وناحية أخرى شديدة الصلة بالأولى، وإن تكن تنقل بؤرة النظر من «المعرفة العلمية» وتحليلها إلى «المجتمع البشري» وماذا تكون طريقة بنائه؟ وها هنا كذلك نجد للمسألة جذورا في أعماق النفس عند أبناء هذا العصر، تحتاج إلى فكر فلسفي يخرجها من مكمنها الخبيء إلى ضوء العلن - وتلك هي فلسفة المادية الجدلية، وهي التي قد تسمى ب «المادية التاريخية» أحيانا، وب «الماركسية» أحيانا أخرى، لهذه النظرة الفلسفية جوانب متعددة، تتكامل كلها في نسق فكري واحد، ومن أهم هذه الجوانب فكرة «المادية التاريخية» التي مؤداها أن الإنسان لا بد له أولا من غذاء وكساء ومأوى قبل أن يتاح له المشاركة في الحياة العقلية والروحية من سياسة وعلم وديانة وفن ...
ومن هنا كان النظام الذي يسود إحدى الجماعات في طريقة إنتاجها للسلع وتوزيعها وتبادلها، وما يترتب عليه من نظام اجتماعي، ذا تأثير حاسم محتوم في تشكيل أوجه النشاط السياسية والاجتماعية والثقافية، فإذا أردت أن تلتمس الدافع الأساسي إلى تحول المجتمع وتطوره، فلا تلتمسه فيما قد تجمع لديه من معرفة، بل التمسه فيما قد وقع لهذا المجتمع من تغير في طرق إنتاج السلع وتوزيعها، فإذا كان المجتمع - كائنة ما كانت صورته - هو كيان عضوي متكامل الأجزاء في بناء واحد، فإن الرباط الذي يخلع عليه وحدته تلك هو نظامه الاقتصادي، ولئن كان لكل عصر مجموعة أفكاره الرئيسية التي تسيره، فإن تلك الأفكار هي دائما أفكار الطبقة التي تكون لها السيادة عندئذ، وهي أفكار تتلون بالضرورة بما يتفق ومصالح تلك الطبقة المسيطرة من حيث طرق إنتاج السلع وتوزيعها، وإذن فمحال على التاريخ أن ينتقل من مرحلة إلى مرحلة إلا إذا حدث تحول في تلك الطرق وحدث بالتالي تحول في الأفكار التي توحي بها الأوضاع الجديدة ...
فأمر التاريخ في سيره وفي تطوره مرهون بتغير مجموعة الأفكار الرئيسية، وهذه بدورها مرهونة في تغيرها بتغير العلاقات الاقتصادية في إنتاج السلع واستهلاكها، ومن ثم جاءت عبارة «المادية التاريخية» اسما للمذهب الذي نشير إليه، وأما تسميته ب «المادية الجدلية» فتجيء من النظر - لا إلى الجانب التاريخي - بل إلى الجانب الوجودي «الأنطولوجي» من حقيقة العالم، فحقيقة العالم «مادة» لا «روح»، فالمادة هي الأصل، وما عداها يشتق منها، لكنها ليست هي المادة الجامدة الموات، ذات الخصائص السكونية السلبية، بل هي المادة التي ما تنفك دائبة التغير مرحلة في إثر مرحلة، وكأنما هذه المراحل المتعاقبة «مجدول» بعضها في بعض في تيار واحد متصل؛ ولذلك كانت حقيقة العالم «مادية» و«جدلية»: مادية في طبيعتها جدلية في تشابك خيوطها وعناصرها، فقد كانت تستطيع تلك الحقيقة الكونية أن تكون مادية وساكنة، لا مادية ومتطورة، حتى إذا ما رمزنا لها برمز «س» مثلا، ظلت س إلى الأبد هي س فلا تغير ولا زيادة ولا نقصان، لكنها مادية ومتطورة، بحيث تتحول «س» لتصبح «لا-س» أي لتصبح شيئا غيرها، ولنا الآن أن نسأل: هل يجري هذا التحول ذو الخطوات «المجدول» بعضها في بعض وفق قوانين، وماذا تكون؟
يقول أصحاب هذا المذهب إن قوانين ثلاثة تضبط سير المادة في تطورها الجدلي: أولها قانون تحول الكم إلى كيف، وثانيها قانون صراع الأضداد ووحدتها، وثالثها قانون نفي النفي.
أما تحول الكم إلى كيف فمقتضاه أن التغيرات الكمية بالنسبة لصفة معينة ينتج عنها نشوء صفة جديدة يستحيل ردها إلى الصفة الأصلية التي عنها نشأت ...
فالكائن البشري يزداد نموا من حيث الكم، فيصبح عند مرحلة معينة من الزيادة رجلا بعد أن كان طفلا، بحيث يستحيل أن يرتد الكائن الجديد الذي نشأ من تتابع الزيادة في النمو إلى الكائن الأصلي الذي كان، وبذرة الشجرة تتحول إلى شجرة، والواحد يزداد بالإضافة الكمية فيصبح اثنين، بحيث تتغير خصائص العدد الجديد عن أن تكون مجرد مضاعفة لخصائص العدد الأول، وإلا لقلنا عن صفة «الزوجي» التي تصف العدد، إنها هي صفة «الفردي» مكررة مرتين، واختصارا فإن كل زيادة في صفة ما من شأنها - عند حد معين - أن تجاوز كونها مجرد زيادة كمية، لتصبح تغيرا في الكيفية ذاتها - أي تصبح صفة أخرى متميزة في خصائصها من الصفة الأولى.
أما قانون صراع الأضداد ووحدتها فمؤداه أن كل شيء مركب في حقيقته من عناصر يضاد بعضها بعضا، ومن ثم فهو دائما في حالة من التوتر تميل به نحو التغير والتحول ...
لأن الشيء المعين إذا ما كان مؤلفا من عنصر واحد متجانس لما كان في بنيته الداخلية ما يدعوه إلى التغير، فنحن نخطئ فهم «الواحدية» في الشيء الواحد، إذا ظننا أنها التجانس الذي يخلو من التناقض، وإذا رمزنا إلى شيء ما برمز، فلا ينبغي أن نقول إنه «س» وكفى بل نقول إنه «س» و«لا-س» في وقت واحد، ومن هذا التدافع الداخلي بين النقيضين تنشأ الحركة، ومن ثم ينشأ التغير، على أن تفهم الحركة أو التغير بأنها منبثقة من طبيعة الشيء نفسه، وليست هي بالمفروضة عليه من خارجه، لقد كان يقال إن الأصل في الشيء أن يظل ساكنا حتى يحركه محرك، فأصبح يقال إن الأصل في الشيء أن يظل متحركا حتى يرغمه عامل خارج طبيعته على الوقوف والسكون ... يصدق هذا على كل شيء، وعلى كل فكرة، وعلى كل نظام اجتماعي على حد سواء.
فإذا كان صراع الأضداد داخل الشيء الواحد أو الحالة الواحدة يولد الحركة والتغير، ثم إذا كان المضي في هذا التغير إلى حد معين يحتم أن يصبح الشيء شيئا سواه - لا من حيث الدرجة وحدها بل من حيث النوع أيضا - فإن ذلك إن ضمن لنا سير التاريخ وتغير مراحله، فلا يضمن لنا أن يجيء التغير إلى أرقى وأفضل وأعلى وأكمل.
وهنا يأتي القانون الثالث: قانون نفي النفي، الذي يقضي بأن ينتهي النقيضان المتصارعان إلى وحدة يذوب فيها التناقض، وبزوال التناقض يصبح الوليد الجديد «أعلى» درجة من سابقيه؛ لأن فيه ما كان فيهما، ثم أضاف إليه تآلفا بعد تعارض ...
Bog aan la aqoon