصل بنظام الحياة ويتصل بها هذا النظام أوثق اتصال، فالعقيدة أمر فردي من حيث اتصالها بالرأي وتكييفه، فإذا انتقل الأمر إلى مظهرها العام وإلى العبادات المتصلة بها وإلى الفضائل التي يتحلى بها صاحبها، أصبحت مسألة اجتماعية لا مفر من أن يتناولها التنظيم، وليس يقف تنظيمها عند فرائض العبادة من وضوء وصلاة وصوم وزكاة وحج، بل يتعدى الأمر هذه الفرائض إلى صلات الناس بعضهم ببعض، والأمر في تفاصيل هذه الصلات أمر دنيا، والناس في كل عصر أعلم بحاجاتهم فيها، لكن المبادئ العامة التي يجب أن يقوم التنظيم عليها، كالمبادئ العامة التي تقوم عليها صلات المسلمين بغيرهم من الناس، يجب أن تتسق مع تنظيم هذه الفروض التعبدية، ويجب أن تظل أبدا على هذا الاتساق وإن اختلف تصويرها واختلف تفصيلها باختلاف الزمان والمكان، هذا ما اتجه إليه تفكير الرسول أثناء مقامه بدار أبي أيوب، وكان من أثره هذه المؤاخاة بين المسلمين وهذه الموادعة مع اليهود.
تقع دار عثمان بن عفان إلى الشمال من دار أبي أيوب لا يفصل بينهما إلا زقاق الحبشة، والمعروف أن عثمان كان له في هذا المكان داران متصلتان بناهما في عهد الرسول - عليه السلام، دار صغرى ودار كبرى، أما الدار الصغرى فيقوم موضعها اليوم رباط للمغاربة يدعى رباط سيدنا عثمان، وبهذا الرباط اليوم مكتبة تحوي كتب الفقه المالكي وغيره موضوعة في خزانات تدل نقوشها على أنها من مصنوعات الدولة العباسية، ويقال: إن هذه الخزانات كانت بالحرم وكانت مهداة إلى الحجرة النبوية ثم أخرجت منه ووضعت في هذا الرباط، أما الدار الكبرى فموضعها اليوم رباط العجم، وهي مخصصة لشيخ الحرم النبوي، وبها قبر أسد الدين شيركوه عم السلطان صلاح الدين الأيوبي وقبر والد صلاح الدين الذي دفن مع أخيه.
وقد روى ابن جبير في رحلته أن عثمان استشهد في هذه الدار الكبرى، وذكر السمهودي أن قتلة عثمان تسوروا عليه من الدار الصغرى إلى الدار الكبرى التي كان يقطنها يومئذ، ومن العسير أن يحقق اليوم المكان الذي تسوروا منه أو الطريق الذي سلكوه في انتقالهم بين الدارين بعد أن استحالت هذه الدور غير صورتها الأولى، وبعد أن أصبح تعيين الموضع الذي قتل عثمان فيه تعيينا دقيقا غير ميسور.
لشد ما تختلف الذكريات التي تبعثها هذه الدار إلى الذهن عما تبعثه دار أبي أيوب، كانت دار عثمان من أفخم دور المدينة في ذلك العصر، على حين لم تكن دار أبي أيوب تختلف عن دور أوساط الناس من الخزرج، مع ذلك توحي هذه الدار إلى النفس ما رأيت من ذكريات، فأما ما بقي من ذكر لدار عثمان فقتله بها، واختلاف المسلمين بعده ثم انقسامهم واتخاذ دمه ذريعة لهذا الانقسام، ومع ما رأت دار عثمان في عهد خلافته من فتح المسلمين بلاد الروم والفرس ومنه امتداد ملكهم إلى تونس وإلى قلب إيران ومن استيلائهم على جزر البحر الأبيض المتوسط، لقد غشى على ذلك كله ما حدث في آخر هذا العهد حين اتخذ عثمان مروان بن الحكم كاتب سره، وحين آثر بني أمية على قريش وعلى الأنصار وعلى سائر المسلمين، مما أدى إلى الفتنة وانتهى إلى قتله، غشى ذلك على هذا الفتح الذي انفسحت به رقعة المملكة الإسلامية، وبقيت صحف التاريخ تقلب مقتل عثمان أمام الذهن في صورة تثير النفس وتلذع بالألم كل مسلم لما ترتب على هذا الحادث من آثار ما زال خلف المسلمين يتناقلونها عن سلفهم، وحق ما قيل: «إنما الأعمال بخواتيمها.» ولو أن أجل عثمان حم قبل أن تثور الفتنة لإيثاره بني أمية فمات ولم يقتل، لتغير وجه التاريخ أغلب الأمر، ولما نجمت في المسلمين هذه الشيع التي أنشأها قتله والخلاف على دمه، وما أثاره هذا الخلاف من حفائظ قديمة بين بني هاشم وبني أمية.
إلا أن في هاتين الدارين المتجاورتين - دار أبي أيوب ودار عثمان - العبرة أبلغ العبرة؛ عبرة الأخوة بين المسلمين، وما في الأخوة من قوة يضاعفها الإيمان الصادق، والخلاف بينهم وقيام الحكم فيهم على التنازع والغلب يناجز به بعضهم بعضا، ولقد كان هذا التنازع في صدر الإسلام، وحين كانت أسوة الرسول حاضرة في الأذهان، أفكتب على المسلمين أن يظل الانقسام ديدنهم، وألا يذكروا مؤاخاة النبي بين المؤمنين أول ما جاء المدينة، وقبل أن ينتقل من دار أبي أيوب إلى منازله، وأن ينسوا قوله - تعالى:
إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم ؟ أم آن لدورة الزمن أن تدور وأن تصبح للأمم الإسلامية عصبة تدعو إلى الإسلام والسلام متآخية إخاء المسلمين في الصدر الأول، يوم خرجوا من شبه الجزيرة فأضاءوا العالم بنور التوحيد ونشروا فيه أسمى المبادئ؟!
تقع دار عثمان إلى جوار المسجد من جهة الجنوب الشرقي، وتقع دار مروان بن الحكم مقابلها من الجهة الجنوبية الغربية في جوار باب السلام، ولقد ولي مروان بن الحكم إمارة المدينة في عهد معاوية بن أبي سفيان بعد أن كان كاتب السر لعثمان بن عفان، فأتم من أعمال الإصلاح فيها ما جعل أهلها يلهجون بحمده والثناء عليه وينسبون باب السلام إليه فيسمونه باب مروان، ويظلون على ذلك إلى عهد العباسيين، أجرى مروان العين الزرقاء، ورصف أطراف المسجد النبوي بالحجارة، وجعل للمدينة من أموال الفتح الأموي ما لعله أنساها مقتل علي بن أبي طالب بالكوفة لولا مقتل الحسين ابنه بعد ذلك بكربلاء، وسخاء مروان هو الذي جعل المدينة أقل مقاومة من مكة في عهد معاوية وأول أيام يزيد، ومن يومئذ بدأ أهل المدينة من الأوس والخزرج يغادرون مدينتهم إلى بلاد المملكة الإسلامية الفسيحة الأطراف، ويقيمون بها ليحل المسلمون من بلاد هذه المملكة محلهم فيها، ولم تنقض إلا أجيال حتى لم يبق فيها إلا الأقلون من أبنائها الأولين.
دار أبي أيوب هي التي نزل رسول الله بها أول مهاجره إلى المدينة، ويقابلها داخل المسجد موضع حجرات أزواج النبي التي ضمت إليه في عهد الوليد بن عبد الملك، ويفصل زقاق الحبشة بين دار أبي أيوب ودار عثمان، وتقع دار مروان بن الحكم في جوار باب السلام، أليس لأبي بكر ولعمر وعلي آثار باقية اليوم حول المسجد تكمل بها سلسلة التاريخ في هذه الفترة؛ فترة نصف القرن الأول من الهجرة؟ أما أبو بكر فله بجوار المسجد الغربي الخوخة التي أوردت عند الحديث عن المسجد بعض خبرها، وله فيما تذهب إليه الرواية، دار تجاور دار عثمان بن عفان من الشمال، ولا يفصل بينهما إلا طريق البقيع، وهذه الدار هي التي مات بها، وليس حول المسجد مكان ثابت النسب إلى عمر بن الخطاب باعتباره موضع داره، وإن حاول بعضهم أن ينسب إليه دارا في شمال المسجد، لكنما تقع في جنوب المسجد دار تطل على الحجرة النبوية تعرف بدار آل عمر، ويقول السمهودي: إنها دار عبد الله بن عمر بن الخطاب، آلت إليه عن أخته حفصة أم المؤمنين، وكان لهذه الدار نفق يصلها بالمسجد حتى سنة 888 من الهجرة إذ سد هذا النفق وردم بالتراب.
ولا تعرف باسم علي بن أبي طالب دار ولا موضع لدار فيما حول المسجد، وإنما يعرف باسم زوجه فاطمة ابنة رسول الله مكان من الحجرة النبوية، يزعم بعضهم أنها مدفونة فيه، والرواية الراجحة أنه موضع دارها التي كانت تقيم بها والتي أقام بها أبناء الحسن والحسين من بعدهما حتى ضمها الوليد بن عبد الملك إلى المسجد، أما قبرها فبالبقيع.
أما دار نائب الحرم اليوم، وهي التي تلاصق دار أبي أيوب من الجنوب، فتنسب إلى جعفر الصادق الحسيني، والمقيم اليوم بهذه الدار بعد إلغاء وظيفة «نائب الحرم» هو القائم بإدارة أوقاف الحرم النبوي.
ألا ما أكثر ما تثير ذكريات هذه الدور من أثر في النفس! إنها تثير عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين كله، ويقع على مقربة منها أثر يثير في النفس من ذكريات البطولة والإقدام ويرسم أمام الذهن صورة من الفتح الإسلامي تهز القلب إعجابا وإكبارا، فقبالة باب النساء من أبواب المسجد وإلى جانب الأثر الباقي من دار أبي بكر، قبة صغيرة مبنية باللبن والطين واقعة بمقدم رباط يدعونه رباط خالد بن الوليد، هذه القبة تقوم في الموضع الذي كانت تقوم فيه دار بطل الإسلام خالد، ويعيد صغرها إلى الذاكرة ضيق هذه الدار ضيقا شكا خالد منه إلى النبي، فقال له: «ارفع البناء في السماء، وسل الله السعة.»
أويظن أحد أن تكون هذه البقعة الضيقة دار خالد بن الوليد، بطل قريش وفارسها المعلم وصاحب لوائها قبل أن يسلم، وبطل الإسلام وسيف الله المسلول بعد إسلامه؟! خالد الذي ضاقت الأرض بفتوحه شرقا وغربا في فارس وفي بلاد الروم، والذي كان في عهد الرسول بطل مؤتة وقائدها بعد موت أصحابه، تكون داره بهذا الضيق؟! يا للنزاهة ويا للإباء! حق إن هذا العرض من متاع الدنيا لا وزن ولا قيمة له، ولا يساوي عند الله جناح بعوضة، كم من ملوك في زماننا هذا وفيما سبقه من القرون يودون لو حفظ التاريخ لهم قطرة من بحر مما حفظ لخالد من ذكرى فلا يغني عنهم مالهم من ذلك شيئا ولا يجدون إليه الوسيلة، ألا إنها عظمة النفس هي الباقية، وسلطان النفس على الحياة هو الخالد في صحف الحياة.
تقع دار خالد إلى جانب زاوية السمان التي كانت دار ريطة ابنة أبي العباس السفاح، وزاوية السمان واسعة فخمة، وكانت دار ريطة واسعة فخمة كذلك، فليست دار خالد شيئا بالقياس إليها، وإذ كانت دار ريطة تقع قبالة باب النساء، وكان لريطة ما يجب لابنة أبي العباس السفاح من مكانة، فقد أطلق اسمها على هذا الباب من أبواب المسجد النبوي، فسمي باب ريطة زمنا غير قليل، فلما ماتت ريطة وتوالت القرون رد إلى باب النساء اسمه، وبنى «يازكوح» أحد أمراء الشام دارها من جديد وجعلها مدرسة للحنفية وجعل فيها قبره.
إلى جوار المسجد مواضع يقال: إن دور عمرو بن العاص وسكينة بنت الحسين كانت بها، وموضع دار سكينة ينسب إلى تميم الداري الصحابي المعروف، كذلك يروى أن الدار التي كان يجري عمر بن الخطاب فيها قضاءه كانت في الموضع الذي تقوم به المحمودية الآن، وهذه مجموعة من الدور كانت قائمة في عهد النبي وفي العصر الذي تلاه تفاخر بها المدينة كل مدينة سواها، ولعل أهلها إذ يذكرون من الدور ما كان بعد عهد النبي إنما يذكرون بها أيام كانت مدينتهم عاصمة عزيزة الجانب، تمثل القوة الإنسانية ذات الأثر الخالد في العالم، فالمدائن كالأشخاص تتغنى بأيام مجدها وعزها، وإن بعد في التاريخ عهد هذا المجد، وإن أصبح هذا العز الذي تربع الأجداد على عرشه أقصوصة يتحلب لها ريق من فاته العز بعد أن طال التماسه إياه في غير جدوى.
تقع هذه الدور كلها حول المسجد النبوي كما رأيت، وقلما يحدثك أحد عن دور أثرية غيرها بالمدينة، إنما يحدثونك عن أمكنة تاريخية وعن مساجد وحصون وآبار، ويقع بعض هذه بالمدينة وبعضها بظاهرها، وإن تعذر عليك أن ترسم خطا واضحا يفصل بينهما، ويرجع تعذر ذلك إلى أن المدينة انبسطت وانقبضت على التاريخ مما اقتضى أن يبنى لها سوران، أحدهما باق إلى اليوم ولم يبق من الآخر إلا آثار تراها ها هنا وهناك، ولقد تخطت المدينة السورين في بعض العصور الزاهرة من أيام رخائها، ومن هذه الأيام ما قبل الحرب العالمية الأولى (1907م-1914م)، حين سيرت السكة الحديدية الحجازية، من ثم لا يقف أكثر المؤرخين لآثارها عند تخطيط دقيق، ولم تتح لي الفرصة الضيقة التي قضيتها بها أن أرسم لآثارها حدودا دقيقة، وخاصة أن ليست لها خريطة يمكن الاعتماد على دقتها.
ولقد فكرت أن أجعل الخندق الذي حفره المسلمون في غزوة الأحزاب أيام النبي حدا فاصلا ما بين المدينة وظاهرها، لكني لم ألبث حين البحث أن رأيت تحديده الصحيح عسيرا، فقد سألت الأستاذ عبد القدوس الأنصاري يوما أن يريني إياه، فلم يخف علي أنه يتوهمه ولا يعلمه علم اليقين، وله من العذر عن ذلك ما نقله في كتابه «آثار المدينة المنورة» عن المطري الذي أرخها في القرن الثامن الهجري، إذ قال: «وقد عفا أثر الخندق اليوم ولم يبق منه شيء يعرف إلا ناصيته؛ لأن الوادي - وادي بطحان - استولى على موضع الخندق وصار مسيله في الخندق.» على أنه حاول أن يقف بي عند ما يعتقده أثره كما بينه على خريطة تقريبية ضمنها كتابه، أما والتحديد الصحيح للخندق غير ميسور فلأجعل هذا التحديد التقريبي بديلا منه للغرض الذي أتوخاه ، غرض الفصل ما بين المدينة وظاهرها.
والخندق كما صوره الأستاذ عبد القدوس يقع في شمال المدينة بينها وبين أحد، وينحدر إلى الشرق بينها وبين حرة واقم، ويتصل من الجنوب بوادي بطحان، ومن الغرب بحرة الوبر، وفيما وراء الخندق من الشرق تقع منازل اليهود في عهد الرسول؛ بني قريظة وبني النضير، وفيما وراءه من الغرب يقع وادي العقيق، وتقع قباء في جنوبه، وسنتناول ما هنالك في هذه الجهات جميعا حين حديثنا عن ظاهر المدينة.
أخالني غاليا حين أذكر ما ساورني من أسف لإهمال أثر كالخندق حفره المسلمون الأولون برأي سلمان الفارسي، ولم تكن الخنادق معروفة في حربهم، فكان له من الأثر أن حمى المسلمين وحمى الإسلام وكانا عرضة لفتك المشركين بعد أن ألبهم اليهود بإمرة حيي بن أخطب عليهم، وهل حافظ المسلمون على غير الخندق من الآثار فيلامون على إهمالهم إياه؟! وإذا كانت غزوة حنين المجيدة لا يعرف موضعها على وجه التحقيق في جوار مكة، فلا عجب أن يصيب الخندق ما أصابه، لقد نزل في حنين قرآن كما نزل في الخندق قرآن، ففي غزوة الخندق وموقف الأحزاب من المسلمين فيها يقول الله - تعالى:
إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا * وإذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا * وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثرب لا مقام لكم فارجعوا ويستأذن فريق منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا . أولم يكن حقا على المسلمين أن يقيموا لهذا الخندق أثرا باقيا يذكر به؟! أوليس حقا اليوم أن نقوم بما لم يقوموا به ليكون لنا في صبر المسلمين حين الخندق على البأساء وعلى مواجهة الموت عبرة؟! أم أنا لا يعنينا من تاريخ السلف إلا بركته، وإن غابت عنا عبرته؟!
والآن ، فماذا وراء الخندق في داخل المدينة من آثار تذكر اليوم؟ لا أحسب أثرا لما بعد عهد النبي أبقى ذكرا عند المسلمين من سقيفة بني ساعدة، وهم لا يذكرونها لجلوس النبي فيها ما يذكرونها لوقوع بيعة أبي بكر بها، بعد ما وقع من خلاف بين الأنصار والمهاجرين أيهم تكون له الإمارة؟ وقد ألف الناس أن يذكروا تاريخ الخلاف بينهم أكثر مما يذكرون أسباب اتفاقهم وإخائهم، أترى مكان هذه السقيفة ثابتا مع ذلك لا يقع عليه خلاف؟ كلا! فمن المؤرخين من يقول: إنها خارج الأسوار على مقربة من بئر بضاعة، وهذا الرأي الأخير رأي المطري، وقد انتهى السمهودي إلى ترجيحه، وبذلك تكون السقيفة واقعة عند الباب الشامي من أبواب المدينة قبيل ملتقى الطريق إلى الشام والطريق إلى أحد.
ولا يزال أهل المدينة يحتفظون للسقيفة بأثر لم يثر عنايتي، فهو فضلا عن عدم قدمه لا يصور في الذهن معنى من حياة الأنصار الأقدمين، وما قيمة الأثر أو النصب إذا خلا من المعنى المقصود منه وفقد مزية القدم؟!
هذا، ولقد كنت حريصا على الوقوف بالآثار التي تذكر عهد النبي بالمدينة أكثر من حرصي على سواها، وما تذكره سقيفة بني ساعدة من ذلك قليل؛ إذ كانت لا تذكره بأكثر من أن النبي جلس فيها، وما ذلك إلى جانب ما تذكره المناخة الفسيحة التي ما تزال باقية فضاء كما كانت في العهد الأول، والتي تأوي قوافل الحجاج إليها إذ تتخذ منها مناخة إبلها ومضارب خيامها، كما فعل العرب على عهد الرسول إذ جاءوا زرافات ووحدانا ملبين الداعي لحجة الوداع! وليس يذكر الحجاج اليوم شيئا من حجة الوداع ومقدم المسلمين إلى المدينة لأداء فرضها مع رسول الله، هذا وحجة الوداع من أعلام الإسلام التي لا تنسى؛ إذ نزل في أثرها قوله - تعالى:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا .
وكانت المناخة قبل حجة الوداع وأول ما جاء الرسول إلى المدينة سوقا لبني قينقاع من اليهود الذين اتخذوا منازلهم على مقربة منها، وكانت سوقا للمدينة كلها حتى استحر الخلاف بين المسلمين واليهود، فتحولت السوق عنها، وبنو قينقاع من اليهود هم أول من تحرش بالمسلمين في المدينة، فنشبت العداوة والبغضاء بينهم وبين اليهود، فقد كان بنو النضير وبنو قريظة يقيمون خارج المدينة فيما وراء موقع الخندق من قبل أن يحفر الخندق، أما بنو قينقاع فكانوا يقيمون بين أهل المدينة، وكان لهم فيها من سلطان المال ما لليهود حيث نزلوا من أقطار العالم.
وكان أول ما بدأت الخصومة بين اليهود والمسلمين بعد انتصار المسلمين في غزوة بدر، أما قبل بدر فكان اليهود يدسون بين المسلمين يحاولون الوقيعة بينهم لتبقى لهم هم الكلمة العليا، فلما رأوا كلمة المسلمين تعلو ومكانتهم في شبه الجزيرة تستقر وتهاب خافوا المغبة، فأتمروا وجعلوا يغرون بمحمد وأصحابه، ويرسلون الأشعار في التحريض عليهم، ولم يطق المسلمون ذلك منهم، فاندفع شباب الأنصار فقتلوا أبا عفك وعصماء من المنافقين وكعب بن الأشرف من اليهود، عند ذلك اشتدت مخاوف اليهود ولم يبق منهم من يأمن على نفسه، لكنهم شعب طويل الأناة، كثير المكر، ذو مرة في العناد، أما وقد رأوا أن المسلمين لا ينجح معهم الدس والوقيعة فليرهبوهم بالسخر منهم لعلهم يرجعون.
أرادوا امرأة مسلمة جاءت سوقهم تصلح حلية لها عند صائغ منهم على كشف وجهها فأبت، وجاء يهودي من خلفها على غرة منها فأثبت طرف ثوبها بشوكة إلى ظهرها، فلما قامت انكشفت سوءتها فضحكوا بها، فصاحت، إذ ذاك وثب رجل من المسلمين على الصائغ اليهودي فقتله، وشدت اليهود على المسلم فقتلوه، وأراد رسول الله حسم الشر فطلب إلى اليهود أن يكفوا عن أذى المسلمين وأن يحفظوا عهد الموادعة الذي عقده معهم أو ينزل بهم ما نزل بقريش، وكان جواب بني قينقاع: «لا يغرنك يا محمد أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس.» فلما سمع النبي ذلك منهم حاصرهم خمسة عشر يوما لم يخرج منهم أحد ولم يدخل عليهم بطعام أحد، فلم يبق لهم إلا النزول على حكم محمد والتسليم بقضائه، وقام عبد الله بن أبي - وكان لليهود كما كان للمسلمين حليفا - فطلب إلى محمد أن يعفو عنهم وأن يعفيهم من القتل، وانتهى الأمر بعد خلاف أن غادروا المدينة إلى وادي القرى ثم إلى أذرعات على حدود الشام وعلى مقربة من أرض المعاد.
تذكرنا المناخة بهذا الحادث في حياة المدينة على عهد الرسول وبما ترتب عليه من جلاء اليهود عن المدينة، وما كان بعد ذلك من جلاء اليهود عن بلاد العرب كلها، ويدعونا هذا الحادث إلى التفكير، أيهما خير لحياة أمة من الأمم: أن تكون على عقيدة واحدة ودين واحد، أم يترك فيها أمر العقيدة جانبا فلا بأس بأن تتعدد فيها الأديان والمذاهب؟ والجواب أن الناس في العصور كلها قد حرصوا على أن تكون الأمة رأيا واحدا في دينها وعقيدتها كفالة لأمنها وسلامها، وحيثما تعددت الأديان وتشعبت المذاهب كان ذلك مبعث الثورة والاضطراب، ولا يزال الناس من أهل عصرنا على هذا الرأي، وإن عبروا عنه بما سموه حرية العقيدة، وهم إنما أرادوا بهذا التعبير أن يهونوا من حدة التعصب وما كان يؤدي إليه من سفك الدماء لاختلاف مذهبي قد يكون أهون أمرا من أن يختصم فيه رجلان، بله أن تزهق بسببه أراوح وأن تضطرب له حياة الجماعة.
والواقع أن تعدد الأديان في الأمة الواحدة قد كان أبدا مثار منازعات دموية أو غير دموية لها في حياة الأمم أسوأ الأثر، وليس ينسى أحد مذبحة «سان بارتلمي» في فرنسا ولا حروب البروتستنتية والكثلكة قبلا، ولن ينسى أحد ما وقع في عهود كثيرة بين إنجلترا واسكتلندا بسبب الخلاف الديني، وعالمنا اليوم - ومنذ عشرات من السنين - يضطرب بنزعة العداوة لبني إسرائيل مصورة في صورة عداوة السامية، ويصلى من ذلك ويلات وأهوالا، ولقد عانت فرنسا من حادث «دريفوس» وقضيته أشد العناء، وهذه ألمانيا في هذا القرن المتمم للعشرين قد أجلت اليهود عنها وضربت بينهم وبينها حجابا، وكانت في شأنهم أشد تطرفا مما كان محمد والمسلمون الأولون في بلاد العرب، وما تحاوله إنجلترا اليوم من إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين على كره من أهلها ليس إلا مقدمة لإجلاء اليهود عن إنجلترا، وهي مقدمة يدركها تمام الإدراك من عرف السياسة الإنجليزية ومراميها البعيدة وأساليبها الخفية، وهذا كله ينهض دليلا على أن العقيدة أساسا للحياة الاجتماعية أكبر شأنا من الأساس الاقتصادي، وأن تفكيرنا الحاضر في هذا الشأن لم يخالف تفكير من سبقنا، وأن ما نسميه حرية العقيدة قد يصدق بالنسبة للفرد فيما بينه وبين نفسه، لكنه لا يزيد في أمر الجماعة على أنه ثوب رياء قد يواري ما تحته وإن لم يخف الحقيقة التي لم تختلف على الأجيال.
والذين يلبسون تفكيرهم ثوب الرياء يتهمون غيرهم بالتعصب، وهم - علم الله - أشد الناس تعصبا لآرائهم وعقائدهم، وما نعيبهم بذلك، وإنما نعيبهم بنفاقهم، ولو أنهم آثروا الصراحة وأنصفوا لقالوا الحق من أن وحدة العقيدة هي المظهر الأول للحياة الاجتماعية، وأن هذه الوحدة تكون أساسا صالحا حقا ما قامت على إدراك وفهم، لا على تقليد جامد يمسك صاحبه في ظلم الضلالة ويأبى أن يخرج به إلى نور اليقين ليسلك سبيله التي تؤدي إلى صراط الله المستقيم.
وإنما تقوم الحياة على هذا الأساس الصالح المتين يوم يسمو الإنسان في صلته بالإنسان إلى التفاهم عن طريق المجادلة بالتي هي أحسن، والقصد إلى الحق بالدليل والحجة البالغة، مع الحرص على بلوغ هذا الحق والمصارحة بالاقتناع به متى حدث هذا الاقتناع، وما تزال الإنسانية - مع الشيء الكثير من الأسف - بعيدة عن أن تقيم صلاتها على هذا الأساس، وهي ما تزال تلجأ إلى القوة تعتبرها وسيلة مجادلة وسبيل إقناع، وما دام ذلك شأنها فلن يتهيأ لها من وحدة العقيدة بين أهل الأمة الواحدة ما يقيم علاقات الأفراد فيها على أساس من الإخاء الصحيح وحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه، وهذا ما فطن الإسلام له؛ ولهذا وضع القواعد لمعاملة أهل الذمة وأهل الكتاب وأجارهم، وجعل لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم فيما لا يتصل بالعقيدة وما ترتبه على المؤمنين بها من جهاد في سبيلها، وما تنشئه لذلك من تكاليف وحقوق عامة.
تذكرنا المناخة سياسة المسلمين واليهود بعضهم إزاء بعض، وتنشر المدينة القديمة أمامنا بما فيها من دور ومساجد وآبار وأمكنة أثرية حياة المسلمين في عهد النبي وخلفائه الراشدين وحياتهم أيام كان الإسلام يصور للإنسانية حضارتها وينشرها في الخافقين، وما تنشره من ذلك في عهد النبي عظيم حقا، بالغ غاية الجلال، فقد رأيت من حديث دورها حول المسجد ما قصصت عليك، وما تروي الكتب من مستفيض أنبائه يزيد الصورة التي تنشرها المدينة أمام الذهن وضوحا، ويزيدها لذلك جلالا ومهابة.
وأقرب هذه الآثار إلى المناخة مسجد الغمامة، فأنت ما تكاد تتخطى باب العنبرية داخلا إلى المدينة حتى تراه أمامك، بل إنك لتراه وأنت ما تزال خارج المدينة، فهو اليوم مبني بناء متقنا، وله قباب ست تلفت النظر، ومئذنة قصيرة يسترعى قصرها الانتباه إذ يقرنها إلى مآذن المسجد النبوي السامقة في السماء؛ ولهذا المسجد فضلا عن اسم الغمامة اسم المصلى، ذلك بأن رسول الله كان يصلي العيدين في المكان الذي يقوم به، وظل على ذلك إلى أن لاقى ربه، لكن هذا المكان لم يكن في ذلك العهد مسجدا، بل كان فضاء من الأرض شأنه شأن سائر المناخة، ويذكر السمهودي رواية عن ابن شبة عن أبي عثمان الكناني أحد أصحاب الإمام مالك بن أنس أن المصلى بني مسجدا في القرن الثاني للهجرة.
وبداخل المدينة خلا مسجد المصلى: مسجد السقيا، ومسجد الفتح، ومسجد ذباب، ومسجد الإجابة، هذا إلى مساجد أخرى ليس يذكرها أكثر المؤرخين، فأما المساجد القائمة بظاهر المدينة فسنتحدث عنها من بعد.
ومسجد السقيا أقرب المساجد التي ذكرنا إلى المناخة وإلى مسجد الغمامة، وهو لا يزيد اليوم عن قبة يسمونها قبة الروس قائمة عند باب العنبرية في جوار بئر السقيا، وإنما يفصل بينهما طريق مكة، ويذكرون أن النبي صلى بهذا المسجد ودعا فيه بالبركة لأهل المدينة وذكر أن بلدهم حرام كمكة، وهذا الذي يروونه من حرمة المدينة موضع جدل طويل أسهب السمهودي في بيانه في أول كتابه «وفاء الوفا»، والسمهودي هو الذي اكتشف هذا المسجد في القرن التاسع وكان دارسا، ولما اكتشف أعيد بناؤه ثم تهدم كرة أخرى وأقيمت قبة الروس موضعه.
أما مسجد الفتح فيقع في شمال المدينة على قطعة من جبل سلع، فهو بذلك أدنى إلى ظاهرها، وهو يقع حيث كان الخندق، وهو من المساجد التي بنيت في عهد الرسول، ويروى أنه
صلى الله عليه وسلم
دعا الله فيه ثلاث مرات استجاب له ربه في الثالثة منها، فعرف البشر في وجهه، وكان دعاؤه أن يصرف الله الأحزاب، فلما استجاب الله له وصرف الأحزاب عاد النبي بالمسلمين إلى المدينة وكلهم حمد لله وثناء عليه، وقد جدد الحسين بن أبي الهيجاء بناء هذا المسجد سنة 575 للهجرة، ثم جددته الدولة العثمانية بعد ذلك، ولقد كان في عد رسول الله مبنيا بالحجارة واللبن والجريد، أما اليوم فهو مبني كله بالحجارة، وقاصده يرتقي إليه على سفح سلع.
وعلى مقربة من مسجد الفتح يقع مسجد ذباب على سفح جبل ذباب فيما بين سلع وأحد، وكل ما يؤثر عن هذا المسجد أن رسول الله صلى في موضعه، وأنه ضرب قبة له على جبل ذباب في غزوة الخندق.
ويقع مسجد الإجابة شمال البقيع بضاحية المدينة الشرقية، وسمي هذا المسجد مسجد الإجابة فيما يذكر السمهودي؛ لأن رسول الله دعا ربه فيه وطلب إليه ألا يهلك أمته بالغرق، ولا بالجدب، وألا يجعل بأسهم بينهم، فأجاب الدعوتين الأولى والثانية ومنعه الثالثة.
هذه هي المساجد المأثورة بداخل المدينة، أويستطيع المؤرخ أن يقطع بأنها تؤرخ الحوادث التي أقيمت شاهدا عليها؟ لعله يستطيع ذلك فيما له اتصال بحوادث معينة كغزوة الخندق، وإني لأؤثر أن أرجئ الحديث في هذا الأمر إلى أن أستكمل هذه الآثار حين الحديث عما يوجد منها بظاهر المدينة، فما بالمدينة وما بظاهرها يتصلان من حيث دلالتهما على حياة الرسول وأصحابه بالمدينة وما يرسمانه لهذه الحياة من صور.
تناولت من آثار المدينة دورها المحيطة بالمسجد النبوي ومساجدها التي تذكر حادثا بذاته، وتناولت من الأمكنة سقيفة بني ساعدة والمناخة والخندق وسور المدينة، وثم من الأمكنة كذلك ثنية الوداع التي دخل النبي منها المدينة، وهي ثنية في الجبل كالثنية التي تقابل الشرائع في طريق الذاهب من مكة إلى الطائف، والنقا وحاجر كانا من متنزهات المدينة فيما مضى وهما اليوم عامران بالدور الأنيقة، والمنحنى الذي يجري اليوم طريقا أمام التكية المصرية وتقوم على جانبيه دور الحكومة.
ولست أستطيع أن أختم هذا الفصل دون الإشارة إلى أمر لعل له من الخطر عند علماء الحفريات والتنقيب عن آثار المدينة أكثر مما يدور بخلد من لا عهد لهم بهذه الشئون، ذلك أن المدينة الحالية تقوم فوق أطلال قديمة لمدينة سبقتها، صحيح أنه لم تجر حفريات علمية لإثبات هذا الأمر، لكن حفريات قصد بها إلى تهيئة أسس المنازل أو الأنصاب شهدت به ودلت عليه، أو شهدت على الأقل بأن الشبهة عليه بالغة غاية القوة.
وقد روى الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في كتابه «آثار المدينة المنورة» حوادث من ذلك جديرة بأن تسترعي نظر العلماء، فبينما كان العمال يحفرون الأساس بالقسم الشمالي من مدرسة العلوم الشرعية الواقعة قرب باب النساء عثروا بمصباح زيت قديم على عمق أربعة أمتار من سطح الأرض، كما عثروا ببركة صغيرة ومجاري مياه وقطع من فخار، وفي عام 1335 كان العمال يحفرون موضع الأساس لنصب تذكاري أمر حاكم المدينة التركي فخري باشا بإقامته تذكارا لتولية الشريف على حيدر على إمارة مكة، إذا هوة انفتحت وكشفت عن بيوت سقفها تحت طبقة هذه الأرض، وقد نزل العمال إليها ووجدوا بها ثيابا معلقة على حبال محتفظة بهندامها، فلما مسوها بعد دخول الهواء إليها تناثرت، وكان العمال يحفرون في بستان لآل السيد محيي الدين بالطرناوية إذ انفتحت أمامهم هوة واسعة عميقة متصلة بنفق واسع، وقد هبط إليه بعضهم وسار فيه ثم ارتد فزعا لظلمته، وعثروا في هذا البستان كذلك بآثار لبناء قديم من الآجر المربع الكبير، فإذا صح أن كانت لهذه الحفريات دلالة على أن المدينة قائمة فوق أطلال مدينة سبقتها كان ذلك جديرا بمباحث الأثريين والجيولوجيين لمعرفة التاريخ الذي ترجع إليه هذه الآثار والسبب الذي أدى إلى طمرها.
وأكبر الظن عندي، وإن لم أكن من رجال الآثار أو طبقات الأرض، أن السبب في ذلك يرجع إلى طبيعة هذه الأرض التي تقوم المدينة عليها، فكل ما حولها يشهد أنها طبيعة بركانية سكنت منذ أزمان بعيدة، وهذه الحرار السوداء التي حولها إنما هي حمم اختلط بتراب الأرض ورمالها وارتفع إلى بعض الهضاب فيما يخيل إلي، فإن لم يكن ذلك حقا، والحكم به يحتاج إلى مباحث علمية دقيقة، فلا بد أن تكون البراكين قد ثارت بهذه البقعة فطمرت الرمال والأتربة والحمم مساكنها في عصر سبق، وذلك عندي تفسير ما يقصه صاحب «آثار المدينة المنورة» من الأنباء.
ولكن متى حدث هذا؟ أفحدث بعد عهد الرسول أم حدث قبله؟ وهل كان وحده السبب في أن طمرت بالمدينة دور وآثار شتى؟ يتعذر القول برأي حاسم في هذا الأمر، فقد رأيت على مقربة من ذي الحليفة آثار مسجد ذكر لي الأستاذ عبد القدوس أنه كان مطمورا، وأنه كشف عنه من عهد غير بعيد، أما والمساجد لم تعرف إلا بعد الإسلام فقد طمر هذا المسجد إذن في عصور متأخرة، لكن مؤرخي المدينة لم يذكروا لنا شيئا عن البراكين والثورات البركانية، وإن ذكروا هذه الصاعقة التي أحرقت المسجد النبوي وامتد لهبها إلى بعض نواحي المدينة، فما اكتشف إذن فيما حول المسجد وعلى مقربة منه لا بد أن يكون قد طمر قبل عهد الرسول، وهذا احتمال ليس بمستحيل حدوثه، وليس بمستحيل أن تكون الثورات البركانية سببه، وقد يؤيد هذا القول بقاء الآبار المأثورة منذ عهد الرسول - كبئر السقيا وبئر بضاعة اللتين أشرنا إليهما، وكبئر حاء وكبئر أبي أيوب وبئر ذروان وغيرها من الآبار التي سردت أسماءها في فصل المدينة الحديثة - لكن هذا التأييد لا يعدو أن يكون ظنيا أقرب إلى الحدس المنطقي، فأما السبيل إلى الإجابة عما سألنا عنه وإثباته العلمي، فالحفريات الأثرية والجيولوجية دون سواها.
وأكرر أنني أرجئ الحديث فيما تدل عليه هذه الآثار من حياة المسلمين بالمدينة في عهد النبي إلى فصل «ظاهر المدينة»؛ فظاهر المدينة قد كان ميدانا لنشاط الرسول وأصحابه كالمدينة سواء، ولا سبيل لذلك إلى حديث مستقل عن حياتهم في ناحية دون الأخرى من هاتين الناحيتين المتصلتين، ونحن إنما جعلنا الخندق فاصلا بينهما لنيسر تقسيم البحث، ونهيئ للقارئ تكوين صورة من المدينة أبعد ما تكون عن الاختلاط والاضطراب، أما الواقع من الأمر اليوم، كالواقع من الأمر في أعقاب الهجرة وإلى وفاة الرسول، فالمدينة وظاهرها كل متصل ليس من الميسور تجزئته.
جنة البقيع
إن تعجب فقد عجبت قبلك من عنوان هذا الفصل، عجبت حين قرأت الكلمتين اللتين تؤلفانه على صورة شمسية للقباب التي كانت قائمة بالبقيع ثم هدمها الوهابيون، وإنما هون من عجبي أن الذي أطلق على المكان جنة البقيع ووضعه على الصورة رجل من الأتراك في عهد بني عثمان، فلما انقضى العجب وعدت أتدبر الكلمتين رأيتهما تعبران عن معنى دقيق، فاخترتهما عنوانا لهذا الفصل من الكتاب.
فالبقيع، أو بقيع الغرقد كما تسميه كتب السيرة، هو مقبرة المدينة، كان مقبرتها في الجاهلية وفي صدر الإسلام، وما يزال مقبرتها إلى اليوم، ولم يعن التركي صاحب الصورة الشمسية هذا البقيع كله في جاهليته وإسلامه، وإنما عنى جزءا منه هو الذي بقي موضع عناية الناس به وزيارتهم إياه، وهو موضع حديثي الآن، ففي هذا الجزء من البقيع مقابر أزواج النبي وقبر ابنه إبراهيم وقبور بناته، وقبر عثمان بن عفان، وقبر جعفر الصادق، وقبر مالك بن أنس، وقبور شهداء واقعة الحرة التي هاجمت فيها جيوش يزيد بن معاوية المدينة سنة ثلاث وستين من الهجرة، هذا إلى كثير من صحابة رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ذكرت المؤلفات القديمة عددا كبيرا من أسمائهم، وأغفلت مع ذلك ذكر أسماء أكثرهم.
المسلمون جميعا على اتفاق أن أصحاب هذه الأسماء التي أسلفناها من أهل الجنة، وأن كثيرين غيرهم، لم أذكر أسماءهم، من أهل الجنة كذلك، فمنهم جماعة من أهل بدر الذين قال فيهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر يوم بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فإني قد غفرت لكم.» ومنهم جماعة وهبوا حياتهم لله ولإخوانهم المسلمين فاستشهدوا في سبيل الحق، وشهد الناس لهم في حياتهم بالتقوى، فلهم عند ربهم مغفرة وأجر كريم، ومن بينهم جماعة من العلماء الذين توفروا حياتهم على العلم مخلصين له وجوههم لا يبغون به غير الحق مرضاة لله؛ من هؤلاء مالك بن أنس صاحب المذهب المالكي وعالم المدينة العظيم، والعلماء ورثة الأنبياء ما أرادوا بعلمهم الحق وهداية الناس له، أما وذلك شأن الثاوين في هذا المكان فلم يغل من سماه جنة البقيع، ولم يغل من رفع القباب على قبور أصحابه لو أنه قصد منها إلى الإشادة بذكرهم لتكون للناس على كر العصور مدكرا وعبرة.
يقول «برخارت» في كتابه وصفا لهذا المكان:
1 «في اليوم الذي يلي أداء الحاج واجباته للمسجد والحجرة تجري العادة بذهابه إلى مقبرة المدينة تكريما لذكرى القديسين الكثيرين المدفونين بها، وهي تجاور أسوار البلد على مقربة من باب الجمعة، وتسمى البقيع، صورتها مربع مكون من بضع مئات من الأذرع يحيط به جدار يتصل من الجنوب بضاحية المدينة وتحيط به من سائر نواحيه مزارع النخيل، وهذا المكان حقير جدا بالنظر إلى قداسة الأشخاص الذين يحتوي رفاتهم، ولعله أشد المقابر قذارة وحقارة بالقياس إلى مثله في أية مدينة شرقية في حجم المدينة، فليس به قبر واحد حسن البناء، كلا بل ليست به أحجار كبيرة عليها كتابة اتخذت غطاء للقبور، إنما هي أكوام من تراب أحيطت بأحجار غير ثابتة، وقد اتهم الوهابيون بأنهم الذين دمروا القبور، واتخذ الدليل على ذلك من بقايا قباب ومبان كانت على قبر عثمان والعباس وفاطمة وعمات محمد قيل: إن هؤلاء المتعصبين دمروها، لكنهم من غير شك ما كانوا ليزيلوا أي قبر بسيط مبني من الحجر ها هنا وهم لم يصنعوا من ذلك شيئا بمكة ولا بغيرها من الأماكن، فما عليه هذه المقبرة من سوء الحال لا بد أن قد سبق عهد الغزوة الوهابية، ويرجع سببه إلى ضيق التفكير الذي جعل أهل المدينة يضنون بأي نوع من البذل إكراما لرفات العظماء من بني موطنهم ، فالمكان كله مضطرب، يجمع أكوام التراب إلى جانب الحفر الواسعة والحثالة من غير أن يكون به حجر قبري واحد، ويطاف بالحاج لزيارة عدد من القبور ولتلاوة الأدعية المألوفة حين وقوفه بكل قبر منها، وإن كثيرين ليقصرون أنفسهم على حرفة هي الوقوف طيلة النهار على مقربة من أحد القبور الهامة وفي يدهم منديل منشور في انتظار الحجاج الذين يجيئون للزيارة، وهذه الحرفة امتياز خاص ببعض الفراشين من خدام المسجد وأسرهم، إذ قسموا المقابر فيما بينهم ليقف الواحد منهم عند أحدها أو يبعث خادمه بديلا منه.»
هذا ما يصف به الحاج عبد الله برخارت جنة البقيع، ولقد زرتها بعد خمس وعشرين ومائة سنة من زيارته إياها فلم أجد بها بقية لبناء أو قبة على الأجداث، مما حمل التركي على أن يسمي هذا المكان جنة البقيع، ولم أجد بها أكواما من التراب ولا حفرا ولا حثالة، إنما وجدت قبورا مسواة بالأرض يحيط بكل قبر منها أحجار صغيرة تعلمه، فقد أزيل في هذا العهد الحاضر كل ما بقي من أثر لقبة أو بناء وسويت القبور بالأرض، فلولا أنك تعرف أن هذا المكان هو البقيع وأن به رفاتا خلف أصحابها على التاريخ أعظم الذكر، ولولا هذه الأحجار المحيطة بكل قبر، لخلتها فضاء مسورا لا شيء البتة فيه، لكن ما تعلمه عن الثاوين بها يجعلك تقول مع برخارت: «لقد بلغت المدينة مع الغنى برفات القديسين العظماء حتى لقد كان كل من هؤلاء يفقد جلال العناية بذاته، على حين تكفي بقية من رفات أي من المدفونين بالبقيع لتجعل لأية مدينة إسلامية أعظم الشهرة.»
زرت البقيع وتخطيت أثناء القبور، ووقفت على كل قبر وصليت على صاحبه واستغفرت الله له، ثم وقفت متأملا أتدبر ما أمامي وتناجيني نفسي: «أويموت الذين يسبقوننا إلى القبور؟! أم أنهم ينقلون من عالمنا هذا إلى العالم الآخر فتنحل أجسامهم إلى عناصرها الأولى وتبقى أرواحهم بين يدي بارئها يحاسبها على ما قدمت؟ وما قدم الذين قبلنا لا يزول بزوالهم بل ينتقل إلينا ويصبح ميراثنا عنهم ، تتأثر به حياتنا حتى لكأنهم بيننا، وحسبي أن أذكر ما في نفسي أنا المصري من ميراث هؤلاء المؤمنين المدفونين بهذا البقيع ليثبت يقيني باتصال الوحدة بيننا وبين الذين سبقونا، ليكن مذهبي الإسلامي شافعيا أو حنفيا أو حنبليا، فأنا قد تأثرت وتأثر أمثالي لا ريب بمذهب هذا الفقيه العظيم مالك بن أنس الراقد في هذا البقيع، وليكن هواي السياسي في الحياة الإسلامية علويا أو أمويا فأنا تأثرت بلا ريب بهذا الخليفة الكبير عثمان بن عفان، وبزوج هذه الراقدة ها هنا فاطمة ابنة النبي وبابنيها الحسن والحسين، وهذه الأسرة الكريمة أسرة رسول الله، وها هنا منها رفات زوجاته وبناته وعماته، قد تركت من الأثر في حياتي أبلغه وأعمقه، تغير اتجاه تفكيري على السنين غير مرة ولم يتغير ما ترك هؤلاء جميعا في النفس من أثر آيته أنني كنت وبقيت أحني الرأس إكبارا وإجلالا لدى ذكرهم وحين الحديث عنهم.
كم مرة جاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم
إلى هذا المكان؟ عشرات المرات، فقد كان يجيء إليه كلما مات صاحب من أصحابه يصلي عليه ويقف حتى يواري جثمانه التراب، وكان يجيء وحده أحيانا ومع أصحاب له أحيانا أخرى، لغير شيء إلا للصلاة على من في البقيع والاستغفار لهم ومناجاتهم، فقد كان يرى الحق من أن الموت انتقال من حياة الدنيا إلى حياة الآخرة، وأن الذين ينتقلون من بيننا يبقى اتصالهم بنا حتى ليسمعوننا وإن كانوا لا يتحدثون فلا يستطيعون أن يجيبونا؛ لذا سمعه أصحابه جوف الليل بعد أن نصر الله المسلمين ببدر يناجي المشركين الذين قتلوا في المعركة ودفنوا في القليب الذي حفره المسلمون لهم وهو يقول: «يا أهل القليب! يا عتبة بن ربيعة، يا أمية بن خلف، يا أبا جهل بن هشام، يا ... (واستمر يذكرهم بأسمائهم) يا أهل القليب، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟! فإني وجدت ما وعدني ربي حقا.» قال المسلمون: «يا رسول الله، أتنادي قوما جيفوا؟!» فكان جوابه: «ما أنتم بأسمع لما أقوله منهم، لكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني .»
وكثيرا ما ناجى أهل البقيع من أنصاره الذين استشهدوا في سبيل الله، وكان آخر ذلك حين مرض مرضه الذي اختار الرفيق الأعلى على أثره، فقد أرق ليلة أول ما بدأ يشكو فخرج ومعه مولاه أبو مويهبة وذهب إلى البقيع فوقف بين المقابر وقال يخاطب أهلها: «السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنئ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها، الآخرة شر من الأولى ...» ثم استغفر الله لهم.
وهذه آية من رسول الله في السمو بالتفكير على الزمان والمكان، وفي مقدرة من وهبه الله ما وهب رسوله أن يتصل بمن شاء الله أن يتصل بهم ممن يحجبهم الزمان والمكان، ولقد يسر لنا العلم أن ندرك اليوم شيئا من هذا حين يسر لنا أن نصل على المكان بمن شئنا عن طريق الأثير والإذاعة، وما يزال علماء يحاولون حل مشكلة الزمان بالاتصال بأرواح الذين سبقونا، ومن يدري! فلعل العلم يطوع لنا أن نتصل بهم يوما في يسر كما نتصل اليوم بمن في أقصى الأرض، وأن نراهم طي القرون كما نرى عن طريق «التلفزيون» من تحجب البحار والجبال والقارات بيننا وبينهم.
ومع تسوية قبور البقيع بالأرض اليوم وعدم إعلامها إلا بهذه الأحجار الموضوعة حولها، لقد شعرت إذ وقفت أمام بعضها بهزة نفسية كأنما بيني وبين ساكنيها أقرب الأواصر، وكأنهم دفنوا لأمسهم ولما تجف العبرة عليهم، من هذه القبور قبر إبراهيم ابن الرسول - عليه الصلاة والسلام، فلقد وقفت لديه وأطلت الوقوف، وذكرت عنده هذه الفترة الوجيزة من حياة محمد مذ ولد هذا الطفل إلى أن مات ولما تنتصف السنة الثانية من عمره، كان الله قد فتح أم القرى مثابة بيته العتيق على المسلمين، وقد أمنهم جانب الروم، وكان النبي قد جاوز الستين بعد أن اطمأن إلى نصر الله إياه، تفد عليه القبائل من أنحاء الجزيرة كلها تعلن إليه إسلامها وتستظل بلوائه الروحي وبأخوة المؤمنين.
كان إلى ذلك قد فقد أبناءه وبناته فلم يبق له منهم إلا فاطمة ، وقد أقام عشر سنوات بعد وفاة خديجة وبعد زواجه من عائشة وسائر أمهات المؤمنين لا يعقب، فلما ولدت له مارية القبطية المصرية إبراهيم فاضت بالمسرة نفسه، ووجد في هذا الطفل أنس قلبه وزينة حياته، فجعل يمر كل يوم بدار أمه يمتع بابتسامة الطفل البريئة الطاهرة، ويغذي بضمه إلى صدره شعوره الإنساني الذي بلغ من السمو أن شمل الناس جميعا، وهو يجد مع ذلك في توفره على هذا الطفل نعيما وغبطة، وتأخذ الغيرة أمهات المؤمنين لهذا الحب الذي رفع أم إبراهيم عن مقام السراري إلى مقام الزوجات، فيأتمرن بالنبي ويخرج بهن الغضب إلى ما لم يعودنه، فلا يصرفه ذلك عن الطفل، بل يزداد به تعلقا كلما ازداد نموا، وكلما رأى في ابتسامته وفي ضحكته ما تسعد به أبوته وتستريح له نفسه من عملها العظيم المضني.
ويترعرع الطفل وينمو ويزداد شبهه بمحمد وضوحا فيزداد له حبا وبه تعلقا ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده، وإنه لكذلك إذ مرض الطفل وأسرع فيه المرض، فذبلت نضارته وذهب لونه، ولم ينفعه تمريض أمه، ولم يبعث عطف أبيه إلى جسمه النحيل الشفاء، ويشتد الألم بمحمد لما يرى من حاله، ويبلغ منه الألم أن يأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه في مسيرته من المدينة إلى النخل بجوار العالية من ضواحي المدينة حيث تقيم مارية تمرض ابنها، وتعينها أختها سيرين في تمريضه، وتواسيها في بأسائها، ويرى النبي الطفل في حجر أمه [يجود] بنفسه، فيملأ الألم قلبه وتندى بالدمع عينه، ويجلس إلى جوار مارية الملهوفة وهو أشد ما يكون وجلا وخوفا وجزعا، ويأخذ الطفل إلى حجره وينظر إليه بعينين ملئتا ألما ويقول: «إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا!» فتصيح الأم وتصيح أختها والطفل في غيبوبة الموت لا يوقظه صريخ أمه ولا تنبهه الدموع الحارة المنهلة من مآقي أبيه!
ويقبض هذا الروح البريء وينطفئ بموته أمل تفتحت له نفس النبي زمنا، فتزداد عيناه تهتانا ويأخذ منه الحزن كل مأخذ، ويقول والجثة الصغيرة الهامدة ما تزال في حجره: «يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك بأشد من هذا.» ثم تخنقه العبرة فلا يستطيع أن يتابع القول فيعلوه الوجوم وقد ارتسم الحزن على قسمات محياه في أبلغ صورة للهفة اللاذعة العميقة، ويشعر بأنه مفارق هذه الفلذة من كبده فيهز رأسه ويقول: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا يا إبراهيم عليك محزونون.»
ويحس محمد ما به من جوى الحزن وما يلفحه من حرقته، ويقدر بما بمارية وأختها منه، فتأخذه الرأفة بهما، فيكفكف من دمعه ويتوجه إليهما يريد تعزيتهما فيذكر لهما إن له لمرضعا في الجنة، ويقوم ومعه عمه العباس وطائفة من المسلمين يشيعون إبراهيم بعدما غسلوه وحملوه على سرير صغير، ها هم أولاء قد جاءوا به إلى هنا ووقفوا به حيث أقف، ولعله
صلى الله عليه وسلم
كان واقفا مكاني حين صلى عليه، وحين سوى على قبره بيده بعد دفنه، وحين رش الماء على القبر وأعلم عليه بعلامة وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي، وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه.»
وحدثتني نفسي وأنا بموقفي: كيف يبلغ الحزن من محمد هذا المبلغ وقد حمل في الحياة ما ينوء به من لم يؤته الله من فضله ما آتى نبيه ورسوله، وقد حمله قويا صابرا مستهينا بالأذى والموت؟! وذكرت إذ ذاك أنه
صلى الله عليه وسلم
بشر مثلنا، وأن لنا فيه الأسوة والمثل، وأنه في حزنه على إبراهيم قد كان الأبوة البرة والعاطفة السامية التي ركبها الله في الناس إبقاء على الحياة وصورة لوحدتها المتنقلة على الأجيال، وهل في الحياة كعاطفة الأبوة البرة نعمة وسعادة وزينة؟! وهذه العاطفة التي نسعد بها هي التي تبعث إلى قلوبنا حب الغير، وتخفف من أثرتنا وتعلمنا الإيثار وتدعونا إليه، وهي التي تدفعنا بذلك إلى السعي في الحياة ابتغاء الرزق لبنينا ومن يلوذ بنا وابتغاء الخير بعد ذلك للناس جميعا، ولولا هذه العاطفة لقضت الأثرة على الحياة ولأسرع الفساد إلى الكون.
ويخرج الناس من البقيع بعد موت إبراهيم فإذا الشمس تكسف، وإذا آية النهار تمحى، فيحسبون ذلك معجزة شارك الكون بها رسول الله في حزنه، لكنه
صلى الله عليه وسلم
ما يلبث حين يسمعهم يتهامسون بذلك أن يقول لهم: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» ويهرع المسلمون إلى المسجد يصلون وقد زادتهم كلمة رسول الله إيمانا بأن الله - جل شأنه - لا يغير سنته، وأن كل ما يقع في الحياة إنما هو من أمره.
وقفت على كل قبر بالبقيع وصليت على صاحبه واستغفرت الله له، وكذلك كان يفعل الذين رأيتهم يزورونه ساعة زيارتي إياه، على أني عجبت لقوم رأيتهم يطيلون الوقوف عند قبور أهل البيت ويبكون أحر البكاء، فإذا مروا بقبر عثمان استحثوا الخطا فلم يقفوا عنده، قال أصحابي حين سألتهم في ذلك: أولئك جماعة الشيعة، فهم ما يزالون يذكرون أن دم عثمان هو الذي أذكى الفتنة بين علي ومعاوية، وبين بني أمية وآل البيت، وأنه الذي أدى إلى مقتل علي والحسين؛ وهم لذلك يمرون بهذا القبر سراعا لا يصلون على صاحبه ولا يستغفرون الله له، وزاد في عجبي أن أهل بيت النبي أنفسهم لم يبلغوا من الموجدة على عثمان بعد موته هذا المبلغ، لقد رأيت كيف أراد الحسن بن زيد أن ينتقم من بني أمية لإدخالهم حجرات أزاوج النبي في رقعة المسجد، فكتب إلى المنصور أن يزيد في رقعة المسجد وأن يجعل الحجرة النبوية في وسطه لتدخل دار عثمان في رقعته، وكيف أجابه المنصور: إني قد عرفت الذي أردت فاكفف عن ذكر دار الشيخ عثمان بن عفان، ولم يخالف أحد من العباسيين المنصور في تفكيره هذا على طول ملكهم، أفتبقى الموجدة في نفوس الشيعة أكثر مما بقيت في نفوس بني العباس وهم أقرب الناس إلى علي وإلى الحسين نسبا؟! أم أنها ليست الموجدة ولكنها العقيدة التي يتوارثها الأجيال من غير تفكير في سببها ومنشئها، والتي تنشأ أول أمرها متأثرة بأهواء شعوبية أو سياسية أغلب الأحيان؟!
ترى أفيبقى البقيع كما هو اليوم مسواة قبوره بالأرض لا يقوم على قبر منها قبة، ولا يقام للعظماء والصحابة المدفونين به أثر يذكرون به؟ لعلك تحسب الأمر يبقى كذلك ما بقي الوهابيون بالحجاز، وقد يكون في التاريخ ما يرجح ظنك، فقد غزا الوهابيون الحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي فحطموا قباب البقيع كما حطموا غيرها من القباب بمكة والمدينة وغيرها من بلاد الحجاز، في هذا الوقت زار السويسري «برخارت» الحجاز ووصف البقيع بما رأيت، فلما أجلت جنود مصر الوهابيين عن الحجاز وعاد الأمر فيه إلى بني عثمان أعادوا بناء كثير من القباب وشادوها على صورة من الفن التي تتفق مع ذوق العصر، ولقد ذكر صاحب «مرآة الحرمين» من هذه القباب ما لأهل بيت النبي، والقبة التي بناها السلطان محمود سنة 1233 للهجرة على قبر عثمان، ونشر صورها الشمسية، فلما عاد الوهابيون إلى الحجاز بعد ذلك بأكثر من مائة سنة هدموا هذه القباب كرة أخرى، أفيعيد التاريخ نفسه، فإذا جلا الوهابيون من الحجاز ودخل في حكم أهله أو في حكم غيرهم ممن لا يرون بإقامة القباب في الدين بأسا أعادوا تشييدها، وإذا عاد الوهابيون بعد ذلك إلى الحجاز هدموها، أم يظل البقيع كما هو اليوم بقي الوهابيون في الحجاز أو جلوا عنه؟ أم ترى يبلغ الأمر بين الوهابيين وغيرهم من طوائف المسلمين إلى التفاهم على إقامة أثر يذكر به هؤلاء الأبطال الذين دفنوا بالبقيع، على ألا يكون هذا الأثر موضع تبرك وألا يتخذ إلى الله زلفى؟
ولا أريد أن أجازف بحكم، فأمر ذلك للمستقبل، والمستقبل غيب، والغيب لا يعلمه إلا الله، لكني مع ذلك أرجو ألا يظل هذا البقيع وليس به أثر يذكر به أصحابه، ويذكر به أعلام من دفنوا طي صحائفه، فلقد دفن به أكثر من عشرة آلاف من كرام الصحابة كان لهم في الإسلام وتاريخه وتعاليمه أثر أي أثر، وإن قلت: الإسلام وتاريخه وتعاليمه قلت : الحضارة الإنسانية في الشرق والغرب، ونحن لا نقيم الآثار لمن سبقونا متاعا لهم بها، فمتاعهم في عالمهم بما قدموا من عمل صالح، وإنما نقيمها ذكرا ومعتبرا للأجيال في تعاقبها حثا لأبنائها على أن يجدوا في السابقين الأولين الأسوة والمثل، وأنا إذ ندخل «البانتيون» في باريس أو كنيسة «وستمنستر» في لندن، أو أيا غير هذين من مدافن العظماء لا تجول بخاطرنا عبادتهم، ولا يدور بخلدنا تقديسهم، إنما يدفعنا ذكرهم إلى الوقوف على أخبارهم وما خلفوا من أثر جليل وعمل صالح، وفي هذا خير مشجع على متابعة هذا العمل، وهو خير مظهر للصلة بين الحاضر والماضي صلة لا قيام لأمة ولا قيام للإنسانية إلا بتوثقها.
وما لنا نذكر باريس ولندن وبالمدينة من آثار الإسلام ما رأيت؟! ما أعظم الأثر الذي تثيره دار أبي أيوب الأنصاري في النفس! وما أعظم الموعظة في قبة خالد بن الوليد وشهادتها على ضيق رقعة داره! وما أشد ما تهتز مشاعرنا حين نقف على قبر حمزة عند سفح أحد! دع عنك موقفا كله الإجلال والعظة أمام قبر الرسول ومثوى صاحبيه أبي بكر وعمر في الحجرة النبوية، أية نفس لا تحس في هذه اللحظات الباقية الأثر على الحياة أصدق الرغبة في السمو إلى غاية ما تؤهلها ملكاتها أن تسمو إليه، تشبها بهؤلاء الذين تركوا على الحياة أثرا أخلد الأثر وأبقاه! وإذا صدقت الرغبة واستقر العزم وامتلأت به الإرادة لم يكن لقوة أن تصدنا عن بلوغ ما نبغي، فالإرادة الصادقة أعظم قوة في الحياة، ومن عرف كيف يريد قدر على بلوغ ما يريد.
وإنما قعد بالمسلمين عن إدراك هذه المعاني ودعاهم أن يتخذوا من القباب مواضع للزلفى إلى الله توسلا إليه بأصحابها ما هووا إليه من جهل حجب عنهم جلال ما صنع الذين تخلد القباب أو تخلد الآثار ذكرهم، وماذا يذكر سوادهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟ وماذا يذكر هذا السواد عن خالد بن الوليد وأبي عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وغيرهم من أبطال المسلمين؟ ثم ماذا يذكر من عمل علمائهم وذوي الفضل والكرامة منهم؟ ليس يذكر من ذلك شيئا؛ لأنه يجهل ذلك كله، وغاية ما يتصوره أن هؤلاء رجال اصطفاهم الله بكرامته، أو نساء أكرمهن الله بمن أعقبن من ذرية صالحة، فهم بذلك أولياء الله؛ ومن ثم يتخذهم هذا السواد إلى الله زلفى ويسبغ عليهم من صفات ما فوق الإنسانية ما يسوغ عنده هذه الزلفى.
فإذا أراد المسلمون ألا يكون للقباب ولا لغيرها ما يدعو الوهابيين إلى هدمها وما يجعلهم يتهمون غيرهم من المسلمين بعبادتها فليست الوسيلة إلى ذلك هدم هذه القباب، وإنما الوسيلة إليه هدم ما في النفوس من حجب الجهل وقبابه، وتفتيح مغالقها بإظهارها على ما صنع السلف وما خلفوا من علم وفن وحضارة، فالعلم هو النور الكشاف الذي يهتك حجب الزمن ويرينا ما خلفه آباؤنا وأسلافنا للإنسانية من أسباب المعرفة، وما تؤدي إليه المعرفة من فضل وخير، وما تنير به سبيل الإنسانية لمستقبلها على هدى الماضي وما تم فيه، يومئذ لا يعبد الإنسان الإنسان ولا يتخذه إلى الله زلفى، وإنما يعبد الإنسان الله وحده لا شريك له، ويتخذ من علمه ومن عمله ومن تقواه الزلفى إلى الله.
فكرت في هذا إذ عدت من البقيع مارا بدار عثمان، فأويت إلى غرفتي وجعلت أقلب في بعض كتب ألتمس فيها للبقيع وأهله ذكرا، ولم أجد من ذلك سوى أن الذين دفنوا به يزيدون على عشرة آلاف من كبار الصحابة، لا تعرف قبور أكثرهم وإنما يعرف من هذه القبور ما لإبراهيم ورقية وفاطمة أولاد النبي، وفاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، وعبد الرحمن بن عوف، وعبد الله بن مسعود، وسعد بن أبي وقاص، وسعد بن زرارة، وخنيس بن حذافة السهمي، والحسن بن علي، وابن أخيه زين العابدين بن علي بن الحسين، وأبي جعفر الباقر محمد بن زين العابدين، وجعفر الصادق ابن الباقر، والعباس بن عبد المطلب، وأخته صفية، وابن أخيهما أبي سفيان بن الحارث، وعثمان بن عفان، وسعد بن معاذ الأشهلي، وأبي سعيد الخدري، وزوجات رسول الله - خلا خديجة التي دفنت بمكة وميمونة التي دفنت بسرف - وهؤلاء جميعا وألوف الصحابة الذين دفنوا معهم يثوون في بقعة ضيقة من الأرض لا يزيد مسطحها على مائة وخمسين مترا في الطول، ومائة متر في العرض، ترتفع عما حولها، ويحيط بها سور لا شيء من الجمال في بنائه.
قلت في نفسي: أولا يهدي الله رجلا من المسلمين إلى كتابة تاريخ لهذه البقعة والذين دفنوا بها ينشر فيه ما عملوا ويحلله تحليلا علميا، ويرده إلى أصوله ويبين ما كان له في الوجود من أثر؟! إن في قصص ما صنعوا وما كانوا عليه لأبلغ العبرة، وهو بعد يكشف من تاريخ هذا العالم عن شيء كثير ما أحوج العالم إلى أن يقف عليه، فهؤلاء جميعا من أصحاب رسول الله، وهم عرب من أبناء شبه الجزيرة، فما اتخذوه في حياتهم من عمل أدنى إلى تصوير الروح الحق لهذا الدين الحنيف وإلى هداية الناس لهذا الروح، وما أشد حاجة الناس إلى هذه الهداية.
ألا لو أن عملا ضخما كهذا العمل أتمه رجل أو رجال لأسدوا إلى الإسلام وإلى التاريخ وإلى الإنسانية خدمة جلى، ولمهدوا لأولي الفن أن يقيموا في هذا المكان أثرا خالدا يصور هذا الروح روح الإقدام في سبيل الحق والإرادة الصادقة في سبيل الله.
ما أقصر سني الحياة! فلو أن لي من القدرة على القيام بشيء من هذا العمل الجليل أمهد به الطريق لإتمامه لأقدمت غير مبتغ إلا رضا الله وحسن ثوابه، وكفى بالله وليا ونصيرا.
ولكن، من لي بأن أقوم - أنا الضعيف العاجز - فأجمع من شتيت الأسفار ما يؤرخ البقيع ورجاله من أصحاب رسول الله؟! فلأذر هذا الأمر يهيئ الله له من شاء من عباده، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
على قبر حمزة
صه! فأنت هنا أمام عرين الأسد، وهذه الجبال والأودية مما حولك كلها مجاله، فيها كان يجول ويصول، أثناءها كان يصيح بفرائسه من شجعان قريش، فإذا هي تنهد إلى الأرض رعبا وفزعا، هذا جبل أحد أمامك، وهذا جبل سلع من خلفك، وهذا وادي قناة يجري بينهما، وهذه البساتين تمتد ها هنا وهناك عن يمين وعن شمال وراء هذا المهمه الذي ظل خلاء من هيبة صاحب العرين، ما لي أراك الآن حاسر الرأس خاشعا، وما يبكيك؟ أتراك كأهل هذه المدينة لا يبكون فقيدا لهم إلا بكوا قبله حمزة أسد الله وأسد رسوله؟! أم تراك ادكرت مصرعه على مقربة منك وهذا دمه الذكي تتراءى لعينيك في كل قطرة منه معاني النبل والكرامة والاستبسال والشجاعة، فأنت تبكي لهذه الخصال غالها وحشي في غير مصاولة أو مبارزة! ابك ما طاب لك البكاء، وامتثل من صفات حمزة ومن شممه وإقدامه ومن إيمانه وسمو نفسه ما شئت، فما أنت ببالغ من بكائك ومن امتثالك إلا ما يزيدك شوقا إلى هذا القبر، تعود إليه لتقف عنده فتبكي صاحبه، وتتمثل فيه الأسد الذي صرع في غزوة أحد لا كما تصرع الأبطال في ميدان القتال، بل كما يغتال الكرام في حلك الظلام، وهل كان أحد من شجعان العرب جميعا يحسب نفسه كفؤا لحمزة ونزاله؟! وهل كان يظن أحد أن يطالع الموت حمزة في معركة على طول ما مشى بين صفوف الموت مختالا؟! ولكن ما عسى تغني الشجاعة والنبل حين يختبئ الاغتيال في حندس الليل فيورد صاحبهما حتفه.
كان حمزة بن عبد المطلب عم النبي وأخوه في الرضاع الإباء والشمم، وكان البطل المعلم، والمغوار الذي تهابه الشجعان منذ نشأته، لما افتدى عبد المطلب ابنه عبد الله من الآلهة بمائة من الإبل فكر في تزويجه، وكان عبد المطلب يومئذ في السبعين من عمره، فخرج بعبد الله حتى أتى به منازل بني زهرة وخطب آمنة بنت وهب إلى أبيها زوجا لابنه، وخطب ابنة عمها هالة زوجا لنفسه، وولدت آمنة محمدا، وولدت هالة حمزة، والروايات تختلف؛ أي الطفلين سبق صاحبه إلى الحياة؟ وإن أرضعتهما جميعا ثويبة جارية أبي لهب، وشب محمد يهيئه الله لما أراد من رسالته، وشب حمزة فتى أبيا قويا، رضي الخلق، وسيم الطلعة، مفتول العضل، محبا للقنص يخرج له في الفلاة ويرمي بقوسه، فإذا عاد منه لم يرجع إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، ثم لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث مع من فيه، وكانوا جميعا يحبونه ويهابونه أن كان أعز قريش وأشدها شكيمة.
ولما بعث الله ابن أخيه نبيا ورسولا وبدأت قريش تناوئه وتؤذيه، لم يطب حمزة بما يصنعون نفسا، لكنه ظل يكظم غضبه حتى لا يخرج على الجماعة في عقيدتها، ولقد كان كلما رأى من ذلك شيئا جعل يفكر في أمر ابن أخيه وما يدعو إليه فيرى فيه الحق لا سبيل إلى إنكاره، لكن قومه من بني هاشم لم يتابعوا محمدا، ولم يتابعه أخوه أبو طالب الذي كان من محمد في مقام الأبوة، والذي كان يحميه من قريش وأذاها، ولكن حمزة أخ لمحمد وليس عما له وكفى، وهو بعد أصغر إخوته سنا وأشدهم بأسا وأكثرهم لذلك صراحة، وهو من لا يطيق أن يرى الحق فيما يقول محمد ولا يصارح الناس جميعا بتصديقه إياه وإيمانه به، وإنه يوما لفي قنصه غائب عن مكة إذ لقي أبو جهل محمدا جالسا عند الصفا، وكان أبو جهل رجلا حديد الوجه واللسان، لا يفتأ ينكر على محمد دعوته ويتهمه فيها، فلما لقيه في مجلسه ذاك آذاه وشتمه ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه والتضعيف له، ولم يكلمه محمد، بل انصرف عنه إلى بيته، وعمد أبو جهل إلى جماعة من قريش عند الكعبة فجلس معهم، وكانت مولاة لعبد الله بن جدعان في مسكن لها فوق الصفا تسمع ما كان بين الرجلين، فلم تلبث حين رأت حمزة بن عبد المطلب مقبلا من قنصه متوشحا سيفه أن وجهت إليه الحديث، فسلمت وقالت: يا أبا عمارة! لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا قبل أن تأتي من أبي الحكم بن هشام! وجده ها هنا جالسا فسبه وآذاه وبلغ منه ما يكره ، ثم انصرف عنه محمد ولم يكلمه، هنالك احتمل حمزة الغضب فخرج سريعا لا يقف على أحد، كما كان يصنع، يريد الطواف بالكعبة، معدا لأبي جهل بن هشام إذا لقيه أن يقع به، فلما بلغ الكعبة نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضربه بها ضربة فشجه شجة منكرة، وقال له: أتسبه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرد ذلك علي إن استطعت، وأراد رجال من بني مخزوم أن ينصروا أبا جهل، فمنعهم حسما للشر ومخافة استفحاله بين عشيرته وقومه، واعترف أنه سب محمدا سبا قبيحا.
من يومئذ أصبح حمزة أسد الله وأسد رسوله، وحسبت قريش لمحمد وأصحابه حسابا لم يكن يدور لها بخلد من قبل.
لما اتحذ محمد دار الأرقم مجلسا له مع المسلمين وحمزة من بينهم ضرب الباب عليهم يوما رجل يبتغي الدخول، وقام أحد المسلمين ونظر من خلل الباب ثم عاد فزعا يقول: هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف، ولم يكن يود أن يأذن النبي له، أما حمزة بن عبد المطلب فقال: بل ائذن له، فإن كان جاء يريد خيرا بذلناه له، وإن كان يريد شرا قتلناه بسيفه، وأذن النبي لعمر فدخل وأسلم.
هذان حادثان يصفان لك حمزة بن عبد المطلب وخلقه، ويصوران لك مبلغ جرأته وإقدامه واعتداده بنفسه.
ولما هاجر رسول الله إلى المدينة وآخى فيها بين المهاجرين والأنصار آخى بين حمزة وزيد بن حارثة مولى النبي، وكان لهذا الإخاء حكم إخاء النسب أول أمره، ومع ما حدث من عود الأمور إلى طبيعتها بعد أن استقر مقام المهاجرين بالمدينة لقد حفظ حمزة هذا العهد فأوصى إلى زيد يوم أحد، وفي هذا من الوفاء والكرم ما يصور لك ناحية أخرى من حياة حمزة.
ولقد كان حمزة أول من بعثه رسول الله على رأس أول سرية قامت من المدينة لمناوأة قريش: بعث به في ثلاثين راكبا من المهاجرين دون الأنصار، فلقي أبا جهل بن هشام عند شاطئ البحر في ثلاثمائة راكب من أهل مكة، وكان حمزة على أهبة مقاتلة قريش، على ما بين الفريقين من تفاوت عظيم في العدد، لولا أن حجز بينهم مجدي بن عمرو الجهني وكان موادعا الفريقين جميعا، فلما كان شهر رمضان للسنة الثانية من الهجرة ووقعت غزوة بدر كان حمزة فارسها المعلم وبطلها المغوار، وكان معلما يومئذ بريشة نعامة، ولقد كان المسلمون وكانت قريش تترددان أول المعركة في خوض غمارها حتى وقف عامر بن الحضرمي يصيح: وا عمراه! يذكر قتل المسلمين أخاه عمرا قبل ذلك بأسابيع في سرية عبد الله بن جحش ويطلب الثأر له، هنالك اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من بين صفوف قريش إلى صفوف المسلمين، فعاجله حمزة بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى الأرض تشخب رجله دما، وأتبع حمزة الضربة بأخرى قضت عليه، بذلك بدأت المعركة، وأعجل الالتحام فيها أن خرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد، وخرج إليهم من المسلمين حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، ولم يمهل حمزة شيبة ولا أمهل علي الوليد أن قتلاهما، ثم أعانا عبيدة وقد ثبت له عتبة، عند ذلك تزاحف الفريقان، لم يمنع المسلمين منه أن قريشا ثلاثة أمثالهم عددا وعدة، وخاض حمزة الغمار يضرب بسيفه عن يمينه وشماله يقط الرقاب ويطيح برءوس الشجعان، ولا يجرؤ سيف أن يمتد ناحيته، ولا يد أن ترتفع إليه، ومتى استطاع الفرسان أن يحدقوا في وجه هذا الأسد الكاسر، أسد الله ورسوله؟!
فلما أتم الله النصر للمسلمين ببدر وعادوا إلى المدينة فتحرش بهم اليهود وأزمع محمد محاصرة بني قينقاع، كان حمزة حامل لوائه، ولما استدار العام وخرجت قريش تريد الثأر من بدر، كان حمزة الموت الذي تخشى، والنقمة التي تريد أن تتخلص منها، وكانت هند بنت عتبة أشد قريش كراهية له ورغبة في موته، لقد قتل في بدر أباها وأخاها، ونكل بكثيرين من الأعزة عليها، لكنها كانت تعلم أن قتله مواجهة ليس بالأمر الهين، ومن ذا في قريش بل في بلاد العرب كلها يستطيع أن يواجهه؟! لذلك وعدت وحشيا الحبشي خيرا كثيرا إن هو اغتال حمزة، وكان وحشي مولى لجبير بن مطعم، وكان حمزة قد قتل عم جبير ببدر، فلما عرف ما وعدت هند مولاه قال له: إن قتلت حمزة عم محمد فأنت عتيق، والتقى الجيشان بأحد، فإذا حمزة يخوض الغمار كيوم بدر، يهد كل من لقي بسيفه فتفيض من جسده روحه، قتل سباع بن عبد العزى الغبشاني، وقتل أرطأة بن شرحبيل، وقتل كل قرشي لقيه، ولم يكف سيفه يمينه، بل أمسك بيساره سيفا آخر وجعل يقبل ويدبر ويصيب بسيفه في إقباله وإدباره، وإنه لكذلك وأبطال قريش يولون منه فرارا إذ عثر عثرة فوقع على ظهره فانكشفت درعه عن بطنه، وانتهز وحشي هذه الفرصة فهز حربته حتى رضي عنها ثم دفعها عليه فوقعت في ثنته وخرجت من بين رجليه، وتركه وإياها حتى مات، روى وحشي قال: ثم أتيته فأخذت حربتي ورجعت بها إلى المعسكر وقعدت فيه، ولم يكن لي بغيره حاجة، إنما قتلته لأعتق، فلما قدمت مكة أعتقت.
وأقبلت هند بنت عتبة في أعقاب المعركة، فلما رأته مبقورا بطنه لم يكفها أنه مات بل مثلت به ما لم يمثل بأحد في غزاة: جدعت أنفه، وقطعت أذنيه وشقت بطنه، وأخرجت كبده تمضغها وتلوكها تشفيا وسخيمة، وبلغ من فظاعة ما صنعت أن خجل أبو سفيان زوجها ورئيس قريش، فقال: إنه كانت في القوم مثلة، وإن كانت على غير ملأ مني، ما أمرت ولا نهيت، ولا رضيت ولا كرهت، ولا ساءني ولا سرني.
ولقد أحزن قتل حمزة النبي وحز في فؤاده، فقد عاد المسلمون إلى الميدان بعد المعركة وخرج محمد يلتمس عمه، فلما رآه قد بقر بطنه ومثل به غلبه الحزن وقال: «لن أصاب بمثلك أبدا، وما وقفت موقفا قط أغيظ إلي من هذا!» وأمسك هنيهة موجع القلب ثم أردف: «يرحمك الله يا عم! لقد كنت وصولا للرحم، فعولا للخيرات.» وغلبه الحزن فأمسك مرة أخرى، وهو أثناء ذلك ينظر لما أصاب حمزة من مثلة شنعاء، فلما سكن عنه الحزن قال وما زال مغضبا: «والله، لن أظفرني الله بالقوم يوما من الدهر لأمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب .» وفي رواية: «لأمثلن بسبعين منهم ...» وفي هذا نزل قوله - تعالى:
وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين * واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون ، وفي حمزة وفي قتلى أحد نزل قوله - تعالى:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فلما نزلت هذه الآيات قال رسول الله: «بل الصبر» وكفر عن يمينه.
ولم يكن المسلمون أقل جزعا لمقتل حمزة من رسول الله، أقبلت أخته صفية بنت عبد المطلب بعد الموقعة تطلبه لا تدري ما صنع، ورآها علي والزبير مقبلة فخشيا لقياها، قال علي للزبير: اذكر لأمك ... وقال الزبير: بل اذكر لعمتك، ولما بلغتهما سألت: ما صنع حمزة؟ فأرياها أنهما لا يدريان، إشفاقا عليها وعلى نفسيهما من حزنها، ورآها النبي مقبلة عليه فقال: إني أخاف على عقلها، ثم وضع يده على صدرها ودعا لها فاسترجعت وبكت وقد رأت المصاب في صوته، فلما انصرفت قال: «لولا جزع النساء لتركته يحشر من حواصل الطير وبطون السباع.»
ولما أراد المسلمون دفن القتلى وقف النبي على جثمان حمزة، وجعلوا يجيئون بالقتلى واحدا بعد الآخر فيضعونهم إلى جانب حمزة فيصلي النبي عليهم، وكذلك صلى على حمزة سبعين مرة.
وبكت نساء المدينة القتلى، وسمع رسول الله نساء بني عبد الأشهل يبكين قتلاهن، فقال متوجعا: «لكن حمزة لا بواكي له.» فسمع ذلك معاذ بن عبد الأشهل فساقهن إلى باب رسول الله فبكين على حمزة، فدعا لهن وردهن، فلم تبك امرأة من الأنصار بعد ذلك اليوم على ميت إلا بدأت بالبكاء على حمزة ثم بكت ميتها.
هذا حمزة الذي نقف الآن على قبره تجاه أحد، والذي يؤمه كل من قصد المدينة للزيارة، وقبر حمزة ليس كغيره من القبور في هذا العهد الوهابي، فهو ليس مسوى بالأرض، بل يقوم فوقه بناء أسطواني من حجر ضارب إلى السواد يرتفع على الأرض نحو الذراع، ولم أعجب إذ عرفت أن الحكومة الحاضرة أقامت هذا البناء بعد أن هدمت القبة التي كانت قائمة على القبر، فهذه الصفات في حمزة: صفات البطولة والإباء والاستشهاد في سبيل الله، تثير في كل نفس أسمى المعاني، وتقفها أمام صاحب هذه الصفات موقف الإجلال والإكبار، ذلك ما يتفق فيه الناس جميعا، لا تفاوت بين البدوي الذي يقضي حياته مرتحلا في البيداء، ومن بلغ من الحضارة والعلم وتهذيب النفس كل غاية، ولم يختلف اثنان على ما كان لحمزة من هذه الصفات، ولم يكن حمزة يوما موضعا لدعاية سياسية طمعا في حكم أو سلطان؛ لذلك كانت المعاني المتصلة بصفاته طاهرة مبرأة من كل غاية؛ ولذلك أثارت الإعجاب من كل نفس والإكبار في كل قلب، وكانت شفيعا لقبره حتى عند الوهابيين.
وذهبت أمتثل حمزة وهذه الصفات فيه وأنا واقف على القبر أجيل بصري في الميدان الفسيح حولي، هذا رجل آتاه الله من فضله بسطة في القوة، ومهابة في القلوب، ونعيما بالحياة ومحبة من الناس، وكان له أن يستمتع وهذه صفاته برفه العيش وطمأنينة البأس، وأن يستريح إلى مكانته من قومه واحترامه فيهم، لكنه لم يطب نفسا بعبادة قومه الأصنام، ولم يطق أن يسب أبو جهل الوثني ابن أخيه الداعي إلى الله، فضرب أبا جهل فشجه وأعلن على ملأ الناس إيمانه، ولا يقولن أحد: إن النعرة العصبية أو العزة العربية هي التي دفعته إلى ما صنع، فلقد كان أعمام النبي جميعا عربا لهم عزة وفيهم نعرة، وطالما آذت قريش ابن أخيه فغضبوا ومنعوه ولم يؤمن مع ذلك منهم أحد، لكنه الإيمان الذي امتثلته نفس حمزة هو الذي دفعه إلى ما صنع، وهل مثل حمزة في بسالته واستهانته بالموت من يقول لأبي جهل وهو من هو مكانة في قومه بعد أن شجه لسبه محمدا: «أتسبه وأنا على دينه أقول ما يقول؟!» إلا أن يكون صادق الإيمان؟ بلغ من امتثال قلبه رسالة الله إلى نبيه ألا يطيق تعريض أحد به ، ومن يومئذ وهب حمزة حياته لله وللدفاع عن دينه؛ لأنه أيقن أن هذا الدين هو المثل الأعلى الذي توهب الحياة في سبيله.
وكل يفتدي بحياته مثله الأعلى في الحياة؛ فالبخيل الذي يعبد المال يضحي بحياته دفاعا عن ماله، والمدله بالعشق يضحي بحياته دفاعا عن محبوبته، والفلاح أو الصانع يضحي بحياته دفاعا عن رزقه، والأب البار يضحي بحياته لأبنائه، والحيوان يضحي بحياته دفاعا عنها وعن كل ما يقيمها، وإنما يتفاوت الناس في درجات السمو بتفاوت مثلهم الأعلى في درجاته، فما اتصل بالطعام والشراب وكل ما يقيم الحياة مثل أعلى للحيوان ولمن لم يسم على مرتبته إلا قليلا من بني الإنسان، وكلما ازداد المرء سموا ازداد مثله الأعلى تنزها عن الأثرة واتصالا بالغايات الاجتماعية والوطنية والروحية، والإيمان الصادق أسمى صورة للمثل الأعلى، فلله المثل الأعلى، بنوره يتحاب الناس بينهم، لا تفرقهم الألوان ولا الأوطان ولا اللغات ولا الأجناس ولا الأديان، والاستشهاد في سبيل الله استشهاد في سبيل هذا المثل الأعلى، يريد صاحبه أن تبلغ الإنسانية غاية ما يستطاع من السمو الروحي، وأن يبلغ بها تبادل الحب غاية الرضا، وأن تصبح بذلك وحدة تعمل لغاية مشتركة وإن اختلفت أممها وأجناسها، كما تعمل أعضاء الجسم كلها لغاية واحدة وإن اختلف شكلها واختلفت وظائفها، أين من يدرك هذا المعنى ثم لا يستشهد في سبيله؟! وقد أدركه حمزة بن عبد المطلب فاستشهد في سبيله.
والموت في سبيل هذا المثل الأعلى هو وحده الاستشهاد، والذين يهبون أنفسهم له هم دون غيرهم الشهداء؛ ذلك بأن الملأ جميعا يشهدهم ويشهد أنهم يؤثرونه على أنفسهم وعلى هذه الحياة الدنيا، والله يرضى عنهم ويقول لهم:
ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، وحياة هؤلاء عند ربهم ليست كحياة هذه الدنيا؛ طعام وشراب وأثرة وشحناء، بل حياة روحية راضية مرضية، مضيئة بالحب متصلة بالله، ومشرقة بنور وجهه الكريم، أليست حياة سبيلها وغايتها للمثل الأعلى؟! أوليس المثل الأعلى لله؟! وأولئك الشهداء رضي الله عنهم ورضوا عنه، ذلك لمن خشي ربه.
قل من الناس من يذكر هذا أو يدركه حين يزور قبر حمزة ويقف عليه، بل إن منهم لمن يشرك حمزة في قدرة الله، أو يتخذه وسيلة إليه، كان لحمزة قبر ومسجد هدمهما الوهابيون، ولقد كان على القبر الذي بالمسجد لوحة فيها هذان البيتان:
قف على أبوابنا في كل ضيق
واطلب الحاجات وابشر بالمنى
فحمانا ملجا للطالبين
وبنا تجلى الكروب والعنا
وضعف هذين البيتين يصف قائلهما ومبلغ ثقافته، لكن هذه العقلية تصور عقيدة كثيرين من زوار قبر حمزة، وعقيدة كثيرين من المسلمين في أنحاء الأرض المختلفة، ولهؤلاء جميعا من العذر أن الذين خيم على عقولهم الجهل قد طبعوا على عبادة القوة، وعلى عبادة البطولة، فهم يخلعون على أبطال الماضي من صفات العبادات ما يجعلهم في حكم الأرباب، وما يدعو هؤلاء الضعفاء أن يتخذوهم إلى الله زلفى، وهذا أمر ينكره الإسلام حين ينكر على الناس أن يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، الأموات والأحياء في ذلك سواء؛ والإسلام ينكره لأنه ينكر أن يتجه إنسان بالعبادة لغير الله. ليكن غيره من الناس بطلا وليبلغ من البطولة كل ما يتصوره الخيال، فهو إنسان مثلنا، عبد لله كعبوديتنا له، ونحن وهو أمام الله سواء، أكرمنا عند الله أتقانا، بل ليكن الإنسان أعظم من بطل، ليكن نبيا ورسولا وداعيا إلى الخير بإذن الله وسراجا منيرا، فهو بعد إنسان، له إكبارنا وإكرامنا واحترامنا، وعليه صلواتنا، لكنه بشر مثلنا، عبد لله كعبوديتنا له، وهو أقرب إلى الله الذي اصطفاه، لكنه في حاجة إلى مغفرة الله له كحاجة الإنسان إلى مغفرة الله له.
ينكر الإسلام إذن عبادة القوم وعبادة البطولة، وكل عبادة لغير الله، وإنما يدعو الإسلام إلى الأسوة، والله - تعالى - إذ يتحدث عن رسوله
صلى الله عليه وسلم
يقول:
لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ، والإسلام إذ يدعو إلى الأسوة إنما يدعو إلى مجاهدة المرء ضعف نفسه وإلى دأبه للسمو بها؛ كي تبلغ مكانة القديسين والأولياء المقربين، وتطهيرها لذلك من كل أسباب الحوبة والإثم، والإسلام يفتح الباب واسعا لكل من أخلص لله وجهه أن يصل بالتقوى إلى هذه المكانة، حرا قرشيا كان أو عبدا حبشيا. ومعرفة الله معرفة حقة هي باب التقوى، والمعرفة لا تجعل التقوى في الضعف ولا في الخوف، بل في العلم بسنة الكون والوقوف على أسراره والاتصال بما جل ودق منه وإدراك حكمة الله لذلك فيه، ولنا في الذين بلغوا من هذه المعرفة أسمى درجاتها الأسوة، فإن أضلهم علمهم فلن يضل العلم مسلما عرف أن سنة الله لا تبديل لها، وأن معرفتها عبادة له هي خير أنواع العبادة، وذلك ما كان يفهمه المسلمون الأولون من الأسوة الحسنة؛ لذلك لم يلبثوا حين طوع لهم إيمانهم فتح الأمصار وحكم الأمم أن اتخذوا من علمائهم أساتذة عهدوا إليهم بنقل علوم الطب والفلك وتقويم البلدان ونقل كتب الفلسفة اليونانية والوقوف من ذلك كله على كل ما وصلت إليه المعرفة الإنسانية في عصرهم، بذلك أقاموا منارة الحضارة في العالم، وعملوا لهدى الإنسانية إلى نور العلم وما يهدي هذا النور إليه من توحيد الله الحق.
أما والإسلام ينكر عبادة القوة وعبادة البطولة وكل عبادة لغير الله ويدعو إلى الأسوة الحسنة، فمن الواجب على الذين يزورون قبر حمزة أن يلتمسوا فيه هذه الأسوة، وأن يعلموا أن الله يجزيهم بجهادهم لبلوغ الغاية منها، ولا يجزيهم لمجرد الزيارة والتبرك والدعاء، فإنما يجزي الله العامل بعمله، فمن يعمل صالحا يجز به، وأسوة حمزة هي الجهاد في سبيل الله، له المثل الأعلى، وبذل الحياة لدفع من يصد عن سبيل الله ابتغاء العاجلة من حكم أو سلطان.
نسي المسلمون هذا المعنى في كثير من العصور، ولا يزال أكثرهم ينساه، واتخذت بعض الأمم الإسلامية ملوكها أربابا، وجعلت من بعض الصالحين فيها أولياء اتخذتهم إلى الله زلفى، ولهؤلاء وأولئك بنت القباب وأقامت عليها المساجد، لا تقصد تخليد ذكراهم ليكون في الذكرى للأجيال أسوة ومثل، بل تقصد أن تكون القباب والمساجد محاريب لعبادتهم والتوسل بهم إلى الله، إلى ذلك قصد الذين أقاموا على قبر حمزة قبة ومسجدا، وكتبوا عليه من الشعر ما أثبتنا هنا بعضه وتركنا سائره، ولو أنهم أقاموا القبة والمسجد للأسوة والذكرى لكان ذلك خيرا، ولحق لهم الثناء على نيتهم وعملهم، وإنما الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى.
لم يبق لقبة حمزة ولا لمسجده اليوم أثر، فقد عفا الوهابيون عليهما ثم أقاموا مكانهما القبر الذي وصفت، وكان المسجد قبل هدمه محكم البناء خاليا من الزخارف، به قبة فوق مقصورة أسدل عليها ستر من أستار الكعبة - كذلك يقول صاحب مرآة الحرمين في وصفه، وأم الخليفة الناصر العباسي هي التي شيدت مسجد حمزة عام 590 للهجرة، وقد أمر الأشرف قايتباي فزاد شاهين الجمالي في جهته الغربية وحفر له بئرا يرتفق بها المارة، وجعل لها درجا، وأتم ذلك في سنة 893، وكان المسجد قائما فوق القبر حيث يقوم البناء الأسطواني الوهابي اليوم.
وقد اختلف في موضع القبر؛ أهو اليوم في المكان الذي دفن به حمزة بعد مصرعه في أحد أم هو في مكان غيره؟ وتذهب رواية إلى أن حمزة دفن في المكان الذي صرع به، حتى إذا كان القرن الرابع انحط من جبال الطائف سيل جارف اجتاز المدينة ومر بقبر حمزة وكشف عن ساقيه، فنقل إلى الربوة التي بها القبر اليوم، وكان عليها المسجد حتى هدم، وتذهب رواية أخرى إلى أنه صرع تحت جبل الرماة، وهو جبل عينين، وأن النبي أمر بجثمانه فنقل من بطن الوادي إلى الربوة التي عليها القبر الآن، فالمدفن غير المصرع، ويريد بعضهم التوفيق بين الروايتين فيذكر أن الربوة التي نقل الجثمان إليها في أعقاب الغزوة قد تكون غير الربوة التي نقلت إليها الرفات في أوائل القرن الرابع، وهذا التوفيق ليس له عندي ما يقتضيه، فلئن كان جثمان حمزة قد نقل في أعقاب الغزوة لهو اليوم في المكان الذي نقل إليه يومئذ، فهو قريب من المقبرة التي دفن بها سائر شهداء أحد، وهم قد دفنوا في ميدان المعركة، وليس بين مقبرتهم والمكان الذي يقال: إنه مصرع حمزة ما يدعو إلى نقل جثمانه غير مرة.
كنت أحاور الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في هذا كله ونحن وقوف على الهضبة التي اشتهرت باسم جبل الرماة، نسبة إلى رماة المسلمين في أحد، والتي تسمى جبل عينين، فقد أشار لي إلى مكان بأسفل هذا الجبل قال: إنه موضع المصرع، وأشار إلى موضع من أحد وقال: إنه المهراس الذي احتمى به رسول الله بعد فرار المسلمين حين خالف الرماة أمره وبرحوا مكانهم، فحل خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش محلهم فيه، وعجبت أن يكون المصرع بأسفل هذا الجبل، إلا أن يكون وحشي اغتال حمزة بعد أن أخلاه المسلمون وأسرعت إليه خيل قريش فسار وحشي على أثرهم.
ووقفت أصور ميدان المعركة كيف كان، فقد جاءت قريش من مكة إلى المدينة في الطريق الموازي لشاطئ البحر الأحمر، ثم انعطفت مشرقة إلى ناحية قباء وذي الحليفة من جنوب المدينة، واتخذت طريق وادي العقيق إلى شمالها، حتى كانت عند البساتين والزروع القائمة أسفل أحد فعسكرت، وخرج المسلمون من المدينة بعد الذي كان بينهم من جدل: أيتحصنون بها أم يلقون المشركين في الميدان الذي اختاروه، ونزلوا قبالة قريش عند أحد وجعلوه إلى ظهورهم، وأمر النبي خمسين من الرماة أن يلزموا هذا النتوء من «سلع» ويصدوا فرسان قريش، وقال لهم: «احموا لنا ظهورنا فإنا نخاف أن يجيئونا من ورائنا، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينونا ولا تدفعوا عنا، إنما عليكم أن ترشقوا خيلهم بالنبل؛ فإن الخيل لا تقدم على النبل.» فلما دارت المعركة وحالف النصر المسلمين في أولها بعد أن قتل أصحاب اللواء من المشركين، تبع المسلمون عدوهم في فراره يضعون فيه السلاح وينتهبون ما خلف من غنيمة، وهنالك برح الرماة مكانهم ليكون لهم من الغنيمة نصيبهم، فاهتبل خالد بن الوليد الفرصة فشد برجاله على مكان الرماة فأجلى من بقي منهم وصاح صيحة أدركت قريش معها ما فعل، إذ ذاك عاد منهم كل منهزم فأثخنوا في المسلمين ضربا وقتلا، وتمزقت صفوف المسلمين وصاح صائح بالناس: «إن محمدا قد قتل!» وتشجع المشركون حين سمعوا نبأ قتله، وكان رسول الله قد أصابه حجر رماه عتبة بي أبي وقاص فوقع لشقه فأصيبت رباعيته وشج في وجهه، وكلمت شفته ودخلت حلقتان من المغفر الذي يستر به وجهه في وجنته، وسار كبار المسلمين من حوله يدفعون عنه، فصعد أحدا واحتمى بشعب من شعابه في جوار المهراس الذي كانت تقوم عليه قبة اشتهرت باسم قبة الثنية ثم هدمها الوهابيون، وقد سميت تلك القبة بقبة الثنية لما قيل من أن ثنية رسول الله وقعت عندها.
وألقيت نظرة إلى ناحية أحد فذكرت قول رسول الله عنه: «هذا جبل يحبنا ونحبه.» واستقر نظري على صخوره الحمراء وعلى الرءوس الكثيرة الناتئة على سطحه، قال الأستاذ عبد القدوس: يخيل إليك أن أحدا أحمر الله كله، أما أنا فقد وجدت فيه حين تنقلت بين شعابه وقننه وهضابه صخورا وعروقا مختلفة الألوان، يضرب بعضها إلى الزرقة، وبعضها إلى الخضرة، ومنها الأسود الإثمدي، والرمادي لون التراب، وقد ذكر لي صديق أنه عثر فيه بحجر من الإثمد زنته مثقالان، وآخر زنته سبعة مثاقيل، وأن صديقا له عثر بحجر كبير كسره فانفلق عن زبرجدة عظيمة الحجم، ولطالما تساءلت: أكشف عن شيء من هذه النفائس بأحد في عصر خلا؟ ولم أجد جوابا فيما قرأت من كتب تاريخ المدينة، ولست أدري أتيسر الأقدار لأهل هذا الجبل أن يقوموا من ذلك بما لم يقم به أسلافهم؟
لم أقف طويلا عند هذا الحديث عن طبيعة الصخور في جبل أحد، فلقد كنت أحرص على معرفة الطريق الذي سار فيه النبي نجاة بنفسه من أعدائه بعد أن خالف الرماة أمره، ونزلنا على جبل الرماة ومررنا على مقربة من قبر حمزة وقبور الشهداء، وتخطينا إلى أحد، وسرنا أثناءه بين صخور ضخمة تلوينا خلالها هنيهة، فإذا نحن قد ابتلعنا الجبل فحجبنا عن كل ما وراءه، لم يبق أمامنا وادي قناة ولا جبل سلع ولا هضبة الرماة، بل كنا خلال جبل تتلوى الطرق على سفوحه إلى حيث لا أدري، قال عبد القدوس بعد أن سرنا زمنا: هذا المهراس الشرقي الذي جيء للنبي
صلى الله عليه وسلم
بالماء منه يوم أحد، قلت: وما المهراس؟ فكان جوابه: تلك نقر كبار وصغار يجتمع فيها ماء المطر، وكان النبي في الشعب القريب من هذا المهراس حين جاءه علي بن أبي طالب بماء يروي به ظمأه؛ ووجد بالماء ريحا فكرهه ولم يشرب منه، وإن غسل به الدم الذي أصابه أثناء المعركة، وصمت هنيهة ثم أردف: وهذا، هنا المهراس الشرقي، وثم مهراس غربي طريقه وعر لا سبيل إلى ارتقائه إلا بتسلق بعض الصخور، ولم يرد في أنباء التاريخ أي المهراسين جيء منه بالماء لرسول الله، لكن بيتا من الشعر لعبد الله بن الزبعرى يدل على أنه هذا المهراس الشرقي، ذلك قوله:
فسل المهراس من ساكنه
بين أقحاف وهام كالحجل
والمهراس الغربي لا سبيل إلى أن ترتقيه الأفراس لوعورته وملاسة صخوره، أما وابن الزبعرى يشير إلى المهراس الذي جيء بالماء للنبي منه فهو إذن هذا المهراس الشرقي لا ريب.
عدنا بعد ذلك أدراجنا نقصد الوادي لنستقل سيارتنا إلى المدينة، واستوقفنا جند من النجديين يقيمون ببنية موضعها بين القبور والمصرع، فدعينا إلى قهوة وشاي عندهم، وتناول الحديث أثناء ذلك في كلمات مقتضبة هؤلاء الذين مررنا بهم من زوار حمزة وشهداء أحد، فهم اليوم يقفون يصلون ويستغفرون، وكانوا قبل العهد النجدي يجدون في القبة وفي المسجد وسيلة للزلفى وللعبادة، ويقيمون لذلك مع من يخرجون إلى هذا المكان من أهل المدينة ثلاثة أيام تنصب فيها سوق وتجري فيها تجارة، ولا بأس بأن يقع أثناءها لهو ومجون، وانطلقنا بعد الشاي والقهوة نلتمس سيارتنا؛ فلم يحل انطلاقنا بيني وبين الالتفات إلى وراء لألقي نظرة أخيرة على قبر حمزة ولأحيط كرة أخرى بهذا الوادي المترامي الأطراف إلى جوار عرين الأسد، ولأرى فيه المسجد الذي يسمونه المستراح، ويذكرون أن النبي كان يستريح موضعه إذ كان يزور مثوى الأسد، وعدت من بعد إلى التفكير في الاستشهاد والشهداء، وفي حمزة الذي مات فداء لدين الله وللمسلمين إخوانه فيه.
وناجتني نفسي: لماذا يذكر الناس هؤلاء الشهداء في تقديس وإجلال وإن بعد بهم العهد وحجبهم الماضي في غيابات الدهور؟ فكلنا نذكرهم في تقديس وإجلال، وإنما يتفاوت مظهر إكبارنا إياهم بين العبادة وما هو منها بسبب من الجاهل، والإعظام الحق من المهذب النفس ذي العلم، ونحن إنما نكبرهم؛ لأنهم وهبوا أنفسهم وحياتهم للإنسانية كلها وتمنوا الموت صادقين ليبلغوا بالإنسانية أسمى الأغراض التي تصبو إليها، ولم يفكر حمزة في نفسه ولا في أبنائه يوم خاض الغمار في بدر، ويوم حاصر بني قينقاع، ويوم استشهد في أحد، ولم يرد من أحد من الناس جزاء ولا شكورا، إنما كان تفكيره في الله وجزائه، وفي نصر الله دينه الحق لتهتدي الإنسانية إلى الصراط المستقيم وتشرق روحها بنور ربها، هو إذن قد آثر إخوانه على نفسه، وحرص على الموت ليهب لهم الحياة، فوهبه إخوانه الحياة الخالدة على الأجيال جزاء وفاقا، وأية حياة باقية على الدهر كحياة المرء في قلب الإنسانية ما تعاقبت أجيالها وما نسخ الليل فيها النهار؟! وأي جزاء للمرء عن عمله أكبر من اعتراف الناس له على تعاقب الأجيال بالفضل عليهم، وما يكون له بسبب ذلك من حسن الأحدوثة فيهم! هؤلاء الذين وهبوا حياتهم في سبيل الحق لهدى إخوانهم إنما وهبوها لله ربهم؛ فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم ليسوا أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون.
أجل! هؤلاء حرصوا على الموت ليهبوا للناس الحياة، فوهب الله لهم الحياة، وقديما قيل: «احرص على الموت توهب لك الحياة.» وهي كلمة حق لم تتغير على القرون، ولن تتغير، وهي من سنة الله التي لا تبديل لها، فمن تمنى الموت صادقا بما قدمت يداه فاختاره الله إلى جواره فهو حي عند ربه، ومن تمنى الموت وبقي حيا ضاعف الله له أجره في هذه الحياة الدنيا، ذلك شأن الأفراد، وهو شأن الأمم؛ حياتها في أن تهب الحياة لمن بعدها وإن ضحت بحياة آخر فرد منها إذا هي أريدت على نقص في مقومات حياتها؛ في كرامتها، في عزتها، في سيادتها، في استقلالها، في حريتها التامة أن تنظم كما تشاء شئونها، والأمم التي يعرف أبناؤها كيف يموتون أعزة كراما هي الأمم التي تحيا أبدا عزيزة كريمة.
هذه الأمم التي تحيا عزيزة كريمة، والتي يعرف أبناؤها الحق والاستشهاد في سبيل الله، هي الأمم التي رفعت في الإنسانية منار الهدى وبينت لها طريق الحضارة في أسمى صورها، وذلك ما فعله خلفاء حمزة من شهداء المسلمين، وإنما آفة الإنسان أن يطغى أن رآه استغنى، هي آفة الأفراد وآفة الأمم، وكم أمة عزت وكرمت ورفعت منار الحق والعدل وهدت الإنسانية سبيلها فآمنت بها الإنسانية، وسارت في خطاها، وجزتها بذلك خير ما يجزي المعترف الشكور، ثم استغنت هذه الأمة فطغت فجزت الإنسانية بطشا واستعمارا، يومئذ يمد الله لهذه الأمة بحكم سنته في طغيانها، ثم ينالها بعد ذلك من جرائها ما ينال كل طاغية كفور.
ربنا إننا آمنا بك ما آمن بك عبدك حمزة بن عبد المطلب، ربنا فهب لنا من فضلك بعض ما وهبت له، هب لنا الإيثار على أنفسنا، وأن نحب بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات إخواننا، وأن نتمنى الموت بما قدمت أيدينا، وأدخلنا ربنا في عبادك الصالحين! ربنا اهدنا صراطك المستقيم، ربنا إنك من تهد لا يضل، وخير ما نرجو من هداك أن توجهنا وأن توجه الإنسانية بفضلك إلى الحق والخير والسلام.
أمام الحجرة النبوية
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.
وقفت أمام الحجرة النبوية وتلوت هذه التحية يوم دخلت المدينة، وذهبت مع مضيفي إلى المسجد وتبعت مزوري من باب السلام إلى حيث وقفت مأخوذا لا أدري ما الله صانع بي، وسلمت على الصديق أبي بكر وعلى الفاروق عمر المدفونين في هذه الحجرة إلى جوار رسول الله، وتلوت الفاتحة، ثم أقمت مكاني شاخصا إلى الحجرة وإلى عمدها النحاسية الدقيقة الصنع، وإلى النسيج الأصفر الذي يصل بين هذه العمد، وإلى الطاقات الثلاث المفتوحة فيها إزاء القبور الثلاثة، كأنما كل طاقة منها عين تحدق في كل زائر وتنفذ إلى أعماق نفسه وطيات قلبه، أقمت مكاني مأخوذ الذهن عن التفكير، متوجها بكل انتباهي إلى كل ما يجب أن أقوم به من الشعائر حذر أن يفوتني شيء منها، وكأنني في حضرة ملك أؤدي فروض الإكبار والإجلال، وشعرت بنفسي تحيط بها هالة من الجلال الروحي الذي أخذ على تفكيري المسالك وجعلني في حيرة ما أصنع، وكذلك بقيت حتى تقدمني مزوري إلى ناحية الروضة النبوية لأؤدي فيها تحية الحرم وأصلي وراء الإمام صلاة المغرب.
وعجبت حين غادرت موقفي من الحجرة وأتممت صلاتي بالروضة، لقد امتلأت روحي إكبارا وتقديسا وإجلالا، ولقد شعرت بما لم أشعر قط من قبل به، لكني لم أبك ولم تفض عبراتي، وكنت قد سألت قبيل سفري من مصر إلى الحجاز بعض من سبقوني إلى الحج والزيارة عن موقفهم أمام قبر الرسول، فحدثني بعضهم عن اهتزاز أنفسهم وانهمار الدمع من أعينهم، ولم يأبوا أن يذكروا أنهم كانوا أشد تأثرا حين وقوفهم أمام الحجرة منهم حين وقوفهم أمام الكعبة وحين طوافهم بها، وهؤلاء الذين حدثوني هم من خير من أعرف ثقافة وأكثرهم بعدا عن الغلو في الدين أو التزمت فيه، ما لي إذن لم تنهمل عبراتي كما انهملت عبراتهم، ولم يزد تأثري أمام قبر الرسول عن تأثري أمام بيت الله، وما أحسبني دون أحد منهم إيمانا بالله وتصديقا لرسوله
صلى الله عليه وسلم
وحبا إياه؟! أتراهم أرهف مني حسا وأدق شعورا، أم أنا نختلف رأيا وتفكيرا؟ ولم أطل تقليب النظر في هذه الأمور بادئ الرأي، وكفاني أن ذكرت أني توجهت إلى الله بالحج مخلصا، فلي في مغفرته ذنوبي أعظم الرجاء، وأنني جئت ألتمس بزيارة نبيه الكريم الذكر والأسوة مزيدا في الرجاء أن يهديني الله سبيله الذي دعا إليه محمد عبده ورسوله، هذا إلى أنني خلقت عصي الدمع لا تسعفني العبرات ما تسعف غيري، فإن أوشكت ضننت بها ضنا بكرامتي وإبائي، وما أدري لعلي كذلك خشيت أن يكون في البكاء مظهر عبادة، وقد قال - عليه السلام: «اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد.» وإنما تفيض دموع المؤمن من خشية الله.
عدت بعد ذلك مرات إلى المسجد ووقفت أمام الحجرة، لشد ما يبعث هذا الموقف إلى النفس من آي الحكمة ومعاني الجلال! إنه ينشر أمامها حياة الرسول وصاحبيه، وجهادهما معه في سبيل الدعوة إلى دين الله، وجهادهما من بعده لتثبيت دعائم هذه الدعوة ونشرها في الخافقين، إنه يصور أمام الذهن من حياته وحياتهما بساطة في العيش، بل خشونة فيه اتخذوها لهم سنة وشعارا مذ تولوا أمر الناس، فآثروا الناس على أنفسهم وأهليهم، وعافوا متع الحياة وما لها حذر أن يدخل عليهم منه ما ليس لهم بحق، وضربوا بذلك للناس مثلا فيما يجب أن يكون عليه من يلي أمر غيره، وهم قد اتخذوها شعارا وكان لهم في أموالهم سعة، وفيما رزقهم الله متاع، كان محمد غنيا بتجارة خديجة ومالها الكثير، وكان أبو بكر غنيا بتجارته وإلف الناس إياه، وكان عمر غنيا بسعيه واتصال كده، فلما بعث الله رسوله هدى للناس ونورا أنفق مال خديجة ولم يبق منه على شيء، ولما آلت خلافة رسول الله إلى أبي بكر كان الزهد في الدنيا والرغبة عنها، وكان التقوى وخوف الله أن يصيب ظلم رجلا ممن ولي أمرهم، أما عمر فكان مثال العدل الصارم لا يعرف الهوادة مع غيره، وهو أشد قسوة على نفسه وأهله، أليس عجبا أن يكون ذلك شأنهم وأن تكون هذه سيرتهم وعبرتهم، ثم تكون هذه الحجرة النبوية وهي ما هي اليوم جمالا وتألقا في النقش والزخرف والعمارة حتى لتزري بأكثر الحجر في أبهى القصور فخامة وروعة، وحتى لكانت تزري إلى عصر قريب بكل قصر ثراء ونعمة، لما اجتمع فيها من نفائس قدرها بعضهم بسبعة ملايين من الجنيهات؟!
بذلك حدثتني نفسي يوما وأنا بمجلسي من المسجد بعد وقفة طويلة أمام الحجرة، وذكرت لهذا الحديث ما كانت الحجرة عليه قبل أن تضاف إلى المسجد يوم دفن بها الرسول، ويوم دفن بها أبو بكر، ثم يوم دفن بها عمر، كانت هذه الحجرة في بيت عائشة أم المؤمنين، فلما مرض النبي انتقل إليها ومرضه أزواجه فيها حتى اختار الرفيق الأعلى، وكانت هذه الحجرة كالبيت كله من جريد، مستور بمسوح الشعر، أو كان البيت - في قول - من اللبن له حجر من جريد، فلما توفي رسول الله وانتهى المسلمون بعد خلاف إلى دفنه حيث قبض، حفروا له في هذه الغرفة مكان السرير الذي كان يمرض عليه، ودفنوه بعد أن ودع المسلمون جثمانه رجالا ونساءا وأطفالا، ودفن أبو بكر بعد سنتين وثلاثة أشهر من موت الرسول، والحجرة على حالها لم يغير فيها شيء، ولم يقم على القبر قبة ولا مقام، وبعد عشر سنين من موت أبي بكر دفن عمر بالحجرة وهي على حالها لم يزد عليها إلا جدار أقامه عمر بينها وبين سائر الدار التي كانت عائشة تقيم بها، ذكروا أن ابن الخطاب أرسل إلى عائشة لما طعنه أبو لؤلؤة غلام المغيرة يسألها أن يدفن مع صاحبيه، فقالت: كنت أريده لنفسي، لأوثرنه اليوم به، وأوصت أن تدفن مع صواحبها بالبقيع، ولعلها إنما فعلت بعد دفن عمر حتى لا تدفن إلى جواره وهو منها غير ذي رحم محرم، فهي قد كانت تزور حجرة القبر سافرة حين لم يكن بها غير زوجها وأبيها؛ فلما دفن عمر إلى جانبهما لم تكن تدخلها إلا محتجبة لابسة كامل ثيابها.
وبقيت حجرة القبر على بساطتها إلى أن أمر الوليد بن عبد الملك عمر بن عبد العزيز واليه على المدينة أن يزيد في المسجد وأن يضم حجرات أزواج النبي إليه، وكل ما قيل: إنه حدث قبل ذلك أن وضعت على القبور الثلاثة حجارة مسنمة، وكانت في العهد الأول مسواة بالأرض، وانقض جدار من الحجرة حين أمر عمر بن عبد العزيز ببنائها، فانكشف أحد القبور عن ساق وركبة، فتولى عمر الفزع أن تكون ساق رسول الله وركبته، فلما تبين أنها ساق عمر وركبته زايله الفزع وهدأ روعه، وأمر مولاه مزاحم فقام فسترها وسوى التراب عليها، وبعد ذلك أقيمت الحجرة فخيمة البناء فخامة أعجبت الوليد بن عبد الملك ودعته أن يقول لأبان بن عثمان: «أين بناؤنا من بنائكم؟!» وكان جواب أبان: «بنيناه بناء المساجد وبنيتموه بناء الكنائس.»
بنى عمر بن عبد العزيز الحجرة سنة ثمان وثمانين، وقيل: سنة إحدى وتسعين للهجرة، هي إذن قد ظلت ثمانيا وسبعين أو ثمانين سنة بعد وفاة الرسول في مثل بساطتها حين وفاته لم يزد عليها إلا ما قيل عن هذه الأحجار المسنمة، ولم يكن الناس إذ ذاك أقل إكبارا لها وذكرا لصاحبها - عليه السلام - مما كانوا بعد أن بنيت، وأقيم عليها سقف أنفق عمر أربعين ألف دينار ذهبا في إقامته وتزيينه، ولئن تفاوت تقدير الناس إياها، لقد كان المسلمون الأولون في عهد الخلفاء الراشدين والأيام الأولى لعهد بني أمية أدنى إلى التقدير الصحيح، أولئك كانوا الصحابة والتابعين؛ وكانوا لذلك يدركون روح الرسالة وأغراضها إدراكا سليما، لم يكن الخيال ولا كان الهوى السياسي قد عبث بأفئدتهم ولا بمنطق عقولهم، ولم يكونوا لذلك قد اضطربوا بين الإفراط والتفريط، والغلو في ناحية أو العكوف على نقيضها، كانت حياة الرسول وصاحبيه ماثلة أمامهم على حقيقتها التي رأوها؛ وكانوا لذلك يكبرونها ويلتمسون فيها الأسوة، ولم تكن نفس أحد لتطاوعه على عبادة غير الله مما ينكر الإسلام؛ لذلك لم يتحمس أحد من أهل المدينة لما صنع الوليد من بناء الحجرة، بل أنكره كثيرون من أتقيائهم، وبرئوا منه، ورأوا فيه خروجا على الأسوة الحسنة، وحق لهم يومئذ أن يفعلوا وقد أنكر بعض إخوانهم وآبائهم على عثمان بن عفان أن يبني المسجد بالحجارة وأن يخرج به لذلك عن بناء النبي إياه باللبن والجريد وخشب النخل يجعلها له عمدا.
أراني أشد ميلا لرأي هؤلاء المسلمين الأولين فيما صنع الوليد بن عبد الملك، فلو أن الحجرة بقيت كما كانت يوم دفن بها رسول الله لكان منظرها أقوى إلهاما من منظر الحجرة المزخرفة البديعة النقش الجميلة العمد الثمينة الأثاث، والتي تبعث إلى النفس من الروعة أكثر مما تدعو إليه من الأسوة والعبرة، كانت تلك الحجرة الأولى صورة حية من حياة رسول الله، ومن جهاده، ومن آلامه، ومن مرضه ومن دفنه، أين يرى الإنسان اليوم حجرة الرسول التي كانت مثل التقشف ومظهر الخشونة في العيش والبراءة من كل زينة وبهرج؟ أين موضع فراشه فيها، وكان أدما حشوه ليف؟ أين هذه الصورة التي تملأ النفس روعة، صورة الرسول في بيته وفي مهنة أهله، ينظف ثوبه ويرقعه، ويحلب شاته، ويخصف نعله ويخدم نفسه، ويأكل مع الخادم؟ أين هذا المكان الساذج يجلس محمد فيه إلى أهله وهو اللطف بهم والدعابة معهم، والبر والرأفة والرحمة؟ أين هذا الباب الذي لم يكن عليه قفل، والذي كان محمد يفتحه لديك مريض فيترفق به ويمرضه؟! ترى أين كانت الغرفة التي أقام بها رسول الله حين هجر نساءه شهرا لما لجت الغيرة بهن بعد أن ولدت مارية ابنه إبراهيم؟ وأين من حجرات أزواجه كان مجلسه المفضل للتفكير والتأمل، ولتنظيم سياسة المسلمين وتوجيههم في مختلف شئونهم؟ وأين من هذه الحجرات نزل عليه الوحي؟ وأين فيها سرير مرضه وحيث كان به من لهب الحمى ما يعاني منه أشد الكرب؟ وأين منها المكان الذي مر به المسلمون بعد موته وغسله، رجالا ونساء وأطفالا، يودعون جثمان نبي الله ورسوله، ويشهدون أنه بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه؟ لم يبق من ذلك كله أثر بعد أن ضمت الحجرات إلى المسجد، فلم يبق لزائر المدينة أن يقف على تفصيله أو أن يستمد إلهامه، وقد كان له في الإسلام وفي حياة المسلمين أبلغ الأثر، ألا لو أن ذلك كله بقي إلى اليوم لألهم المؤرخين والكتاب والشعراء ورجال الفن ما لم تلهمهم الحجرة البديعة الزخرف مذ شادها عمر بن عبد العزيز، لم يفكر الوليد في شيء من هذا يوم أمر بهدم الحجرات وإدخالها في المسجد، وإنما فكر في حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب وفاطمة بنت الحسين وفي الدعوة العلوية وفي هذه الخصومة التي استحرت بين بني هاشم وبني أمية بعد مقتل عثمان ، ولو أنه فكر في شيء مما ذكرت أو وجد من يذكره به لما عدل أغلب الأمر عن رأيه، فالهوى السياسي أعنف من أن يذرنا نفكر في أمر سواه، وهو كذلك خاصة إذا اتصل بالملك وما يحيط به من شهوات أهواء.
بذلك حدثتني نفسي يوما وأنا بمجلسي من المسجد بعد وقفة طويلة أمام الحجرة، وذكرت لذلك ما حدث من عمارة الحجرة بعد الوليد، وكيف نهج غيره نهجه في البناء والزخرفة، وكيف نسي المسلمون العهد الأول ووقر في نفوسهم أن كل زخرف يضيفونه إلى الحجرة يقربهم إلى الله، ولقد بلغ أمرهم من ذلك أن اختلفوا على موضع المدفونين بالحجرة بعضهم من بعض، هذا وأبو بكر وعمر وزيرا رسول الله في حياته وخليفتاه بعد موته، وهما اللذان ثبتا قواعد الإسلام ونشرا في الخافقين لواءه، ولقد بلغ من اختلافهم على هذه المواضع أن روى السمهودي عنها سبع روايات اعتمد في كل منها على راوية لروايته مبلغها من القوة أو الضعف، ونقل السمهودي ما صورت به هذه المواضع في مختلف الروايات على النحو الآتي:
هذه هي الأوضاع التي ذكرها السمهودي، وهي سبعة يمكن أن ترد إلى ستة، وأنت تستطيع كما ترى أن تعتبرها ثمانية، على أن الوضع الأول منها هو المأثور، والرواية فيه أن رأس النبي وضع إلى ناحية الغرب، وأن رأس أبي بكر وضع إزاء منكبي النبي، وأن رأس عمر وضع إزاء منكبي أبي بكر وهذا الخلاف على وضع أبي بكر وعمر من النبي يقع مثله على بناء الحجرة حين شادها عمر بن عبد العزيز، فقد ذكروا أنه بناها مخمسة ولم يبنها مربعة خيفة أن يتخذها المسلمون قبلة يتوجهون إليها في صلواتهم، أما السمهودي فيقول: إنه رآها حين عمارة المسجد في عصره، أي: في القرن التاسع الهجري، وأنه ألفاها مربعة، وأن تخميسها كان بعد ذلك، وقبر النبي معلم اليوم بمسمار من الفضة موضوع في الجدار القبلي من الخارج، والمأثور أنه قبالة الرأس، وقد وضع هذا المسمار في عهد متأخر، ولكنه يشير إلى موضع الرأس لا ريب، فالمسلمون قد حرصوا على الدقة في تحديد قبر النبي وإن لم يحرصوا على مثلها في تحديد قبري صاحبيه.
وهذا الخلاف على تحديد مواضع القبور من الحجرة إنما حدث في عهد متأخر، فقد رأيت أنه لما انقض جدار وانكشفت بذلك ساق وركبة في ولاية عمر بن عبد العزيز المدينة عرفوا أنها ساق عمر وركبته، مما يدل على أن مواضع القبور كانت محددة يومئذ أدق التحديد، فلما أقيمت الحجرة حولها ولم يكن يدخل إليها إلا الموكلون بها، وقل منهم العلماء، بدأ هذا الخلاف، ولا نعرف من الذي بدأ بإثارته، ولو أن الحجرة بقيت على صورتها الأولى لما حدث خلاف؛ ولما ترتب على هذا الخلاف ما ترتب عليه من جدل طويل.
فاتني أن أشير إلى ما يذكرونه عن قبر رابع موجود بالحجرة إلى جانب القبور الثلاثة، وما يروى من أن هذا القبر لعيسى بن مريم، وما ينسب إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
من أحاديث تؤيد أن المسيح سيدفن به، ولست أريد أن أخوض مع الخائضين في هذا الأمر، وكل ما أذكره أن النبي لم يعين مكانا يدفن به؛ ولذلك اختلف أصحابه: أيدفن بمكة أم ببيت المقدس؟ ثم اتفقوا على دفنه بالمدينة حين قال أبو بكر: إني سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض.» ولم يكن بدار عائشة يومئذ قبر، ولم يحفر بها قبر غير قبر النبي إلا بعد أن دفن أبو بكر وعمر، ولم يذكر رسول الله أنهما سيدفنان بها، ولم يكن أحد يعلم ذلك، بل لقد دفن عمر بها بعد أن سأل عائشة أن تأذن به، وبعد أن آثرته عائشة على نفسها فأذنت أن يدفن في دارها.
تجدد بناء الحجرة بعد ذلك غير مرة، ولقد أشرت إلى شيء من ذلك حين الحديث عن المسجد النبوي وتجديد بنائه على أثر الحريق الذي أصابه في القرن السابع، وامتد إلى الحجرة كما امتد إلى المسجد كله، وعلى أثر الصاعقة التي نزلت به في أواخر القرن التاسع الهجري، ولقد عدل بناء الحجرة أثناء ذلك فخمست بعد أن كانت مربعة، وزيد عليها ما لم يكن منها حين بناها عمر بن عبد العزيز، يقول السمهودي في حديثه عن عمارة القرن التاسع: «إن متولي العمارة ومن كان معه خبروني أنهم وجدوا عند نقض جدار البيت الشامي - أي: الشمالي - من داخله رأس جدار في محاذاة الأسطوانة المذكورة يشهد الحال أنه كان آخذا من الشامي إلى ما يحاذيه من القبلة، فكأنه كان نهاية الحجرة الشريفة من جهة الشرق، وكأنه لما انهدم زيد فيها ذلك القدر، قالوا: ولا يخفى على الناظر أن بقية الجدار الشامي مما يلي الشرق لم تبن مع الجانب الآخر منه، بل هي ملصقة إلى رأس الجدار المذكور بحيث لم تدخل أحجار أحدهما في الآخر ولا هي مرتبطة كما هي عادة البناء الواحد، ورأيت أنا ما يقابل هذا الجانب من الجدار القبلي مما يلي الشرق، فرأيت ما يشهد بإحداث بنائه بحيث إنه مبني بالحجارة غير الوجوه كنسبة الجدار الشرقي بخلاف بقية جدارات الحجرة الشريفة فإنها كلها من داخلها وخارجها مبنية بالحجارة الموجودة المنحوتة، وأنا لم أشاهد ما قدمته مما حكي لي في أمر الجدار الشامي؛ لأنني اجتنبت حضور الهدم احتياطا لنفسي.»
1
ويقص السمهودي في فصل عقده وجعل عنوانه «فيما تجدد من عمارة الحجرة الشريفة في زماننا على وجه لم يخطر قط بأذهاننا، وما حصل بسببه من إزالة هدم الحريق الأول من ذلك المحل الشريف ومشاهدة وضعه المنيف وتصوير ما استقر عليه أمر الحجرة في هذه العمارة.» - يقص صورة ما حدث في عهده حين جاء شاهين الجمالي إلى المدينة منصرفه من جدة فأراه وجوهها ما تكسر من أخشاب المسجد، وأروه ما في الحجرة من تصدع قديم في جدارها الشمالي، رأى معه إصلاح عمدها وإعادة بنائها، وقد اختلف يومئذ في ضرورة ذلك، ورأى كثيرون الخير في عدم التعرض له ما دامت الحاجة لا تدعو إليه، لكن شاهينا وزير سلطان مصر الأشرف قايتباي، كان له غرام بإصلاح الحرمين لا يعدله غرام ؛ لذلك كان دائبا على تعمير ما يرى الخير في تعميره منهما، فلما استقر الرأي على تعمير المسجد والحجرة بدءوا بإزالة ما كان من تراب الهدم الذي سقط بها حين الحريق الذي وقع في القرن السابع، يقول السمهودي: «بعث إلي متولي العمارة لأتبرك بمشاهدة الحجرة الشريفة بعد تنظيفها، وصار قائل يقول: ظهر القبر الشريف، وقائل يقول: لم يجدوا لجميع القبور الشريفة أثرا، فحثني داعي الشوق وغلبة الوجد، واستحضرت ما وقع لبعض السلف من سؤاله عائشة - رضي الله عنها - أن تريه القبور الشريفة ... فعزمت على الإقدام وتمثلت بقول بعضهم:
ولو قيل للمجنون: أرض أصابها
غبار ثرى ليلى لجد وأسرعا
لعل يرى شيئا له نسبة بها
يعلل قلبا كاد أن يتصدعا
فتطهرت وتوجهت لذلك مستحضرا عظيم ما توجهت إليه، وموقع المثول ببيت أوسع الخلق كرما وعفوا، وذلك هو المعول عليه، واستحضرت قول بعضهم:
عصيت فقل لي كيف ألقى محمدا
ووجهي بأثواب المعاصي مبرقع؟!
ثم أنشدت الذي يليه:
عسى الله من أجل الحبيب وقربه
يداركني بالعفو فالعفو أوسع
وسألت الله أن يمنحني حسن الأدب في ذلك المحل العظيم، ويلهمني ما يستحقه من الإجلال والتعظيم، وأن يرزقني منه القبول والرضا، والتجاوز عما سلف ومضى، فاستأذنت ودخلت من مؤخر الحجرة ولم أتجاوز ذلك المحل فشممت رائحة ما شممت في عمري أطيب منها، ثم سلمت بوجل وحياء، على أشرف الأنبياء، ثم على ضجيعيه خلاصة الأصفياء ... ودعوت بما تيسر من الدعوات، وتشفعت بسيد أهل الأرض والسموات، واستنزلت به في بيته من الأزمات، واغتنمت هذه الفرصة في جميع الحالات ... فلما قضيت من ذلك الوطر، متعت عيني من تلك الساحة بالنظر، لأتحف بوصفها المشتاقين، وأنشر من طيب أخبارها في المحبين، فتأملت الحجرة الشريفة فإذا هي أرض مستوية وتناولت من ترابها بيدي فإذا به نداوة وحصباء ... ولم أجد للقبور الشريفة أثرا غير أن بأوسط الحجرة موضعا فيه ارتفاع يسير جدا توهموا أنه القبر الشريف النبوي، فأخذوا من ترابه للتبرك فيما زعموا، ومنشأ ذلك الوهم جهل من كان هناك بأخبار الحجرة الشريفة ، وذلك المحل ليس هو القبر النبوي قطعا، ولعله قبر عمر - رضي الله عنه ... لأن قبر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
كان قريبا من الجدار وكان اللحد تحت الجدار.»
2
وكان مهرة الصناع قد نقضوا قبل تنظيف المكان ما رأوا حاجة إلى نقضه من العمد، ثم أعادوها بعد صب الرصاص فيها وجعلوها قوية قوة دهش لها السمهودي، وبعد التنظيف أقاموا بناء الحجرة حول مربعها الذي كان عمر بن عبد العزيز أقامه، وجعلوا عليها قبة مكان القبة التي سبقتها والتي لم تقاوم عمل الزمن؛ لأنها كانت من خشب، أما في هذه العمارة فقد بنيت من الحجر الأسود وكملت من الحجر الأبيض.
وبعد زمن من تمام بناء الحجرة سقطت الصاعقة التي ذكرنا نبأها في فصل المسجد النبوي على مئذنته الرئيسية فامتد الحريق إلى المسجد كله، أما الحجرة فلم تحترق، على أن هذا الحريق قد ترك أثرا في القبة إذ تشققت أعاليها، وقد أعيد بناؤها محكما بعد أن أخذ لها الجبس الأبيض من مصر، وتم ذلك في سنة 892 هجرية، وكتب على طرازها من الناحية الغربية: «أنشأ هذه القبة الشريفة العالية المعترف بالتقصير؛ الراجي عفو ربه القدير؛ قايتباي.» وبقيت القبة من ذلك العهد إلى أن جددها السلطان محمود بعد أن هدم أعاليها في سنة 1233، وهو الذي أمر بصبغها باللون الأخضر.
ليس يسعنا وقد تحدثنا عن عمارة الحجرة أن نغفل أمرا حدث أثناء ذلك له بهذه العمارة اتصال، ذلك ما تذكره الروايات وتنسبه إلى نور الدين الشهيد محمود بن زنكي الذي كان يحارب الصليبيين في القرن السادس الهجري، فقد ذكروا من أنباء سنة 557ه أنه رأى في نومه رؤيا أفزعته: رأى النبي
صلى الله عليه وسلم
يشير إلى رجلين أشقرين وهو يقول: أنجدني، أنقذني من هذين، ثم توضأ نور الدين وصلى ونام فرأى ما رأى من قبل وقام فزعا، وتوضأ وصلى ونام فرأى ذلك مرة ثالثة، وكان له وزير من الصالحين يقال له: جمال الدين الموصلي أرسل في طلبه وقص عليه ما رأى، قال الوزير: وما قعودك ؟! اخرج الآن إلى المدينة النبوية واكتم ما رأيت، وتجهز الملك بقية ليلته وخرج على رواحل خفيفة ومعه وزيره وعشرون رجلا، فوصلوا المدينة في ستة عشر يوما، وبعد أن اغتسل الملك وتوضأ وصلى ركعتين بالروضة جلس لا يدري ما يصنع، واستدعى أهل المدينة وأخبرهم أنه جاء للزيارة ومعه مال كثير للصدقة، وسألهم بعد أن وزع المال: أبقي أحد لم يأخذ منه حظه؟ قالوا: لم يبق إلا رجلان مغربيان صالحان غنيان لا يأخذان من أحد شيئا، ويكثران الصدقة على المحاويج، وجيء بالرجلين فرآهما يشبهان من أشار إليهما النبي
صلى الله عليه وسلم
في المنام.
وتظاهر الرجلان بالصلاح وأنهما جاءا إلى المدينة يجاوران القبر النبوي، وشهد أهل المدينة بأنهما صائمان الدهر، ملازمان الصلوات في الروضة، وزيارة الحجرة كل صلاة، وزيارة البقيع كل يوم بكرة، وزيارة قباء كل سبت، وأنهما لا يردان سائلا، لكن نور الدين لم يطمئن إليهما، وذهب إلى بيتهما فرأى فيه مالا كثيرا، ثم إنه جعل يجوس خلاله إذ رفع حصيرا فيه فرأى سردابا محفورا متجها صوب الحجرة ... وارتاع الناس حين علموا ذلك وأحاطوا بالرجلين لما جيء بهما إلى نور الدين يسائلهما أن يصدقاه، وضربهما ضربا مبرحا، فاعترفا بأنهما نصرانيان بعثهما الصليبيون في زي حجاج المغاربة وأمالوهما بأموال عظيمة، وأمروهما بالتحيل لسرقة جثة النبي، هنالك أمر نور الدين فضرب عنقاهما، ثم أمر بحفر خندق عظيم حول الحجرة من كل جوانبها حتى بلغ الحفر الماء، وأمر بإذابة رصاص ملأ به الخندق، فصار منه حول الحجرة إلى الماء سور متين لا يستطيع أحد اجتيازه.
هذه رواية السمهودي عن هذا البناء، ويروي البتانوني في الرحلة الحجازية أن نور الدين زنكي بلغه أن الصليبيين الذين كان مشتغلا بمحاربتهم كانوا يعملون لسرقة الجثة الشريفة، فأمر بإحاطة الجثة ببناء آخر نزل بأساسه إلى منابع الماء، ثم صب الرصاص على دائرة حتى صار بحيث لا يمكن أن تنال منه يد الزمان، وذكر صاحب مرآة الحرمين مثل هذا، وقد وضع على هذا البناء، على ما ذكر البتانوني، ستر من الحرير الأخضر مكتوب فيه «لا إله إلا الله محمد رسول الله» يحيط بها أحجبة مكتوب فيها قوله - تعالى:
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين ، وفيما بين ذلك دوائر مكتوب فيها أسماء النبي
صلى الله عليه وسلم ، ويحيط بهذا الستر المنسدل على بناء الحجرة حزام من الحرير الأحمر مكتوب فيه اسم السلطان الذي أمر بعمل الستر.
وقد تخيل الطريقة التي سرد بها صاحب الرحلة الحجازية نبأ كسوة الحجرة أن لهذه الكسوة اتصالا بما صنع نور الدين الشهيد، والواقع أن كسوة الحجرة أقدم عهدا من نور الدين، والرحلة الحجازية نفسها تشير إلى هذا، فأول من كساها الخيزران أم هارون الرشيد حين حجت، كستها الزنانير وشبائك الحرير، ثم كساها ابن أبي الهيجاء وزير ملك مصر الديباج الأبيض عليه الطرز والجامات المرموقة، وجعل عليه زنارا من الحرير الأحمر كتبت عليه سورة يس، وأرسل المستضيء بعد سنتين من ذلك كسوة من الديباج البنفسجي مطرزا عليها اسمه، ووضعت مكان كسوة أبي الهيجاء، وكساها الخليفة الناصر بالديباج الأسود، ثم صارت كسوة الحجرة ترسل من مصر كل ست سنوات، كما كانت ترسل منها كسوة الكعبة كل عام، وكانت هذه الكسوة من الديباج الأسود المرقوم بالحرير الأبيض وعليها طراز منسوج بالذهب والفضة، فلما استقرت الخلافة في بني عثمان بالآستانة صارت كسوة الحجرة ترسل منها كلما جلس سلطان على العرش، وبقيت كسوة الكعبة ترسل من مصر كل عام، فلما انتقضت بلاد العرب على سلطان الأتراك، ثم لما زالت الخلافة بعد ذلك، تولت حكومة البلاد الإسلامية المقدسة أمر هذه الكسوة، وقد جرى التقليد من زمان بعيد كلما وردت كسوة جديدة أن تقسم القديمة، شأنها في ذلك شأن كسوة الكعبة.
كنا نود أن نقف عند ما حدث من التطور في بناء الحجرة قبل أن نتناول بالحديث أمر كسوتها، فهذا التطور أوضح دلالة على تطور التفكير الإسلامي مما حدث في بناء المسجد، أما وقد تتبعنا «الرحلة الحجازية» في استطرادها إلى حديث الكسوة، فإنا نؤثر أن نتم أنباء الحجرة بحديث الهبات التي قدمها الملوك والأثرياء إليها، والتي تتضاءل الهبات التي قدمت إلى المسجد بجانبها، فحديث هذه الهبات يزيد التطور الذي حدث في التفكير الإسلامي وضوحا، ولعله كذلك أبلغ ما يقال في نقض ما رواه الحاج عبد الله برخارت السويسري عن رغبة المسلمين عن التبرع لمنشآتهم الدينية، إذ قال تعليقا على وصفه الروضة: «إذا ذكرنا أن هذا المكان من أقدس الأماكن في العالم الإسلامي كله، وأنه اشتهر بروعته وفخامته ونفاسة حليته، وأنه زخرف بكل ما اجتمع من هبات الغلاة في هذا الدين، ازددنا دهشة وعجبا أن يكون ذلك كل مظهره، فهو لا يقاس إلى مثوى بقية من رفات قديس، وإن هان شأنه، في أية كنيسة من كنائس أوروبا الكاثوليكية، وهو بهذا ينهض دليلا مقنعا على أن المسلمين لم يساووا المسيحيين الغلاة في هباتهم الدينية في أي عهد من العهود، ودع عنك أحوالا كثيرة أخرى تؤيد الاعتقاد بأنه مهما يكن من تعصب المسلمين وأوهامهم فإنهم لم يبدوا قط ميلا إلى البذل والتضحية المالية من أجل منشآتهم الدينية، كما يضحي الكاثوليك، بل كما يضحي المسيحيون البروتستنتيون من أجل منشآتهم.»
3
وإنه مع ذلك ليجمل بي قبل تناول هذه الهبات بالحديث أن أشير إلى خلاف وقع بين علماء المسلمين في عصور مختلفة على جواز تحلية الحجرة بالذهب والجواهر النفيسة، مع العلم بأنها مكروهة شرعا حلية للأفراد ولمنازلهم وللمساجد، أما الذين يقولون بالجواز فيستندون إلى ما كان يوهب للكعبة، وأن رسول الله لم ينكره، وأن أبا بكر لم يفكر في التصرف فيه، وأن عمر فكر في ذلك ثم عدل عنه تأسيا برسول الله، وأما الذين يقولون بعدم الجواز فيذكرون حديث النبي لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض.» فهو - عليه السلام - لم يفعل وما منعه اعتبار من الشرع وإنما منعته اعتبارات السياسة، ويذهب قوم إلى أن المسجد النبوي لا يجوز تحليته بالذهب والفضة أسوة بالمساجد جميعا، ويذهب آخرون إلى أن الحجرة غير المسجد ويبلغون حد القول بأن المدفن الشريف بالحجرة له شرف على جميع المساجد وعلى الكعبة، فلا يلزم من المنع في المساجد والكعبة المنع هنا!
4
وقد كان لهذا الخلاف أثره في الهبات ونوعها في القرون الأولى من الإسلام، وله اليوم أثره والحجاز في حكم الوهابيين، أما ما بين ذلك فقد بلغ التفاني في الهبات حدا سترى شيئا منه فيما نقص الآن عليك، وسترى منه مبلغ خطأ الحاج عبد الله برخارت.
فقد ظلت الحجرة وليس بها من الزينة إلا دفن الرسول وصاحبيه بها إلى أن ضمت للمسجد في سنة ثمان وثمانين للهجرة، ثم بقيت وليس بها إلا هذه الزينة، ومن حولها زخرف البناء البديع بعد أن ضمت للمسجد، بناها عمر بن عبد العزيز بالحجارة السوداء القوية زمنا طويلا، بعد ذلك ألف الناس أن يروا قناديل الذهب والفضة المعلقة حول الحجرة.
وفي ذلك يقول السمهودي ما نصه: «لم أر في كلام أحد ذكر ابتداء حدوث ذلك إلا أن ابن النجار قال ما لفظه: وفي سقف المسجد الذي بين القبلة والحجرة على رأس الزوار إذا وقفوا معلق نيف وأربعون قنديلا كبارا وصغارا من الفضة المنقوشة والسادة، وفيها اثنان بلور وواحد ذهب، وفيها قمر من فضة مغموس في الذهب وهذه تنفذ من البلدان من الملوك وأرباب الحشمة والأموال.»
وقد بقيت القناديل ومعاليقها ترسل إلى الحجرة أجيالا متعاقبة حتى بلغ من كثرتها أن رفع خدم المسجد بعضها ووضعوه بالقبة التي في صحن المسجد حتى اجتمع فيها منه شيء كثير، وظل الأمر كذلك إلى أن كان القرن التاسع الهجري إذ كان جماز بن هبة أمير المدينة عام 811 هجرية، في هذا الحين صدرت المراسيم بتولية ثابت بن نغير إمرة المدينة وأن يكون أمر الحجاز لحسن بن عجلان، ومات ثابت قبل توليته وشعر جماز بأن الأمر يفر من يده فأعلن العصيان، وأباح نهب بعض بيوت المدينة، وأهان شيخ خدام الحرم، ورفع عليه وعلى من معه السيف، وكسر باب القبة وأخذ جميع ما فيها من قناديل الذهب والفضة التي اجتمعت على تعاقب السنين من جميع الآفاق وفر بها ثم أخفاها وقتل، وقد وضع بعض علماء ذلك العصر قائمة بما نهبه جماز جاء فيها أن وزن ما كان بالحجرة من قناديل الذهب تسعة قناطير، وقد شجع جماز هذا غيره من المعتدين، فأخذ الأمير غرير بن هيازع بن هبة الحسيني الجمازي جانبا مما وضع بالقبة زنته سبعة عشر ومائة رطل من الفضة زاعما أنه على سبيل القرض، ثم فر به إلى القاهرة حيث مات مسجونا، وفي آخر سنة ستين وثمانمائة عدا عليها برغوث بن بتير بن جريس الحسيني، إذ تسور جدار المسجد ودخل بين سقفيه ونهب منه ما استطاع في ليال متكررة.
على أن ما حدث من ذلك لم يصرف المؤمنين عن إرسال الهدايا من الذهب والفضة من جميع أقطار العالم الإسلامي.
ولما آل الأمر إلى بني عثمان زادت هذه الهدايا نفاسة وقيمة، ويقول البتانوني في «الرحلة الحجازية»:
في مقابلة الوجه الشريف على جدار المقصورة حجر من الماس البرلنتي في حجم بيضة الحمام الصغيرة، يحيط به إطار من الذهب المرصع، ويقدرون ثمنه في ذاته بثمانمائة ألف جنيه، أما في شرف نسبته إلى الحجرة النبوية فقيمته أكبر من أن تقدر بثمن، ويسمونه بالكوكب الدري لشدة تألقه وعظيم سنائه وبهائه، وهو مثبت في لوحة من الذهب، ورصع محيطه بمائتين وسبع وعشرين قطعة من الجواهر الثمينة، وهذا الكوكب أهداه للحجرة الشريفة السلطان أحمد خان الأول ابن السلطان محمد خان من سلاطين آل عثمان في مبادئ القرن الحادي عشر الهجري، وقد علق تحته كف من الذهب المرصع بالجوهر، في وسطه حجر من الماس أصغر من الكوكب الدري، أهداه إليه السلطان مراد الرابع ابن السلطان أحمد الأول في سنة سبع وأربعين وألف للهجرة، وهناك لوح كبير من الذهب المنقوش فيه بخط جميل جدا بحجارة الماس البرلنتي: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أهدته إليها صاحبة السمو والعصمة عادلة سلطان بنت السلطان محمود سنة ألف ومائتين وإحدى وتسعين هجرية، وفي هذه الحجرة الشريفة غير هذا كثير من الجواهر الفاخرة التي لا تقدر بثمن، منها قطعة كبيرة على مثال الكردان مكتوب فيها بالماس اسم السيدة فاطمة الزهراء.
وبعد أن ذكر البتانوني ما هنالك من نفائس أخرى كمصاحف مجوهرة وشمعدانات من الذهب الخالص المرصع بالجواهر الكريمة ومكانس من اللؤلؤ، قال: وبالجملة فقد قدر ثمن ما للحجرة الشريفة من الذخائر بسبعة ملايين من الجنيهات.
لم تبق هذه النفائس اليوم بالحجرة، وليس يرجع ذلك إلى ما أخذه الوهابيون منها في غزوتهم الأولى للحجاز في أوائل القرن التاسع عشر المسيحي، فقد رد محمد علي باشا والى مصر الشيء الكثير مما أخذوا، وبقيت هذه النفائس التي ذكرها البتانوني، والتي رآها في أول العقد الثاني لهذا القرن العشرين، فلما كانت الحرب الكبرى وثار العرب بسلطان آل عثمان نقل الأتراك الكوكب الدري وقطعة الماس التي كانت معلقة تحته وأنفس نفائس الحجرة إلى الآستانة ولم ترد إلى الآن.
كنت واقفا أمام الحجرة يوما وأحد أصحابي يقص علي نبأ هذه النفائس وما سلب منها ويبدي لذلك أسفا ولوعة، وأطرقت مليا أسمع له، فلما أتم حديثه قلت: وهل أغنت هذه النفائس قبر النبي الكريم شيئا؟! نظر إلي الرجل بعينين واسعتين فتحهما وكأنهما ملئتا مما أقول عجبا، ولم يصدني عجبه ولا صدتني نظرته عن الاستطراد في بيان فكرتي فأردفت: «ما كان قبر محمد النبي العربي بحاجة إلى جواهر تضيء جوانبه وهو مضيء بالحقيقة العليا التي جاء بها صاحبه من عند الله هدى للناس ونورا، وليس البهرج الذي يخدع الناس به هو العبرة التي تلتمس في هذه الحجرة، وما سلب من جواهرها ولآلئها إنما سلب يوم أراد الله لدينه أن يعود فيملأ النفوس سموا على كل زينة وبهرج، وإنما العبرة الكبرى التي تملأ النفوس رهبة وجلالا، ويخشع أمامها القلب مهابة وإكبارا، فتلك ما تتحدث هذه الحجرة عنه من سيرة خاتم الأنبياء والمرسلين - عليه الصلاة والسلام، ومن سيرة صاحبيه ووزيريه وخليفتيه؛ أبي بكر وعمر، ومن وقف أمام الحجرة وشغل عن سيرة صاحب الرسالة وبلاغه إياها الناس، وعن سيرة صاحبيه وجهادهما في سبيل الله ليظل لواء الإسلام العالم كله وكان شغله عن ذلك بزخرف البناء وما كان فيها من تحف وجواهر، فقد فاتته العبرة ولم يبلغ من زيارة قبر الرسول ما يجب أن يجعله كل مسلم غايته من هذه الزيارة.»
وخلوت يوما إلى نفسي، وعدت أفكر في هذه الجواهر وفي إهداء أصحابها إياها إلى الحجرة وفي قوله - عليه السلام - لعائشة: «لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله.» أترى المسلمين اليوم ما يزالون حديثي عهد بكفر فلا ينفق أحد كنز الحجرة في سبيل الله؟! أوليس إنفاقه في هذه السبيل الكريمة خيرا من تركه تعدو عليه الأيدي ولا يفيد منه أحد شيئا؟ إن الذين وهبوه للحجرة التماسا للقربى قد بلغوا من هبتهم غايتهم، فحسب المرء أن ينفذ صادقا ما نواه مخلصا لتتم له نيته، فإذا خرج عمله أو ماله من يده وأصبح ملكا عاما فقد أصبح حقا لبيت مال المسلمين، يتصرف فيه صاحب الأمر ما يتصرف في بيت مال المسلمين؛ يجعل منه للحجرة وزينتها ما يتفق مع كتاب الله وسنة رسوله وإجماع المسلمين، وينفق سائره في سبيل الله.
ولو عرض الكوكب الدري بعد أن بقي في الحجرة النبوية زمنا ليحوزه من يقدر على ثمنه لأقبل أصحاب الملايين من أمراء الهند وغيرهم يتنافسون في اقتنائه ويبذلون فيه أضعاف قيمته، ويومئذ ينفق هذا المال في سبيل الله تيسيرا للحج أو إعلاء لكلمة الله ورفعا لمنار الإسلام، وما كان لأحد أن يغضب لذلك بعد إذ تكرر الاعتداء على نفائس الحجرة فسلبت غير مرة، هذا، وما دار بخلد النبي - عليه السلام - أن يكون قبره يوما من الأيام متحفا للجواهر، وهو الذي أراد أن ينفق كنز الكعبة في سبيل الله، لكن قوما رأوا هذه الهبات وقفا على الحجرة لا يجوز التصرف فيها بحال، فشرط الواقف عندهم كنص الشارع، وليس يجوز في رأيهم صرف شيء من قناديل الحجرة في عمارتها وعمارة المسجد، وعند كثيرين أن هذا غلو في تقديس إرادة الفرد بعد موته، والشرع الإسلامي الحنيف لا يجيز إرادة الإنسان إلا في حدود حياته.
ومهما يكن الرأي في ذلك كله فهذه الهبات أوضح شاهد على تطور التفكير الإسلامي إلى ناحية الأثرة، مع أن كتاب الله وأسوة رسوله كلهما الدعوة الخاصة للإيثار، وماذا يبتغي من يهب القناديل أو الجواهر للحجرة؟ إنه لا يريد بذلك سد حاجة للمسلمين، وآية ذلك أن القناديل كانت تبلغ من الكثرة أن تخزن قناطير الذهب منها في القبة التي تتوسط المسجد، وأن إضاءة الحجرة لا تقتضي هذا الذهب ولا هذه النفائس، إنما يهب الواهبون يبتغون القربى إلى رسول الله وشفاعته لهم عند ربه، هم لا يفكرون في المسلمين ولا في أخوتهم ومحبتهم حين يفتنون في زخرف هذه الهبات، وإنما يفكرون في أنفسهم، وكم من ملك أو أمير وهب النفائس ثم لم يصرفه ما وهب عن الاستبداد بغيره وابتزاز حقه والطمع في ماله، والطمع مع ذلك في شفاعة رسول الله من أجل ما قدم من قناديل الذهب أو نفيس الجواهر! هذه عقيدة تدهور إليها المسلمون مذ نسوا أن المرء مجزي بعمله، وأن قيمة العمل بالنية التي تبعث عليه، وأن هذا العمل أقرب إلى الله ما كان البر والتقوى والجهاد في سبيل الله.
عدت إلى التفكير في هذا التطور يوما إذ كنت بموقفي من الحجرة أستعيد أمام ذهني هذه الصورة الأخاذة بالنفس لأيام مرض الرسول ووفاته ودفنه، فقد أقبل رجل مندفعا نحو الحجرة كأنما أراد أن يلقي بنفسه على أبوابها وأن يقبل أعتابها، ودهشت لمرآه في اندفاعه بعد إذ حالت حكومة الوهابيين بين زوار الحجرة وما وراء السلام على ساكنها - عليه السلام، ومنعت أن يقبل الناس الأعتاب أو أن يتمسحوا بالمقصورة كما كانوا يفعلون من قبل، لما تراه في هذه الأعمال من مخالفة قواعد الإسلام الصحيح، دهشت حين رأيت هذا الرجل في تحمسه وفي اندفاعه، وأيقنت أن خدام الحجرة لا ريب مانعوه من غرضه، لكن الرجل لم يلق بنفسه إلى الأرض ولم يقبل الأعتاب، بل اندفع يدعو ويبتهل ويستغفر، ويطلب إلى رسول الله الشفاعة يوم الحساب، وكان يطلب ذلك في صوت مسموع وفي ضراعة وإنابة انهمل لهما دمعه وفاضت معنا عبراته، فلما فرغ من دعائه وتضرعه وابتهاله اقترب منه رجل يقول له: ألم تقرأ قوله - تعالى:
وما تجزون إلا ما كنتم تعملون ؟ أولست تعرف أن الحسنات يذهبن السيئات؟ فعليك بالحسنات يغفر لك الله من ذنوبك وتكن أعمالك خير شفيع لك، ووقف المستشفع مأخوذا؛ لأنه لم يكن يتوقع أن يسمع ما سمع، لكنه مع ذلك صاح حين أتم صاحبه كلامه: الشفاعة يا رسول الله! وانطلق إلى الروضة النبوية يلتمس أقرب مكان من منبر الرسول.
عدت إلى التفكير في تطور النفسية الإسلامية على أثر هذا المشهد، قلت في نفسي: ألا يغلو الذين يحولون بين زائر الحجرة وما سوى السلام على نبي الله ورسوله غلو الذين يتمرغون على أعتاب المقصورة يلتمسون العفو والمغفرة؟! إن هذا الموقف ليبعث في النفس من العبرة والذكرى ويثير فيها من معاني الحكمة العليا ومن أسباب الأسوة الحسنة ما لا يثيره موقف سواه، إننا نقف أمام قبور العظماء من فلاسفة وقواد وملوك وكتاب وحكماء فتحدثنا صفائحها بأبلغ ما تحدثنا عنه أكثر الكتب بلاغة وأدقها منطقا، ما بالك بهذا الموقف أمام قبر النبي العربي وما يبعثه إلى النفس من دواعي الحكمة والإيمان وحسن الرأي وجميل الأسوة؟! حسبك أنه منارة الهدى إلى التوحيد في قوة بساطته وصفاء جوهره، وإلى الإيمان بهذا التوحيد عن معرفة وبصيرة، وإلى سلوك سبيل العلم لبلوغ أسمى مراتب الإيمان بملاحظة خلق الله واستنباط سنته - جل شأنه - في الكون؛ ليكون لهذه الوقفة أمام الحجرة أبلغ الأثر في الحياة، أثر يجعلنا نسمو بأنفسنا فوق الزائل من المنافع العاجلة لهذه الحياة الدنيا لنحدق في الوجود وجها لوجه نبتغي فيه آية الله، ونرى خلاله أسرار عظمته - جل شأنه، أليس غلوا أن نمنع الناس من هذه الوقفة مخافة أن يغلوا في تقديس هذا القبر إلى حد العبادة؟! والذين يعبدون القبر أو صاحب القبر غلاة كذلك، ينكرون تعاليم صاحبه وما جاء به من عند الله فيشوبون صفاء التوحيد بما يصنعون ، ويشوهون جلاله بما لا يرضى الله ورسوله، تعالى الله عما يصفون.
ومثلت أمام ذهني صورة هذا الرسول الكريم يوم دفن بهذه الحجرة، فرأيته في أكفانه، ورأيت أبواب هذه الحجرة تفتح للمسلمين من ناحية المسجد فيدخلون فيلقون على نبيهم نظرة الوداع ويصلون عليه، هذا أبو بكر وهذا عمر يدخلان وقد امتلأت الحجرة بالمسلمين وهم يصلون صلاة الجنازة كما كان يصليها رسول الله على موتاهم، لا يؤمهم في صلاتهم أحد، ويتم القوم جميعا صلاتهم ويقفون صموتا كأن على رءوسهم الطير حتى يسمعوا أبا بكر يقول: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! نشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم النصر لدينه، وأنه وفى بوعده، وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.» وأبو بكر يتلو هذا السلام جملة جملة. والمسلمون يجيبون عند كل جملة آمين! آمين! في هيبة وخشوع، ويفرغ الرجال من صلاتهم ويدخل النساء ثم الصبيان من بعدهم، وهؤلاء وأولئك جميعا كل واجف قلبه، محزون فؤاده، يفري الأسى كبده لفراق رسول الله خاتم النبيين، ويساوره على دين الله أشد الخشية من بعده.
ترى كيف كان دفن أبي بكر إلى جانب النبي، وكيف كان دفن عمر إلى جانب أبي بكر؟! لقد مات أبو بكر في الثاني والعشرين من جمادى الأولى للسنة الثالثة عشرة من الهجرة، فتولت غسله ابنته أسماء يعاونها ابنه عبد الرحمن إجابة لرغبته قبيل وفاته، ثم إنه كفن في الأثواب التي مات فيها؛ لأنه أبى أن يكفن في جديد من الثياب، فالثياب الجديدة تنفع الحي، ونقله الصحابة من بيته إلى بيت ابنته عائشة، وصلى عليه عمر والمسلمون من حوله، ودفن إلى جوار رسول الله، رأسه عند منكبي صاحب الرسالة، ولقد مات عمر في السادس والعشرين من ذي الحجة في السنة السادسة والعشرين من الهجرة، فتولى صهيب والصحابة نقله من داره إلى دار عائشة حين دفن في جوار صاحبيه، ورأسه إلى منكبي أبي بكر، فصلى صهيب عليه، وأنزل عبد الله بن عمر جثمانه إلى مقره الأخير.
ما أبلغ العبرة في دفن خليفتي رسول الله الأولين في حجرته! وأول ما يدل ذلك عليه إجماع المسلمين على أنهما تأسيا بالرسول وسارا على نهجه وسنته، فحق لهما أن يكونا في جواره، وهما قد سارا على نهج الرسول وسنته في سياسة المسلمين، فنسي كل منهما نفسه وجعل وحدة المسلمين وعظمة الإسلام والجهاد في سبيل الله غرضه، لم يفكر أحد منهما حين خلافته في مال أو جاه أو سلطان يكون له أو لذويه وأهله، بل رأى فيما ولي من أمر المسلمين عبئا وواجبا ألقاه الله على عاتقه، فكان كل همه ألا تعلق به فيما ولي من ذلك ريبة من الناس ولا من نفسه، وأن يؤدي في ولايته لكل مسلم حقه، كان الفقر فخر كل منهما، كما كان فخر صاحب الرسالة، وكانت التقوى لباسهما ويجب أن تكون لباس كل مؤمن، وكان الحرص على رضا الله بطاعته غاية رجائهما، بذلك استقر الإسلام بعد أن قمع أبو بكر من حدثته نفسه بالخروج عليه، ثم مد عمر راية الإيمان على بلاد الروم والفرس بعد أن حسب الروم والفرس أن الله أورثهم إياها إلى يوم الدين، ونسوا أن الله إنما يورث الأرض من يشاء من عباده الصالحين.
بهذا سما أبو بكر وسما عمر، فحق لهما أن يجاورا رسول الله في جوار الله، فكانت للمؤمنين في ذلك عبرة أن من أطاع الله ورسوله وجاهد في سبيله التماسا للمثل الأعلى كان جديرا أن يسمو إلى مكانة المقربين، وأن يرقد رقدته الأخيرة في جوارهم، لقد سأل الوليد بن عبد الملك عن قبر عثمان يوم زار المدينة بعد أن ضمت الحجرة إلى المسجد فقيل له: «إنه مات في فتنة.» ولولا ذلك لدفن في الحجرة كما دفن أبو بكر وعمر، وقد يكون عجيبا ألا ترى عائشة دفنه بها وقد كانت مع معاوية بين المطالبين بدمه، ولكن لا عجب ، فلم يجمع المسلمون على تأسي عثمان بالرسول ما أجمعوا على تأسي الخليفتين الأولين به، ولو أنه فعل لسما سموهما ولحق له أن يرقد معهما في جوار رسول الله.
وما كان المسلمون ليأبوا عليه ذلك يومئذ لو أنهم أقاموا على سنة الرسول يؤثرون على أنفسهم، ويحرصون على العدل ولا يميل بهم الهوى، لكن سيرة الرسول تقتضي من يبتغي الأسوة فيها مجهودا إنسانيا كبيرا، تقتضيه أن يسمو على المادة، وأن يمحو من آثارها كل ما يغشى ضياء الروح، وأن يعالج ذلك بالمعرفة والعلم، وأن يثابر في هذه السبيل غير وان ولا قانع، فالقناعة فضيلة في طلب المادة، والونى دون الطمع في هذا الطلب خير، لكن أجواء السمو الروحي لا حدود لها، ودوام السمو فيها يقتضينا ألا نقنع بما بلغنا، وألا نني عن مواصلة الجهد لبلوغ غاية ما نستطيع منه، وهذا ما شغل المسلمون عنه من عهد عثمان بما شجر بينهم من خلاف.
اللهم إني أضرع إليك أن تهيئ لي وللمؤمنين في هذا السبيل - سبيل السمو الروحي - ما هيأت لمن ارتضيت من عبادك، وأن تيسر لنا اتباع رسولك الكريم؛ نتأسى به ونتبع سنته، ونسير في خطاه! اللهم إن هذه الحجرة التي أقف أمامها ألتمس فيها المثل والعبرة لتلهمني من ذلك ما أرجو أن تهديني صراطه، فهو صراطك المستقيم! اللهم بك العون فأعني، ومنك الرضا فارض عني! ربنا لا تحملني ولا تحمل إخواني المؤمنين ما لا طاقة لنا به! ربنا اعف عنا واغفر لنا وارحمنا، أنت مولانا وأنت نعم المولى ونعم النصير!
ظاهر المدينة
عد بذاكرتك إلى اليوم الثامن والعشرين من شهر يونية سنة 622م، ففي ذلك اليوم كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
قد بلغ من هجرته أن أصبح على أبواب يثرب لم يبق بينه وبينها غير ثلاثة فراسخ، أفيدخلها وليس يعلم ما أعده أهلها لمقدمه، وهو بعد متعب كصحابه ودليله بعد أن قضوا ثمانية أيام يحف بهم الخطر أثناء مسيرهم في الصحراء خلا ثلاثة الأيام الأولى التي قضاها مع أبي بكر في غار ثور؟ أيستريح إلى ظل جبل عير الذي يفصل بين البادية وبينها؟ هذا بريدة شيخ قبيلة بني سهم قد جاء يحييه ويذكر له أن أهل يثرب على أحر من الجمر في انتظاره، وأنهم يخرجون إلى أعالي الجبال والحرار كل يوم يتلمسونه بظاهر مدينتهم حتى تغلبهم الشمس على الظلال في هذه الأيام التي بلغ فيها القيظ حمارته، خير له مع ذلك أن يعدل إلى قباء على فرسخين من يثرب حتى يرى ما الله صانع به، وحتى يستطلع بنفسه جلية الأمر فيما هو مقبل عليه.
وتخطى الرجال الثلاثة جبل عير على رواحلهم في موضع تستطيع الإبل أن تتخطاه، فلما بلغوا ذروته وتنسموا نسيم أعاليه انكشف أمامهم سفحه المواجه يثرب، وامتدت أمام أبصارهم جنات النخيل والبساتين ذات الرواء والبهجة، ما أكرمك ربي! أية طمأنينة يبعثها هذا المنظر الساحر لنفوس أجهدتها المشقة، وقلوب لولا يقينها أن الله معها لانقبضت من الفزع طول هذه الرحلة! هذا وادي العقيق عن يسار عير تبدو فيه أمام النظر منازل هي للنظر أنس وسكينة، وتفصل بينه وبين يثرب حرة الوبرة، وهذه حرة واقم عن اليمين تفصل بين يثرب والعريض، وتقوم منازل بني قريظة وبني النضير أسفلها، وهذه قباء على مقربة من سفح عير تحيط بها البساتين تجري خلالها المياه متفجرة من الآبار فتزيدها رواء وبهجة، وأنس الرسول إلى هذا المنظر وود لو يطيل المكث فوق الجبل لولا حرصه على أن يتحرى أنباء بريدة وأن يعرف مبلغ الحق فيها، وانحرف القوم عن عير متجهين إلى قباء، فلما بلغوها ألفوا عددا غير قليل من المسلمين أسرعوا إليها يستقبلون نبي الله ورسوله وكلهم النشوة والجذل.
لقد انتظروه يومهم هذا كما انتظروه في الأيام التي سبقت، فلما غلبهم القيظ عادوا إلى منازلهم، وإنهم لكذلك إذ سمعوا يهوديا على أطم له يصيح بهم: يا بني قيلة هذا صاحبكم قد جاء، إذ ذاك أسرعوا إليه يسألونه! أين رآه، فأشار إلى ناحية قباء، وحث القوم إليها المسير حتى بلغوها قبل أن يبلغها محمد وأبو بكر ، فلما رأوهما أحاطوا بهما إلى دار كلثوم بن الهدم إذ نزل رسول الله كما نزل بها قبله كثيرون من المسلمين الذين سبقوه إلى الهجرة من مكة، ولما استقر به المقام ذهب أبو بكر إلى السنح على مقربة من قباء، فنزل بدار خارجة أحد زعماء الأوس، وفي قباء قضى رسول الله أربعة أيام يقيم الليل بدار كلثوم ويجلس معظم النهار بدار سعد بن خيثمة الأوسي، فيستقبل أنصار الله بيثرب يسألهم عن حالها ويفكر وإياهم في الانتقال إليها، وبينما هو في قباء بلغها علي بن أبي طالب قادما من مكة بعد أن أدى إلى أهلها ما كان لهم عند ابن عمه من ودائع، وفي أربعة الأيام التي أقامها النبي بقباء بنى مسجدها، وكان يعمل فيه بيده ويشاركه المسلمون، فلما اطمأن إلى أنباء يثرب دخلها وأهلها في لهفة وشوق لرؤيته بينهم، ودخلها على النحو الذي تعرفه والذي قصصته عليك في فصل «آثار المدينة».
هذا المسجد الذي بناه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بقباء هو أول بناء أقيم في الإسلام ليكون مسجدا؛ ولذلك اتفق جمهور المفسرين على أنه المسجد المقصود بقوله - تعالى - في سورة التوبة:
لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ، وإن ذكر بعضهم أن هذه الآية تتناول كذلك مسجد المدينة، واستند إلى أحاديث رواها تؤيد رأيه، وأولية هذا المسجد في الإسلام وقيامه بقباء، أول منزل للنبي بعد هجرته من مكة، يجعل لضاحية قباء ولمسجدها من المكانة في نفوس المسلمين ما يجعل زيارتها مستحبة يوم السبت من كل أسبوع، وكان الناس من أهل المدينة وزوارها يقومون بهذه الزيارة منذ قرون، وما زالوا كذلك يفعلون، وهم كانوا - لا ريب - ولن يزالوا يفعلونه تبركا بالمسجد والآثار النبوية التي به، أو التماسا للعبرة في آثاره.
والأثر النبوي الذي يذكرونه في مسجد قباء ولا يختلفون عليه هو مبرك الناقة، فالمتواتر أن هذا المسجد أقيم حيث بركت ناقة النبي أول ما بلغ قباء؛ والراجح أن يكون هذا صحيحا، ومؤرخو المدينة متفقون على أن دار كلثوم بن الهدم كانت منزل الرسول ودار سعد بن خيثمة التي كانت مجلسه كانتا تجاوران المسجد، وكانت الداران موجودتين ومعروفتين في عهد المطري في القرن الثامن، والسمهودي في القرن التاسع، ويذهب الأستاذ عبد القدوس الأنصاري في تعليل زوالهما وعفاء آثارهما الآن إلى أنهما بنيتا قبتين إشادة بهما وإبقاء لذكرهما، وأنهما كانتا تقومان حيث تقوم القبتان البيضيتان الواقعتان اليوم على اثني عشر مترا من جنوب المسجد، ورقعة المسجد كانت فضاء مجاورا لدار كلثوم بن الهدم مملوكا له، وكان قد جعله مربدا يجفف فيه التمر، فأخذه رسول الله وبنى به هذا المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، والذي ظل رسول الله يذهب إليه طول مقامه بالمدينة يذكر فيه هجرته وبلوغه منها مأمنه، ويذكر فيه دخول يثرب ونصر الله إياه فيها وإعلاء كلمة الله بانتشار الإسلام بين أهلها.
زرت قباء صبح السبت الثامن والعشرين من شهر مارس في صحبة بينهم الأستاذ عبد القدوس الأنصاري، وإن السيارة لتجري بنا في طريق واسع مستو إذ قال عبد القدوس: هذا طريق استحدثه فخري باشا عام 1336ه/1915م، لكنه سد بعد الغزوة الوهابية وظل مسدودا حتى اشتراه أمير المدينة اليوم عبد العزيز بن إبراهيم فوقفه طريقا لقباء، أما قبل ذلك فكان طريقها معوجا يتعرج من الشرق إلى الغرب وتحيط به نخيل صغار، كثيرا ما اختبأ فيها الأشرار فآذوا سالكيه، وأغلب الظن أن يكون رسول الله قد سلك هذا الطريق المتعرج بين قباء والمدينة، وأن يكون قد استمتع بجمال نضرته ومرأى المياه الجارية خلاله وبهوائه العذب الرقيق.
وبلغنا قباء ونزلنا أمام المسجد، ما أفسح رقعته! فهو مربع، ضلعه أربعون مترا، وما أعلى جدرانه وأمتنها! فهي تعلو الأرض قرابة ستة أمتار، وتدعمها دعائم مبنية وراءها تزيدها قوة، وتخطينا باب المسجد فإذا صحن مكشوف فرش بالحصباء تتوسطه قبة يقابلها محراب، قيل: إنها أقيمت حيث بركت ناقة النبي، ويسمونها لذلك مبرك الناقة، وزوار المسجد يقفون عندها يعيدون من الأدعية ما يتلوه «المزورون» عليهم، وفي جانب من الصحن بئر تنسب لأبي أيوب الأنصاري، لم أعرف لنسبتها له سببا مذكورا في التاريخ، وإن روى عنها المزورون الروايات المختلفة، وعلى يمين الداخل من الباب جانب مسقوف ممتد طول ضلع المسجد ويزيد عرضه على عشرة أمتار، في هذا الجانب يقيم الناس الصلاة، وفيه تقوم عمد وقباب، ويفرشه حصير نظيف، ويتوسطه محراب هو قبلة المصلين، وفي نهاية الجدار الذي يقوم فيه هذا المحراب محراب آخر يقال له: طاقة الكشف، والمزورون يذكرون أن النبي رأى الكعبة من موضعه، وهذا قول ينكره الحس، وبين قباء والكعبة أكثر من ثلاثمائة ميل؛ ولذلك يقول صاحب «مرآة الحرمين»:
وفي المسجد موضع يقال: إنه طاقة الكشف يزوره الناس، ولا أدري كشف أي شيء.
ليس يشبه هذا البناء الذي نراه اليوم ذلك المسجد الذي بناه الرسول بقباء؛ فقد كان ذلك المسجد الأول من اللبن والجريد، فلما كانت خلافة عثمان بن عفان جدده وزاد فيه على نحو ما جدد المسجد النبوي وزاد فيه، وكما هدم عمر بن عبد العزيز المسجد النبوي وشيده بناء بالغا غاية الروعة، هدم كذلك مسجد قباء ووسعه وبالغ في تنميقه، وأقام له مئذنة، وجعل له رحبة وأروقة، وفي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة عمره أبو يعلى الحسيني وكتب على حجر يوجد اليوم فوق محراب طاقة الكشف: «بسم الله الرحمن الرحيم
إنما يعمر مساجد الله
الآية. أمر بعمارة مسجد قباء الشريف أبو يعلى أحمد بن الحسن بن أحمد بن الحسن - رضي الله عنه - ابتغاء ثواب الله وجزيل عطائه في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.» وأحدث عمارة في هذا المسجد أجراها السلطان محمود الثاني سنة ألف ومائتين وخمس وأربعين، ونقش تاريخها في حجر لا يزال على بابه.
على مقربة من المسجد مقبرة يزعمون أن مسجد الضرار الذي ورد ذكره في القرآن كان يقوم موضعها، ويذكرون أنها اليوم مقبرة الشيعة والرافضة والنخاولة، ونسبة مسجد الضرار إلى هذا المكان وهم، وحسبك أن تعلم أن مسجد الضرار الذي أحرقه رسول الله كان بذي أوان شمال المدينة ، وأن قباء في أقصى جنوبها، لتدفع هذا الوهم.
قل من يعنى بهذه المقبرة وما يروى عنها، وإنما يعنى الزائرون ببناء مظلم يجاور مسجد قباء ويسميه بعضهم مسجد علي، ويروي الأكثرون أنه دار زوجه فاطمة ابنة الرسول، ويزيرون الناس حجرا في داخله يقولون: إنه الرحا التي كانت فاطمة تطحن بها الحنطة، وليس لهذا الكلام سند من الثبوت العلمي، وإن كان في روايته من الخير أنه يعلم الناس شرف العمل اليدوي وخدمة المرء نفسه والمرأة بيتها.
فأما الأثر الثابت بقباء ثبوت المسجد، والذي يسترعي لذلك الانتباه والعناية، فبئر أريس، ومنبع العين الزرقاء، وهما يقعان قبالة باب المسجد وعلى مقربة منه، ويلفتان مثله نظر الباحث المحقق كما يلفتان نظر الزائر المتبرك، فأنت ترى أمامك قبة تحسبها مزار ولي أو صحابي، وتعجب كيف لم يهدمها الوهابيون؟! ثم تسمع حين تسأل عنها أنها قائمة على بئر أريس، وترى إلى جانبها قبة أخرى ذات محراب بها طاقة تطل على البئر ويستقى منها، فماء البئر عذب سائغ والزائرون يشربونه تبركا لما يقال لهم من أنه كان أجاجا فتفل النبي فيه فعذب، وهذه رواية لم يثبتها ثقات المحدثين، ونفاها نقاد الحديث ولم يتجاوز عنها إلا أقلهم.
ولهذا القول الضعيف تسمى بئر أريس بئر التفلة، وهي تسمى كذلك بئر الخاتم، لما يقال من أن خاتم رسول الله سقط فيها، ورواية سقوط الخاتم ليست منسوبة إلى النبي، فقد بقي هذا الخاتم في حياته وطول خلافة أبي بكر وعمر، وفي السنة السادسة من خلافة عثمان سقط الخاتم من يده في هذه البئر؛ بئر أريس، وعبثا بحث الباحثون عنه لاستخراجه منها.
وقد أضيفت بئر أريس بعد ذلك إلى العين الزرقاء الواقعة في جوارها، كما أضيفت إليها بئر الرباط وبئر بويرة، ومياه الآثار تحدث حين انحدارها في العين الزرقاء دويا كدوي الشلالات؛ ولذلك يسميها أهل المدينة شلالات العين الزرقاء.
هذه هي البقعة التي نزل بها رسول الله أول ما بلغ يثرب حين مهاجره من مكة، وتحيط بها إلى مرمى النظر من كل جانب طبيعة متفاوتة الألوان تصف ظاهر المدينة وتعيد إلى الذاكرة صورة من تفاوت حظها، ذكرنا ما يراه القائم بأعلى عير من هذا المحيط ، إذ يرى يثرب أمامه ووادي العقيق إلى يساره ممتدا غرب المدينة فيما وراء حرة الوبرة إلى ما بعد بئر رومة في شمالها، والعريض وعوالي المدينة إلى يمينه من شرق حرة واقم، وهناك في الشمال من أقصى المدينة أحد، وتبدو هذه الأودية منحدرة من الجنوب إلى الشمال تسيل في انحدارها مياه الأمطار، فتجعل منها جنات ذات زرع زاهي الخضرة، وبساتين تنبت من الفاكهة ما لذ وطاب، إلا التفاح والكمثرى مما لا يجود في البلاد الحارة، لقد كان وادي العقيق حتى هاجر رسول لله إلى المدينة ممرعا بالمزارع ذات البهجة، فلما انتشر الإسلام وامتد لواء عاصمته إلى مصر والروم والفرس وانهالت الأموال إلى المدينة أصبح العقيق قصورا كله، يفاخر في ترف الحضارة قصور بزنطية ورومية، ولقد كانت عوالي المدينة زاهرة عامرة بعد أن أجلي اليهود عنها وأصبحت خالصة للمسلمين، بها منازل بني عبد الأشهل وبني معاوية، حولها البهاء والنضارة والرواء، فلما تنكر الحظ للمدينة بعد أن تركها أبناؤها الأولون ليقيموا بدمشق وبغداد والقاهرة؛ ولينعموا في رياض الأندلس بما حسبه آباؤهم في العهد الأول حلما من الأحلام، بدأت قصور العقيق تندك، وبدأت نذر التدهور تمد يدها القاسية المدمرة إلى كل ناحية من المدينة.
وأنت اليوم لا ترى في طريقك إلى قباء من غراس أو بساتين تلفت النظر بعض ما ترى من يباب بلقع لا زرع به ولا ثمار، ومتى كانت الأرض تأخذ زخرفها وتزدان لقوم هجروها فلم يعكفوا على استغلالها والإفادة من خصبها مكتفين بأن يعيشوا كلا على غيرهم لا يأتون بخير من سعيهم ودأبهم.
وهذه المنطقة بين قباء والمدينة من أخصب مناطقها، بل لعلها أخصبها؛ وهي لذلك تثمر جل فاكهتها وخضرها؛ ومن ثم كانت متنزه المدينة ومصحها في مختلف العصور، يخرج إليها الناس للتروض، ويقيم بها الناقهون استعادة للنشاط والقوة، ولقد كان رسول الله كثيرا ما يخرج في أصحابه إليها ، فهي قد تركت في نفسه أجمل الأثر مذ نزل أول مهاجره بها، فلما أزمع إذ ذاك الانصراف إلى المدينة سار في مظاهرة من المسلمين متخطيا بئر أريس بوادي رانوناء متجها إلى وادي بطحان فنخيل يثرب، وإنه لبوادي رانوناء إذ أذنت صلاة الجمعة، فنزل فصلاها بمن معه، وذكرا لهذا الحادث أقيم على طريق قباء مسجد الجمعة، يقوم اليوم على يمين الذاهب من قباء إلى المدينة، وكان موضع هذا المسجد يوم صلى به النبي واقعا في منازل بني سالم من الأنصار، ولا تذكر كتب التاريخ المدونة أول من بنى هذا المسجد، أما بناؤه الحالي فأقامه بايزيد السلطان العثماني الذي تولى السلطنة من سنة 886 إلى سنة 918 هجرية، يدل على ذلك نقش لا يزال موجودا على حجرين من الرخام الأبيض مثبتين في جداره، وقد عفت الأيام على منازل بني سالم وتركت المسجد يقوم اليوم في أرض مهملة إلا من بستانين قلت العناية بهما، يقع أحدهما في شماله، والآخر في جنوبه.
ذكرت في فصل «آثار المدينة» ما حدث حين دخول النبي إليها بعد صلاة هذه الجمعة وخطبته فيها، فلا حاجة إلى العود لذكره، وإنما أقف هنا فيما بين قباء ومسجد الجمعة ليحدثني الأستاذ عبد القدوس عن أطم الضحيان وحصن كعب بن الأشرف، يقع أولهما على مقربة من قباء إلى ناحية الغرب، ويقع الآخر إلى ناحية الشرق وبينه وبين قباء أربعة أمثال ما بين الضحيان وبينها، وذكرت لحديث الأستاذ عبد القدوس ما كان بيثرب حين هجرة الرسول إليها من آطام وحصون تحميها غائلة المعتدين عليها، وتجعل عبد الله بن أبي ابن سلول يقول إذ يتحدث القوم في أمر قريش قبيل غزوة أحد: «لقد كنا يا رسول الله نقاتل فيها، ونجعل النساء والأطفال في هذه الصياصي، ونجعل معهم الحجارة، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية، فإذا أقبل العدو رمته النساء والأطفال بالحجارة وقاتلناه بأسيافنا في السكك، إن مدينتنا يا رسول الله عذراء ما فضت علينا قط، وما دخل علينا عدو فيها إلا أصبناه.»
وشاقني أن أرى هذه الحصون والآطام كيف كانت؟ وانطلقت بنا السيارة حتى كنا عند أطم الضحيان، فإذا أحجار سود من حجارة الحرار مركوم بعضها فوق بعض، ولم يبق من الأطم إلا جدار هو القائم يحدث سمكه وارتفاعه عما كان عليه من عظمة وقوة ومنعة، وهو بالغ الدلالة على ذلك كله، يبعث ما بقي منه إلى النفس رهبة ومهابة، تسلقنا بعض هذا الجدار السميك ورميت بنظري إلى الفضاء حولي، فخلتني أرى ما كان عليه من قبل بما تبينت من نوع عمارته، تدل عليها الآثار القليلة الباقية منه، وهبطت أسأل عن حصن كعب بن الأشرف، فعلمت أنه ليس خيرا من هذا الأطم صيانة، وأن ما بقي من آثاره لا يزيد عما بقي من الضحيان، على أن كعبا وحصنه أثارا في ذاكرتي مقتل الرجل على عهد الرسول، في حين لم يثر الضحيان شيئا أعرفه، فقد كان كعب عدوا للمسلمين شديد اللدد في عداوته، يهجوهم ويرسل فيهم الأشعار ويعيبهم بمقذع القول، هنالك ائتمر به جماعة من شبان المدينة، فاحتالوا عليه واستدرجوه ليلا من حصنه وقتلوه، وكعب هو الذي قال بعد غزوة بدر ومقتل سادات قريش بها: «والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها.» وهو الذي ذهب إلى مكة يحرض على رسول الله، وينشد الأشعار ويبكي أصحاب القليب؛ قليب بدر، وهو الذي رجع بعد ذلك إلى المدينة وجعل يتشبب بنساء المسلمين، ومقتل كعب هو الذي أدى إلى حصار بني قينقاع وإلى تجويعهم فتسليمهم وإجلائهم عن المدينة.
وليس يسعني وأنا الآن في طريق قباء إلى المدينة أن أغفل الحديث عن مشربة أم إبراهيم، ولست أخفي ما كان بي من شوق إلى زيارة هذه المشربة والوقوف بها مذ نزلت المدينة، ولا عجب، فأم إبراهيم هي مارية القبطية، وهي المصرية التي بعث المقوقس بها وبأختها سيرين هدية لرسول الله حين بعث رسول الله إليه يدعوه إلى الإسلام، أما وهي ابنة وطني مصر، وهي التي وصلت بين وطني ونبينا - عليه أفضل الصلاة والسلام - بصلة خالدة على التاريخ إذ ولدت له ابنه إبراهيم، وهي التي أبقت لذلك في مدينة الرسول آثارا يزور الناس جميعا؛ منها قبر إبراهيم بالبقيع؛ فلا جرم أن أحرص - أنا المصري الصميم - على زيارة المكان الذي اختاره الرسول مقاما لمارية، والذي كان مقامه كلما ذهب إليها، والذي شهد عبراته تتساقط يوم مات إبراهيم حزنا وجزعا، ولا جرم أن يكون بي إلى هذا المكان هوى لا يشعر به غيري ما أشعر أنا به.
ومشربة أم إبراهيم تقع بالعالية من ضواحي المدينة، وقد يكون تجوزا نسبتها إلى قباء وطريقها، فأنت تسير إليها من المدينة سالكا طريق قباء حتى تبلغ ملتقى وادي بطحان بوادي رانوناء؛ إذ ذاك تتياسر مع وادي بطحان متجها إلى شرق المدينة ميمما وادي مذينب ووادي مهزور، والعوالي تقع بين هذين الواديين، هناك يأخذ بنظرك مسجد قائم بين خضرة نضرة وزرع بهيج، وبيئة طبيعية تثير في النفس ذكرى البيئة المصرية، وهذا المسجد يقوم اليوم حيث كانت تقوم المشربة في عهد رسول الله.
أفأقامت مارية بالمشربة مذ أهداها المقوقس إلى رسول الله، أما أقامت بها بعد مولد إبراهيم أو قبيل ذلك بعد الحمل به؟ لم يرد عن ذلك نبأ صريح، وكتاب السيرة الذين يجيبون عن هذه المسائل يذهبون في جوابهم مذهب الظنون، وأحسب مارية أقامت بالمشربة بعد قليل من مجيئها من مصر، وأنها ظلت بعد ذلك بها، وأحسبها أقامت بها قبل أن تسلم، فهي إنما أسلمت بعد حملها - أو بعد مولد إبراهيم - ولذلك لم تضم إلى أزواج النبي، ولم تكن أول أمرها بين أمهات المؤمنين، فلم تبن لها حجرة إلى جانب حجراتهن، ولعل النبي حباها بها إكراما لها؛ لأنه
صلى الله عليه وسلم
كان كريم الطبع؛ ولأن مارية كانت يومئذ نصرانية، وأقرب الناس مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى، ولعله اختار لها هذا المكان مقاما؛ لأنها ألفت فيه شبها بطبيعة بلادها.
ونمط مسجد المشربة كنمط مساجد مكة والمدينة التي أقيمت للذكرى لا للصلاة، وهو خير في بنائه وفي صيانته من كثير من المساجد التي من نوعه، وفي صحنه إلى جوار الجدار المقابل للمحراب بئر ما يزال الماء بها، لكنها لم تبن فوهتها، ولم تعلق عليها دلو ، مما يدل على أن ماءها غير مأثور للشرب ولا للتبرك.
أقمت طويلا عند مسجد المشربة، ودرت حوله من نواحيه جميعا، وحاولت أن أصور لنفسي تلك المصرية التي سكنت هذا المكان كيف كانت، وهل كانت تعيش ها هنا كما كانت تعيش في مصر؟ أما أنها آثرت حياة أهل المدينة فسارت سيرتهم ونسجت على منوالهم؟ وإن المؤرخين ليذكرون أنها كانت جميلة، حلوة القسمات، قمحية اللون، يتوج رأسها شعر أسود متموج، وأنها كانت تعيش في مشربتها بين الحدائق التي أهداها مخيريق إلى الرسول بعد جلاء بني النضير عن المدينة، عيش طمأنينة ونعمة، أما بعضهم فيذكر أنها أقامت أول عهدها في دار بالمدينة تجاوز حجرات النبي، وأنا لم تنقل إلى المشربة إلا بعد مولد إبراهيم، وحين ظاهرت حفصة وعائشة على النبي بعد أن عادت حفصة يوما من دار أبيها فوجدت مارية في بيتها مع النبي، وهذا قول مرجوح؛ لأن مارية لم يعرف لها بالمدينة بيت قط، ولأن مظاهرة حفصة وعائشة لا ترجع إلى سبب واحد.
1
على مقربة من مسجد المشربة يقع مسجد الفضيخ شرق قرية العوالي، وهو أوسع رقعة من مسجد مارية ومن كثير من المساجد الأثرية، له شرفات وخمس قباب، ومحراب يجاوره منبر من حجارة يرتفع عن الأرض درجتين، وقد سمي هذا المسجد الفضيخ لما يروى من أن أبا أيوب أراق به الفضيخ، وهو خمر التمر، إذ بلغه وهو في نفر من أصحابه نزول تحريمها، ويسمى هذا المسجد كذلك مسجد الشمس؛ لأن الشمس تطلع عليه أول شروقها، وهو مسجد مأثور لصلاة النبي بموضعه ست ليال حين حصاره بني النضير.
ليس يقابلك إذ تسير شرق الخندق من ظاهر المدينة أثر غير ما قدمنا خلا مسجد بني ظفر ومسجد الإجابة، وقد ذكرنا مسجد الإجابة حين تحدثنا عن آثار المدينة، أما مسجد بني ظفر فيقع شرق البقيع، ويؤثر عنه أن رسول الله أتى بني ظفر فجلس على الصخرة التي في مسجدهم في جماعة من أصحابه وأنه أمر قارئا فقرأ حتى أتى على هذه الآية:
فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا ، فبكى رسول الله وقال: «أي رب! شهيد على من أنا بين ظهرانيه! فكيف بمن لم أره؟!» ويذكر صاحب مرآة الحرمين أن هذا المسجد يسمى كذلك مسجد البغلة لوجود أثر بجوار المسجد في حرة واقم يزعم المزورون أنه لحافر بغلة النبي، كما يزعمون في تأويل انخفاض في حجر هناك أن رسول الله اتكأ في هذا المكان بمرفقه فترك في الحجر هذا الأثر، كما تركت أصابعه أثرا في حجر آخر، ويضيف إبراهيم باشا رفعت: «ولم يثبت شيء من ذلك، وإنما هو محض افتراء زوره المرشدون للآثار ليستدروا بذلك أموال الدهماء.»
تقع هذه الآثار كلها بحرة واقم، والحرة كما أسلفنا منطقة سوداء من الحجارة المحترقة اختلط بها أكثر الأمر حمم بركاني، وحرة واقم تحد المدينة من الشرق كما تحدها حرة الوبرة من الغرب، ولقد كانت واقم أكثر عمرانا من الوبرة أول ما جاء رسول الله إلى المدينة، كانت منازل اليهود من بني النضير تقع في جنوبها ويليها إلى الشمال منازل بني قريظة منهم؛ ثم كان بها ثلاثة منازل للأوس: منازل بني ظفر واقعة إلى الشمال من وادي مهزور، ومنازل بني عبد الأشهل في أوسط الحرة، ومنازل بني حارثة في شمالها، وفي منازل بني عبد الأشهل كان يقوم في حصنهم واقم الذي سميت الحرة باسمه، وقد ترك أصحاب هذه المنازل من اليهود والأوس آثارا في الحرة تدل على حضارة ونظام؛ تركوا بها آثار مصانع وصهاريج مياه لم يبق منها اليوم إلا أطلال دوارس، ولا عجب، وقد كانت هذه الحرة ميدان حرب مذ استقر الإسلام بالمدينة، حاصر رسول الله بني النضير في منازلهم بها وقد ائتمروا به ليقتلوه، وذلك حين خرج إليهم بعد مقتل كعب بن الأشرف يريد أن يقر السلم باحترام عهد الموادعة بينه وبينهم، وقد أدرك ائتمارهم فانسحب من ديارهم، وأرسل إليهم محمد بن مسلمة يبلغهم: «أن رسول الله أرسلني إليكم أن اخرجوا من بلادي، لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي، لقد أجلتكم عشرا، فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه.» وتحيرت بنو النضير ما تصنع، ثم انتهت بتحريض عبد الله بن أبي إلى عدم النزول على حكم هذا الإنذار النهائي الذي أبلغ إليهم، هنالك حاصرهم المسلمون وقاتلوهم عشرين ليلة وقطعوا نخيلهم، فلما بدا لهم اليأس من المقاومة سألوا محمدا أن يؤمنهم حتى يخرجوا من المدينة، وخرجوا منها تاركين وراءهم مغانم كثيرة.
وحاصر رسول الله بني قريظة بعد أن نقضوا عهده وغدروا به وانضموا إلى الأحزاب في غزوة الخندق، فلما تولى الأحزاب عن المدينة بعد أن خلع الإعصار خيامهم وقلوبهم، قاتل المسلمون بني قريظة في منازلهم خمسا وعشرين ليلة حتى سلموا وحكموا سعد بن معاذ في مصيرهم، فحكم بأن تقتل المقاتلة، وتقسم الأموال، وتسبى الذرية والنساء، وكذلك كان.
من بعد ذلك ظلت المدينة آمنة إلى مقتل عثمان، ثم بدأت الثورات والحروب الداخلية بين علي ومعاوية، فلما قتل علي بالكوفة وانقضى عهد معاوية وتولى يزيد ابنه إمارة المؤمنين انتقض عبد الله بن الزبير والحسين بن علي، وأقام عبد الله بن الزبير بمكة وبايعه الهاشميون، فجهز يزيد لمحاربته جيشا مؤلفا من اثني عشر ألفا من الفرسان وخمسة آلاف من المشاة وجعل على رأسهم مسلم بن عقبة المري، وبلغ مسلم المدينة سنة ثلاث وستين فوجدها محصنة حولها الخندق، لكنها لم تقاوم غير أربعة أيام ثم سلمت، وكانت هذه وقعة الحرة المشهورة في التاريخ الإسلامي، وإنما سميت هذه الوقعة الحرة؛ لأن جيوش يزيد جاءت من حرة واقم.
تحد هذه الحرة المدينة من الشرق وتحدها حرة الوبرة من الغرب، وتبدأ حرة الوبرة قبالة قباء من الجنوب عند ذي الحليفة؛ ميقات الإحرام لأهل المدينة، وأول الطريق منها إلى مكة، وليس بذي الحليفة اليوم غير بئر ومسجد؛ بئر توضأ منها رسول الله وتوضأ منها المسلمون للإحرام للعمرة والحج عام الحديبية وعام الوداع، ومسجدها قائم بالمكان الذي كانوا يصلون فيه للإحرام، والمسجد القائم اليوم أثري لا يتسع لمائة أو لمائتين من المصلين، وبه محراب كتب أعلاه :
بمسجد سيد الأبرار كرر
سجودك بالغداة وبالعشي
لعلك أن تمس بحر وجه
مكانا مسه قدم النبي
وكتب كذلك: «بات رسول الله
صلى الله عليه وسلم
مبدأه، وصلى بمسجدها.» في صحيح مسلم عن ابن عمر، وفي الصحيح أن مبدأه أي: في أول حجة له.
وأغلب الظن أن تكون هذه الكتابة قد نقشت بأعلى المحراب في عصر متأخر من عصور الانحلال، فهذا البيتان من الشعر يدلان على ذلك بلفظهما ومعناهما.
وعلى مقربة من مسجد ذي الحليفة آثار لجدران ذكر لي الأستاذ عبد القدوس الأنصاري أنها جدران مسجد المعرس، وأن هذه الجدران بقيت مطمورة إلى أن كشف عنها السيل عام 1352ه، وأن المأثور أن هذا المسجد كان يعرس به النبي، أي: يبيت به عند عوده من مكة، ولم أعن نفسي بالبحث في صحة هذه الرواية.
وطريق المدينة إلى ذي الحليفة مستو يحاذي حرة الوبرة، يبتعد عنها حينا ويقترب منها حينا آخر، ويقف الكثيرون أثناءها عند بئر عروة يستقون من مائها العذب الرقيق، بلغ من عذوبته ورقته أن كان حكام المدينة يهدون منه للملوك والأمراء وكبار المسلمين، ويقال: إن مياه هذه البئر تصلح الكلى، ولعلهم في ذلك غير مخطئين، وهي تنسب إلى عروة بن الزبير، وإن ذكر الأستاذ عبد القدوس في كتابه «آثار المدينة المنورة»: أن رجلا له مقهى إلى جانبها يذكر جهلا منه أن عروة امرأة يهودية هي التي حفرت البئر.
بأعلى حرة الوبرة من ناحية الشمال مسجد وبئر مأثوران، ومأثوران بحق؛ ذلك مسجد القبلتين، وتلك بئر رومة، أما مسجد القبلتين فيقع على ربوة مرتفعة من الوبرة، وهو من طراز مساجد مكة التي لا يصلى فيها، وبه محرابان محراب داخل الجانب المسقوف منه يتجه إلى الكعبة، أي: إلى الجنوب، ومحراب في الجانب المكشوف يتجه إلى بيت المقدس، أي: إلى الشمال، والمأثور أنه
صلى الله عليه وسلم
صلى في هذا المسجد إلى بيت المقدس حتى أمره الله أن يجعل الكعبة قبلته، وذلك على رأس سبعة عشر شهرا من هجرته إلى المدينة، وحين نزل قوله - تعالى :
قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ، وقد كان تحول القبلة إلى الكعبة بعض ما زاد في خصومة اليهود والمسلمين، حتى لقد ذهبت يهود إلى محمد يسألونه أن يعود إلى قبلتهم فيتبعوه فأبى؛ فهو لم يحول الكعبة عن هوى منه بل إجابة لأمر ربه.
أما بئر رومة فكانت ليهودي تسمت باسمه، وكان يبيع ماءها للمسلمين، فاشتراها منه عثمان بن عفان إجابة لرغبة رسول الله، ودفع له فيها عشرين ألف درهم، وهي تقع بمجتمع أسيال المدينة، إذ تلتقي بطحان ورانوناء في مسيل العقيق ثم يتصل بها مسيل قناة.
وهذه بئر مقصودة حتى اليوم، أقيم عليها بناء أمامه بركة يسير فيها ماؤها عذبا سائغا للشاربين، وتتدفق إلى حيث تروى المزرعة المحيطة بالبئر وبالبناء القائم في جواره، وقد يكون تجوزا أن يسمى هذا البناء مسجدا وإن كان الناس يصلون فيه، فهو ليس كهيئة المساجد في عمارته، بل هو أدنى إلى أن يكون إيوانا مشرفا على البركة والبئر والمزارع حولهما.
تفصل حرة الوبرة بين المدينة ووادي العقيق، وإذا ذكر العقيق من أودية المدينة نسي الناس كل واد للعقيق سواه، فقد كان له في أنباء التاريخ من الذكر ما جعله وادي النعمة وخفض العيش والترف، يترنم الشعراء بمحاسنه، ويقص الرواة أنباء ما انطوت عليه قصوره، كان هذا الوادي الخصب الدافق بجداول المياه وبالعيون والآبار خاليا من البناء لما قدم النبي المدينة، وقد أقطعه بلال بن الحارث المزني بحجة نصها: «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى محمد رسول الله بلال بن الحارث؛ أعطاه من العقيق ما أصلح فيه معتملا. وكتب معاوية.» ولم يصلح بلال من العقيق شيئا، فلما كانت خلافة عمر نزعه منه وأقطعه للناس، وترك له قسما صغيرا لعله يصلحه، ولم يكد عمر يفعل حتى تنافس الذين ملكوا العقيق في غرسه بساتين وجنات جعلته بهجة للناظرين، وتدفقت أموال الفتح في عصر الدولة الأموية، فبدأت القصور تقوم في عرصاته تزري بقصور الشام وما افتن الرومان في تشييده منها، وأصبح العقيق بذلك ضاحية الكبراء المترفين، ولا تزال آثار قصر سعيد بن العاص القائم بالشمال الغربي منه تشهد بذلك وتدل عليه، وكان هذا القصر مبنيا بالحجارة المطلية بالجص من الداخل والخارج بناء أبقت متانته من آثاره ما نرى منه اليوم، وكانت تحيط به بساتين غناء ورياض ممرعة ونعمة وارفة الظل؛ حتى لقد قال أبو قطيفة الشاعر يصفه ويفضله على قصور دمشق وبساتينها ورياضها:
القصر فالنخل فالجماء بينهما
أشهى إلى النفس من أبواب جيرون
وجيرون: دمشق، وسعيد بن العاص صاحب القصر كان أميرا للمدينة في عهد معاوية، فهذا القصر يرجع إذن إلى أكثر من ثلاثمائة وألف من السنين، وقد جعله سعيد موضع رياضته ونزهته وكان يدعو إليه أصحابه وندماءه ينعمون فيه بالحياة كخير ما ينعم إنسان بين الرياض الفيحاء والبساتين الغناء ومفاتن الفن المختلفة التي نافس بها أجمل قصور الشام.
وإنما كان قصر سعيد واحدا من قصور العقيق الكثيرة التي جعلها أصحابها مرابع ترف وجنات نعيم، كان به قصر عروة بن الزبير على مقربة من بئره، وقصر سكينة بنت الحسن وكان يسمى الزينبي، وقصر مروان بن الحكم، وقصر عبد الله بن عامر، وقصر جعفر بن سليمان، وقصر إبراهيم بن هشام، وغيرها من القصور الكثيرة القائمة بين بساتينه وآباره ومزارعه وجماواته، وجماوات العقيق مرتفعات سود كبار قائمة على شفيره الغربي دون الجبال وفوق الهضاب، وأقرب هذه الجماوات إلى المدينة جماء تضارع القريبة من بئر عروة، وتجاورها جماء أم خالد وتكاد تتصل بها من ناحية الشمال، أما جماء عاقل فتبعد عنها إلى الشمال كذلك، وهي أقرب الجماوات إلى قصر سعيد بن العاص.
بدأنا الحديث عن ظاهر المدينة من جنوبها حيث تقع قباء في سفح عير، وتناولنا الشرق موقع حرة واقم، والغرب موقع حرة الوبرة ووادي العقيق، ونحن في غنى عن أن نتناول بالقول شمال المدينة، فشمالها أحد يفصل بينها وبين وادي قناة، وقد تحدثنا عنهما حين حديثنا عن قبرة حمزة، وهذا التحديد لظاهر المدينة يرسم أمامنا صورة منها ومما يحيط بها من نواحيها الأربع، ويفسر لنا الأحاديث المنسوبة إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
في تحريمها كحرمة مكة، فقد روي أنه قال: «إن إبراهيم حرم مكة ودعا لأهلها، وإني حرمت المدينة كما حرم إبراهيم مكة.» أو قال: «إن إبراهيم حرم مكة وإني حرمت المدينة ما بين لابتيها لا تقطع عضاهها ولا يصاد صيدها.» أو قال: «إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم إبراهيم مكة.»
وجبلا المدينة المقصودان هنا هما: عير وأحد، أو عير وثور الواقع وراء أحد ليدخل أحد في الحرم، ولابتا المدينة هما الحرتان: واقم والوبرة، ولسنا نقف بطبيعة بحثنا عند مناقشة ما قيل في إثبات هذه الأحاديث أو نفيها، وفي حرمة المدينة أو عدم حرمتها، ولا نريد أن نضع هذه الأحاديث إلى جانب خطاب النبي على أثر فتح مكة إذ قال: «إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة.» لنقول: إن حرمة مكة مرجعها إلى البيت العتيق، إنما أردنا أن نظهر القارئ على ما يراد بجبلي المدينة ولابتيها لتكمل أمامه صورتها، وليرى أن العقيق الواقع أمام لابة الوبرة يقع بعد ظاهر المدينة على التحديد الذي اخترناه حين جعلنا الخندق الحد الفاصل بينهما وبين ظاهرها.
هب هذه الأحاديث صحت وكان رسول الله قد حرم المدينة كما حرم إبراهيم مكة، أفيجدر بنا أن نستنبط من ذلك أن الذين شيدوا قصورهم بالعقيق إنما تخطوا حرم المدينة ليكون لهم من الحرية ما ليس للمقيم داخل هذا الحرم، أم أن الأمر لا شيء من ذلك فيه، وإنما بنى ذوو الثراء بالعقيق لجودة جوه وعذوبة مائه وجمال مناظره ولما يوحيه ذلك إلى النفس من معاني النعمة في الحياة؟ أم أن الأمر لم يكن هذا ولا ذاك وإنما بنى بالعقيق من بنى؛ لأن المدينة انفسحت رقعتها وكثر أهلها حين كانت عاصمة الإسلام وحاملة لوائه، فلم يكن بد من تجاوز حدودها لمن أراد الابتعاد عن ضجة الحاضرة وجلبة الحياة فيها؟
لا أخالنا قادرين على أن نقطع أي هذه الأسباب الصحيح؟ وربما كانت كلها قد تضافرت فأخرجت الناس من حرم المدينة إلى وادي العقيق، فلما انحلت الحضارة الإسلامية ولم تبق المدينة عاصمة الإسلام وحاملة لوائه عاد العقيق فأقفرت عرصاته، وكثرت جماواته، واضطرب مسيل الماء فيه، فارتد اليوم قفرا كما كان قبل أن يعطيه رسول الله بلال بن الحارث المزني، ويوم كانت يثرب موضع نزاع دائم ودسائس متصلة بين الأوس والخزرج واليهود.
أرجأنا الحديث عن حياة رسول الله وأصحابه بالمدينة حين حديثنا عن آثارها حتى نتم الحديث عن ظاهرها، أما وقد أتممناه فحق علينا أن نصف طرفا من هذه الحياة الإسلامية الأولى في عاصمة الإسلام، ولعلك صورت لنفسك طرفا من هذه الحياة بما قصصنا عليك من أمر المدينة وطبيعتها وآثارها وظاهرها، فقد بلغ رسول الله المدينة أول هجرته إليها وأهلها من الأوس والخزرج مشوقون لحياة روحية جديدة تسمو بهم على الأصنام وعبادتها مما كان اليهود المقيمون بين أظهرهم يعيبونهم عليه، وتقيم لمدينتهم وحدة طالما جنت عليها المنازعات والحرب الداخلية جناية دعتهم إلى التفكير في إقامة رجل منهم أميرا عليهم جميعا، فلما جاء النبي إليهم وأقام بين أظهرهم والتف حوله من الأوس والخزرج كثيرون بدأت الحياة في المدينة تتجه اتجاها جديدا، وبدأ الأوس والخزرج الذين أقاموا على شركهم ينظرون إلى هذا التطور الجديد بعين الريبة والحذر، وينسون لذلك ما كان بينهم وبين اليهود من عداوة وبغضاء.
وبدأ رسول الله حياته السياسية في المدينة، وجعل سياسته فيها سياسة قوة لا يتطرق إليها الضعف، وإن لم تشبها شوائب العدوان على الغير، وسياسة القوة هذه كانت مقدمة حياة الجهاد الذي اندفع إليه المسلمون من يومئذ إلى أن بدأت نذر الانحلال أيام الدولة العباسية، وأنت إذ تعود بذاكرتك إلى ما قصصنا من أمر الآثار بالمدينة وبظاهرها ترى هذا المعنى واضحا جليا، ذلك حديث المساجد والآطام والقصور، بل هو حديث الجبال والآبار والعيون، لم أذكر مسجد السبق بين المساجد التي تحدثت عنها؛ لأني لم أقف له على أثر، لكن الروايات تجري بأن هذا المسجد أقيم شاهدا على المكان الذي اعتاد المسلمون الاستباق في ميدانه الفسيح رجالا وعلى الجياد، وفي هذا مظهر قوة وإقدام.
ومسجد القبلتين يذكر حادثا روحيا استقل به المسلمون عن غيرهم من أهل الأديان التي تتجه إلى بيت المقدس، ويحدث لذلك عن استهانة المسلمين باليهود ودسائسهم التي جعلت أهل المدينة قبل هجرة الرسول إليهم يخشونهم ويحسبون لهم ألف حساب، ومسجد الفتح ومسجد الإجابة والمساجد الواقعة على مقربة من أحد والقائمة حول الخندق تحدث كلها عن غزوات اشتبك المسلمون فيها واستهانوا بالموت أثناءها، ثم كانوا أبدا الغالبين، وكثير من الآبار يحدث عن إيثار المسلم إخوانه على نفسه، فبئر رومة اشتراها عثمان بن عفان بعشرين ألف درهم لتكون خالصة للمسلمين ولم يكن له منها إلا حظ رجل منهم، والعيون التي ضمت للعين الزرقاء كانت كلها مملوكة لأفراد من المسلمين، فنزل كثيرون منهم عن مالهم لله وفي سبيل الله، وما كان لنفس تعرف الجهاد في سبيل الله وتقبل عليه راضية مرضية أن تعرف الأثرة أو ترضاها، أو أن تعرف الضعف فتذل له، والقوة والإيثار لا يجتمعان في نفس ما يجتمعان في نفس المجاهد، وليس يسمو أحد إلى ما يسمو إليه المجاهد المؤثر من أمثال الحياة العليا، فإذا بلغ المؤثر من إيثاره أن نسي نفسه في إخوانه وأن أحب إخوانه في الله لم تغلبه قوة في الأرض حيا، فإن مات بقي من ذكر جهاده ما يكفل لمثله الأعلى النصر لا محالة.
هذا اللون من حياة المسلمين في المدينة وما كان لهم في رسول الله من أسوة حسنة هو الذي طوع للمسلمين فتح الأمصار وحكم الأمم ونشر لواء إيمانهم في الخافقين، وفي ذلك الدليل على أن الحياة فكرة أولا وآخرا، وأن قوة المرء وضعفه - كقوة الأمة وضعفها - رهن بقوة فكرته في الحياة أو ضعفها، فمن آثر الحياة خوفا من الموت، راضيا من الحياة بما تريد الحياة منه لا بما يريده هو منها يبلغه أو يموت دونه، فهو ضعيف وإن بلغ من الجاه والسلطان أعظم مبلغ، ومن غرته الحياة بزينتها فخدعته عن المثل الأعلى من الجهاد في سبيل الله، فقد ذل للحياة ابتغاء عرض زائل وأوهام خاطئة كاذبة، فأما من أراد الحياة لمثل أعلى يبتغي تحقيقه لخير إخوانه فهو سيد الحياة العزيز الجناب، وإن كان بين الناس الفقير الضعيف الذي يحاربه الناس.
هذه كانت حياة المسلمين الأولين في المدينة، وبهذا تحدث آثارها ويشهد ظاهرها، فلما نسي المسلمون ما لله من المثل الأعلى وعكفوا على أنعم الحياة وتوهموها الغاية من الحياة، بدأت نذر الانحلال يدب دبيبها فيهم، وتسري جراثيمها إليهم، وغرهم ما فعل أسلافهم وما أورثوهم من قوة، كما يغتر القوي العضل بقوة عضله فيقبل على اللهو مستهينا بالنذر، ناسيا أن لليوم غده، وأن للشباب كهولة وشيبا، ولو أن المسلمين فطنوا إلى النذر من أول عهد الانحلال لأغنتهم ولما أصابهم من الهوان ما أورثوه أبناءهم، فما يزالون حتى اليوم يصلون من أثره ذلة ترهقهم وتجعلهم أسوأ عنوان لدين هو دين الكمال والمثل الأعلى.
إن يرد المسلمون خروجا من هذا الهوان فليعيدوا سيرة السلف الأولين في القوة على الحياة والإيثار على النفس وفي البر والتقوى، وليذكروا قوله - تعالى:
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ، وقوله - جل شأنه:
وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون .
إنهم إن فعلوا فآثروا على أنفسهم، وذكروا الجهاد في سبيل الله، وتحابوا بنور الله بينهم، واتخذوا من مثل السلف الأول أسوتهم، غفر الله لهم وغير ما بهم، وأنزلهم مكان العزة، ورفع عنهم مقته، تلك سنته في الكون، فمن تدبرها فاز في الآخرة والأولى، ورفعه الله مكانا عليا.
زيارة الوداع
في غد نبرح المدينة لأزور بدرا وشهداءها ولأدرك الباخرة التي تبحر من ينبع إلى السويس، فغد الجمعة، والباخرة تبحر ظهر الأحد، ولست آمن إن بقيت إلى صبح السبت بالمدينة أن يبغتني الوقت فتفوتني زيارة بدر وأنا عليها جد حريص، كفى أن فاتتني زيارة خيبر بعد إذ يسر لي الملك ابن السعود الوسيلة إليها، فقد دفع إلي كتابا برسم أمير المدينة ليعاونني في سلوك طريقها إلى الوقوف بها، وأظهر لي الأمير عبد العزيز بن إبراهيم رغبته في المعاونة، لكنه ذكر أن الطريق إلى خيبر ليس ممهدا كله للسيارة، وأن الإنسان يبلغ بها منتصفه في يوم، ولا بد له بعد ذلك من امتطاء ركاب يومين كاملين، والعود يقتضيني مثل هذه المشقة وهذا الوقت، أما ولم يكن بين بلوغي المدينة وإبحار «زمزم» من ينبع غير اثني عشر يوما يقضي الإنسان منها في الذهاب من المدينة إلى مرفأ السفر، أما وآثار المدينة وما بظاهرها يقتضي الإنسان أسبوعا كاملا للطواف به والوقوف عنده، فلا مفر من إرجاء زيارة خيبر إلى فرصة أخرى أرجو ألا تضن الأقدار علي بها.
غد الجمعة، فلأجعل زيارة الوداع للحجرة النبوية عقب صلاة الجمعة، ولأبرح المدينة بعد صلاة العصر، ولأؤد سائر اليوم بالمدينة واجب الشكر لأميرها عبد العزيز بن إبراهيم، ولمضيفي الشيخ عبد العزيز الخريجي وأخيه الشيخ محمد، وللكثيرين من أهل المدينة وشبابها الذين كانوا اللطف بي طول مقامي بينهم، والذين بذلوا من معاونتي فيما سألتهم المعاونة فيه غاية ما يستطاع بذله، وشكرهم حسبي، فهو كل ما أستطيع أن أجزيهم به عن جميل طوقوا به عنقي ولن أنساه.
وأصبحت فأعددت للرحيل متاعي، ولما دنا موعد الجمعة قصدت إلى المسجد فألفيته امتلأ بالمصلين، ولقد كنت على ثقة من أنني لن أجد بالروضة منه مكانا، فالكثيرون يقصدون إليها قبل موعد الصلاة بساعات ولا يبرحونها، ومنهم من يقصد إليها من بكرة الصباح ليؤدي فيها فرض الفجر ويظل بها إلى صلاة الجمعة، وتخيرت مكانا قريبا من باب الرحمة، فإذا جار يميني رجل ممن عرفت بالمدينة، وجار يساري حاج مغربي من أبناء مراكش، عرفت من جار اليمين أنه يتردد على المدينة إذ يجيء إليها مرة كل عام أو كل عامين في أشهر الحج، وقد حياني الرجل بتحية الإسلام بعد أن أتممت ركعتي السنة أول مقدمي، ثم جلسنا جميعا ننتظر الأذان لصلاة الجماعة كي نؤدي فرضها مع الإمام.
وذكرت، وأنا بمجلسي أنتظر الأذان والصلاة، أول جمعة صليتها في المسجد الحرام بمكة، ذكرت عشرات الألوف الذين أحاطوا بالكعبة من جهاتها الأربع، وما أثارته في نفسي موازنتهم بالمسلمين الأولين الذين جاءوا مع رسول الله في حجة الوداع، وما بدا لي من فرق عظيم بين هؤلاء وأولئك في تصور الحياة، كان المسلمون الأولون يقبلون على صلاة الجماعة يدعوهم إليها روح مبعثه الإيمان، ونظام قوامه الأخوة، وكانت الحياة لذلك عندهم فكرة يستهينون في سبيلها بالموت ويرونه استشهادا في سبيل الله، وكانوا يدركون إدراكا عميقا معنى كلمتين هما أبلغ وأقوى ما عرفت الإنسانية مذ وجدت: «الله أكبر»، وكانت صلاتهم لذلك ابتهالا خالصا لله - جل شأنه - وتوجها إليه ينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، ويسمو بالنفس على غرور الحياة، أما اليوم فقد غاض الروح من هذا المجتمع وصار الإيمان فيه تقليدا، يكتفي صاحبه بأن يقول ألفاظ الإيمان وإن لم يؤمن منها بشيء، ثم يحسب بعد ذلك أنه أرضى الله ورسوله، فإذا طمع في مزيد من الرضا خيل إليه أنه بالغ من ذلك مطمعه بألوان من الزلفى لا تتصل بالعمل الصالح في شيء، وليس فيها من حب المؤمن إخوانه وإيثاره إياهم على نفسه كثير ولا قليل، بل إن المصلين اليوم لا يفكر أحدهم في أخيه ولا يحب إلا نفسه، وهو إنما يحضر صلاة الجماعة ابتغاء المغفرة لنفسه والثواب لنفسه دون تفكير في المؤمنين ممن حوله، وهذه الأثرة التي فتكت بالجماعات الإسلامية التي جعلتها تتعلق بالحياة لذاتها، ولا تعرف المثل الأعلى فيها، وتذعن لذلك خاضعة لكل سلطان يملك عليها أسباب المادة في الحياة، وهذه الأثرة هي التي أبقتها في غيابات الجهل؛ لأن كبراءها وسادتها أمسكتهم الأثرة في دنيا مراتب الحياة فحجبوا عن إخوانهم نور العلم وما يدعو إليه العلم من إيمان حق، وبذلك أضلوهم السبيل.
ذكرت ما ساورني من هذا التفكير بحرم مكة وأنا بمجلسي من المسجد النبوي أنتظر الأذان والصلاة، وأجلت طرفي في هذه الجموع الجالسة حولي فحز مرآها في نفسي، فهذه الجموع تمثل العالم الإسلامي بمئات ملايينه المنتشرة في أطراف العالم كله، وهي على ضخامة عددها كمية مهملة أو في حكم المهملة؛ مصر، بلاد المغرب كلها، بلاد العرب، العراق، مسلمو الهند، مسلمو الملايا، مسلمو الصين، المسلمون في أوروبا، أي: أثر لهؤلاء جميعا في عالمنا الحاضر؟! أرقام ضخمة لا تعدو أن تكون أرقاما، واليهود لا يزيدون في العالم كله على خمسة عشر مليونا، مع ذلك يلتفت العالم إذا ذكروا يريد أن يعرف ما يريدون، تهتز لمطالبهم جوانب البرلمان البريطاني، وأرجاء عالم المال في أمريكا، وتقوم عصبة الأمم لمطالبهم وتقعد، وكان العالم أشد تلفتا لما يريده المسلمون في عهدهم الأول حين لم يكونوا يبلغون ثلاثة الملايين عدا.
أما اليوم فمئات الملايين من المسلمين أرقام لا يقام لها وزن ولا يحسب لها حساب، وإذا قيل: «العالم الإسلامي» سخر الناس وقالوا: ما يزالون متعصبين، يحسبون الأديان وحدة تقيم أمة أو أمما، فإذا قيل: «شعب صهيون» أو قيل: «بنو إسرائيل» سمعت الأصداء تتجاوب من أنحاء العالم: شعب مضطهد يجب على العالم أن يبحث له عن وطن يلجأ إليه احتماء من مضطهديه، أي شيء يحز في كبد المسلم ما يحز هذا الجمع الذي أراه أمامي في المسجد النبوي يمثل المسلمين جميعا وهم يعانون الذلة والهوان صابرين! وقد كان المسلمون الذين يحضرون الصلاة في هذا المسجد أيام بساطته الأولى حين كان قائما من اللبن وجذوع النخل يهزون العالم كله، لفتة منهم تزعزع العروش، فإذا تنادوا: «الله أكبر» تفزعت الأفلاك والتفت الدهر.
أذن المؤذن للصلاة، وخطب الخطيب هناك عند محراب عثمان، فلم نسمع مما قال كلمة لبعدنا عنه ؛ ولأن الروضة تحجب ما بيننا وبينه، وصلينا الجمعة وصلى السنة من شاء، وبدأ الناس ينصرفون من المسجد، أقمت مكاني، حتى إذ خلت أروقة المسجد أو كادت ذهبت أؤدي للحجرة النبوية ولقبر الرسول زيارة الوداع ووقفت أمام شباك التوبة ورفعت صوتي قائلا: «السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، أشهد أن نبي الله ورسوله قد بلغ رسالة ربه وجاهد في سبيله حتى أتم النصر لدينه، وأنه وفى بوعده وأمر ألا نعبد إلا الله وحده لا شريك له.» ومكثت هنيهة واقفا أحدق في هذه الحجرة، وأذكر من تحوي قبورها رفاتهم؛ محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء والمرسلين، وأبا بكر الصديق صفي النبي وخليله، وعمر الفاروق من أعز الله به الإسلام يوم أسلم، ومن نشر لواء الإسلام في الخافقين أيام خلافته، وأذكر ما حدث بعدهم بين المسلمين من حروب أهلية وما تطورت إليه العقلية الإسلامية بعد ذلك حتى هوت إلى درك الانحلال، فأصبحت مقلدة تنفر من الاجتهاد وتحاربه، أثرة لا تعرف أخوة المؤمنين، وتنزوي لذلك أمام كل قوة.
وإني لأقلب في صحف نفسي وأنا حسير الطرف، كسير القلب حياء وخجلا، إذ انفجرت شفتاي عن هذه النجوى:
السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته! أشهد أنك رسول الله الواحد الأحد حقا وصدقا، وأنه بعثك للناس كافة بالهدى ودين الحق، هديتهم بأمره ألا يعبدوا إلا إياه مخلصين له الدين حنفاء، وألا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله، سماك ربك عبده قبل أن يسميك رسوله، حتى لا يضل قوم فيحرفوا كلام الله عن مواضعه فيؤلهوك أو يعبدوك كما أله رسل من قبلك وعبدوا، وبلغتنا من وحي ربك أنك بشر مثلنا يوحى إليك: إنما إلهنا إله واحد؛ ليعلم الناس أن الله يصطفي لرسالاته من يشاء من عباده، فيظل من اصطفاه عبده وإن فضله على الناس، إذ جعل بعضهم فوق بعض درجات ، والله وحده - جل شأنه لا شريك له - هو الذي تجب على الناس جميعا عبادته، لذلك خلقهم، وإليه مرجعهم، وعليه حسابهم، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره.
أشهد أنك رسول الله بعثك بالهدى ودين الحق، علمتنا بأمره ووحيه أن عبادة الله ليست خضوعا، إنما هي إسلام لله عن إيمان صادق ابتغاء رضاه عن صالح ما نعمل، والتماسا لعفوه عما نضل فيه السبيل، أو تحدثنا به النفس الأمارة بالسوء، فمن أسلم لدعوتك مذعنا غير مؤمن لم يدرك ما تدعونا إليه، ومن أسلم وجهه لله وهو مؤمن فأولئك الذين رضي الله عنهم، ورضوا عنه والذين يخشون ربهم بالغداة والعشي، فإذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا رأوا آياته زادتهم إيمانا، ينظرون في خلقه يريدون أن يعرفوا من طريق العلم سنته، ويسعون في مناكب الأرض ليزدادوا علما، وليزدادوا إيمانا.
أشهد أنك رسول الله حقا وصدقا، علمتنا أن المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأن المؤمنين إخوة حق عليهم أن يتحابوا بنور الله بينهم، وأن نور وجهه الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة هادينا إلى البر والرضا، وأن الحياة محبة أساسها الإيثار على النفس، وقوامها إنكار الذات، وغرضها المثل الأعلى، ووسيلتها الأسوة الحسنة، خير رداء فيها الصبر، وخير سلاح فيها العلم، وخير شفيع فيها الصدق، وخير كنز فيها الثقة بالنفس، وخير أنيس فيها ذكر الله.
أشهد أنك رسول الله القوي الأمين، علمتنا المثل الأعلى لله، وأن الجهاد في سبيل الله سبيلنا إليه، وأن الاستهانة بالموت من خلق الجهاد، وأن ما في الحياة مما دون المثل الأعلى لن يبلغ أن يصد عنه أو يقف دونه، وأن الخوالف والقواعد دون الجهاد هم الذين يبتغون بإيمانهم ثمنا قليلا، ويؤثرون العاجلة وإن هانت، ويرضون من أجلها أن يبيعوا آخرتهم بدنياهم، أولئك نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أما الذين جاهدوا في سبيله فقتلوا فليسوا أمواتا، بل أحياء عند ربهم يرزقون.
أشهد أنك رسول الله أوحى إليك الكتاب بالحق، لا ريب فيه، هدى للمتقين، فيه آيات بينات يذكر بها الذين آمنوا وتزيدهم إيمانا، وهو يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا، فيه شفاء ونور للذين آمنوا، يدعوهم إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، ويجادل الذين ارتابوا بالتي هي أحسن، وينذر الظالمين والمعاندين عذابا عظيما، نزله عليك ربك بالحق، فبلغت رسالته، وكنت فيه الأسوة الحسنة للذين يريدون وجه ربهم مخلصين.
وأشهد أن لا إله إلا الله لا نشرك به شيئا ولا نعبد من دونه أحدا، وأن محمدا رسول الله بلغ رسالات ربه، وجاهد في سبيله حتى أتم الله النصر لدينه
صلى الله عليه وسلم .
السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا عمر!
أتممت نجواي وبقيت مكاني مأخوذا، يهتز قلبي وتضطرب مشاعري، ويضيء بصيرتي نور أحسه في أعماق نفسي، فأراني أسمو فوق ما ألفت، وأذكر موقفي من حراء ويتمثل أمامي كرة أخرى يوم الوحي الأول في سناه وبهائه، ثم أذكر موقفي من غار ثور، وتتمثل لي هجرة النبي إلى هذه المدينة التي أقف الآن بها أمام قبره، وتمثلت أمامي غزواته، وحياته، وأصحابه، كأنما تتابع هذه المواقف جميعا أمام باصرتي مليئة بالحياة، مضيئة بالإيمان، وبما يدفع الإيمان إليه من جهاد في سبيله، وانقضت فترة آن للنفس فيها أن تهدأ، فانسحبت من موقفي أمام الحجرة في إكبار وإجلال، وسرت خافض الرأس حتى بلغت منبر رسول الله في الروضة، فصليت ركعتين، واستغفرت الله لي وللمؤمنين، وانصرفت من المسجد راضيا عن نفسي، طامعا في مغفرة الغفور الرحيم ذنبي، هو غافر الذنب قابل التوب شديد العقاب.
وعدت إلى الدار وتناولت طعامي وأتممت عدة سفري، ثم ذهبت إلى التكية المصرية أؤدي لأصحابي المصريين فيها وأؤدي لناظرها حق الشكر للطفهم كلطف أهل المدينة بي، وسرني ما ذكروا من قيام طائفة من بني وطني في هذا الوقت الذي أزمعت القيام فيه لقضاء ليلهم بالمسيجيد مثلي، فلما تنصف الوقت بين العصر والمغرب كنت بالدار أودع أهلها وأودع الذين جاءوا لوداعي من أهل هذه المدينة المباركة، مدينة النبي العربي، وأرجو الله لي ولهم أن يجمعنا بها كرة أخرى عما قريب، وسبقنا «البكس» بعد أن حمل متاعنا، وأقلتني السيارة وأقلت أصحابي معي، وانطلقت تبتغي المسيجيد لتنطلق منها بكرة الصباح في طريق بدر.
وداعا مدينة رسول الله! وداعا قبر النبي الكريم! وهب لي رب من لدن برك ورحمتك أن أعود إلى هذه المدينة فأزور هذه الحجرة المباركة أذكر فيها أشد الناس حبا لهدى الناس، وأشهدك على حبي إياه أكثر من حبي نفسي، لقد اصطفيته وفضلته وجعلته أسوتنا إلى رضاك وعطفك، فهب لنا من فضلك ما يسمو بنفوسنا إلى هذه الأسوة، وهيئ لنا ربنا من أمرنا رشدا! لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
الكتاب السادس
أوبة الرضا
بدر وشهداؤها
خرجنا إذن من المدينة عصر الجمعة، الحادي عشر من شهر المحرم، الثالث من شهر أبريل، نقصد المسيجيد لقضاء الليل «بأوتيلها» والقيام بكرة الصباح إلى بدر، لقد فاتني السير في أثر الرسول إلى خيبر، ولم يكن في المقدور أن أذهب إلى حيث ذهبت جيوش المسلمين بأمره إلى مؤتة وإلى تبوك ما دامت سكة الحجاز الحديدية معطلة، وسير القوافل إلى هذه الجهات غير منتظم، وصحبة القوافل التي تطرد أحيانا مغامرة لا أطيقها، فلأختم جولاتي خلال الحجاز بزيارة بدر والوقوف على آثارها وعلى قبور شهدائها، فبدر هي الغزوة الأولى في الإسلام، التقى فيها الإيمان والشرك، فنصر الله الإيمان بجنده وعززه بأيده، ووقف فيها رسول الله يستنجز ربه النصر الذي وعده ويقول في دعاء وابتهال: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد.» فلما أتم الله النصر للمسلمين فيها على خصومهم كان ذلك الفتح الأول الذي استقر به الأمر للمسلمين من بعد، فكان مقدمة الوحدة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، ومقدمة الإمبراطورية الإسلامية في العالم كله.
ومررنا إذ خرجنا من المدينة ببئر عروة فملأت من مائها «ترامسي»، وافتقدت في هذه اللحظة الخرائط التي أهداها إلي المستر فلبي فإذا بي نسيتها بدار مضيفي، ففكرت في العودة لأحضرها، لكن صاحبي آثر أن نبقى حيث نحن وأن يعود حسن بالسيارة فيردها علي، وبقينا نتفيأ ظل الجبل بظاهر المدينة وننعم من هواء الصحراء الجاف الرقيق بما كنت في حاجة إليه أشد الحاجة بعد أن قضينا بالمدينة عشرة أيام كاملة.
وعاد حسن بالخرائط وعدنا إلى انطلاقنا فبلغنا المسيجيد بعد العشاء، فألفينا جماعة من مواطنينا قد سبقونا إليها، أولئك أعضاء البعثة الطبية المصرية الذي غادروا المدينة يبتغون ينبع ليدركوا الباخرة المصرية الأخيرة العائدة إلى أرض الوطن، وقضينا شطرا من الليل أتحدث وإياهم عن الحج والحجاز، وسألت بعضهم: ألا يريدون أن يروا بدرا معي؟ وكان جوابهم أن ابتسموا معتذرين، قال أحدهم: «لو أن الطريق إلى بدر كان معبدا لفكرنا في الاستجابة إلى صحبتك، أما وأنت أدنى أن تكون مكتشفا في ذهابك إليها فأعذرنا، وسنقرأ يوما ما تكتبه عنها، فيكون لك ثواب المشقة ولنا متاع القراءة، وسنجد في وصفك بدرا غنى عن الضرب في تيهاء الطريق إليها.»
إذ ذاك ناجيت نفسي، أين نحن اليوم من المسلمين الأولين! أولئك كانوا يذهبون إلى بدر وغير بدر لا تصدهم مشقة ولا يقعد بهم تكاسل، وكانوا يذهبون لا يعنيهم أواجههم الموت فواجهوه، أم أقاموا حين موسم بدر - وكانت من مواسم العرب - فنحروا الجزر، وسقوا الخمر، وعزفت عليهم القيان، أما نحن فنرغب عن بدر وزيارتها حذر مشقة الطريق، وإن ذهبنا إليها في السيارة؛ لأن بدرا لم تبق موسما؛ ولأن الكتب لا تذكر لزيارة شهداء بدر والسلام عليهم - ادكارا لعبرتهم وتأسيا بمثلهم - ثوابا نقتضيه كما يقتضي المرابي ربا ماله، والفرق في ذلك بيننا وبين السلف الأول أنهم كانوا ينفقون من جهدهم ويبذلون حياتهم ابتغاء رضا ربهم يرجون ثوابه ويخشون عقابه، وعند الله حسن الثواب، وأننا لا نبذل جهدا، ونضن بحياتنا إلا على أهوائنا، فإذا دعينا لخير أو بر اقتضينا المثوبة عنه معجلة، أو اقتضينا بهذه المثوبة على الله صكا يسجله عالم في كتاب من كتبه ، نزعم أنه يكون حجتنا على الله يوم الحساب.
وقضينا بفندق المسيجيد ليلة كليلتنا بفندق آبار بني حصان، فلما تنفس الصبح قمنا وقام أصحابنا ، فأعاد كل متاعه إلى سيارته، وذر قرن الشمس ونحن على الطريق إلى الحمراء، والطريق يجري في واد فسيح تنبت فيه بين حين وحين أغراس من أشجار شتى، تلك خيوف منثورة بين المدينة وينبع على طريق بدر، «وقد تواضع القوم في بلاد العرب اليوم على أن الخيف مجموع بساتين تأخذ وجبتها من الماء كل أربع وعشرين ساعة ثم يقطع الماء عنها ليصرف إلى خيف غيرها، والخيف فيما تروي المعجمات: ما انحدر عن غلظ الجبل وارتفع عن مسيل الماء»، ويمر الإنسان في ذهابه إلى الحمراء بخيف الحزامى وأم ديان.
ومن الحمراء يسير الذين يقصدون في طريق عبد للسيارات يؤدي إلى منطقة نقب الفار، وقد سمي الطريق باسمها، أما ونحن نقصد بدرا فلنا طريق آخر، أين هو؟ وكيف يتجه؟ سألت الجندي الدليل الذي أوفده أمير المدينة معنا فلم يكن أكثر علما بالأمر مني، لا سبيل إذن إلا أن نسأل أهل المنطقة، وفي أمثالنا المصرية: «من سأل لا يضل»، وسألنا صغيرا هناك هدانا طريقا لم نلبث حين سرنا فيه أن رأينا من موج رماله ما ذكرنا بليلتنا بين بئر الشيخ وآبار بني حصان، ولم يكذبنا حدسنا، فسرعان ما غاصت السيارة واضطررنا إلى النزول منها وإلى التعاون على دفعها، وفيما نفعل مر بنا بدوي خاطبه الجندي النجدي في لهجة الآمر فجاء يعاوننا، ثم ذكر لنا أن هذه الطريق تؤدي إلى بدر حقا، ولكنها طريق أفسدها السيل ولم تمر بها طول العام سيارة واحدة.
نبتت في هذه الرمال أشجار وحشائش دلتنا على أن الماء منها قريب، لكن ما عسى يجدي الماء واقترابه إذا لم يستعن به الإنسان على حاجاته، ومنها تعبيد الطرق؟! على أن للحكومة العذر ألا تعبد طريقا قل من يمر به، وإنا لنتبادل هذه الملاحظات ونتعاون على دفع السيارة إذ مر بدوي يتبع بعيرا له، فلما علم أنا نقصد بدرا بدت على وجهه الأشعث شبهة ابتسامة، ثم قال في لهجة غريبة قولا لا أفهم إلا قليلا منه، فسره أصحابي بأنا نغامر باختيار هذا الطريق للسيارة وللبكس، ووقعت عين بعيره على نبات في الأرض فأقام يرعاه، ووقف البدوي في جانبه صامتا لا يشترك في معاونتنا ولا يدفع بعيره ليسير، وعجبت لأمره، ورأى صاحبي عجبي، فابتسم وقال: وما تعجبك ومرعى بعيره أثمن ما في الحياة عنده؟! فهو يحمل عليه الحاج ومتاعهم ويرتزق من حمله وهو يقف إلى جانبه كلما وجد البعير مرعى ينال منه رزقه، وأمسك صاحبي هنيهة ثم أردف: تلك حياة البادية! «تلك حياة البادية!» أثارت هذه الكلمة في نفسي صورة العيش في هذه البلاد منذ القدم، وصورة العيش في البادية حيثما وجدت من أرض الله، ولطالما رأيت البدو في مصر يجيئون إليها من الشام أو من المغرب ويرتحلون عنها أو يقيمون بها ولا تتغير في الحالين عاداتهم ما بقي الارتحال في طبعهم، فالجلوس في خيامهم إذا أقاموا، والارتحال وراء دوابهم إذا تحملوا، والحديث المتصل ما اجتمعوا، يقص كل أثناءه من مبالغات الخيال ما لا يجد في الطبيعة المترامية أمامه حدا، أليست الطبيعة المترامية مصدر الإلهام الوجداني للمهذب، وهي مصدر المبالغة الحمقاء للجاهل الذي يرى بعين خياله من الجن في أطوائها ما لا تقع عليه عين بصير؟! وفيم عسى أن يفكر هذا البدوي الواقف الآن إلى جوارنا إذ يقضي الأيام وحيدا مع بعيره ثم لا يجد من يخاطبه إلا أن يلقى إنسانا مصادفة كما لقينا؟! إنه - لا ريب - يدع لهواجس خياله العنان تسعده حينا فتمد أمامه حبال الأمل، وتشقيه آخر فتضيق عليه نطاق اليأس، ثم لا يجد متنفسا ليأسه ولا لأمله إلا في مناجاة نفسه، والتحدث في خياله إلى من لا يراهم من أحبته وأعدائه، وذلك هو الشعر عند أهل البادية الأقدمين، وهو هذه المقاطيع التي سمعت منها بالطائف الشيء الكثير؛ والتي تصور النظم الشعري عند أهل هذا الجيل في شبه الجزيرة.
وأنقذ تعاوننا السيارة من ورطتها في الرمال كي تقف بعد قليل من مسيرها أمام أشجار متشابكة في الطريق، وقطع أصحابي من فروع الأشجار ما أتاح لنا المرور ثم إذا بنا نقف بعد دقائق أمام غدير لا مفر للسيارة من عبوره علها تسير بعده في طريق خلناه مستقيما، وخاض دليلنا مياه الغدير وجهل يتحسس قاعه ليرسم للسيارة المكان الذي تمر به، وبعد لأي قذفنا في الأمكنة التي أشار إليها أحجارا ترتكز عجلات السيارة عليها حين انحدارها إلى الغدير، وبذلك نجحنا في التغلب على هذه العقبة الثالثة، وانطلقنا نسير فوق أرض صلبة لقربها من الجبال، ويرى الدليل ما بي من سخط لهذه العقبات التي تصادفنا والتي كنت أعزوها لجهله الطريق، فلا يضيق ذرعا ولا يبدو عليه التأثر، بل يهون علي الأمر فيذكر أنا اجتزنا أشق الطريق ولم يبق أمامنا إلا أيسره، ونمر بين آن وآن بخيف من الخيوف وبخضرته الناضرة وشجره النامي، فيهدأ لمرأى الخضرة والماء سخطي، وأكاد أصدق الدليل وأقتنع بأن المشقة انتهت، وزاد في أملي أن طال بالسيارة المسير دون أن يقفها موج الرمال أو أن يعترضها شجر أو غدير.
وإنا لكذلك في واد بين جبلين إذا السيارة تغوص إلى بطنها ولا يبقى لها إلى حركة من سبيل، وما أدري لماذا استشطت غيظا هذه المرة، وبلغ الغيظ مني أن قلت: فلنعد إلى المسيجيد أو إلى الحمراء لنسلك طريق نقب الفار إلى ينبع حتى لا تفوتنا الباخرة بعد غد، فلما رأيت الدليل ورأيت أصحابي منهمكين في إخراج السيارة من مغرزها أمسكت عن القول وإن استمسكت بعزمي على العودة من حيث أتينا، فقد زالت الشمس ومالت إلى الغرب وما نزال نضرب في طرق لا يعلم إلا الله أيان منتهاها، وقضى القوم ما يزيد على نصف ساعة حتى أخرجوا السيارة، ثم التفت إلي الدليل في هدوئه وقال: لم يبق من الطريق إلا أقله، وبلوغ بدر أيسر من العودة إلى الحمراء وكنت قد سكن روعي، وقد حمدت للقوم ما بذلوا من جهد شاق فلم أجادل، وانطلقنا فإذا بنا بعد قليل أمام منحدر وعر لم أدرك كيف يهبط السائق بالسيارة منه، وكيف يتبعه صاحبه بالبكس، على أن حسنا لم يتردد، وكل ما طلبه أن نغادر السيارة وأن نهبط هذا المنحدر على أقدامنا مخافة أن ترتطم رءوسنا بسقف السيارة فيصيبنا من ذلك أذى، وفعلنا وهبط بعدنا والسيارة تكاد تنقلب به ظهرا لبطن، وعدنا وإياه، فإذا نحن على طريق صخري معتدل، وإذا أمامنا أشجار عالية ما لبث حسن حين رآها أن دفع بالسيارة إلى غاية سرعتها وخلفنا البكس وراءنا، فلما طال بنا السير ولم نبلغ بدرا بدأت المخاوف تعاودنا، ووقفنا مترددين عند أشجار عالية، ثم تخطينا خلالها فإذا ضيعة مطمئنة بينها، وسألنا أهلها عن بدر فقالوا: إنها منا قريب، فرجوناهم إذا ما رأوا البكس أن يهدوه السبيل، وعدنا منطلقين حتى اجتزنا منطقة الأشجار إلى البادية الجرداء، آنذاك بدا لنا عن بعد سراب لم أحسبه شيئا، ولكن الدليل أشار بإصبعه إلى ناحيته، وقال: هذه بدر.
وهدأ حسن لعل البكس يدركنا، ورميت ببصري إلى الناحية التي أشار الدليل إليها ألتمس في أطواء جوها صورة غزاة بدر من المسلمين الأولين، ورسول الله
صلى الله عليه وسلم
على رأسهم، وألتمس كذلك جمع المشركين بجحفله وبعديده وعدته، وقلت لصاحبي: «هل ترى سلك النبي - عليه السلام - بجيش المؤمنين هذه الطريق التي سلكنا من المدينة إلى هنا؟» وسكت صاحبي هنيهة يفكر ثم قال: «لا أدري! ولكنني لا أحسبهم سلكوها، وأكبر ظني أنهم جاءوا من ناحية آبار بني حصان وبئر الشيخ، على أني لا أقطع بشيء من ذلك، بل لا أرجحه، فالطرق في هذه البادية بين المدينة وينبع كثيرة، وقد اختلفت في الأزمان الأخيرة غير مرة، فتعيين الطريق الذي سلكه رجال بدر الكبرى ليس أمرا ميسورا.» وأجبت بعد أن فكرت مليا: «إنك لعلى حق، وراوية التاريخ تشهد بأن هذه المنطقة من الحجاز كانت كثيرة الثمر على عهد الرسول، وكانت لذلك مقام قبائل كثيرة اتخذت منها حضرا وموئلا، وما أحسبنا نصادف اليوم فيها هذه البطون والقبائل التي كان النبي يوادعها أو يحالفها كلما خرج إلى سرية من سراياه أول عهده بالمدينة، فقد جنت الأحوال السياسية والاجتماعية على هذه البلاد وحضارتها وطرقها، فما يكاد شيء مما بها اليوم يشبه ما كان بها في صدر الإسلام، أما وذاك شأنها فحسبنا أننا بلغنا بدرا، ولعلنا نجد بها للاستشهاد الحق في سبيل الله ذكرا حسنا.»
وبدأت منازل بدر تتضح معالمها للنظر، فلم أصدق من أمرها ما رأيت، لقد أحيينا بمصر ذكرى بدر منذ عام، فبدت لنا يحيطها التاريخ بهالة من جلال وإكبار، هذا إلى أنها كانت قبل الغزوة الكبرى سوقا من أسواق العرب وموسما من مواسمهم، وفي غزوة بدر نزل قوله - تعالى:
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان . ألا يجدر بمكان ذلك شأنه في الإسلام، وكان في الجاهلية سوقا وموسما أن تهوي إليه الأفئدة وأن يجتمع الناس حوله وأن يكون مدينة ذات شأن؟! فما هذه المنازل التي نرى، وهي أدنى إلى الأكواخ منها إلى المنازل، بل إلى الآثار الدارسة منها إلى الربوع المأهولة؟!
لم تضن الطبيعة على بدر بما يصلحها للمقام والحضر، فالماء بها وعلى مقربة منها وفير، وهذه المنطقة بين بدر وبين المدينة تكاد تعدل منطقة الطائف خصبا، لقد مررنا بين الحمراء وبدر بخيف الخرمان، وخيف الواسطي، وخيف دغبج، وخيف الحسينية، وخيف الفارعة، والخيف الجديد، وكلها ذات مياه ونبات وشجر، وبها ضياع تحدث عن شيء من النعمة وخفض العيش، فما بال بدر تبدو دونها جميعا حياة ونضارة؟! أم بلغ من إكبار الناس للغزوة الكبرى أن آثروا ترك المكان الذي حدثت به لا يقربونه؟! إن يكن ذلك فلعل لهم فيه بعض العذر، فللاستشهاد مهابة وقداسة، وفي طبيعة المهابة أن تباعد بيننا وبين ما تمتلئ له نفوسنا إعظاما وإكبارا.
وناجيت نفسي: «ترى أية صورة لذكرى بدر أقامها أهل هذه البلاد حيث وقعت؟» وأراد خيالي أن يتمثل هذه الصورة، لكنني ما لبثت أن ابتسمت حين ذكرت ما مررت به من المواقف الجليلة في تاريخ الرسول مما لم يخلد سوى التاريخ ذكرها، أم ترى أقام الخلفاء والملوك ببدر مسجدا تحدث قبابه ومآذنه الذاهبة في السماء عن بعض ما حدث يوم التقى الجمعان: جمع المؤمنين وجمع المشركين؟ إنني لا أرى أمامي قبابا ولا مآذن، فلأنتظر ففي هنيهة سأرى.
استدارت السيارة حول المنازل المبعثرة ها هنا وهناك، فهي بذلك أدنى في نظامها إلى الآثار الدوارس منها إلى مقام الأحياء، ولم يطل بنا السير إذ وقفنا أمام بناء متواضع قيل لنا: إنه زاوية السنوسي، ولقينا هناك رجلا عرفنا أنه سادن الزاوية والموكل بأمورها جميعا، فسأله صاحبي عن أمير بدر، وعلمنا منه أنه غائب عنها، وعجبت لاسم الأمير يطلق على رجل في قرية، بل ضيعة شأنها ما رأيت، لكني عجبي زال حين علمت أن كلمة الأمير تطلق في بلاد العرب على كل وال لمدينة أو قرية أو ضيعة، لو أن هذه التسمية طبقت في مصر لقيل لعمدة القرية: إنه أميرها، ولشيخ العزبة: إنه أميرها، ولكان في مصر ألوف وعشرات الألوف من الأمراء، ولفقد هذا اللقب ما له في نفوس المصريين اليوم من إجلال، وهل للألقاب والأسماء قيمة إلا بقيمة مسمياتها وما تبعثه في النفس من أثر؟!
وسألنا سادن الزاوية: «أنبغي وكيل الأمير؟» وأرسل في طلبه حين أجابه أصحابي بالإيجاب، وألح على الرسول في استعجاله حين رأى دليلنا الجندي الوهابي ينبهه إلى واجب أمير بدر ووكيله، وفتح السادن زاوية السنوسي فتخطينا بابا في مثل تواضع البناء وقلة ارتفاعه إلى فناء ضيق امتد بهو الزاوية عن يمين الداخل إليه، وبهو الزاوية مستطيل يكاد يبلغ طوله خمسة عشر مترا، وعرضه خمسة أمتار، وقد فرش بحصير قديم هو أكثر ما كان في المكان تواضعا.
وجلسنا أول ما رأينا الحصير وطلبت إلى أصحابي أن يجيئونا بالطعام، فقد أذن العصر ولم نتناول مذ تركنا المسيجيد وجبة، وقد أجهدنا ما لقينا في سيرنا من مشقة مرهقة، ولا شيء ألذ من طعام السفر البسيط ولا أصح منه، ثم توضأنا بالزاوية، وقمت أدور حولها لعلي أجد في ناحية منها ما يصلح رمزا لها أوجه إليه عدسة «الفوتوغرافيا»، فلما لم أجد ما يصلح لذلك وقفت عند ركن أسرح الطرف منه إلى ما حولي ، وأفكر وأنا بموقفي في هذه الزاوية ومن بناها، وفي تصوره وأمثاله الرواقيين المسلمين للحياة، وفي بعد هذا التصور عما أفهم من روح الإسلام، فهذا الدين يدعو إلى عدم الاكتراث بالدنيا ومادتها، لكنه لا يدعو إلى الرغبة عنها، بل هو يدعو إلى السعي للرزق وإلى الجد في العمل، يقول الله - جل شأنه - في كتابه العزيز:
وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض ، فالذين يبتغون الدار الآخرة وينقطعون لذلك عن الحياة وما فيها ينسون نصيبهم من الدنيا ولا يسعون في مناكب الأرض ليأكلوا من رزق الله وليحسنوا كما أحسن الله إليهم، أم ترى الذين ينقطعون إلى العبادة ويدعون إلى الفقر يبتغون بهما التطهر إنما يفعلون ذلك على أنه خير نصيب يناله الإنسان من الدنيا، وأن إحسان هؤلاء إلى الناس كإحسان الله إليهم إنما يكون بدعوة الناس إلى الفقر والعبادة؟ هذا رأي له قدره واحترامه، لكني أراه بعيدا عن روح الإسلام كما أفهمه من كتاب الله الكريم.
وانطلقنا نبتغي ميدان بدر وقبور شهدائها، وليس يحول بين الزاوية وهذا المكان حائل من بناء، بل يفصل بينهما فضاء فسيح منبسط هبطت عليه هذه الساعة من موليات النهار ظلال لم أعن نفسي أكان سببها غمام حجب الشمس، أما أن الشمس توارت وراء الآكام؟ وفيما نسير في هذا الفضاء الفسيح نبتت أمام النظر أحجار قائمة في صفوف متراصة، قال صاحبي: «هذه قبور الذين قتلوا ها هنا في الموقعة التي حدثت بين الأشراف والسعوديين من عشر سنوات.» فجأني هذا النبأ فوقفت هنيهة مشدوها أسائل: «أغزوة في هذا المكان بين طائفتين من المسلمين؟! يا للعار! إن بدرا لحرية أن تكون حراما على المسلمين جميعا كحرمة مكة وكحرمة البيت العتيق، وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ولم يجدوا من يصلح بينهما ويقاتل التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فحق عليهما أن يجتنبوا القتال في مكان له على التاريخ من الحرمة أنه أول مكان انتصر فيه الإيمان على الشرك وحقت فيه كلمة الله على الكافرين.» قلت هذا والغضب لما فعل الوهابيون والأشراف آخذ مني مأخذه، فلم يجد صاحبي بدا من أن يقر رأيي، وإن كنت أحسبه قد تولاه العجب أن يثير الأمر من حماستي ومن غضبي ما أثار.
وزاد في عجبي وفي غضبي أنهم يطلقون على هذه الغزوة بين الأشراف والنجديين اسم غزوة بدر، وكأنها وقعت كما وقعت بدر الكبرى بين المؤمنين والمشركين! قال صاحبي: «هون عليك! فالوهابيون الغلاة الذين غزوا الحجاز غزوه باسم العقيدة، مدعين أن من خالف مذهبهم مشرك كافر، أما وذاك رأيهم فلا تثريب عليهم أن يغزوا في بدر، وأن يذهبوا إلى أن الله نصرهم فيها كما نصر الرسول على أعدائه.» وصمت هنيهة ثم أردف: «ولم يكن بد أن يدافع أبناء الحجاز عن أنفسهم وقد هاجمهم خصومهم في هذا المكان وشنوا عليهم الغارة فيه.»
وتخطينا مصعدين هضابا تقع عندها قبور الشهداء الأولين، شهداء بدر الكبرى، وما لبثت حين اقتربت من هذا المكان أن نسيت الوهابيين والأشراف وغزوتهم، وأن هان عندي أمرها، فقد تعلق كل حسي بهذا المكان الذي طالما رسمته من قبل أمام ذهني، واستيقظت في ذاكرتي أدق التفاصيل من هذه الغزوة الأولى بين محمد وخصومه، وكدت أرى أبا بكر وعمر وحمزة وعليا حافين من حول الرسول، وتابعنا تقدمنا وتصعيدنا حتى كنا عند هضبة حفرت أمامها في الأرض فجوة أحيطت بسياج من بناء، هنالك وقف القوم جميعا حول السياج، وقال سادن زاوية السنوسي: «هنا قبور شهداء بدر رضي الله عنهم.» وسادنا لسماع هذه الكلمات صمت رهيب شعرت من هيبته بأن قلبي يزداد خفقا، وأن جوارحي كلها تزداد تنبها، ثم رأيتني أحدق في قاع الفجوة، كأنما أرى هؤلاء الشهداء رأي العين وأقول: «السلام عليكم شهداء بدر، رضي الله عنكم، وغفر لنا ولكم!» وانطلقت أتلو الفاتحة ويتلوها أصحابي جميعا، ثم انطلقت ألسنتنا بالدعاء والاستغفار صادرين من قلوب صادقة في دعائها، مخلصة في استغفارها، أشربت للراقدين في هذا المكان حبا وإعظاما، وللذين جاهدوا في سبيل الله إكبارا وتكريما.
وبعد فترة لا أدري أطالت أم قصرت تحدث أحد أصحابي مشيرا إلى لوحة ثبتت في الصخر حيث كان يقف وقد كتبت عليها هذه الآية الكريمة:
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما .
يا للعجب! لقد سمعنا هذه الكلمات قبل اليوم عشرات المرات، وكنا في كل مرة نسمعها في إكبار وتقديس كإكبارنا وتقديسنا كلما سمعنا آي الذكر الحكيم، أما اليوم فكان لها في نفوسنا من عظيم الأثر ما اهتز له كل وجودي من شعر رأسي إلى أخمص قدمي، وتمنيت صادقا لو كنت قد أبليت مع الذين أبلوا في بدر فاستشهدت مثلهم وثويت في قبر من هذه القبور معهم، ما أعظمه في الحق فوزا وفخرا! وما أجلها غاية يهنأ الإنسان بها أن يستشهد في سبيل إيمانه بالله! فما الحياة إذا غاض منها الإيمان وتضعضعت فيها العقيدة؟! إنها تفقد إنسانيتها ويصبح الشخص فيها حيوانا شأنه شأن سائر الحيوان، همه أن يأكل ويشرب ويتناسل إجابة لدواعي الغريزة ودوافع الاحتفاظ بالنوع، وإذا استوى الإنسان والحيوان فلا خير في الحياة، فإنما يتميز الإنسان على الحيوان بحياته المعنوية، والعقيدة والإيمان هما سر هذه الحياة المعنوية وقوامها، فإذا غاض هذا السر وضمر ضمرت إنسانيتنا حتى تغيض، ورددنا بذلك حيوانا كل الفرق بينها وبين غيرها من الحيوان أنها تنطق، ولكن كنطق الببغاء، نطق تقليدي لا اجتهاد فيه، وأنها تسير على قدمين بدلا من أن تزحف أو تسير على أربع.
العقيدة والإيمان سر الحياة الإنسانية وروحها ومظهرها، بل هما الحياة الإنسانية وسبب وجودها، ولولاهما لما كان لهذا الكون بالإنسان حاجة، ولما كان لوجود الإنسان فيه سبب، وقيمة الحياة الإنسانية أن يتحققا فيها، أو تصبح هذه الحياة عبثا يجب أن يتنزه مبدع الكون عنه، والعقيدة والإيمان أعظم قوة في الحياة، أمامهما تندك الجبال وتضطرب الرواسي وتخر تيجان الملوك ساجدة وتتحطم تحطما، وهما اللذان سارا بالكون والحياة إلى ما بلغنا من تقدم؛ وهما لذلك الجديران دون سواهما بأن يضحى بالحياة في سبيلهما، أما ما سواهما في الحياة فأهواء ومطامع لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولا قيمة لها في التقدير الإنساني السليم، فالمال والجاه والحكم والسلطان أوهام باطلة وضلال يمليه الغرور؛ لذلك لا بقاء لها على الحياة.
وماذا خلف الإسكندر للإنسانية بملكه الطويل العريض؟ وماذا خلف قارون بماله إلا المثل المأثور يطلقه الناس على المال المتكاثر فيقولون: إنه مال قارون؟ وماذا خلف أولو الحكم والسلطان؟ فأما أرباب العقيدة والذين ملأ الإيمان قلوبهم فخلفوا تراثا تتناقله أجيال الإنسانية، ضخما كان هذا التراث أو ضئيلا، ولا يزال الناس يتذاكرون حتى اليوم آراء سقراط وأفلاطون وأمثالهما من حكماء اليونان وفلاسفتها كما يذكرون أولي الرأي المؤمنين برأيهم في غير اليونان من الأمم القديمة، وأصحاب المذاهب الأربعة الإسلامية أبقى في الحياة أثرا من ملوك المسلمين وأمرائهم جميعا، وأولو الرأي هؤلاء لم يجاهدوا في سبيل آرائهم ولم يبذلوا لها روحهم وحياتهم، أما الذين آمنوا وافتدوا إيمانهم بحياتهم من شهداء بدر ومن إليهم، وأما الذين جاهدوا في سبيل الله بأرواحهم لنصر كلمة الحق، فأولئك جميعا أحياء عند ربهم يرزقون، وأولئك تذكرهم الإنسانية في إجلال وإكبار، ويقول كل واحد من أبنائها البررة كلما ذكرهم: «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.»
وشهداء بدر القدوة والمثل في افتداء الإيمان بالحياة، وفي قوة المؤمن بإيمانه وفي سمو الإيمان بالحياة إلى المثل الأعلى، فهؤلاء ثلاثمائة من الرجال جاءوا بدرا لا يريدون حربا، بل يريدون أن يأخذوا عير أبي سفيان لقاء ما أخرجت قريش صفوتهم من مكة بعد أن آذتهم وأبعدتهم عن أموالهم وأهليهم، فإذا أبو سفيان فاتهم ونجا بنفسه وبعيره، وإذا قريش خرجت إلى بدر بقضها وقضيضها وألقت إلى قتال المسلمين بأفلاذ أكبادها، حتى لم يبق بمكة بعد خروجها متخلف قادر على القتال، أفيقاتل المسلمون هذا الجيش ورجاله ثلاثة أمثالهم عددا وعدة، وليس لهم من وراء هذا القتال بعد نجاة أبي سفيان مأرب؟ لكن قريشا جاءت تناجزهم، فلم يبق الأمر أمر أبي سفيان وعيره، بل صار أعظم من ذلك وأجل خطرا، صار الإيمان والشرك يلتقيان، ولقد أدرك المسلمون هذا الموقف مذ عرفوا خروج قريش تحمي تجارتها، وأدركوا أنهم إن تقاعسوا أو تضعضع ركنهم علت كلمة الشرك وعادوا من أذى قريش إلى شر مما كانوا فيه بمكة، فهان على يهود يثرب أمرهم، ولم يبق للدين الذي بعث الله به رسوله أيد ولا قوة.
لذلك تمثلت كلمة المهاجرين حين شاورهم النبي في قول المقداد بن عمرو: «يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.» وتمثلت كلمة الأنصار في قول سعد بن معاذ محدثا النبي: «لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله.»
لم يكن موقف المسلمين من قريش أمر مال وغنيمة إذن، بل كان الإيمان والشرك يلتقيان؛ لذلك لم يلبث القوم حين نظموا صفوفهم وأخذوا للقتال عدتهم أن بدت بينهم قوة الإيمان وضعف الشرك؛ بدت قوة الإيمان المتصل بالله وحده سامية على كل قوة، فلا يغلبها في الأرض غالب، ولقد استعرضت أمام ذهني وأنا بموقفي من قبور الشهداء هذا المنظر الفذ من مناظر التاريخ، فبهرني ما للإيمان من قوة لا تغلب.
نزل الفريقان منازل القتال، والمسلمون فيما رأيت من بأس وعزم، وقريش ما يزالون مترددين، يقول لهم عتبة بن ربيعة: «يا معشر قريش! إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته، فارجعوا وخلوا بين محمد وسائر العرب، فإن أصابوه فذلك الذي أردتم، وإن كان غير ذلك لم نتعرض منه لما تكرهون.» ولولا حدة أبي جهل ودفعه عامر بن الحضرمي ليأخذ بثأر أخيه الذي قتله المسلمون في سرية عبد الله بن جحش، ولولا أن اندفع الأسود بن عبد الأسد المخزومي من صفوف قريش إلى صفوف المسلمين فعاجله حمزة بن عبد المطلب بضربة أطاحت بساقه فسقط إلى ظهره تشخب رجله دما، فلم يبق بعد الدم من القتال مفر، إذن لغلب التردد قريشا ولارتدوا على أعقابهم كاسري الطرف في غير قتال خاسئين.
والآن تبدأ المعركة، انظر! إنني أراها بعيني في هذا الوادي المنبسط أمامي تحيط بها الهضاب والكثبان من كل جانب، فهذا عتبة بن ربيعة الذي كان يهيب بقومه منذ لحظة أن يرجعوا قد خرج في سلاحه بين أخيه شيبة وابنه الوليد يدعو المسلمين للمبارزة، ويخرج إليه فتيان من المدينة فيأبى قتالهم وينادي المنادي: «إنما نريد أكفاءنا من قومنا.» فيخرج حمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث، ألا تراهم! ما أشد ما ترمي عيونهم بالشرر! وا عجبا! هؤلاء قوم لا يريدون قتالا بل يريدون استشهادا، لقد انقض حمزة على شيبة وانقض علي على الوليد كما ينقض البازي على فريسته، فإذا المشركان مجندلان ضرجتهما دماؤهما، أما عتبة فيحاول أن يثبت لعبيدة، فإذا حمزة وعلي قد فرغا من خصميهما يجهزان عليه كما أجهزا على أخيه وابنه، يا لعار هذا الجحفل اللجب! أفقدر لهؤلاء الذين أجلتهم قريش عن مكة أن ينتصروا عليها وأن يهزموا جموعها؟ فلتزحف هذه الجموع إذن حتى لا يبقى لمحمد ولأصحابه باقية.
رفقك اللهم! هذه جموع قريش تزحف، وهذه جموع المسلمين تزحف، رفقك ربي ورحمتك! ماذا يصنع ثلاثمائة من المسلمين بألف من قريش؟ وهذا رسول الله بين المسلمين يعدل صفوفهم، لكن زحف قريش يزيدها بأسا، وتفوق عديدها على المسلمين يجعلها تحيط بهم وتكاد تغرقهم في لجتها، رب ماذا كتبت في لوحك المحفوظ مصيرا لهذا اليوم العصيب؟! هذا رسول الله يعود إلى المؤخرة ويقف في العريش الذي بناه له أصحابه قبل الموقعة، وهو أشد ما يكون إشفاقا من هذا المصير ومن خاتمة المعركة، أين وعد الله النصر إذن؟ وهل أثم المسلمون فجزاهم الله بإثمهم هذا الموقف الرهيب؟
انظر كرة أخرى! فالآن يتخذ كل فريق في زحفه مواقف الاشتباك بخصمه ويكادان يلتحمان، والآن يقف رسول الله وجلا مشفقا مستقبلا القبلة، متجها بكل نفسه إلى ربه يناجيه ويخاطبه: «اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد!» ألا تراه! إنه يمد كلتا يديه ويهتف بربه مستغفرا تائبا داعيا مبتهلا، وهذا رداؤه يسقط عن منكبيه لشدة توجهه إلى ربه وهتافه به، ويرد أبو بكر الرداء على منكبيه على منكبيه ويهيب به: «يا نبي الله! بعض مناشدتك ربك! فإن الله منجز لك ما وعدك.» لكن نبي الله لا يزال يتضرع إلى الله ويستعينه، ها هو ذا جلس في العريش صامتا وأغمض عينيه كأنه نام، انظر إلى وجهه! إن أساريره لتنبسط وثغره لتضيئه ابتسامة الظفر، إنه لا شك يرى في هذه الساعة ما لا يراه غيره، لقد كشف الله عنه الحجاب فرأى نصر الله منه قريبا، والمعركة تدور هناك في الميدان رحاها لا يدري أحد عم تنكشف؟ إن قريشا لعلى ثقة بعددها وعدتها، فهي تحسب النصر وشيكا أن يتم، والمسلمون يزيدهم الإيمان في كل لحظة قوة على قوتهم فهم يبطشون بكل مشرك تصل إليه أيديهم بطش عزيز مقتدر.
وعد بنظرك الآن إلى العريش، لقد انتبه رسول الله من نومه، إنه يخرج إلى الناس فينادي فيهم: «والذي نفس محمد بيده، لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة.» ألا ترى إلى وجوه المسلمين ساعة طرق سمعهم صوت الرسول ونداؤه إياهم بهذه العبارة، ومن من المؤمنين من لا يريد الجنة؟! من منهم من لا يريد نعيم الرضوان في رحاب الله بديلا من هذه الحياة الدنيا وكاذب غرورها؟! والجنة للصابرين على البأساء والضراء وحين البأس، والجنة لمن أحسن البلاء في سبيل الله ومن غمس يده في العدو حاسرا ، والله ولي الصابرين والذين يستشهدون في سبيله، يمدهم بالملائكة يبشرونهم ويزيدونهم تثبيتا وإيمانا.
لا أرى أمامي إلا غبارا ثار نقعه فحجب الميدان وما فيه، وكأنما اقتطعه من نطاق الزمان والمكان ليجعله على الدهر آية لقوة الإيمان المتصل بالله، له الملك وله الأمر كله، وهذا هو الجو الآن ينكشف فأرى، نعم! أرى الواحد من المسلمين إذ يرفع سيفه ويهوي به على عنق عدوه إنما تحرك قوة الله يده، وإذ يحدق بنظره إلى شرذمة من المشركين في إقبالهم عليه يردهم على أعقابهم فيتلقاهم مؤمن من إخوانه يحز رقابهم حزا، ويرديهم في حفرة الموت هلكى، وأرى رسول الله يأخذ حفنة من الحصباء يستقبل بها قريشا وينفحهم بها وهو يقول: «شاهت الوجوه». فيولون أمام الحصباء فرارا، ويمتلئون من رميها رعبا، وكيف لا يولون وقد تجسمت أمامهم قوة الإيمان فهم لا يعرفون لها مدى ولا حدا! ويرون إخوانهم في الكفر صرعى فيأخذهم الهول ويلتمسون النجاة هربا! وتتم كلمة ربك وينجز رسوله وعده، فتفر قريش، ويطاردهم المسلمون ويعودون بالأسرى وقد امتلأت نفوسهم طمأنينة ورضا.
رأيت هذا كله وأنا بموقفي أجيل الطرف في ميدان بدر، فلما تم للمسلمين النصر تنفست الصعداء وملأ الرضا قلبي، ثم رجعت بصري إلى ناحية الهضبة التي تحتضن قبور الشهداء وانفجرت شفتاي عما سمعه أصحابي: «يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما.»
وعاد لي بعد هنيهة هدوء نفسي، فسرت الهوينى حتى استوقفني رجل من بدر عند مكان ذكر لي أنه القليب الذي دفن المشركون من صرعى بدر به، وأضاف: «إن لون الرمال فوقه داكن لما يلفحه من نار جهنم، وإنك تحسه دافئا أبدا في الصيف وفي الشتاء.» ولم أرد أن أمسك هذه الرمال بيدي وإن مد محدثي إلي يده بحفنة منها؛ لأنني خشيت ألا أشعر بدفئها فيتهم القوم حسي؛ ولأني كنت شغلا عن ذلك بتعرف ميدان بدر وحدوده ومواقف المتقاتلين منه وموضع اشتباكهم فيه.
فمن أي ناحية جاء المسلمون إليه؟ ومن أي ناحية جاء المشركون؟ وأين العدوة القصوى؟ وأين العدوة الدنيا؟ وأين مكان الماء الذي أشار الحباب بن المنذر بن الجموح على رسول الله فنزله المسلمون؟ وأين مكان العريش؟ وأين التقى الجمعان؟ هذا هو الذي كان يعنيني وعنه كنت أسأل، وقد أجابني القوم بما لا أعرف مبلغه من الدقة، ذكروا أن القليب الذي دفن المشركون به يقع بين العدوة القصوى وبين قبور الشهداء، وقد رأيت أنا تخطينا من زاوية السنوسي في سهل منبسط حتى بلغنا هضبة الشهداء ثم سرنا لم نغير اتجاهنا حتى كنا عند القليب، فالعدوة القصوى هي إذن هذه الهضبة القائمة هناك في الطرف المقابل إلى حيث تقوم زاوية السنوسي، أما العدوة الدنيا فتقع في رأيهم بين زاوية السنوسي وقبور الشهداء، وتقوم على مقربة من هذه العدوة الدنيا هضبة أشار إليها دليلنا وقال: هذا قوز علي، وسألت: ما القوز؟
1
فقال: إنه الجبل القليل الارتفاع، وأن هذا الجبل هو الذي رأى علي منه المشركين وأخبر النبي بهم، وقد دلني ذلك على أن القوم يذكرون السيرة ذكرا حسنا، وإن لم يبلغ غاية الدقة، فقد بعث رسول الله علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه حين نزلوا بدرا إلى ماء بدر يلتمسون له الخبر عليه، وعادت هذه الطليعة ومعها غلامان، عرف الرسول منهما أن قريشا وراء الكثيب الذي بالعدوة القصوى، لكن ذكر القوم للسيرة لم يكفني للاقتناع بصحة ما يعينونه من مواقع الغزوة، فقد رأيت الأماكن التي يذكرونها لا يتفق تحديدها مع ما تصفه الروايات الواردة في كثير من كتب السيرة.
فأما العريش الذي بناه المسلمون لرسول الله ففي مكانه الآن مسجد يسمى مسجد العريش، وهو قد بني على طراز مساجد مكة بساطة وضيق رقعه، مع أن موقف الرسول فيه من أجل مواقف حياته، والمسجد يقع اليوم بين دور بدر، كما يقع مسجد عداس بالطائف بين دور المثناة.
وآن لنا أن نعود إلى زاوية السنوسي لنستقل السيارة إلى ينبع، وفيما نحن في الطريق سألت سادن الزاوية: أيجيء إلى بدر زوار يقفون عندها؟ وأجابني: إن الذين يجيئون إليها قليلون، وإنهم لا يقفون عندها غير ساعات كما فعلنا، وإن منهم من يكتفي بزيارة قبور الشهداء للتبرك بها وقراءة الفاتحة، وقليلون يسألون عما سألت عنه من أمر الغزوة وميدانها ومواقعه فيجيبونهم بما أجاب كثيرون به.
وتبسمت من قوله وذكرت ميدان «واترلو» حيث كانت الموقعة بين نابليون وولنجتون، وكيف صور القوم نموذجا مصغرا للميدان ومواقف الجيوش المتحاربة منه وأطوار الموقعة فيه تصويرا بارزا يسهل معه لمن شاء أن يحيط بدقائق الموقعة خبرا، وليس لموقعة «واترلو» في حياة الإنسانية بعض ما لغزوة بدر من أثر، لكنه العلم وما يكبره من عبرة التاريخ قد أدى بأهل الغرب إلى تصوير هذا النموذج البارز لموقعة «واترلو»، وهو الجهل الذي خيم على العالم الإسلامي منذ عصور الانحلال هو الذي أدى بهم إلى ألا يفعلوا من مثل شيئا يرسمون به لزوار البلاد الإسلامية المقدسة صورة صحيحة لما حدث في عهد الرسول النبي العربي.
ليس لموقعة «واترلو» ولا لأية موقعة غيرها بعض ما لغزوة بدر من أثر في حياة الإنسانية، فغزوة بدر رمز صادق للاستشهاد الصريح في سبيل العقيدة استشهادا مبرأ من كل غاية أو غرض إلا الدفاع عن هذه العقيدة والإيمان بها والدعوة إليها، وهو استشهاد صريح؛ لأنه يتم في ميدان الشرف بين جموع المؤمنين الذين يواجهون خصومهم، ليس يذهب طالبه في غسق الليل ولا في غفلة الناس ليغتال إنسانا أو طائفة من الناس؛ لأنهم خصوم إيمانه وعقيدته، بل يدعو ثم يدعو ويستعذب الأذى، ويضحي بمنافع الحياة في سبيل دعوته، فإذا اجتمع حوله قوم أنسوا في نفوسهم القوة على الدفاع عن عقيدتهم في وجه خصومهم، وهبوا حياتهم في سبيل هذا الدفاع ومشوا إلى الموت حريصين عليه، ومن حرص على الموت وهبت له الحياة، حياة خالدة في نعيم الرضا لمن استشهد، وحياة راضية سعيدة مطمئنة لمن لم تكن الشهادة نصيبه، بدر هي الرمز الخالد السرمدي لهذا المعنى السامي، أبلغ المعاني الإنسانية سموا وأعظمها جلالا، أما وذلك شأنها فليس «لواترلو» ولا لأية موقعة غيرها بعض ما لها في حياة الإنسانية من أثر.
ترددت هذه العبارة الأخيرة في نفسي والسيارات تنهب بنا الأرض إلى ينبع، فقد خرجنا من ملتويات الطرق ومنعرجاتها إلى بيداء منبسطة ذاهبة في انبساطها إلى حدود الأفق، ولم تكن رمال هذه البيداء منحلة يخشى أن تغور فيها العجلات، بل كانت رمالا شاطئية تتسرب إليها مياه البحر إلى أميال بعيدة فتكسبها تماسكا وتجعلها صلبة صلابة الأسفلت، وإن بقيت تحت عجل السيارة أكثر لينا ومرونة، ولم تكن هذه البيداء مطروقة، فلم يخط عجل السيارات فيها دروبا واضحة للسائرين، ولم يقلب بعض الأماكن القليلة التماسك منها ظهرا لبطن، كيف لنا أن نعين اتجاهنا فيها حتى لا نضل الطريق إلى ينبع؟ ما كان هذا الأمر ليعنيني لولا أن «زمزم» تبرح هذا المرفأ بعد غد، لكني ما لبثت أن اطمأننت حين رأيت دليلنا الجندي النجدي يذر مجلسه من البكس ويتخذ لنفسه مجلسا في سيارتنا ليهدي السائق طريقه، وأشهد لقد رأيت من مهارته ما أعاد إلى ذاكرتي صورة ما كنا نحفظه من الأدب العربي القديم عن دقة العرب في قص الأثر، بدأ فصور لنفسه موقع ينبع وجعل يصدر أوامره للسائق بالسير إلى اليمين أو إلى اليسار - كما يفعل ربان السفينة إذ يصدر الأوامر من مجلسه فوقها إلى الذين يديرون المحركات في قاعها - والسائق يسير بأمره منطلقا في هذه البيداء المترامية مطمئنا إلى أنه لم يضل طريقه، وبعد ساعة وبعض الساعة من خروجنا من بدر، بدت على الرمال آثار مبهمة لم أحسبها شيئا، وأيقن دليلنا أنها الدروب إلى ينبع، وأقر «حسن» رأيه فزاد في سرعة السيارة إلى غاية ما تطيقه، ومم نخشى وليس في طريقنا إنس ولا أثر لحياة، وليس فيها شبهة حجر تمر السيارة فوقه؟ واطمأن الدليل إلى أنه أدى واجبه فألقى إلي بنظرات راضية من عيون دعجاء شديدة البريق، وكأنما يسألني العفو عما سلف في طريقنا بين الحمراء وبدر، وشكرته، وأبديت عظيم إعجابي بمهارته، ونسيت له ما قال عن أهل بدر ممن يقيمون اليوم بها.
فقد ذكرت إذ عدنا من ميدان الغزوة الكبرى إلى زاوية السنوسي متخطين مقابر الأشراف والنجديين ممن دنسوا هذا المكان بالقتال فيه، أن هذا البلد يجب أن يكون حراما، ويجب أن يعرف المسلمون لأهله من الحرمة مقامهم عند الشهداء، فنظر النجدي إلى سادن السنوسي وإلى أفراد من القرية جاءوا إلينا وانضموا إلى جمعنا نظرة كلها الازدراء لهم وعدم الاكتراث بهم، وقال: «أهل بدر قوم ضعفاء.» يريد بذلك أن الضعيف غير جدير بحرمة، وإنما الجدير بها من يقدر على الدفاع عنها، ولم أعقب على عبارته هذه، وانتظرت تعقيبا ممن وجهت إليهم فإذا هم سكون لا ينبسون، ومع ما دلني ذلك عليه من أن الرجل على حق حز في نفسي أن تصيب أهل بدر هذه المهانة وقد شهدت أرضهم فوز الإيمان على الشرك في غزوة بدر الكبرى.
أنستني مهارته قالته، وأنسانيها هذا المساء المقبل البديع، فقد بدأت الشمس تتوارى بالسحب ناحية الغرب، وبدأت هذه البيداء تكسوها ظلال رقيقة تزيد بسطتها بهاء وروعة، وتزيدنا بها وبصحبتها متاعا وسعادة، وقال صاحبي مشيرا إلى ناحية اليمين: «هذه جبال رضوى.» لم أر أنا بالعين المجردة إلى ما وراء الأفق جبالا، ولم أفكر في الاستعانة بالمنظار المكبر، فقد كنت سعيدا بأننا على هدى في طريقنا، وكنت أشد حرصا على أن أرى طلائع ينبع مني على أن أرى أشباح رضوى وما يثيره في النفس من ذكريات. «هذه الآن طلائع ينبع.» كذلك قال الدليل مشيرا بيده إلى ناحية اليسار فيما أمامنا، وأسرعت إلى المنظار المكبر فصدق الدليل وكشف لي عن موج البحر، وانطلقت السيارة تنهب الأرض في سرعة كأنما جن جنونها، وفي دقائق تبدى البحر وتبدت طلائع الثغر للعين المجردة، وبعد دقائق أخرى كانت السيارة تدور حول أسوار المدينة تبتغي مدخلها لتبلغ بنا دار مضيفنا.
وتلقاني القوم في هشاشة وترحيب، وأشفقوا مما لقيت طيلة نهاري من وصب حين وصف أصحابي طريقنا من الحمراء إلى بدر، لكنني لم أكن أشعر بمشقة ولا بتعب، لقد كنت سعيدا بما رأيت، وبما أثار في نفسي من المعاني البالغة غاية السمو ، فلما آن لي أن أطمئن إلى مضجعي زدت بما انتشر أمام ذهني من ذلك سعادة ورضا، رضي الله عن أهل بدر وغفر لهم، فهم جديرون حقا بقوله
صلى الله عليه وسلم : «لعل الله قد اطلع إلى أهل بدر يوم بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.»
يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما!
أوبة الرضا
أصبحت بينبع مطمئنا سعيدا، وهبطت إلى غرفة الاستقبال فألفيت بها قوما من أهل البلد تفضلوا بزيارتي، فلما تبادلنا الحديث عجبت أن تكون لهجة أحدهم أدنى إلى المصرية، وحسبت السبب في ذلك محاذاة ينبع مصر، لكن الرجل أسرع فذكر لي أنه مصري المولد، وأن له بينبع بضع سنوات احترف فيها مهنة التعليم، وأن به إلى مصر هوى لولا ما يمسكه من لطف أهل البلاد به ومن شغفه بالأماكن المقدسة، وشعرت لحديثه كأنما هزني إلى مصر شوق زادني هوى إليها، يا عجبا! ألذلك سر؟ لقد رأيت من أمثاله كثيرين بمكة وبجدة وبالمدينة فلم تحرك لقياهم هذا الشوق في نفسي، ترى أفي نبرة هذا الرجل سلطان على هذه الناحية من النفس لم يكن للذين لقيتهم قبله، أم السر في هذه المدينة التي نتحدث فيها؟ إذ ذاك ذكرت ما يحرك اقتراب الأوبة إلى الوطن من حنين النفس إليه، وما يشتد بنا من الشوق إلى الأعزة فيه عند وقوفنا على شاطئ البحر الذي يصل بيننا وبينهم، وكأنما تحمل إلينا أمواجه من روحهم ما لا يحمل إلينا الأثير ونحن نضرب في الأرض، أم أن اقتراب اللقيا يحرك في النفس لواعج تظل حبيسة لا تثور ما كان الأمل في اللقاء بعيدا، فإذا تنسمنا ريح الوطن يدنو تمثلنا صدور الأعزة تقترب من صدورنا، وقلوبهم تمتزج بقلوبنا، فرفت في جوانحنا عواطف الود والمحبة تريد أن تطير بنا إليهم وتخلف وراءها ما بقي بيننا وبينهم من أيام؟
وخرجت من الدار مع أصحابي لزيارة أمير ينبع، فعلمت منه أن «زمزم» رست في المرفأ وأنها قيد النظر، وشربنا القهوة النجدية والشاي واجتمرنا بذلك العود الذكي الرائحة والذائع اليوم في البيئات الرسمية بالحجاز، وتناول حديثنا سفر «زمزم» ومرفأ ينبع وما يجده المتنقل منه إلى البواخر الكبيرة من مشقة إذ تنقله الزوارق الصغيرة من الشاطئ إليها في بحر مضطرب الموج أكثر الأحايين، وتابعنا الحديث في اتصال البلاد التي تتكلم العربية جميعا، وفي سهولة المواصلات بينها، وفيما أدى ذلك إليه من ارتباطها من قبل في الوحدة الإمبراطورية الإسلامية، وأسلفنا لجناية الدهر على هذه الروابط ولتفريط المسلمين في العمل على إعادتها، وانتهينا من ذلك إلى حلو الأماني، ولم يكن حديثنا في هذا كله ليتعمق في الأمور أو يقصد إلى شيء من الوقوف على أسرارها، فينبع بلد صغير، وأهله وأميره وحاشية الأمير فيه أكثر عناية بشئونه المحلية الخاصة منهم بشئون التاريخ وأطوار الحياة، وهم كأعيان ريفنا المصري كرما وترحيبا وحسن لقيا، ولقد غادرتهم شاكرا لطفهم، شاكرا للأمير ما أبدى من حرص على طمأنينتي حتى أبلغ الباخرة، ذاكرا له أن مضيفي وأهله قد بلغوا من هذا الحرص ما طوقوا به عنقي، وما جعل لهم عندي يدا لا تنسي.
وانطلقنا في ميادين فسيحة من أرض ينبع نبتغي الشاطئ حيث ضربت البعثة الطبية المصرية خيامها، فشربنا قهوة مصرية وقضينا من الوقت ما بقي إلى الظهر، وعدنا إلى الدار فأقمنا بها، فلما اقترب المساء أقبل علينا فيها إخوان من المصريين تحدثوا في سفرنا ظهر غد، وكان حديثي معهم حديث طمأنينة ورضا وشكر لله على توفيقه إيانا في سفرنا ومقامنا مذ عزمنا الحج حتى أتممنا مناسكه، وزرنا قبر رسوله الكريم فصلينا وسلمنا عليه، ورجونا الله واثقين من إجابته رجاءنا، أن ييسر عودتنا كما يسر سفرنا، وأن يهدينا بفضله صراطه المستقيم.
وأصبحت فأعددت متاعي للسفر، وودعت مضيفي شاكرا، وذهبت ومن صحبني إلى «الجمرك»، ثم أقلنا زورق صغير إلى الزورق البخاري «السويس» ليقلنا إلى «زمزم»، ونحن في شوق أي شوق إلى ركوب ظهرها، ولقد كنا السابقين إلى الزورق البخاري فلم يصله غيرنا إلا بعد ربع ساعة من مجيئنا له، ووقفت عند مؤخرته أحدق في الشاطئ وما عليه، ما أعظم هذا الحشد الهائل هناك! ما أشدهم تدافعا بالمناكب، أولئك الحجاج المصريون الذين عزموا العودة على زمزم وعلموا أنها تبحر بعد ساعات، فهم مشفقون أن تفوتهم؛ وهم لذلك يقتتلون يريدون النزول إلى البحر لإدراكها قبل أن تطلق لمحركاتها أعنتها، انظر إلى هؤلاء الجنود حولهم يريدون تنظيمهم فيأبى أقوياؤهم إلا أن يتقدموا الضعفاء، وكأنما نسوا الحج وما يجب عليهم بعده من حماية الضعيف وعدم الاعتداء على حقه! هذه معركة تقوم بين بعضهم وبين الجند، لكنها ليست حامية، إنها سرعان ما هدأت وعاد القوم إلى احترام النظام، ويجيء بعد ذلك إلى زورقنا بعض ذوي المكانة من العائدين إلى مصر فنلقاهم بالترحاب وقد عرفناهم جميعا أو عرفنا أكثرهم بمكة أو بالمدينة، أما ذلك الجمع الحاشد على الشاطئ فقد أعدت لهم «صنادل» فسيحة الرحاب تتسع لهم جميعا، ويسحبها زورقنا بعد أن يتم عليها جمعهم، ولو أدرك أقوياؤهم ذلك ما تدافعوا بالمناكب ولا اشتبكوا بالجند ما دام آخرهم سيلحق على الصندل بأولهم ثم يبلغون الباخرة جميعا في وقت واحد، أم أن الناس درجوا على أن يتنافسوا وأن يستبقوا وإن في غير موضع لمنافسة أو سبق، وألفوا أثناء تنافسهم أن يشتبكوا وأن يقتتلوا ثم لا يصيبهم من ذلك خير وقد يصيبهم منه الضر والأذى.
وإنا لفي موقفنا نشهد ما يجري على الشاطئ إذ أقبل علينا ممثل شركة مصر للملاحة البحرية ينبئنا بأن «زمزم» لن تبحر اليوم بسبب هياج البحر، وأن من الخير أن نعود إلى ينبع نقضي بها إلى بكرة الصباح، وفيما هو يحاورنا ونحاوره في ذهاب «السويس» بنا إلى زمزم لنقيم بها، أبحرت اليوم أو أبحرت غدا، أقبل مضيفي وطلب إلي أن أعود معه، وشكرت له دعوته واعتذرت إليه عن إجابتها بأني وقد ركبت البحر معتزما السفر فلن أعود إلى الشاطئ، ولن أذر البحر حتى أبلغ غرضي أو يقضي الله قضاءه، وألح الرجل في الدعوة حرصا على راحتنا وطمأنينتنا، ورأيت بعض الذين معنا يميلون إلى العود لينبع حذر البحر وهياجه، أما أنا فأصررت على البقاء ما دمت قد عزمت السفر، ولم أنزل عن رأيي، وذلك دأبي، ادعه عنادا أو ادعه ما شئت، فهكذا خلقت: لا أرجع عما بدأت حذر مشقة أو خوف عناء، فالمشقة لا قيمة لها عندي، وأنا اليوم أكثر استهانة بها بعد أن قضيت بالحجاز ستة أسابيع أصعد في الجبال وأجوب البادية وأقضي الليل بالمسيجيد أو ببني حصان في منازل خير منها العراء، وليس في ينبع ما تهوى إليه النفس من أثر يزار أو علم يستفاد، ومهما يبلغ البحر من هياجه فالمقام على ظهر «زمزم» والتمتع بنسيمه الجميل خير من كل ما يدعونني إليه، ولم يجد مضيفي بدا آخر الأمر من الإذعان لمشيئتي، وكل الذي صنعه فضاعف به لطفه وثنائي عليه أن ترك من السجائر ما يكفيني يومين كاملين.
وغادرنا مضيفي ومندوب شركة الملاحة إلى زوارقهم يصحبهم من آثروا العودة إلى الشاطئ انتظار الغد، وانتقلت أنا إلى قمرة على الزورق جلست فيها وحيدا أفكر في هذا التأجيل لسفر «زمزم» من ينبع، وأذكر حادث «كوثر» إذ نحن بمرأى من جدة أول ما بلغنا الحجاز، وألتمس في الحادثين آية من الله وعبرة لنا، ولم يطل بي التأمل إذ رأيت الحجيج على الشاطئ وما يزالون في تدافعهم بالمناكب وفي تنافسهم وحرصهم على السبق إلى «السنابك»، ألم يأتهم نبأ البحر وهياجه وزمزم وإرجاء سفرها؟ أم أنهم مثلي لا يريدون الرجوع عن أمر عزموه؟ وسألت ربان زورقنا الذهاب بنا إلى «زمزم» كيما نقضي الليل بها، فاستمهلني حتى يرى ما يكون من أمر زملائي الذين يفدون إلينا، ولا يحول دون وفودهم إرجاء السفر، فلما أذن العصر لم ير بدا من الذهاب إلى «زمزم» حتى لا يشق علينا المبيت بزورقه وليس فيه من أسباب العيش ما ألفنا، ووقف في غرفته التي كنت أرقب الشاطئ منها وصفر لينبه رجاله بصفيره إلى أنه سيصدر إليهم أوامره، وبدأ يلقي بهذه الأوامر من بوق في الغرفة بلغة لم أفهم أكثر ألفاظها؛ لأنها اصطلاحات فنية لا تقيدها مجامع اللغة في المعجمات ولا يفهمها لذلك إلا أهل الفن!
وبعد سويعة انطلق الزورق ميمما شطر زمزم، وربانه في موقفه يلقي أوامره ويمسك بيده عجلة القيادة، وبعدنا عن المرفأ ومبانيه وانكشف أمامنا البحر في جلاله ورهبته وجماله، وسرى إلينا نسيمه وارتفع إلينا رشاش موجه فبعث إلى النفس السرور والغبطة، وأية غبطة وأي سرور كاتصالنا بالكون في فسحته وعظمته، ننهل من نوره وهوائه، ويشتمل نظرنا سماءه وماءه، ونندمج فيه بكل حواسنا، ونشعر بأننا ذرة منها سابحة في نظام أثيره سبح الكواكب والأفلاك وسبح الأحياء والخلائق كافة.
وإنا لفي منتصف الطريق إلى «زمزم» إذ بدأ الزورق يعلو مع الموجة يمنة ويسرة، ويشعرنا بتمايله وارتفاعه وهبوطه من شدة هياج البحر ما أرجأ سفرنا، هنالك أخذتني نشوة غلبت في نفسي عبث الموج بزورقنا وبطمأنينتنا، هي نشوة ساذجة كثيرا ما يأبى الناس الإفصاح عن مبعثها، وهي التي تحركهم مع ذلك في كثير من مواقف الحياة، تلك نشوة الظفر بالبحر واقتحام موجه على ظهر زورقنا الصغير، وإقدامنا بذلك على مغامرة خشيت «زمزم» الضخمة العظيمة أن يقدم الناس عليها، ها هي ذي أمامنا، وها نحن أولاء نقترب منها، واستعان الربان بمنظاره الكبير ليرى رجالها على سطحها، وأطلق صفارة «السويس» في أنغام مختلفة لينبههم إلينا كيما ينزلوا السلم لنرقى عليه إلى الباخرة، والموج يزداد تقلبا كلما ازددنا من الباخرة قربا، فيزيد في تمايل الزورق وفي ارتفاعه وهبوطه على نحو يبعث إلى النفس الرهبة لولا أننا كنا مأخوذين بنشوة الظفر.
وإنا لكذلك إذ علا في الجو صفير «زمزم» في أنغام مختلفة كأنما تجيب بها أنغام زورقنا المختلفة، ولم نعن بالأمر بادئ الرأي وحسبناه تحية تبادلها الباخرة الكبرى زميلتها الصغرى، وتابعنا اندفاعنا نشق عباب الموج لا نحفل هياجه، لكن ضجيج «زمزم» انقلب زئيرا، وجعل يزداد علوا، وتتقطع أنغامه ويبدو فيها صوت النذير، ماذا يعنون؟ سألت الربان في ذلك فأجابني: إنهم ينذروننا بأمر البحر وشدة هياجه ، قلت: فنحن أشد من البحر بأسا، فلنقتحم ما بقي منه إليهم.
ولم نزل في اندفاعنا نحوهم نجيب صفيرهم بصفير مثله، وأنغامهم بأنغام ليست دونها نذيرا، لم تبق هذه الأصوات التي ملأت جو البحر أصوات تحية إذن، بل انقلبت أصوات إرهاص كأنما تهاجم بارجة بارجة، أو كأنما نحن مدمرة تدنو من «زمزم»، وهبطت في الجو كسف من السحب حجبت الشمس، واشتدت الريح فزادت زورقنا على الموج اضطرابا، ويشتد في صفير «زمزم» صوت النذير فيبدأ رباننا يتردد ماذا يصنع على حبه الإقدام والمغامرة؟ فأشجعه وأدفعه إلى مزيد من الإقدام وأصور له الظفر وشيكا يمد إلينا يده، ويزداد صفير «زمزم» عنادا في النذير ولا ينزل القوم لنا سلما، هنالك غلب اليأس الربان، وكأنه ذكر النظام وأنه في إمرة «زمزم» وليست زمزم في إمرته، فبدأ دورانا يمهد به للنكوص مدبرا، وثرت به، وذكرت له أنا إذا بلغنا «زمزم» لم يكن لرجالها بد من معاونتنا على الرقي إليها، لكن نذير «زمزم» المتصل كان أقوى في نفسه أثرا فلم يعقب، واندفع مسرعا نحو موقفه الأول في المرفأ معتذرا بأنه لن يجازف فيعرضنا لخطر تكون عليه تبعته.
سقط في يدي حين فاتنا الظفر بغايتنا، مع ذلك لم آسف لهذه الموقعة الصغيرة التي غامرنا بها، فقد قضينا أثناءها أكثر من ساعة قطعنا بها هذا التشابه المملول الذي أظلنا مذ جئنا إلى الزورق قبيل الظهر فثقل علينا ظله، وما كان أجملها ساعة وأشدها روعة وأكثرها إثارة لمختلف إحساسنا ومشاعرنا! ولم نكن أقل بها متاعا أثناء عودنا بعد الموقعة، فسرعان ما اطمأنت النفس إلى حظها حين استدار «السويس» مدبرا، وفتحت صدري أستنشق فيه هواء البحر الرقيق الصافي واشتملتني غبطة راضية عقبت ثورتي لفرارنا، ووقف الزورق مكانه الأول والنهار وشيك أن يولي، والسنابك الراسية عند الشاطئ قد امتلأت بالحجيج، فلم يبق منهم من ينزل إليها إلا نفر قليل.
وبدأ ربان «السويس» يفكر في أمر هؤلاء وما يصنع بهم، لقد أقبلوا لركوب «زمزم»، فإيواؤهم وإطعامهم فرض على أصحابها، استقر رأيه مع ممثل الشركة على أن يجيئوهم بالخبز من ينبع، وأن يسحبوا الصنادل إلى جوار «السويس» وأن يمدوا إليها النور الكهربي، وأن يفتحوا قاعاتها لينام هؤلاء الحجاج فيها، وفعلوا، وكان مشهدا ظريفا جر هذه السنابك الضخمة وعليها هذا الجمع الغفير وربطها بالزورق البخاري الصغير جدا بالقياس إليها، وأضاءتها من الكهرباء أنوار ساطعة أرتنا القوم فيها وهم المرح والغبطة والجذل والرضا، فهم لم يكادوا يطمئنون إلى مكانهم، وينعمون بالنور يلقي شعاعه عليهم، حتى أحسوا كأنما يبعث نور الوطن شعاعه إلى قلوبهم، وكأنما تسري إليهم من مصر العزيزة المحبوبة نغمة أنس وهناءة، انفجرت شفاه الكثيرات من الحاجات عن أغاني الحجاج يرتلنها ويرددنها في صوت لا يخلو من رخامة الأنوثة وإن خلا من جمال النغم، يا ما أحيلى هذا الغناء! سرت إلينا منه ما اهتزت له الجوانح، لا من طرب بل من أشواق في النفس ثارت لواعجها وذكريات قريبة بمكة والمدينة انتشر أريجها، ونسمع إليهن يرددن: «إمتى نعود لك يا نبي؟» يقلنها صادقات، تصدر من قلوبهن قبل أن تتحرك بها ألسنتهن، فتهتز قلوبنا وإن لم تتحرك ألسنتنا، وهل شيء أكثر هزا للعواطف من كلمة صادقة صادرة من قلب مخلص عن إيمان سليم!
ترك الربان غرفته تلطفا منه، فقضينا بها ساعات الليل، وما إن تنفس الصبح حتى استيقظ هؤلاء المئون والألوف جميعا وقد أذن فيهم مؤذن الفجر أن الصلاة خير من النوم، وتحرك «السويس» في الساعة الخامسة من بكرة الصبح يجر معه صندلين، وسار يقصد «زمزم» في بحر هادئ لا موج فيه بل لا حراك به، وكأنه لما يستيقظ من هدأة نومه، وبلغنا «زمزم» فأرسينا إلى جانبها وقد أنزلت سلمها وأسرع الذين في الصنادل يرقونها، فلما خلت الصنادل نزلت ومن معي بالسويس وتخطيناه إلى زمزم، وبادلت رجالها التحية ثم آخذتهم بما صنعوا حين صدونا أمس عن الصعود بصفيرهم المليء بالنذير، فاعتذروا بأن البحر بلغ هياجه ساعتئذ وبلغ اضطراب «زمزم» فوقه، فلم يكن اقتراب السويس منها ممكنا، فإن أمكن حف صعودنا إلى الباخرة وهي فيما هي فيه من هذا الاضطراب خطر لا قبل لأحد باحتمال تبعته.
وما لبثت حين اطمأن بي المقام في غرفتي أن شعرت كأني عدت إلى مصر، فاستبدلت باللباس البدوي لباس المصري، أليس علم مصر خفاقا على سارية هذه الباخرة، فلأعد إذن كما كنت يوم غادرت مرفأ السويس، وكيف لا أفعل، ألست الآن في مصر؟! يا لرضا النفس وطمأنينة القلب! لقد غادرت مصر أبتغي أداء فريضة الحج فأديتها، وأبتغي زيارة الرسول الكريم في قبره فزرته، وأبتغي القيام بدراسات في منزل الوحي فقمت بها، كل ذلك وأنا بحمد الله في صحة موفورة وبنفس راضية، فماذا أبتغي وراء ذلك؟!
وها أنا ذا الآن تقلني جارية يرف عليها علم مصر وطني العزيز المفدى، والعلم هو الوطن، وليس رمزا له وكفى، وإن يكن رمزا فهو كذلك، كما أن اسمي رمز لي، واسمك رمز لك، وأنا إذ أسمع اسمك ترتسم صورتك أمام بصيرتي وأحسبني أراك كما لو ناديتك فأجبتني، ذلك شأني إذ أرى العلم؛ ترتسم لرؤيته صورة مصر كاملة أمامي، مصر بحدودها المترامية، وبنهرها وواديها وصحاريها، مصر بسمائها الصافية ونسيمها العذب، وتربتها الخصبة، وأزهارها المنبعثة الأريج، وثمارها الحلوة الشهية، وترتسم أمامي مصر على التاريخ بحضارتها العتيدة وآثارها الخالدة، وبفنها وعلمها وبآمالها وآلامها، كيف لا أشعر بنفسي إذن في مصر وأنا على باخرة مصرية تحمل علم مصر؟! ألا لو أن هذه الباخرة جابت بحار الأرض شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، فبلغت بي القطب ودارت بي حول الأرض لما شعرت يوما على ظهرها أني غريب عن بلادي ووطني، ولرأيتني أتنقل عليها وكأنما أتنقل من بقعة في مصر إلى بقعة غيرها في مصر، ولكنت بذلك مغتبطا دائما، سعيدا غاية السعادة.
وتحركت «زمزم» مبحرة حين تكبدت الشمس السماء ساعة الزوال، تحركت ميممة أرض الوطن، مودعة بلاد النبي العربي، وقلوب السفر عليها يتنازعها الحنين إلى الوطن والأعزة فيه، والتعلق ببلاد النبي العربي والحرمين بها، وانقضت ساعة الغداء والقيلولة، وعاد الناس يتلقون جماعات يتحدثون عن حجهم وما رأوا أثناءه راضين شاكرين فضل الله عليهم، تطوق ثغورهم جميعا بسمات طمأنينة وفيض من نعيم، ويسعدهم سكون البحر ورقة نسيمه، وأقبل الليل وأوينا إلى مضاجعنا، فإذا بي أستيقظ بكرة الفجر على أصوات جماعة جعلوا حلقتهم إلى جوار النافذة من غرفتي، ولقيت أصحابي بعد الإفطار وتحدثت إليهم في ذلك، فذكر كل منهم أنه استيقظ إذ سمع مثل ما سمعت، وزاد بعضهم أنه خرج إلى القوم يرجوهم أن يخفضوا من أصواتهم فابتسموا، وقالت سيدة: صل يا أخي على النبي! وأضاف أحد أصحابي: «لقد جئت من مصر على «زمزم» فلم يكن من ذلك شيء، بل لزم القوم الأماكن التي عينت لهم لم يبرحوها، فما لهم كذلك اليوم يفعلون، فيخرجون على النظام ولا يرعون ما لغيرهم في الدرجات الأخرى من حرمة؟!» وابتسمت لملاحظة صاحبي وعقبت عليها بقولي: «التمس يا صاح لهم عذرا، إنهم يوم غادروا مصر كانوا لا يزالون يذكرون النظام وسلطانه، والقانون وأحكامه، والطبقات وتفاوتها، ويرون ذلك كله ماثلا في عمدة البلد وجندي البوليس وفي جبروت الأغنياء وذوي الجاه والمكانة، لم يكونوا بعد قد نسوا ما ألفوا سماعه من هيبة الحكومة ومن بطش القانون وشدة أحكامه، وكانوا يرون القانون منقوشا بأحرف من بأس على بندقية الجندي في الطريق وسوط عذابه في السجن.
لم يكن أحد منهم يحسب المساواة التي تحدثهم عنها حقيقة لها في الواقع وجود؛ فكانت نفوسهم تغلي حفيظة، وكانت صدورهم تضيق ثم لا ينطق لسانهم من العجز والخوف؛ لذلك كانوا يحافظون على النظام الذي رسم لهم لا عن رضا وطواعية، ولكن حذر العقاب الذي يحل بهم لمخالفته، فلما حجوا البيت كما حججناه، ولبسوا الإحرام مثلما لبسناه، وطافوا بالبيت وسعوا بين الصفا والمروة كتفا معنا إلى كتف، ثم لما صعدنا جميعا عرفات محرمين ملبين داعين، رأوا صورة في الحياة لم يألفوها، ولن يألفوها في غير الحج، رأوا أننا جميعا سواسية حقا، إخوان حقا، وأنا جميعا ضعاف غاية الضعف، صغار كالذرات أمام عظمة الله وجلاله ومهابته، هنالك أصغروا ما بينهم وبين غيرهم من تفاوت، وأيقنوا أن الفقر فخر لمن عرف أن يسمو فوق هوان الغنى، وأن الضعف قوة ما آزره فضل في النفس وخلق عظيم، وأن الشحناء ليست من طبع الكرام، بهذا الروح عادوا من حجهم ، فإن كنت يا أخي في ضيق من حريتهم وكنت حريصا على أن يعودوا لما ألفوا في مصر من نظام، فأنظرهم أياما فسيرون بعدها من هيبة الحكومة وبطش القانون وسلطان النظام، وما يتمثل ذلك فيه من بندقية الجندي في الطريق وسوط عذابه في السجن، ما يردهم إلى حمى هذا النظام الذي يمقته الإسلام ولا يرضاه الله.»
وأمسك أصحابي عن القول بعد أن فرغت من حديثي، وإنا لفي هذه الفترة من سكوننا إذ حمل الهواء إلينا حداء وترديدا: «متى نعود لك يا نبي؟» وفي نبرتها من حلاوة الإيمان وعذوبة الصدق في التوجه ما جعل قلوبنا تهتف مع القوم: «متى نعود لك يا نبي؟» ترى هل غير هذا الهتاف من حبها النظام الذي ألفت وتوجيهها النقد إلى الذين تغنوا فحركها غناؤهم إلى التوجه لله بالأمل الصادق في العودة إلى بيته وقبر نبيه حيث الناس سواسية إخوان، لا يفاوت بينهم مال ولا جاه ولا سلطان؟
وفيما نحن سكون نسمع مر بنا طبيب السفينة فحيانا وجلس معنا ودعا الخادم ليجيء بقهوة، وأنبأنا أنا نرسو بالطور ظهر غد، وطمأننا إلى أن الحج نظيف هذا العام، وأنا لن نلقى لذلك بالطور عنتا، ونقلنا الحديث عن الطور من صمتنا إلى الحديث عن مصر وما يجري فيها، وبذلك انتقلنا خطوة جديدة نحو حياتنا الأولى.
وأرسينا بالطور ظهر الأربعاء الثامن من أبريل، فتناولنا طعام الغداء على ظهر السفينة، ثم نزلنا إلى المحجر فذهبت وبعض أصحابي إلى حزاء (10) وجيء إلينا بمتاعنا بعد تبخيره، والحزاء لفظ لا تعرفه اللغة العربية بمعناه المعروف بالمحجر، فهو مكان قبيح محاط بالأسلاك، به مبان غاية في البساطة لمبيت الحجاج، أما الحزاء (10) فحزاء أمير الحج، ولأمير الحج به بيت ينزل فيه حين مرور المحمل بالطور، وهو بهذه المثابة أول مظهر للنظام والتفاوت يشعر به العائد من الحجاز.
وقضينا بالطور ثلاثة أيام، محجوزون في الحزاءات بحكم القانون، وعلينا من الحراس أمثال حراس السجون، مع ذلك كانت أيام نعمة ورخاء، فقد كنا في حاجة إلى استجمام النفس بعد الذي صادفنا في الحج من هزات مختلفة الأطوار، وكنا في حاجة إلى راحة الجسم بعد مشقة السير والركوب في البادية والصعود في الجبال والانحدار عنها، وكنا في حاجة إلى استعادة صورة الحياة في مصر وما تضطرب به من منافع وأهواء حتى لا نعود إليها، وفي النفس نبو ظاهر عنها، وكان بعضهم في حاجة إلى هذه الأيام الثلاثة لينظم فيها مظهره حين عوده إلى بلده ومقابلة الناس فيها بوجه الحاج التقي النقي، ولقد حصلت من استجمام النفس والجسم على ما كنت في حاجة إليه، واتصلت بالحياة المصرية بمن لقيت من معارفي المصريين في المحجر، وما كان يرد لي كل يوم من الصحف به.
فلما آن لنا أن يفرج عنا وأن تقلنا «كوثر» من الطور إلى السويس، تفضل الدكتور هريدي مدير الحجر فدار بي أثناءه وأراني ما فيه من مواطن الماء الصالح، والمستشفيات، وغرف التحليل والمباخر، وما إلى ذلك من آثار العلم، وما يطوع لمصر أن تكون الحاجز الصحي بين الشرق والغرب، ولئن سرني أن يكون للعالم بمصر هذه الثقة، لقد ساءني أن تكون البلاد الإسلامية المقدسة هي سبب الحجر الصحي دون سواها من بلاد العالم، وألا تكون كذلك إلا في أعقاب أشهر الحج، كأنما العالم الإسلامي متهم في نظر الغرب بأنه حين الحج مثابة العدوى بالأمراض القتالة، فأما البلاد الأخرى في أواسط إفريقية وفي غيرها فلا خوف منها، وأما البلاد الإسلامية منفردة كل منها عن الأخرى فلا خوف كذلك منها، وإنما الخوف من هذه البلاد مجتمعة صادقة التوجه إلى الله وفي سبيل الله!
خرجنا من المحجر إلى «كوثر» ظهر السبت الحادي عشر من أبريل، فلما وقع نظري عليها وتخطيت رصيف المرفأ إليها هزني إحساس كذلك الذي يهزنا حين نلقى صديقا، وتركناه والخوف يساورنا على حياته، ثم لقيناه يمرح في صحة وعافية، وجعلت أكرر وأنا في طريقي إلى غرفتي: «حمدا لله على سلامتك يا كوثر!» فلما اطمأننت إلى متاعي عدت إلى ظهرها أنعم بهواء البحر الجميل.
وبلغنا السويس صبح الأحد، وفي الساعة التي انقضت بين وقوف محركات الباخرة وإرسائها على الرصيف تولانا السأم الذي يتولى المسافر دائما في مثل هذه الحال، فلما قربنا من الشاطئ ألفيت قوما من أهلي وألفيت والدي في انتظارنا، ونزلنا من «كوثر» وتخطينا الجمرك وركبنا السيارة، فانطلقت بنا في طريق السويس إلى القاهرة، ها أنا ذا على أرض الوطن، لك الحمد ربي ولك الثناء! وشعرت وقد رأيت أهلي من حولي برضا النفس وطمأنينة القلب إلى أني أديت واجبا وقضيت فرضا وعدت إلى الوطن سالما، ففاض القلب شكرا لله على جميل رعايته وعظيم نعمته، وبلغنا مصر الجديدة فازداد القلب اطمئنانا، وألفت العين كل ما حولها من المناظر، فلما بلغنا الدار ألفيت أهلي وأبنائي وقوفا في انتظاري وكلهم في لباس العيد، وألفيت لدى الباب عجلا ينحره القصاب ساعة دخولنا ليوزع على الفقراء قربانا إلى الله أن غنمنا السلامة.
هذه هي المرة الثانية لتي يلقاني فيها أهلي بمثل هذا الترحاب وهذه الحفاوة حين أوبتي من سفري، أما المرة الأولى فكانت سنة 1911 حين عدت من أوروبا لأول مرة بعد سنتين من مقامي بها طالبا أدرس بجامعة باريس، ولقد سافرت فيما بين ذلك إلى أوروبا وإلى السودان وإلى الشام وإلى تركيا مرات كثيرة، وقضيت في بعض هذه الرحلات زمنا يزيد على ضعف ما قضيته بالحجاز، مع ذلك كنت أعود إلى مصر فيخف أصحابي وأهلي للقائي، لكن في غير ضجة وفي غير قربان، ولا عجب؛ فقد كنت في المرة الأولى في فورة الصبا وبدء الشباب، وكنت قد اغتربت لأول مرة عن وطني، وطالت عنه غربتي، ثم عدت إليه وأهلي في شوق لرؤيتي، فرحون لذلك بمقدمي، وكنت في هذه المرة الثانية قد قضيت لله فرضا، ووقفت بين يديه تائبا منيبا، ضارعا إليه أن يعفو عني، وأن يغفر ذنبي، ولي في الله كبير رجاء، وقد ذهبت إلى بيته المحرم خاشعا خاضعا متجردا من زينة الدنيا مقرا بضعفي وعجزي، أن يقبل توبتي ويعفو عن حوبتي، ويدخلني بفضله في عباده الصالحين، وهم من أجل هذا الرجاء يحتفلون بمقدمي فرحين متهللين، وهل الحياة إلا رجاء أن يعيننا الله على أداء واجبنا في الحياة؟
ولو علم أهلي ما فتح الله به علي حين سرت حيث سار رسوله، وحين وقفت حيث وقف، وما رأيت من آيات الله في مسيري وفي وقوفي، لزادوا بمقدمي تهللا وفرحا، ولقد رأيت حقا من آياته الكبرى، فسمت هذه المواقف بنفسي إلى حيث لم تسم من قبل قط، رأيت نور الله ماثلا في كل دقيق وجليل من خلقه، ورأيت آية الهدى متجلية يشهدها كل من أراد أن يفتح لها قلبه وبصيرته، ورأيت سنته في الكون تتبدى لكل من أخلص إلى الحق وجهه ثابتة لا تبديل لها، رأيت هذا كله رأي العين، وآمنت به إيماني بما يقع عليه حسي وما تلمسه يدي، وأيقنت أن العلم بهذا كله هو الحياة الراضية المرضية، نعم! كذب الظن من يحسبون التكاثر بالمال والجاه والسلطان شيئا في وجودنا، إنما الشيء الذي هو كل شيء في الحياة فذلك إيماننا بالحق عن بينة، وسمونا بهذا الإيمان فوق منافع الحياة جميعا، وازدراؤنا هذه المنافع أن يصيب الحق من جرائها مساس، وهل يعدل كل ما في الكون من مال وجاه وسلطان قبسا من نور الحق وضياء الهدى؟! وهل يبقى على الحياة غير الحق وضيائه؟! والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا.
ربنا لك الحمد على ما أنعمت وتفضلت، ربنا فاهدنا صراطك المستقيم، ربنا ثبت إيماننا، واجعل تقواك رداءنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
خاتمة الكتاب
بين الحياتين: المادية والروحية
أما وقد شهدت من مظاهر الحياة الروحية حيثما سرت في أثر النبي العربي ما شهدت، ورأيت كيف فعل الإيمان الأعاجيب في مواطن لولاه ما كان للإنسان بها طاقة، فما بال قوم في عصور وبلاد مختلفة جحدوا الحياة الروحية وكفروا بفضل الإيمان؟! أفكان ذلك عماية منهم وجهلا، أم أنهم أضلهم هواهم وغرهم بالله الغرور؟! ولولا ذلك لرأوا من آيات الله ومن فضله على عباده المؤمنين ما لا يغيب عمن تأمل في خلق الله ومن ألقى السمع وهو شهيد.
حق علينا إذ نلتمس لهذا السؤال جوابا أن نذكر أمرا نعرفه جميعا وينساه أكثرنا، فقل من الناس من ينكر وجود الله، وأشد الملحدين غرورا وإمعانا في الضلال يقولون بالطبيعة وسننها أو بالدهر وأحكامه، هؤلاء يمسكهم غرورهم حين تأملهم في الكائنات دون أن يحيطوا بالكون الذي لا يعرف للزمان ولا للمكان فيه بدء ولا نهاية، وإن عرف الناس جميعا أن الكون يحول ويتطور إلى ما نعرف أقله، وما يغيب عنا أكثره، أما من خلا هؤلاء الطبيعيين والدهريين فأولئك يؤمنون بالله وإن أقروا كلهم مسلمين بأن عقلنا المحدود أضيق من أن يدرك كنهه تعالى، وسع كرسيه السموات والأرض، من هؤلاء في عصرنا كثيرون يثورون بتعاليم أورثتنا إياها عصور الانحلال؛ لانصراف الحظ الأوفر من هذه التعاليم إلى الجانب المادي من الحياة؛ ولأنها تلبس الجانب الروحي ثوب المادة، وتنحدر لذلك به إلى حيث تأبى العقول التي تثقفت بالعلم فآمنت وزادها العلم إيمانا، هؤلاء جديرون بأن تسمو حياتهم الروحية فوق حدود المادة وقيودها، وبأن يكونوا لذلك من أشد الناس إيمانا بالله، لا يشركون به شيئا، ولا يلتمسون الثواب أو المغفرة إلا من فضله.
انصرف الحظ الأوفر من تعاليم عصور الانحلال إلى الجانب المادي من الحياة وإلى تنظيمه، وإلى اعتبار هذا التنظيم من قواعد الإيمان، فكيف نسير، وكيف نستحم، وكيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف نلبس، وما اللباس الحلال وما اللباس الحرام، وكيف نعاشر أزواجنا، وكيف نعالج مرضانا، وكيف نعلم أولادنا، وكيف ندبر أموالنا؟ هذا وما إليه قد صار في هذه التعاليم مقدما على الإيمان وعلى الحياة، وهذه التعاليم تذهب إلى أن مخالفة ما جاءت به معصية يأثم مجترحها؛ لأنها من أمر الله، وليست رأيا لأصحابها، ولا نصيحة للناس من حق الناس أن يزنوها بالعقل وبما توجبه المنفعة في العصر الذي يعيشون فيه، كأنما نسي الذين أورثونا هذه التعاليم أن الله يريد بالناس اليسر ولا يريد بهم العسر، وأن الخلفاء الأولين والصحابة والتابعين كانوا يختلفون في الأمر الواحد رأيا ثم لا يطعن هذا الخلاف في إيمان أحدهم ولا في عقيدته؛ لأنه لا يمس جوهر العقيدة ولا يخالف ما جاء في كتاب الله.
والواقع أن المسلمين في عصور اجتهادهم وتقدمهم وسيادتهم حضارة العالم لم يختلفوا إيمانا ولا عقيدة، وإنما اختلفوا رأيا ومذهبا في شئون الحياة الدنيا، هم جميعا يؤمنون بالله وما جاء من عنده، لكنهم اختلفوا في أحكام ما يجري بين الناس من معاملات، لم يمنعهم من الخلاف رأي رآه من سبقوهم في أمر هذه المعاملات.
فالناس تختلف أحوالهم من عصر إلى عصر، ومن مصر إلى مصر، وقد تختلف في العصر الواحد والمصر الواحد باختلاف طبقاتهم وأسباب كدهم وعيشهم، فإذا اختلف الأحكام في شأنهم فلا جناح في ذلك ولا عجب فيه؛ ولذلك اختلف الأئمة الأربعة مذهبا وهم مع ذلك الأئمة المؤمنون أولو الورع والتقوى، واختلف مع الأئمة أصحابهم في كثير من الرأي، فأخذ أهل العصر في بعض الأمور برأي الصاحب وتركوا رأي الإمام، وخالف الأئمة وأصحابهم مجتهدون لم يقيموا مذهبا وإنما عرضوا لمسائل بذاتها اجتهدوا فيها، فلم يطعن ذلك في إيمانهم ولم يخرجهم من عالم البررة المتقين.
كان ذلك حين كان الناس يقدرون العلم ويحترمونه لذاته، ويحترمون لذلك رأي صاحبه ما قصد به وجه الحق، وكان ذلك والأمة الإسلامية في أوج مجدها وعظيم سلطانها تدوي كلمتها في الشرق والغرب ويحسب العالم كله لها حسابا، فلما حلت بالأمة الإسلامية نكبات الشقاق وقام الثائرون في أنحائها يبتغي كل مجد نفسه وسلطانها بدأ الجهل يفتك بالعقول، والجمود يفتك بالأرواح، وبدأ الناس يرتابون في مقصد صاحب الرأي ويحسبونه لا يدين به عن عقيدة حرصا منه على خير إخوانه المؤمنين، وإنما يبديه دعاية لنفسه، ويتخذ من النداء به وسيلة إلى السلطان، هنالك عم الناس الفزع من اجتهاد هؤلاء المجتهدين وقعد بهم هذا الفزع عن تبين الحق في آرائهم، فرموا الاجتهاد بالمنقصة، وطرحوه وراءهم ظهريا، وقالوا : لا رأي إلا ما رأى الآباء، إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمهتدون.
نشأ عن الجهل والجمود أن جهل الناس الحياة الروحية وغاب عنهم معناها فصوروها صورة مادية لا يزيد مداها عما يقع عليه الحس وينحصر في حدود إدراكه، وفي هذه الحدود أجروا عليها الأحكام التي أجروها على الحياة المادية وقضوا في أمرها بما يوجبه تصورهم للمادة وشئونها، هذا مع ما هوى إليه تصورهم لشئون المادة بما يتفق مع جهلهم حقيقة أمرها وسنة الله فيها.
دار الزمن دورته، ولم يكن مفر من أن تنتج الأسباب نتائجها؛ خضعت الأمم الإسلامية لغيرها، وأذعنت لسلطان من آتاهم العلم مفاتيح السلطان، وبدأ هؤلاء يعلمون الناس مبادئ العلم في الحياة المادية نقيض ما أورثتهم عصور الانحلال، علموهم أن الأرض كروية، وكانوا قد ورثوا من تلك العصور أنها مسطحة مستوية، وعلموهم أن الأرض تدور حول الشمس وكانوا قد أورثوا أن الشمس تدول حول الأرض؛ تشرق من المشرق وتغيب في المغرب، وتنخسها الشياطين حتى لا تقف سيرها، وعلموهم أن كسوف الشمس وخسوف القمر من سنن الكون سببهما تعرض القمر في دورته بين الشمس والأرض، أو تعرض الأرض في دورتها بين الشمس والقمر، وكانوا قد ورثوا أن الخسوف والكسوف من آيات رضا الله وغضبه، وعلموهم أن لا شيء مما يقع في الكون إلا له سبب يدركه العقل إذا استوت لديه أسباب العلم لإدراكه، وكانوا قد ورثوا أن ما يقع في الكون أبعد من أن يدركه العقل؛ لأنه متعلق بإرادة الله، وأن إرادة الله لا تخضع لسنة يقع عليها إدراكنا، وعلموهم أن لصحة الأفراد والجماعات ولأمراضها أسبابا، وأن التماس هذه الأسباب يطوع معالجة الأمراض والمتاع بالصحة، وكانوا قد ورثوا أن الصحة والمرض من عند الله، وأن من إسلام الأمر لله ألا نناقش قضاءه، هنالك بدأ كثيرون يتساءلون: ما قيمة ما أورثتنا عصور الانحلال؟ أولا يجب علينا لعقولنا أن نجادل فيه وأن نسأل أهل العلم عن أسبابه ودواعيه؟!
رأى جماعة ممن يعلمون الناس الدين في هذا العصر الأخير أن الناس يجب أن يخاطبوا بلغة زمانهم، وأن ما كان الجاهل يقنع به من قبل لم يبق مقنعا لمن نال من العلم في عصرنا الحديث حظا، والأمر كذلك، خاصة بعد أن أصبحت كلمة العلم الحديث صاحبة السلطان في الأمم التي توجه مصاير غيرها وتتحكم في شئونها، أولئك رأوا حقا عليهم أن يلتمسوا حكمة الله في الأشياء، وأن يلتمسوا حكمته في أوامره ونواهيه، وأن يعلموا الناس هذه الحكمة، وأن يجادلوهم بالتي هي أحسن، لم يبق كافيا في نظرهم وفي نظر المتعلمين أن يقولوا للناس: إن الله فرض الصلاة والصوم والزكاة والحج وفرض العقاب على من لا يؤديها، بل رأوا أن يعلموا الناس لماذا فرض الله الصلاة والصوم والحج؟ وما هي الحجج العقلية الدامغة التي تقوم هذه الحكمة عليها، ومن ثم يترتب الجزاء العادل لمخالفتها؟ ولم يبق حقا عندهم أن الحكم في أمور هذه الحياة الدنيا - ما جل وما دق منها - قد نزل الوحي بصيغة الأمر فيها، بل أصبح الحق عندهم أن ما جاء في كتاب الله من أمر لا ريب في أنه الأمر القاطع، لا النصيحة ولا التفضيل، هو وحده الذي يجب أن يأخذه المسلمون على أنه الأمر، فأما ما وراء ذلك من منافع الحياة الدنيا فهم أعلم بما يصلح لهم في العصر الذي يعيشون فيه؛ ولذلك وجب عندهم التفريق بين شئون الحياة ما تعلق منها بالروح والإيمان، وما تعلق بالخلق، وما تعلق بالحياة المادية ومعاملات الناس فيها مما يجري لهم في أمور دنياهم.
وهذا تقسيم يتفق مع مباحث العلم الحديث وما يقره، فهذا العلم يرى ميادين المعرفة الإنسانية فسيحة لا يكاد يحدها أفق، وأنها مع ذلك ضيقة محصورة بالقياس إلى الكون وما يترامى إليه إلهامنا من مداه الذي يتجاوز الزمان والمكان، وأنا لن نستطيع، وإن بلغنا من العلم أبعد المدى، أن نظفر بهذا الغيب الذي تتمثله أرواحنا وتتمثله أرواح البعض وتعجز أرواح الكثرة عن امتثاله؛ لذلك فرق العلم بين ما تقع عليه المعرفة العلمية وما لا تقع عليه، وجعل ما وراء المادة مما لا تقع عليه هذه المعرفة العلمية، على أنه لم يحدد المادة التي تقع عليها المعرفة وإن قسم العلوم إلى بسيطة مستقلة بذاتها، ومركبة تحتاج إلى ما تقرره العلوم التي تسبقها من قواعد وسنن، وهو كذلك لم ييأس من أن يمتد يوما إلى بعض أنحاء الحياة النفسية، بل إلى بعض أنحاء الحياة الروحية، مع التسليم بأن ما سيظل غيبا لا يخضع لقواعده سيظل أفسح أمدا بمقدار لا سبيل إلى الإحاطة به عن طريق الإدراك، وإن سبق إليه الإلهام الإنساني في حرصه على أن يعرف مكان الإنسان من هذا العالم في فسحة مداه؛ إذ لا يعرف للزمان ولا للمكان بدء ولا نهاية.
وكانت النظرية السائدة في العلم إلى ومن غير بعيد تنكر حاجة الإنسان إلى ما وراء مقررات العلم، وترى فيما لا يمتد العلم إليه خيالا لا يستقيم مع تنظيم العلم الحياة، لكن أكثر العلماء في هذا العصر قد عدلوا عن هذا الرأي وأصبحوا يرون في مقررات الإلهام مما لم يصل العلم بعد إليه ما لا غنى للإنسان عنه؛ ذلك بأنهم رأوا الحياة المادية وحدها أقصر من أن تبلغ بالإنسان غاية ما تصبو الإنسانية إليه من كمال ونعيم، فالحياة المادية وثنية بطبعها، والوثنية أنانية يغلب لذلك فيها الخوف والفزع، الوثني يخشى صنمه وهو يملكه، ويخاله قديرا على نفعه وضره وهو قادر على تحطيمه وإبادته، وإنما يمسكه الوهم والخوف وتقعد به الأنانية فلا يفعل، والوثنية لا تقف عند عبادة الصنم الذي تصوره أيدينا، بل تتناول كل عبادة المادة في أي مظهر من مظاهرها، فعبادة المال وثنية، وعبادة السلطان وثنية، وعبادة القوة المادية وثنية، وما تجر إليه الوثنية من أنانية ومن خوف وفزع قد كان مصدر شقاء العالم ومصدر الحروب المدمرة التي تنشب فيه بين حين وحين، فما لم تلتمس الإنسانية في غير الحياة المادية وفيما وراء ما يقع عليه الحس وإدراكه مثلا أعلى تصبو إليه، فستظل فيها الحروب المدمرة وسيظل نصيبها الشقاء.
أما ولم يبق في ذلك ريب فلا مفر من تضافر مقررات العلم ومقررات الإلهام لتنظيم الحياة، ولا مفر من الإحاطة عن طريق العلم والإلهام جميعا بحياة الكون إلى غاية ما ندركه من مدى الزمان والمكان؛ لنعرف موضع الإنسانية منهما وما تطيقه من نشاط فيهما؛ لتؤدي رسالتها في الكون على خير وجه، بأن تبذل في الإنتاج العقلي والروحي أخصب مجهود وأحكمه وأعظمه؛ ولتؤدي هذه الرسالة عن إيمان بها هو الحافز الصحيح للعمل المثمر، وتعاليم الإسلام تقتضي صاحبها أن ينظر في خلق الله ليكمل بهذا النظر إيمانه، فواجب علينا أن نقف على كل ما بلغه العلم وأن نحيط به إحاطة معرفة وتدقيق؛ لنرشد الناس عن بينة ولنميط لهم عن وجه الحق، حتى يؤمنوا على علم؛ وليكون علمهم هاديا لهم إلى هذا الإيمان، أما أن نقول لهم: إن الله أمر أن تؤمنوا به فآمنوا وليس لكم أن تناقشوا أو تجادلوا، فذلك ما لا يتفق مع ما قام الإسلام على أساسه من النظر في الكون ومشاهدة آيات الله فيه وتأملها والوصول من ذلك إلى الإيمان به - جل شأنه.
والإسلام صريح في هذا، فهو يقتضي الناس جميعا أن ينظروا في الكون ليؤمنوا عن بينة ومن غير إكراه، لم يفرق في هذا الأمر بين الرجل والمرأة، ولا بين العربي والأعجمي، ولا بين العبد والحر، ولم يجعل لأحد فضلا في ذلك على غيره إلا بمقدار ما أوتي من العلم، وما يطوع العلم من إرشاد إلى الحق والهدى، ولا يعرف الإسلام نظام الكنيسة، ولا يعرف الرؤساء الروحانيين، ولا يعلق إيمان أحد على كلمة غيره، ولا يجعل المغفرة لغير الله، وهل كأبي بكر الصديق في حسن إيمانه ودقة معرفته بما جاء الرسول من عند الله به، وهو يقول للمسلمين يوم اختاروه خليفة رسول الله: «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم!»
الإحاطة بالعلم في أحدث ما وصل إليه واتخاذه وسيلة للنظر في آيات الله، ذلك سبيل الهدى إلى الإيمان الحق، وذلك سبيل الحياة الروحية الصحيحة، فالروح تنكر العقل إذا قيد النظر وقيد العقل معه؛ من ثم كان الجمود العقلي عدو الحياة الروحية؛ لأن هذه الحياة لا تتفتح لتمتثل الكون إذا فرض عليها قيد أيا كان نوعه، وهي لا تستطيع أن تمتثل الكون إلا أن يكون العقل حرا والحواس حرة في الإلمام بكل ما فيه، وملاك حرية الحواس سلامتها، والحواس المريضة يضطرب ما تقع عليه، فتنتقل منه إلى العقل صورة فاسدة، فإذا أسلمت الحواس السليمة ما تلم به إلى عقل سليم ينتظمه ليبلغ منه غاية ما نستطيع لمعرفة سنة الكون، كان ذلك خير معوان للحياة الروحية في تطلعها إلى آفاق أسمى من هذه التي تحد حواسنا وإحساسنا، عند ذلك يتضافر العقل والقلب والوجدان وكل ما في الإنسان من قوة مدركة ليمد الروح بعرفانه، وليستمد من الروح ضياءه.
وضياء الروح يهدينا إلى وحدة الكون ووحدة الحياة فيه، وإن تعددت المظاهر التي نحسبها مستقلة لنسبية إدراكنا، من ثم كانت الحياة الروحية السليمة في تطلعها إلى الحق تصبو دائما إلى الوحدة؛ إلى الوحدة بالحب، والوحدة بالرجاء في الله ونوره الذي يضيء الكون كله، وإلى وحدة الزمان والمكان، وهذه الصبوة الروحية هي التي تصور لنا وحدة الخالق - جل شأنه - وتجعلها أمامنا حقيقة ملموسة نؤمن بها عن يقين إيمان كل إنسان بما يقع عليه حسه، أما الحياة المادية فانفصالية بطبيعتها، ومهما يعمل قانون الجاذبية لضمها وحدة مؤتلفة الأجزاء، فما فيها من طبيعة التوالد يدعوها إلى الانقسام والتقسيم؛ ولذلك جعل التفكير المادي وجعلت الحياة المادية من الانقسام والتقسيم أساس الحياة وأساس السعي فيها، وعلى هذا الأساس صورت المثل الأعلى للطوائف والأمم والشعوب، والانقسام داعية النضال والحرب؛ وهو من ثم سبب الشقاء.
فأما صبوة الحياة الروحية إلى الوحدة فتجعل المثل الأعلى مثل تعاون وتضامن ومحبة، وهذا المثل لا يعرف النضال ولا الحرب، وكيف يعرفهما والغاية التي يتوجه إليها - وهي رضا الله - تسع الجميع وتفيض عنهم على تعاقب أممهم وأجيالهم؟! لا خوف من أن يضيق هذا الرضا بمن هو أهله، كما تضيق الأرض بسكانها، وكما تضيق المواد الأولية دون إمداد الصناعة، وكما تضيق أسباب الترف في العالم بمتاع أهله جميعا بهذا الترف؛ ولذلك يدعو الداعي إلى الحياة الروحية الناس كافة بلا تفاوت بينهم ، ويدعوهم إليها في حمى السلام والإسلام والرضا، لا فرق بين شرقي وغربي، ولا فرق بين أبيض وأسود وملون، ولا فرق بين أمة وأمة، بل هم في هذا الحمى سواسية، جزاؤهم بعملهم وعملهم بنيتهم، وأحبهم إلى الله أشدهم حبا للناس، وأمتنهم إيمانا أكثرهم معرفة لخلق الله وعرفانا لسنته في الكون، وعلما بكل ما يهيئ الله لنا أسباب العلم به.
والناس يستجيبون بطبيعتهم إلى الدعوة الروحية؛ لأنهم يبتغون الحق بفطرتهم، ولولا ما يمد لهم فيه دعاة المادة من أسباب الضلال - إذ يغرونهم بمتع الحياة ولذاتها - لانهارت فوارق كثيرة ليس يبقيها إلا هذا الضلال، ولآمن كل بأن واجبه الأول أن يهدي غيره طريق الحق، ولتقاربت الأمم بدل أن تتباعد، ولأخلصت القصد في سعيها إلى الإسلام بدل أن تجعل من نذر الحرب هياكل عبادتها، ولكانت خطا الإنسانية في سبيل التقدم ناحية الكمال أسرع وأهدى سبيلا، ولو أن الناس لم يتنكبوا طريق الهدى لنعموا اليوم بما يلتمسونه من سعادة، ولعلهم تنكبوا هذا الطريق لأنهم لا يزالون بعد في جهالتهم، ولأن ما بلغوا من العلم لا يزال قاصرا دون هداهم، والعلم الناقص داعية ضلال.
وحسبك لتدرك الحق في ذلك أن تصور لنفسك أن المسلمين الأولين لم يختلفوا بينهم شيعا، وأنهم تابعوا وثبتهم الأولى إلى غايتها، وأنهم نشروا التوحيد في ربوع العالم كله على أساس من النظر في خلق الله ومن معرفة سنته، وأن الناس جميعا التمسوا العلم في حمى التوحيد ليزدادوا إيمانا، وأن هذه الاثني عشر قرنا التي انقضت منذ خلافهم قضتها الإنسانية في التماس حقيقة الكون ومعرفة أسراره، أية إنسانية كانت تعمر الأرض اليوم لو أن ذلك حدث؟ إنسانية بالغة من السمو ما لا أحسبنا ندرك مداه ونحن فيما نحن فيه من فرقة وتنازع على أسباب العيش، ومن حروب لا تهدأ ثائرتها، منشؤها هذه الفرقة وهذا التنازع.
أليس جديرا بنا - وذلك ما تدعونا الحياة الروحية إليه وما بلغه سلفنا في ظلالها - أن ننهل من وردها، وأن نشهد من آثارها في بلاد النبي العربي ومنزل الوحي إليه - عليه السلام، لعلنا نعود سيرة السلف فنثب وثبتهم هدى لإخواننا بني الإنسان؟ لقد شهدت من ذلك ما سطرته في هذا الكتاب، ويعلم الله أني أود لو أنهل من هذا الورد في كل حين، وأن أقف حيث وقف الرسول وأن أسير حيث سار، ملتمسا في سيرته وفي مواقفه الأسوة والعبرة، فإنني لعلى يقين من أن التأمل في السيرة ومواقفها، وفي التعاليم التي جاء بها الرسول، خير ما يهدي الإنسانية سبيل الحق والخير والجمال، وما ينهض بها من درك أمسكتها المادية فيه عن السمو إلى مراقي الروح حيث العيش إخاء ومحبة وحرص على العلم بما في الكون؛ ليضيء العلم بنوره إخاءنا ومحبتنا، ويزيدهما إنسانية وسموا، ويصل بنا في ظلهما إلى حمى السلام.
لقد حالت الحوائل دون مسيري في أثر الرسول إلى الشام حيث ذهب صبيا، وإلى خيبر حيث ذهب نبيا، فلعل الله يهيئ لي من بعد أسباب هذا السير فأستكمل به غرضا هو اليوم أجل أغراض الحياة عندي، وأزداد به إيمانا وتثبيتا، وأنعم به في ظلال الحياة الروحية الوارفة، وأبلغ من ذلك ما سعدت به من الرضا حين جاورت البيت الحرام، وحين زرت قبر النبي - عليه الصلاة والسلام.
إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما .
Bog aan la aqoon