بهذا تنتهي الخطوة الثانية من خطواتنا الثلاث (كانت الخطوة الأولى عملا مجسدا أخفى في تلافيفه أفكاره، وكانت الخطوة التالية استخراجا لتلك الأفكار لتقوم وحدها وكأنما هي شيء مستقل عن العمل الذي كانت تجسدت فيه) وتبقى خطوة ثالثة بغيرها لا تتم الدورة ولا يكتمل النضج والوعي، وهي أن نعود إلى أعمالنا الأولى نفسها - فتيارها مستمر لم ينقطع - نعود إلى زراعتنا وإلى صناعتنا، إلى علمنا وتعليمنا، إلى جدنا ولهونا، لكننا هذه المرة نعود إلى تلك الأعمال وقد عرفنا كوامن أسرارها، فلا يصبح التوفيق والإخفاق مرهونا بالحظ الذي يواتينا حينا ولا يواتينا حينا آخر، بل إننا هذه المرة نمسك بالزمام فنوجه تيار الحياة العملية إلى حيث شئنا لا إلى حيث يقذف بنا الموج.
إننا إذ نكون في الخطوة الأولى، لا نفرق بين نظرية وتطبيق، فهنالك بين أيدينا مواقف تتتابع علينا من بيئة تحيط بنا، وعلينا أن نرد عليها موقفا موقفا بما يلائمها، وهنالك تكوينات اجتماعية نجد أنفسنا أطرافا في بنائها وعلينا أن نتفاعل مع بقية الأطراف تفاعلا من شأنه أن يصون ذلك البناء، نجد أنفسنا - مثلا - أعضاء في أسرة، وأبناء في أمة، فنجد أمامنا قواعد وضعها لنا أسلافنا لنسلك على هداها داخل تلك التكوينات لنصونها، فعلى الوالد كذا وكذا من الواجبات نحو ولده، وعلى الولد كيت وكيت من الواجبات نحو والده، والزواج يكون صحيحا إذا اتبعت فيه القواعد الفلانية وهكذا، ومن خرج على القواعد المرعية في معاملاته مع أفراد أسرته أو أفراد أمته أو أفراد الإنسانية جمعاء، فهو معرض لعقوبات القانون إذا كان خروجه مما نص عليه القانون، ومعرض لاستهجان الناس إذا كان خروجه مما لم ينص عليه القانون، ولكنه متروك للأصول الخلقية تسيره وتتحكم فيه، وفي كل حالة من هذه الحالات «فكر» تقمص سلوكا مجسدا، وقد يفيدنا فائدة كبرى أن نستخلص «الفكر» من قميصه السلوكي، لنضعه وحده، فيكون لنا بذلك مبادئ القانون أو مبادئ الأخلاق، وعندئذ - كما أسلفنا القول - نكون قد تركنا الحياة العملية الحية المتشابكة الخيوط، تركناها مؤقتا لندخل في دار أخرى لا فعل فيها ولا تفاعل، وهي دار لو أمعنا في تسلق درجاتها كانت بذلك منزلا للفلسفة.
ولكم تسمع من الناس اتهامات يوجهونها إلى «الفيلسوف» لظنهم أنه قد ترك معترك الحياة العملية في تفاعلاتها ومناشطها، وفي حلوها ومرها، كأنما هذا «الفيلسوف» قد لجأ إلى عزلته لينسج ثوبا من هواء، وكأنما هو لم يعتزل وفي جعبته خيوط الحياة الواقعة، ليحاول أن يستخلص منها هي نفسها «الفكر» المبثوث فيها؛ لأنه بغير هذا يكون محالا عليه وعلى سواه أن ينقد الفكرة القائمة ليستبدل بها فكرة جديدة إذا رأى في الأولى نقصا يعاب، فالذين يحسبون «الفلسفة» بعدا عن الحياة العملية، إنما يقتطعون الخطوة الوسطى من بين الخطوات الثلاث التي أسلفنا ذكرها، ويبترون ما بينها وبين الواقع الذي عشناه في الخطوة الأولى والواقع الذي نريد أن نعيشه في الخطوة الثالثة - في الخطوة الأولى كان الواقع مقبولا بغير نقد وتحليل، وفي الخطوة الثالثة سيكون الواقع واقعا بمشيئتنا وإرادتنا وتخطيطنا وتصميمنا.
في الخطوة الثانية - خطوة التفكير المجرد الذي نصوغ به قوانين العلم ومبادئ الفلسفة - ننزع الفكرة من دنيا المكان والزمان لنجعلها مطلقة من قيودهما، ففي المكان الفعلي والزمان الفعلي أحجار تسقط ومياه تتدفق وهواء يهب، كل هذا نمارسه ونحن في مستوى الحياة العملية (الخطوة الأولى)، لكن قد يعن لواحد منا أن يعتزل حينا لعله يصوغ قانون الحركة مهما يكن الجسم المتحرك، حجرا كان أو ماء أو هواء، وإذا وفق فيما أراد، كان له - ولنا - بذلك «فكرة» تحررت من قيود المكان والزمان؛ لأنها تنطبق على كل مكان، وكل زمان، تنطبق على أي حجر ساقط وأي ماء دافق وأي هواء عاصف، فهل نقول لمثل هذا العالم الذي اعتزل دنيا الواقع حينا لعله يجد لنا هذه الصياغة التي تصور الفكرة الكامنة في وقائع العالم، إنه رجل قد تركنا في واقعنا النابض الحي ليعيش وحده في عالم مجرد، أليس الأصوب أن نقول إنه تركنا ليعود إلينا، تركنا ومعه واقع بغير نظرية وسيعود إلينا بنظرية يجريها على الواقع، وما نقوله عن العالم نقوله عن الفيلسوف مع اختلاف في درجة التجريد؛ لأن الفيلسوف كالعالم يبدأ من الواقع الذي تشابكت فيه المادة بالفكرة، ثم يعتزل حينا ليفصل الفكرة عن مادتها، والتبعة بعد ذلك تقع على من يقف عند هذا الحد من الطريق، إذ لا بد من استكمال الشوط، فنعود بالفكرة - بعد نقدها وتمحصيها - إلى الواقع مرة أخرى فنجريه على غرارها، ونحن على وعي وصحو وإدراك لما نحن فاعلون.
إنه إذا اختلف الفلاسفة - وهم يختلفون - فليس الاختلاف منصبا على إدراكهم للواقع كما يقع بل هو منصب على تأويله، أي أنه منصب على «الفكرة» التي استخرجوها من ذلك الواقع المشهود المحسوس: فالفيلسوف - كسائر عباد الله - ذو بصر وسمع ولمس وشم وذوق، إنه كسائر عباد الله يرى الماء الدافق في مدراه ويحس الهواء العاصف من حوله، إنه يجوع ويظمأ، إنه يعرف كيف تتكون الأسرة في مجتمعه وعلى أي أساس تقوم الحكومة، إنه يعلم كثيرا من طرائق البيع، والشراء، ويلمح كثيرا مما يحرك الناس في تفاعلهم بعضهم مع بعض، من حب وكراهية ورضى وسخط وسكينة وغضب، بل إن الفيلسوف كسائر عباد الله يعيش ويعاني ويفرح ويحزن، وإذا نظر فيلسوفان (من مذهبين مختلفين) إلى شيء معين من هذا كله، فسيتفقان - كما يتفق أي إنسانين آخرين - على ما يريانه، فإذا كان ما يشخصان إليه بالبصر لونا أصفر، اتفق الاثنان معا على أنه المرئي لون أصفر، وإذا كان ما يسمعانه صوتا زاعقا أو صوتا هامسا، فسيتفقان - كما يتفق أي إنسانين آخرين - على ما يسمعانه، لا، لا، ليس اختلاف الفلاسفة على الوقائع المرئية المسموعة المحسوسة، لكنهم إذ يختزنون هذا الواقع لينصرفوا إلى تحليله ابتغاء فصل «الفكرة» عن جسدها، فها هنا يقع الاختلاف في طريقة التحليل وفي نوعية الفكرة التي ينتهي بهم التحليل إليها - ولا تسلني قائلا: ولماذا أفصل الفكرة عن المواقف السلوكية التي تجسدت فيها؛ لأن الجواب قد أسلفناه لك، وهو أننا نفصل الفكرة وحدها لنتمكن من نقدها، فإذا كان فيها تناقض أزلناه، وإذا كان فيها قصور أكملناه! فانظر مثلا إلى الطريقة التي نصلح بها نظام الأسرة أو نظام المدرسة أو نظام الحكم أو نظام التجارة أو ما شئت من نظم، فماذا نصنع؟ إننا نعيش على مستوى الواقع في كل هذه الأمور، كلنا نشارك في أسرة وفي مدرسة وفي حكم وفي تجارة وفي غير ذلك من نظم المجتمع الذي نعيش فيه، وفي كل نظام من هذه النظم تتشابك الفكرة مع مادة الواقع، لكننا - آنا بعد آن - نضع أمامنا «المبادئ» أو «الأسس» أو «الأفكار» التي تقوم عليها الأسرة أو المدرسة أو الحكومة، لنرى هياكلها كيف أقيمت، وهل يراد لها التغيير وماذا يكون ذلك التغيير، إنا ساعتئذ لا نضع أمامنا على منضدة البحث «أسرة» فعلية أو «حكومية» فعلية أو «مدرسة»، بل نضع «فكرة» الأسرة أو «مبدأها»، وإذن فقد كان لا بد لنا من باحث يجعل همه استخلاص الفكرة من لبوسها المادي، لنتمكن من نقدها ومن تعديلها ومن تبديلها حسب ما يحقق أهدافنا.
وأعود فأقول إن الفلاسفة إذ يختلفون في مذاهبهم، فاختلافهم ليس على الواقع كما يقع، بل هو على الفكرة التي يستخلصونها منه لينقدوها نقدا قد يؤدي إلى وضع فكرة جديدة مكان فكرة قديمة، وإن اختلافهم ليرتد آخر الأمر إلى ما يأتي: هل الواقع يسبق فكرته؟ أو الفكرة تسبق واقعها؟ أو أن الواقع والفكرة كليهما كائن واحد ذو وجهين تنظر إليه من هذا الوجه فإذا هو ما نسميه واقعا، وتنظر إليه من ذلك الوجه فإذا هو ما نسميه فكرة؟
فإذا تذكرنا أن الفكرة إنما تكون في رأس إنسان، وجدنا أننا لو قلنا إن الواقع يسبق فكرته، كان معنى قولنا هذا أن الواقع مستقل بوجوده، يغير نفسه بنفسه، دون أن يكون للإنسان أقل أثر في تحويره وتبديل مجراه، إذ كيف يحوره الإنسان ويبدله إذا كان قصاراه منه أن يجيء بعد وقوعه ليعلم كيف وقع، إن الإنسان عندئذ يتخذ من الواقع الخارجي موقف المتفرج، ولا فرق بين درجة عليا من التفكير أو درجة دنيا إلا أن الأولى فيها إدراك لما حدث أشد وأوضح مما في الثانية، لكنهما معا متفرجان لا يغيران من الأمر شيئا، كمتفرجين في مسرح، أحدهما ناقد نافذ البصيرة في الفن المسرحي، والآخر بريء ساذج، فسيعلم الأول - دون الثاني - أين يكمن سر القوة وسر الضعف في التمثيل، لكن لا الأول ولا الثاني بقادر على أن يغير ما قد حدث، وذلك هو نفسه الموقف حين نقول عن الواقع إنه يسبق فكرته، وبمثل هذا القول يأخذ فلاسفة المذهب الواقعي بشتى تفريعاته، ومن تفريعاته مذهب المادية الجدلية التي تجعل الإنسان بالنسبة لتيار الواقع كشاشة السينما، بالنسبة لشريط الفيلم، فهناك شريط الحوادث في الخارج يدور، سواء أكانت هناك الشاشة التي تتلقاه أم لم تكن، ووجود الشاشة لا يغير من محتوى الشريط ولا من طريقة دورانه شيئا؛ لأن للشريط مكنة مستقلة تقوم بدورها وتدور في حلقاتها بقوانين خاصة بها لا دخل للشاشة فيها سوى أن تتلقى وتعلم وتتابع، ومن تفريعات المذهب الواقعي كذلك مدرسة الواقعية الجديدة التي تزعمها برتراند رسل.
ذلك عن قول القائلين بأن الواقع يسبق الفكرة، وأما القائلون بأن الفكرة تسبق الواقع فهم الذين اصطلحنا على تسميتهم بالفلاسفة المثاليين (بالنسبة لبعضهم) وبالفلاسفة العقلانيين (بالنسبة لبعضهم الآخر) - والفرق بين أولئك وهؤلاء، هو أن المثاليين يجعلون الحقيقة كلها أفكارا لا يلزم بالضرورة أن تخرج إلى حيز الواقع المجسد في أشياء ومواقف - كما هي الحال في الرياضة مثلا - على حين أن العقلانيين وإن جعلوا الحقيقة كلها أفكارا عقلية إلا أن هذه الأفكار عندهم تنعكس على الواقع، ويكون لها وجود خارجي مجسد هو قسيم الوجود الذهني المجرد - على أن المثاليين والعقلانيين معا يتفقون على أن الفكرة العقلية هي الأساس وهي التي لها الأولوية على تطبيقاتها المادية، ومن شأن الفكرة - كائنة ما كانت - أن تكون مبرأة من أوجه النقص التي لا بد من حدوثها في عالم الأشياء، ففكرة الدائرة - مثلا - كاملة، وأما الدوائر التي نرسمها في دنيا الواقع فلا مناص لها من أن تجيء على درجة بعيدة أو قريبة من ذلك الكمال الصوري؛ لأن درجة كمالها مرهونة بجهاز الرسم، فكلما دق الجهاز اقتربت الدائرة المرسومة من الكمال، وكذلك قل في كل فكرة أخرى، فقد تتصور لنفسك فكرة عن رحلة تقوم بها، ثم تهم بتنفيذ الرحلة في دنيا الواقع، فإذا التنفيذ يصادفه من التفصيلات ما لم يكن في الفكرة المخططة، وهذه الفجوة بين الفكرة في كمالها من جهة، والواقع في نواحي نقصه من جهة أخرى، هي التي جعلت الفلاسفة المثاليين، والعقلانيين يتشبثون بقولهم أن لا علم ولا يقين ولا دقة إلا لعالم الأفكار دون عالم الأشياء والحوادث، وأمثال هؤلاء الفلاسفة هم الذين يصدق عليهم إلى حد كبير اتهام عامة الناس للفلاسفة عموما بأنهم ساكنو أبراج معزولة عن مجرى الأحداث.
ها هما - إذن - مجموعتان من الفلاسفة تقفان إحداهما من الأخرى على طرفي نقيض! الأولى تجعل مادة الواقع الخارجي بقوانينها الذاتية التي تحركها هي كل شيء، والأخرى تجعل الأفكار الذهنية في كمال تكوينها واتساق بنائها هي كل شيء، الأولى تجعل المادة هي الأصل وعنه تتفرع العقول بأفكارها كأنما هذه ظل يساير تلك، والثانية تجعل العقول وأفكارها هي الأصل وعنه تتفرع المادة كأنما هذه المادة بكل صلابتها ليست بذات وجود إلا من حيث هي فكرة في أذهاننا.
لكن إلى جانب هاتين المجموعتين مجموعة ثالثة تجعل المادة والفكر طرفين لشيء واحد كأنهما بطن اليد وظهرها، وهنا لا تكون الفكرة إلا تمهيدا لفعل، ولا يكون الفعل إلا ذيلا لفكرة، وهنا أيضا تبطل الحقائق المطلقة، وتصبح كل حقيقة على درجة من الصواب بقدر تمهيدها للعمل الذي جاءت لترسم له الطريق، فليست «الفكرة» هنا صورة مرآوية ترتسم على صفحة الذهن كما ترتسم الصور في المرايا، منزوعا منها قوة الحركة وقوة الدفع، بل «الفكرة» هنا هي عزيمة وإرادة، هي بداية تنفيذ وتحريك وتغيير.
Bog aan la aqoon