إذا كان أهم أسباب الحروب هو فيض السكان على الأوطان، فإن أنجع علاج للحرب وخير ما يدرأها عن الناس هو تحديد النسل بحيث لا يزيد السكان على الوطن الذي يعيشون فيه، فيمتنع الازدحام الذي يدعو إلى المهاجرة أو إلى الاستعمار، وبذلك تقل المنافسة بين الأمم وتنتفي الحروب، والأمم الآن ليست عظيمة بعدد سكانها بل بمقدار ما فيها من صحة ونظافة، وحضارة وثقافة فهذه الهند مثلا يزيد سكانها عن 220 مليون نفس، ومع ذلك فإن أسوج التي لا تبلغ ستة ملايين نفس أعظم منها، وأقدر على التمتع بالحياة منها، ولو نازلتها في حرب لغلبتها، ولو تبارى الاثنتان في علم أو أدب أو جمال أو فن أو حضارة لبزت أسوج الهند وأربت عليها.
فكثرة السكان الآن لا قيمة لها ألبتة، وإنما العبرة بما عند الأمة من وسائل لتعليم هؤلاء السكان، وما عند هؤلاء من أخلاق وعلم وصحة، وأكثر الأمم حضارة هن أقلهن نسلا، فأوروبا أقل نسلا من آسيا أو إفريقيا، ولكنها تفوق الاثنتين في القوة والذكاء والجمال، وكل ما له قيمة إنسانية، وكل أمة كائنة ما كانت تنقسم طبقات أرقاهن أقلهن نسلا أيضا، ففي أوروبا نفسها يتكاثر العمال ويزداد نسلهم بينما الطبقة السائدة الحاكمة التي تقبض بأيديها على المال والحكومة لا تكون أبدا إلا قليلة النسل.
وقد كان المرجفون الذين يحبون من الأخبار ما يرجف ويرعب ينعون على أوروبا قلة مواليدها ويذكرون آسيا ، وإن أهلها يتكاثرون بحيث قد يطغى سيلهم على أوروبا فيغرقها ويبيد حضارتها، وكان الإمبراطور غليوم يؤمن بهذه السخافة حتى إنه رسم صورة رمزية تمثل هذا الخاطر المزعج، فتناقلتها الصحف وتذاكرت الآراء فيها.
ولكن اتضح بعد تمحيص الآراء في هذا الموضوع، ومشاهدة الآثار التي تخلفها الحضارة الأوروبية في آسيا أنه كلما ارتقى الأسيوي، وتحضر وتثقف رأى من هذا الارتقاء نفسه داعيا يدعوه إلى تحديد نسله؛ ولذلك عاد الأوروبيون فاطمأنوا وعرفوا أنه ما دامت آسيا في همجيتها وتقييدها بقيود الأسلاف؛ فإنه لا خطر على أوروبا من كثرة نسلها لأن من الجهة الواحدة معظم هذا النسل يموت لقلة العناية الصحية به، ومن الجهة الثانية تحتاج الحروب الحديثة إلى صناعة لم يتثقف الأسيوي بعلمها، ثم هي أيضا إذا تحضرت وعرفت الصناعة فإنها تعتاد عادة تحديد النسل، فلا يخشى عندئذ من تكاثرها؛ لأن تحديد النسل نتيجة للرقي والحضارة إذا هو في الواقع ضرب من التبصر والعناية بالأولاد، وقد شرعت عائلات كثيرة في مصر تحدد نسلها وتمنع تزايد الأولاد حتى يستطيع الأبوان تعليمهم وتهيئتهم بقليل من المال للدخول في معترك الحياة، ونحن يجب ألا تخيفنا هذه النزعة؛ إذ خير لنا أن نكون أمة صغيرة راقية مثل أسوج من أن نكون أمة كبيرة متأخرة مثل الهند أو الصين، وجسم الإنسان بعد كل ما يقال هو ملكه، وهو أعرف الناس بمصلحة أولاده وأسدهم رأيا في تقدير حاجاتهم، فإذا وجد أن أمواله لا تكفي لتعليم عدد كبير من الأولاد وتربيتهم التربية الصحيحة، وتنشئتهم النشأة اللائقة بهم وجب عليه أن يقتصر على عدد صغير؛ لأنه كما أن كلا منا يجب عليه أن يتبصر لمستقبله كذلك يجب أن يتبصر لمستقبل أولاده، ثم يجب ألا ننسى أن الهناء العائلي لا يتم إلا إذا كان الأبوان في راحة بال، وراحة جسم من جهة أولادهما، وقليل من الأمهات من يستطعن أن يلدن ويربين عددا كبيرا من الأولاد، فالولادة نفسها مجهود كثيرا ما يقضي على حياة الوالدة، وتربية الطفل مجهود آخر يضني الأعصاب ويهد القوى ؛ ولذلك فالاعتدال في النسل ضروري للأم للمحافظة على صحتها، وضرورة للأديب لكي يستطيع أن ينفق على تربية أولاده.
الفصل الثامن والثلاثون
الإيمان يرقي الإنسان
لما أوشكت الثورة الفرنسية أن تقع، وانشق الناس فريقين فريق كبير هو الأمة كلها تقريبا، وفريق صغير هو الملك والنبلاء، كان بين هؤلاء النبلاء رجل يدعى المركيز دو كوندورسيه، وكان مع أنه نبيل نشأ في بيت له تلميذ في النسب والحسب قد انضم إلى الشعب، فأخذ يعاون رجال الموسوعة في نشر الأفكار الحرة، ويعمل على تقويض الطبقة التي ينتسب إليها، وصار ينفق ماله وجاهه وعلمه لكي ينبه الشعب إلى الثورة.
وجاءت الثورة فاختلط فيها الجنون بالعقل، وقام الناس على النبلاء يقتلونهم وينهبون أموالهم وكان المركيز دوكوندورسيه من هؤلاء النبلاء له شارتهم وعليه سماؤهم، فكان على الرغم من حبه للشعب وسعيه لإنقاذه من الجهل والظلم معدودا بينهم فقتله الثائرون ونهبوا أمواله.
والآن قد تظن أيها القارئ أن هذا الرجل قد مات يائسا من تقدم الشعب ورقيه إذ أعطاه صحته وذكاءه وماله، ولم يأخذ عوض ذلك شيئا ثم قتل على يديه، ولكن الواقع أنه عاش ومات مرتاح البال يؤنسه رجاء عظيم، هو رجاء التقدم المطرد للنوع البشري، فقد كتب قبل وفاته يقول: «لم تضع الطبيعة حدودا لآمالنا وحسبنا أن نتخيل تقدم النوع البشري، بعد انطلاقه من السلاسل، وهو يسير بقدم ثابتة عن طريق الحق والفضيلة والسعادة فنجد من هذا المنظر ما يعزي الفيلسوف إلى الأخطار والجرائم والمظالم التي لا تزال تدنس وجه الأرض وتنزل بها المصاعب.»
بمثل هذه العقيدة مات المركيز كما يموت الشهيد من أجل عقيدته الدينية بفرق واحد بينهما، وهو أن الأول يريد الجنة في هذا العالم ويعمل لتحقيقها، والثاني ينتظرها في عالم آخر بعد الوفاة، وليس شيء يخفف عنا آلامنا، ويزكي في أعيننا تلك الكوارث العديدة الحافل بها تاريخ الأمم سوى هذا الإيمان بأن العالم يتخلص بالتدريج من الأوهام والمظالم، فيخرج من الإيمان بالأساطير إلى الإيمان بالعلم، ومن الاستبداد إلى الدستور، ومن المرض إلى الصحة ومن الضعف إلى القوة.
Bog aan la aqoon