لماذا لا نضم إليهما أديسون؟ فهو واقف هناك في قفص الاتهام، وتهمته التهمة نفسها، إنه كاتب مقال، ويزعم أن مقالاته من الأدب.
القاضي :
طبعا، طبعا، يعتبر حكم الشطب من سجلات التاريخ الأدبي نافذا كذلك على أديسون، وعلى كل من كتب مقالا وزعم أنه أديب. (وهنا دار حديث خافت بين القاضي ونائب الاتهام، وكلاهما ينظر إلى الساعة ويرى أن وقت الانصراف قد أزف، ويقترح نائب الاتهام رفع الجلسة لتستأنف في الغد، ويسمع القاضي وهو يقول - موجها بصره نحو الهمذاني - كنت أريد أن أقضي اليوم في ذلك الهمذاني الذي قدم إلى الناس ألفاظ مرصوصة ذات بريق، وأسماها «مقامة»، وظن أن وضع الميم في مقامة، مكان اللام في مقالة، ينجيه من الحساب، لكنهما - القاضي والنائب - اتفقا آخر الأمر.)
القاضي :
ترفع الجلسة، وتستأنف صباح الغد.
وصحوت من حلمي آسفا أشد الأسف أنه لم يطل حتى أسمع ما يقال في بقية المتهمين، وأهم من ذلك أن أسمع ما يجيب به هؤلاء المتهمون، لكنني أسرعت إلى تسجيل ما دار، قبل أن يفلت من الذاكرة، والأحلام - كما هو معروف - سريعة الزوال.
بين الخاص والعام
إنني لا أكتب حرفا في هذه المساحة الورقية من صحيفة الأهرام إلا وفي ذهني معنى أتشبث به حتى يظل قائما أمام عيني، وهو أن هذه الورقة الممنوحة لقلمي ليست ملكا لصاحب هذا القلم يكتب عن حياته الخاصة ما يشاء، وإنما هي ملك للشعب الذي هو في حقيقة الأمر مالك للصحيفة؛ وإذن فلا يجوز لصاحب القلم أن يشغلها، ولا أن يشغل أي جزء منها، بأمور تخصه هو، إلا إذا جاءت أموره الخاصة هذه بمثابة المنظار الذي يمكن للشعب القارئ أن يرى خلاله ما يجب أن يراه من الشئون العامة.
على أن التفرقة بين ما هو خاص خصوصية مطلقة، وما هو خاص خصوصية تشف عما وراءها من شئون عامة ومشتركة بين الناس، ليست في كثير من الأحيان مكشوفة واضحة؛ إذ هنالك بين الطرفين هامش عريض تتداخل فيه المعاني والنوايا تداخلا يكسوها بالضباب ويصيبها بالغموض، حتى لا تدري وأنت تقرأ أكان الكاتب داعيا لنفسه، أم كان داعيا لفكرة عامة.
إن من خصائص الإنسان، من حيث هو إنسان يختلف عن النبات والحيوان، لأنه لا يقتصر في حياته على أن يحيا ، أنه لا يكتفي بأن تعمل أجهزته البدنية حتى ولو جاء عملها في أكمل صورة للكائن الحي، بل تراه يعكس فكره على تلك الحياة، ومن هذه اللفتة منه إلى حياته يجيء الأدب بصفة خاصة، ولعل في هذا نفسه معيارا دقيقا لنا نميز به بين كتابة الأديب، والكتابة التي تصف الحوادث كما تقع دون أن تكون ذات الكاتب جزءا واردا في سياق الحديث، وقد يضخم هذا الجزء حتى يصبح هو المحور الرئيسي البارز، وقد يضؤل حتى يكاد يخفى عن البصر.
Bog aan la aqoon